قضية للنقاش
بداية ككلِّ بداية، هي بدايتي بشكر عميقٍ لمنحك لي أيها المظلوم براءةَ الثِّقة لأسمح لنفسي أن تُدافع عنك بالقلم والقانونِ والشرع، وبما جادت به ملَكة اضطراري للدفاع عنك في وقتٍ أحسستُ فيه باقتراب أجَل قضيَّتِك التي لم تقتنع بنهايتِها وأنت لم تحصل على الحقيقة بعد!
وقبل أن أستلم منك كلمةَ التمهيد، ابتسمتُ لخوفك من ذاتك في ألاَّ تقوم لك قائمة بعد اليوم، ابتسامتي كانت صريحة، لكنَّها كانت تحمل في عمقها مكامِن طمأنينتي أنَّك بخير، وستكون كذلك ما دمت تثق فيمن قرأتَ فيهم ملامحَ الائتمان، هو فخر أعتَزُّ به، وشهادة أتمسَّك بها لحين أنتهي من واجبي معك...
بالأمس كان الليل يَسكن بالقرب من سكنات هدوئه صخبٌ غير مترجم، كان فيه صوت دخيل، هو صوت أنِينِك، واليوم كان النهار يدنو ببريق الشمس على وتر ضوءٍ لامِع، هو بريق عينيك المبلَّلتين بالدموع، وفي وسط مدينتك كان الأمان يخيم على أبواب جيرانك؛ لأن الطِّيبة والكرم زادا من سمعتك، فبدا حيُّك الذي تسكن فيه يشتاق لعودتك بعد كلِّ سفر، حتى أنا كنتُ في رحلة عابرة للوطن وعند عودتي قرَّرتُ أن أبتدئ في فتح ملفاتِ واقعي بملفك المحتوي على قضية مظالمك، زادني محتواها شغفًا في قراءة ما خلف السطور، فاستوعبتُ عن شخصك الكريم أنَّك تحبُّ الغموض ولا تفضِّل الظهورَ، بل تتنحَّى جانبًا حينما يرتفع زَمهرير الفِتن، وتكتفي بسنَّة العطاء كملاذٍ لك، بعيدًا عن الزيف والغرور والنفاق وتلفيق التُّهم في كلِّ مناسبة جادَت لنفسها بالظهور من غير مناسبة...
كهَفْوة لكل كاتب أصرِّح لك أنِّي تهتُ قليلاً في سنِّ البداية مع ملفِّك الثقيل، لكنَّ عنصر التشويق في مدح الكلمات الجادَّة منحني فرصةً لأبدأ، وهأنذا قد بدأتُ ولم أشعر أنِّي تجاوزتُ منتصفَ الصفحة، لكن التطرُّق لرؤوس الأقلام الأساسية مهمٌّ لي ولك؛ لأني ركزتُ في قراءتي الأوليَّة على فهم عنصر المشكلة بدل الإشكالية؛ لأنَّ المشكلة تتشكَّل بفعل فاعل يقصد إِحداث طارئ ما، أو بفعلِ أي نفس تعاني نغصًا حياتيًّا في أمر من الأمور.
أما الإشكالية، فهي ما يُطرح للنِّقاش كفرضية التمهيد لأيِّ موضوع، وبالتالي فموضوعُ قضيتك كان مشكلة عويصة، هي صراحتي مع كلِّ نقاش ومع كلِّ لزوم للكلام المعتدل.
فهذه المشكلة ضيَّعَت منك الجهدَ والوقتَ والفرصَ الثَّمينة، وإن كان تبجيل الثَّمن ليس بالأمر الهيِّن والسهل؛ لأنَّ الفرصة تأتي في حلَّة متنوعة من المفاجآت أحيانًا ومن التراتيب المقصودة أحايين أخرى، ليبقى لبُّ الموضوع هو محتوى قضيتك؛ بل هو إنصاف الحقيقة ومَنْحها فرصةً أكيدة للظهور.
فبالنسبة لتطرُّقي لفرضيَّة أنَّك مظلوم، لم أشأ أن أعطيك إنصافي المبدئي حتى أتعمَّق في براثين الجراح العميقة في كتابةِ أناملك، فالإنصاف ليس من السهل تحقيقه إلاَّ بعد قراءاتٍ عديدة واستماع لشهود أَكْفاء أرى فيهم وجهةَ العدالة الحقَّة حينما ألتقط بمسامعي تصريحاتٍ عديدة تبوح عنها إيماءات وجوههم كما يصرِّح بها لسان من أراد أن ينطق بما دفعت به آلام وأماني عديدة، وأهمها إحقاق حقٍّ وإنصاف ملف غامض، وتزويد ذخيرة من ردِّ اعتبار عاجلاً أم آجلاً؛ ولذلك كان عليَّ التمهُّل كثيرًا، واستخلاص النتائج سريعًا، والانتقال إلى مصاف الاجتهاد في تصنيف أقوال مسموعة، وأحداث مشهودة، وأوليات رؤوس خيوط للحقيقة.
لكم كنتُ أقرأ سطورَ قضيَّتك وملفِّك المثقل بالهموم والأحزان بشغفٍ كبير، ولكم تمنيتُ في نفس الوقت أن يثلَج صدرُك مثلما تثلج ثلوج السماء بأنهارٍ جارية أراضِيَ يابسة، هو فيح الأمل من كان يطرق رأسَ قلمي في أن أبدأ في إنصافك بضميري من غير أن أبوح لك بموقِفي الذي لم أفصِل فيه بعدُ ما دمتُ لم أكمِل بعد قراءة ماضيكَ الغامض لي مرَّات عديدة بتشكيلة حروفٍ خالية من وقع الصدى لحرفِك الباهت، والسبب أعرفه جيدًا هو أنَّك لا تريد أن تحمِّلني أكثر مما قد لا أُطيقه من القراءة والتحليل، ولكنِّي أطالبك أن تخبرني بتفاصِيل الأمور، ليس لأزداد معلومات أو أخبارًا بقَدْر ما ستخبِر الحقيقة أنَّك تريدها وبحاجة ماسَّة لِأن تنصِفك؛ لأنَّك لم تَعُد تتحمَّل ما أنت فيه مِن تجاهلٍ واستخفاف، وعليه فإنِّي أبتسم للمرَّة الثانية فرحًا بقُرْب نصرك وقُرْب براءتك بحكم ما صرحت به من مظالم عديدة، وإنِّي لأعقد العزمَ على إنصافك بقلمِي أولاً في أن أنتقِي لك من الكلمات القويَّة الدَّاعمة لقضيَّتك ما يُسْكِت فِيك جوعَ الصراخ، ولو أنِّي أرى أنْ لا لزوم لهذا العناق العابِر لسراب العتاب غير المفيد؛ لأنَّ الصراخ ما أسمع آذانًا صماء، ولا أَيْقَظ عقولاً مخدَّرة، ولا أذاب قسوة قلوب مصرَّة على العصيان.
فأبشِر إذًا بخيوط العدلِ التي ستنسج لك براءةً من بيان صريح، لن تكون محتاجًا لدفاع سيتكلَّم كثيرًا وقد لا ينصفك، أو بالأَحْرى قد لا يجيد فنِّيَّات الدفاع عنك، وإنِّي أنصحك أن تلجأ في دعائك إلى عدالة الله؛ فسجودك يكفِيك حاجتك لحقوق الدِّفاع عنك، وتذلُّلك يزيد قناعتك أن لا أحد سينصرك إلاَّ الله؛ لأنه الأقرب إليك من حَبل الوريد، ولأنَّ الحقيقة الحقَّة تموج موجاتُها عَبْر أَثِير الصبر المثقل بالأيام المارَّة مرور الكرام؛ لأنَّ الصبر لم يكن محمَّلاً بالبشائر إلاَّ لثقل تحمُّله، وأرجو أن تَفهم أنِّي أوجِّه ضعفَك إلى مصدر القوَّة التي لا تُقهر؛ إنَّها قوة العزيز الجبار، قوة الرحمن الرحيم، الذي عينُه لا تنام، وكل ظالميك نِيامٌ بل وغارقون في ملذَّة النسيان أو التناسي، إنصافي أنا بقلمي هو وَجهٌ من أَوْجه المناصرة لمظلمتك ليس إلاَّ، ففرق أن أقف في قضيَّتك موقفَ المنصِف، وفرق أن أقف موقف المحابي لسطورِ ملفِّك أن ما بادر إلى ذهني شكٌّ ما، صراحة أتكلَّم بها لأوصل لك عبْرَ تجربتي أن ترفَع عينيك إلى السماء وتدعو بإلحاحٍ أن ينصرك اللهُ ويفرِّج كربتك، ويقيل عَثْرتك، ويزيح الهمَّ من قلبك، ويسكت وجعَ الأيام في روحك، ولا تنس أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك إلاَّ بقضاءٍ ممَّن خلقك، لتبقى إنسانًا تسكن بين جوانحه مطالب عدِيدة، وتلحُّ على أذنيه رغبات كثيرة، وتسكن على صدفة رأسه ذكريات عدِيدة.
نعم هكذا هو الإنسان حينما يتجرَّد من ظُلمه يبقى مجرد إنسان له نقائِصُه؛ من ضعفٍ، وتعجُّل، ورغبةٍ في تحصيل الكثير والكثير من الآمال، ولن يصيب منها إلاَّ ما كان مكتوبًا له، لا تخف لن أحيد عن لبِّ قضيتك، ولكنها فواصل لا بدَّ لي من الإشارة إليها؛ ليعتدل ميزانُ العدل لدى ضميري، بل ليكتمل، خاصة إذا ما اقترن تحليلي بما يوافق الشرع.
والآن أنقل لك خلاصةَ تحليلي لما سلَّمتني ملفك العامر بالأحداث والأسباب والمسببات، لأقول لك في الختام:
لا تجعل قصيدةَ الحقيقة خرساء بضعفك، بل تعلَّم من كلماتي كيف تصبح قويًّا مع مرور الأيام، وبتوالي الطعنات ستكبر كثيرًا وتتقوى أكثر، ويصبح لك نصيب من الرِّفعة في الدنيا والآخرة، سيصبح لك رصيد كبير من الأجرِ ومن الخِبرة ومن الحنكة في ألا تكون طُعمًا سهلاً لمن سيأتي ليتعرَّف عليك، فقبل أن تمنحه فرصةَ التعرف امنحه تَذكرة التردُّد.
وأتمنَّى أن يرضيك إنصافي الذي لم يكن مصدرُه ما قدمتَه لي من مَشاهد في قضيتك؛ بل كان مصدره ذِكرى طرقَت قلبي وعقلي في آنٍ واحد وأنا أقرأ أحداثك الأليمة لأجيبك جوابًا شافيًا وكافيًا، وهو: دع الخلقَ للخالق، وأكمل مسيرةَ الكِفاح على نسق الصابرين والزاهدين والمحتسبين، تَلْق أبوابَ النصر منفتحة على مصراعيها رغم أقفالها الصُّلبة؛ لأنَّ صبرك سيكسر كلَّ ما استعصى عليك تخطيه...، وقابِل كلَّ محنةٍ بابتسامة صادقة، وبطمأنينة أكيدة من أنَّها ستتحوَّل إلى مِنحة بإذن الله تعالى...
والآن سأطوي ملفَ قضيتك لأترك لك محضرَ الحقيقة فوق مكتبِي، وبإمكانك أن تُعيد قراءته كلَّما داهمك سيلُ دموعك، وقبل أن تقع في شباك اليأس... وأنت تسترجِع لقطات غَدْرٍ خدعَتْك، سآخذ قلمي معي، وكلما احتجتَ لإنصاف قلمي ستجدني قريبةً غير بعيدة، متأمِّلة غير متجاهلة، مركِّزة غير غافلة، مهتمَّةً غير متنحية؛ لأن موضوع الحقيقة يهمُّني كثيرًا، وأنا أكابد الدنيا بمجدافَي اليقين أنَّ من ينصر اللهَ ينصره حتمًا، وتذكَّر أننا لبسنا ثوبَ عزٍّ بعد أثواب رِقاع، ورضعنا من فِكر المجد بعد قطيعةٍ مع فطام اليأس.
دُمتَ بخيرٍ وفي صحوة من حقيقة...