سيد الانتقام
لم أكن أعرف معنى الانتقام إلا وأنا أكبر على المتناقضات، ثم لم أكن أفكِّرُ في جدوى الانتقام إلا وأنا أصارع المفارقات، ومن ثم لم أكن أحارب الانتقامَ إلا وقد تحداني جهلُ الناس وكبرياؤهم وسوء نياتهم.
لم أرْضَ يومًا ما أن أعيش حربَ الضمائر، لا أعني ضمائر الإعراب في اللغة، وإنما ضمائر تنام بداخل الأرواح، وظيفتها أنها ترفع إشارة: "قف" لكل من يتجاوز حركة مرور الحياة بداخل الفكر والأداء.
أين أنا من الإبداع وسط انتقام الأحقاد مني؟
أو دعوني أتساءل: أين أنا من الرقي في خضم لهيب الانتقام نارًا تحرق الجمال والاعتدال، ثم تصنع الأكفان بنسيج أن معذرة لقد أخطأت العنوان، لم أكن أقصد، فعفوًا عن التهوُّر، وعفوًا عن الألم، وغيرها من عبارات الاعتذار؟
لا توقف هنا سيد الانتقام، أين أنت من ضمير مراجعة الذات؟ وإلا أين أنت من نوم الهدوء؟ أم أنه ليس لديك وقتٌ للتوبة؟
عذرك غيرُ مقبول سيدي، فأنا أرى فيك الكيان الآدمي غير السوي، كفاك سيدي من ظلمي، وكفاك تعديًا على حرمة رُوحي، لست أنا من كسر بخاطر الحياة فيك، ثم لست أنا من يجب أن تنتقم من كلمة الحق فيها، فلكم كان اسمك مخيفًا والحضارة تشتكي منك، والتغيير يبكي على تأخُّر قطار النهضة.
رجاءً سيدي، رجاءً، كلمة أقولها؛ لأني ألبس طهارة الضمير، ورونق الكلمة، وإلا لما ترجيتك؛ لأن أحدًا غيري سيحاربك، ولن يطلب منك رجاءً.
فإن كنت تنطلق بدافع الاستفزاز، فلك الحق في رد الاعتبار، ولكن ليس بالانتقام ممن أساؤوا إليك، فبإمكاني أن أرشدك إلى ثوب آخر ترتديه وأنت تقابل خصومك، اختَرْ لك لباس التقوى، وألحِقْ معه رداءَ الصبر، وعطِّرْه بريح التسامح، وإن شئت ابتسم من عينيك، فذاك سحر التوادد والصلح لأنه خير، لم أكن لأرشدك لولا أن ضررك بليغ ومدمِّر بل قاتل.
لطفًا سيدي، أعطيك كل الحق فيمن تطاول عليك؛ لأنك كنت نائمًا نوم العوافي، وصامتًا صمت الكلام غير المباح، سيدي أرفقت لهذا الدفاع إقرارًا مني أنك لم تولَدْ هكذا، وإنما بدافعٍ من دوافع الاضطهاد والاحتقار ومحاولة طمس كل ما كان جميلاً فيك قبل أن يولد منك الانتقام.
لا أعرف إن كان دفاعي عنك مبررًا، لكني سأعاتب عليك عنفك وتسلطك على الزمان والمكان، فأنت لا تترك زمانًا إلا غدَرْتَ به، ولا مكانًا إلا مكرت فيه، لست أحتمل بشاعةَ الكراهية والحقد منك.
مرة أخرى رجاءً ولطفًا سيدي أعطِ فرصة لمن ظلموك، فسمُوُّك عن ضعفِهم قاتلُهم، وحِلْمُك مضيِّعُهم، سيدي، إن العيش على الانتقام يفقد العقل رجاحته، ويفقد الحياة لذة العيش في أمان، فلمَ كل هذا الكرهُ منك؟ أريدك سيدي أن يهدَأ بالك، فالزمن سيعيد لك ما ضاع منك، والله مجازيك على ما تذوَّقْته من طعم المرار، ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
ولك سيدي في سورة التوبة أُنس آخر بالله: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].
فالحكمة كل الحكمة سيدي أن تترك انتقامَ الله وهو العزيز الحكيم، فمن الحكمة أن يكون القصاص بقدر، فرجاءً سيدي لا تتحدَّني حينما أتدخل لأوقف انتقامك؛ لأنه منافٍ لما أمَرَنا الله والرسول به، ثم الفطرة، ولدت لتعيش على السماحة والرفعة عن سفاسف الأمور، والخُلق النزيه، وليس لتعيش على انتقام لا يُسمن ولا يغني من جوع؛ لأنه مجلبة لعذاب النفس وتكبُّرها، ويفتح الباب للشيطان ليدخل إلى عمق الأمان فيك فيخرب مكامن الطمأنينة والرفق في كل شيء.
مرة أخرى سيدي، لا ترجم حرفي لتحرقه؛ وإنما ابسط له بساط القَبول؛ ليرسم توابع الحروف الأخرى؛ ليكون جسرًا إلى الآخرين في تفاعل اجتماعي عادلٍ أساسُه التراحم والمحبة والعفو عند المقدرة.
ولا تسخر من أنشودة السلام حينما أصنع نوتاتها بكل عزيمة مني أن لا شيء يستحق الانتقام لأجله سوى ما كان تعديًا على محارم الله ومقدساته، غير ذلك من الخلافات والنزاعات ليست مبرمجة في آنية الزمن السعيد.
رفقًا سيدي بأرواح أناس أخطؤوا ليس عمدًا، ولكن لأنهم بشر، فلمَ فيك روح التحدي على ما لم يكن بالأمس في عنفوان أخلاقك؟ سيدي هي نهاية الألم وليست نهاية العالم، فلمَ التكابر على نيات لم تقصد السوء للمضرة، بل أخطأت لأن شيئًا ما وبدافع رد الاعتبار كان هو العامل الأساسي والدافع لارتكاب أخطاء وهفوات؟!
سيدي، نحن في ألفية التقدم والسمو إلى الأحسن والأفضل لغد أبنائنا، فهل يجوز أن نصنع الألم مرات ومرات حتى يكره الألم فينا قولَنا من أن الجرح كان بليغًا؟ ومن التكرار ما تمل له الأرواح، وتفتر له الأجساد، وتمل له الأنفس، هي لغة التعبير، وصحيحة في الأصل، ولكن سيدي لا داعي للانتقام، بل لا داعي لأن تتحداني بالانتقام.
في الختام لك سيدي صبري عليك؛ لأني في قرارة نفسي أثق أنك حينما تفهم حرفي لن تتحداني بدافع الانتقام.
ولك مني أبيات للإمام ابن طولون عن حقيقة الدنيا:
مِيلُوا عن الدنيا ولذَّاتِها
فإنها ليستْ بمحمودهْ
واتَّبعوا الحقَّ كما ينبغي
فإنها الأنفاسُ معدودهْ
فأطيبُ المأكول من نحلةٍ
وأفخرُ الملبوسِ من دُودَهْ
|