في رحاب التقدم الماليزي ...
كان لرِحلتي في بلاد التكنولوجيا والتقدم ماليزيا: انطلاقة لمحرك حركتي نحو استكشاف مناظر التقدم والحضارة المستحدثة، بفضول لم أكبح جماح البحث فيه إلا وأنا أجول وأبحث في ثنايا هذا البلد الجميل، بل الرائع، ليستقر الإعجاب مني في أساسيات النهضة التي استغلت عوامل النجاح بفنيات دقيقة ومدروسة الأبعاد، لتحقيق نهضة موفقة، لأتابع مشاهد التفوق بنفسي، بدءًا من قلب العاصمة كوالا لامبور كان الجمال منظَّمًا في توزيع الركب الحضاري، أين كتب قلمي كثيرًا ولمرات عديدة ليجمع التساؤلات والأطروحات فيما أبحث عنه من إجابة، ولو أن الإجابات المتنوعة كانت واضحة لتعطي انطباعًا عن كل شيء، وفي تفاصيل الجزء من الكل يكمن لغز التفوق والمنافسة للحاق بالركب النهضوي.
أسندت ظهري على خلفية مقعد السيارة التي انطلقت بي في تمهل، وكان جل تركيزي في تناسق الألوان للبنايات والمساجد، ونظافة الطرقات والشوارع، فرُحْت أحول بصري لأعد المنتهي من طابق البناية على سبيل المثال، فكان الارتفاع شامخًا وناطحًا نحو السحاب، وهو بالنسبة لي علامة التطور والتقدم لمن لا يعرف العاصمة الماليزية.
أجناس مختلطة، وديانات متنوعة، ومظاهر التمدن والتحضر متلونة بألوان الاقتناع لدى كل جنس يرى في انتمائه وعقيدته مرجعيةً لانطلاق فكره واعتقاداته، لكن هذا لم يمنع من وجود تلاحم وتوافق فيما بين الجنس الصيني والهندي والملاوي، وهذا ما سعت له الحكومة الماليزية لتحقيقِ عامل النجاح والنهضة من خلاله، وهو ما كان فعلاً عبر سياسة منتهجة بإحكام وإستراتيجية مدروسة الأبعاد، فأرست الحكومة بذلك لوازم انصهار الطبائع والعادات في بُوتقة التقدم، ما أضفى على ماليزيا هدوءًا وسيرورة منتظمة انتظامًا يبهر له العقل، طبعًا في ذلك ممارسة حرة لكل جنس لديانته برادع قانوني حال مخالفات أو تجاوزات من شأنها إثارة مشاكل، وهذا ما لاحظته من قلة انتشار عناصر الأمن في المدينة، وكذا المرافق والمؤسسات والمتاجر والمحلات الكبرى، ما يجعل الزائر يرتاح ويشعر بالأمان.
فهل كان التقدم في ماليزيا سببه النظام المحكم بإصرار الإرادة الآسيوية في التألق أم عزيمة الحكومة في إحداث النهضة بتكاثف الجهود؟
تبدو الإجابة هنا وهناك، ولو أن تحليلي لعنصر المرأة الماليزية في دورها الفعال شد انتباهي لهذا الكيان الأنثوي الذي خطط وربَّى وساهم في التقدم، وهو ما كان عنوان محاضرتي بورقة بحث تقدمت به في ندوة تمت فعالياتها في أكاديمية الدراسات الإسلامية، وكان أن اخترت لعنوان البحث أن يكون في مقومات نجاح المرأة الماليزية في عملية التنمية الشاملة لسنة 2020، فكان البحث مشوِّقًا والإحصائيات مترجمة لمدى هذا الدور الفعال بتشجيع من الحكومة الماليزية التي أَوْلَتْ للمرأة اهتمامًا وعناية، بدءًا بالتعليم والصحة، ومنحها الفرصة في مقاعد الحكومة لتشارك بقراراتها جنبًا إلى جنب أخيها الرجل.
لأتمم تجولي في المدينة الإدارية أو السياسية، أين كان القصر الحكومي الماليزي مرتفعاً بهيكل جميل وكبير بالقرب من ممرات المواطن الماليزي لتزول بذلك الحواجز بين السلطة وفئات الشعب، وهو ما جعلني أعجب لمثل هذا التواضع السياسي، لأقطع وصالي بفنيات الإبداع الماليزي بوصلة لي لأداء الصلاة بأحد مساجدها الجميلة، وقبل أن يستقر بي المجلس قبل الصلاة صرفت نظري في أرجائه، والحق يقال: هندسة معمارية رائعة، ونظافة منقطعة النظير وفَّرتها تكنولوجيا عالية الجودة، بدءًا بالمرافق، ووصولاً إلى سجاد الصلاة، وما بعث في نفسي السكينة ترتيل آي القرآن بصوت عربي وجهته من مصر الغالية، ليضفي هذا الصوت المؤثر صدى آخر من الحضارة التي رحبت بجنسيات عديدة، فلم أشأ أن أقطع نشوتي بتركيز عقلي ورُوحي إلا والمؤذن يقيم للصلاة، فأديت الصلاة قصرًا وغادرت، ولو أني أردت المكوث أكثر، ولكن لا يزال الاستكشاف طويلاً.
لأختار بعدها جولة استطلاعية على متن قارب بالقرب من حدود المسجد الذي رست قواعده فوق الماء، فأصبح استمتاعي بالمنظر له شكل آخر وأنا أرقب الطبيعة الخلابة مع فواصل التغيير في الفسحة من جهة لجهة لأتصور حجم الجهود المبذولة في تحصيل هذا الفن.
ثم انتقلت إلى ساحات المدينة بعدها مشيًا على الأقدام، يبدو المجتمع في انتظام، الكل مهتم بنفسه وببرنامج عمله، وفكرت في أن أحد عوامل نجاح الحكومة الماليزية هو المساواة في الكرامة الإنسانية، وتحقيق الرفاهية والعيش الهنيء للشعب، وهو ما كان مطلوبًا في الأجندة الحكومية الماليزية، وهذا ما وضحته دراسات عديدة حول بناء الوطن الماليزي والراجع بالدرجة الأولى إلى توفر إرادة التغيير والبناء، فكان ما كان في حِقبة زمنية عمرها عشرون سنة.
انتقلت إلى مرافق التسلية في حديقة الحيوانات في البداية، والحضور دائمًا للتكنولوجيا لتوفير عنصر التشويق وجذب السياح باختلاف الأعمار... وتمتعت بمناظر المدينة الثلجية في ابتكار منظر جليدي جميل، أيقنت أن بالتكنولوجيا يستطيع العقل البشري أن يستنسخ مدنًا ومناظر وهياكل، فالمهم أن العقل في تفكير للاختراع.
أما الجامعات، فكانت عالَمًا آخر، بل خلفية تقدمية لدولة ماليزيا، بما يفسر اهتمام الدولة بالتعليم وتحصيل العلوم، على اعتبار أن التعليم هو الأساس للتطور والتقدم.
استقر بي المطاف في مسجد السلطان الحاج أحمد شاه بالجامعة الإسلامية لأؤدي الصلاة، والتي صادفت يوم الجمعة، فكانت الخطبة باللغة الإنجليزية والعربية، وهو ما يمنح فرصة للتنوع اللغوي في فهم المحتوى... صدقًا حضارة على تنوع المناظر والمخططات..
رائعة جدًّا ماليزيا .. أبهرتني بحضارتها الراقية، وما يطرح في نفسي تساؤلاً هو:
هل ستحافظ ماليزيا على هذا التألق أم أنها ستواصل التطور أكثر فأكثر؟ فلقد وظفت التكنولوجيا تقريبًا في كل شيء، والتكنولوجيا في تقدم وتجديد، وهو ما سيكون بمثابة الرهان الأكبر لماليزيا في أن تحافظ على صيتها العالَمي في العالم العربي والغربي..
كانت تأملات وأفكار في رحاب التقدم وما هو آتٍ أكبر، ويبقى اليقين بالنجاح هو مفتاح النجاح، وهو ما صرح به نجيب عبدالرزاق رئيس الوزراء الماليزي الجديد حينما قال:
الكعبة قبلة المسلمين يتجهون إليها كل يوم خمس مرات في صلواتهم، فكما أن القبلة لكل المسلمين واحدة، كذلك ينبغي علينا أن نقف صفًّا واحدًا نحو الارتقاء بسمعة هذا الدين الحنيف والوطن والشعب.
وأضاف: إنه بناءً على هذا السبب أيضًا، قام رئيس الوزراء بتقديم مفهوم وحدة ماليزيا نحو الأولوية للشعب والتركيز على الإنجازات في تدابيره.
وصرح بذلك لصحيفة "بريتا هاريان" الناطقة باللغة الملاوية، مضيفًا بقوله: إنه وفي إطار تعزيز الوحدة لدى مسلمي هذا البلد، لن ننسى إخواننا من غير المسلمين؛ إذ لا بد أن نقبل واقع مجتمعنا المتعدد الأعراق، متمنيًا أن يستمر هذا العيش المشترك القائم على الوئام والتسامح بين الماليزيين..
كنت في جولة مختصرة من شريط طويل للتجول عبر رحاب التقدم في ماليزيا، ويا حبذا لو تأخذ منه الدول العربية والإسلامية لترتقي بأوطانها وتلحق بالركب الحضاري.. ولِمَ لا، فماليزيا انطلقت من التمني ليصبح وأصبح الحُلم حقيقة، وبالأخص أننا نملك مقومات إسلامية للنجاح مقارنة مع الأجناس الأخرى التي تعتنق ديانات مغايرة..