فبيّن بول كنيدي في الفصل الأول التوجهات الأساسية التي غذّت تخوفات السيد مالتوس، والتي لم تكن في محلها لعوامل عدة، منها الهجرة المكثفة للبريطانيين و الإيرلنديين للعالم الجديد، و كذا التطور الصناعي المشهود و استغلال الموارد الأولية للمستعمرات البريطانية عبر العالم، إلا أننا نرى الخبير البريطاني يتناول مواضيع النمو السكاني بالموازاة مع درجة التطور العلمي، و الزحف العمراني، و تدهور النظام البيئي كاتساع ثقب الأوزون، و تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري، و ما هي حظوظ الدول بحسب القارات في دخول ألفية ثانية بأقل قدر من الخسائر و بأكبر نسبة من النجاح.
تهيأ لي و أنا أقلب الصفحات أن بعبع النمو السكاني مستعصي الحل، أو لنقل أن عوامل الحل من الصعب تحقيقها في العالم النامي بالنظر إلى تخلف كبير في ميدان السياسة و الثقافة، و قد كان طرح المؤرخ البريطاني بول كنيدي قائما بشكل رئيسي على تلازم النمو مع تجديدٍ لأساليب المعيشة، و التخلي عن الكثير من المظاهر المضرة بالمجتمعات، و قد أشار بوضوح إلى رفض النُّخب السياسية و الشعوب عامة للجديد. فالاقتصاد هو الرافعة التي تحد من أثار التزايد السكاني، و ضعف الأداء الاقتصادي له انعكاسه السلبي الأكيد، وقد قَرَنَ أيضا نسبة التلوث المتعاظمة بجشع الشركات العابرة للقارات، فدائما ما تهوّن هذه الأخيرة من الخطر البيئي، و طبعا الخاسر الأكبر يظل المواطن.
و قد استعرض أمثلة للتقدم الحضاري و آفاق استمرار النمو فيها، و أول مثال كان اليابان، فقد أرجع القفزة الحضارية الهائلة التي عرفها هذا البلد إلى ثقافته العتيدة و تماسكه الاجتماعي المدهش، و هذه فقرة مما قاله بهذا الصدد: "يستند هذا النجاح إلى أسس متينة، مثل التلاحم الاجتماعي و العرقي لدى الشعب الياباني، يترجِم هذا التلاحم ليس فقط بمعنى عميق التطور للهوية القومية و الوحدة الثقافية بل أيضا بصورة أبعد غورا بنظر الغربيين، أهمها الانسجام الاجتماعي، تلبية الحاجة، الاحترام بين الأجيال و تعلق الرغبات الفردية بالخير العام". إلا أن ملاحظته الأهم تتصل بتقلص حظوظ اليابان في الديمومة، و هذا راجع بحسب المؤرخ الكاتب إلى شيخوخة المجتمع، تراجع نسبة الادخار، زيادة استيراد المواد المصنوعة، ارتحال الإنتاج نحو مناطق أخرى من العالم، انخفاض في الحسابات الجارية، انتقال الإنتاج الصناعي إلى طور الخدمات، تحول طوكيو إلى مركز مالي دولي و تلاشي سوقها المضارب، فكما خسرت بريطانيا سبقها الصناعي، فمحكوم على اليابان أن تعرف نفس المصير. فعلى خلاف مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية المهاجر، المجتمع الياباني رافض لظاهرة الهجرة و حريص أشد الحرص على نقاء مجتمعه، بينما في المجتمعات النامية مثل الصين و الهند، المشكل غير مطروح لكثافة السكان بل الهم مُنصب على تحقيق توازن بين التطور الصناعي و الزراعي، و التوفيق بين متطلبات مختلف الشرائح الاجتماعية.
أوكِلت إلى الدولتين مهمة تطوير القطاع الصناعي و الخدماتي لزيادة دخل الفرد و إمتصاص اليد العاملة، فقطاع الزراعة لا يحتاج إلى أكثر من 200 مليون شخص بينما العرض يصل إلى 400 مليون!
هذا؛ و قد رأينا كيف تعامل النظام الصيني مع اقتصاد السوق، أتاح أماكن حرة على الشريط الساحلي للبلد، و وفّر الرساميل وخبرة اليد العاملة بالاحتفاظ على سطوة الحزب الشيوعي على حياة الناس، بينما في الهند أكبر ديمقراطية في آسيا، فقد تمكنت من المزاوجة بين خصوصيتها وبين قدراتها ومتطلبات السوق العالمية، فقد تمكنت في المجال العسكري مثلا من تخصيص المال و مراكز البحث و معامل الإنتاج، و توفير الباحثين و المهندسين. فسياسة "التهنيد" كانت لها جدوى أكيدة في بلد متعدد العرقيات و اللغات و العقائد. هذا؛ و"صنع في الصين" نجح هو الآخر في غزو العالم، و مما عزز موقع الدول البارزة، عملية نقل المصانع و الورشات الضخمة التي قررتها الشركات المتعددة الجنسيات، هربا من غلاء يد العاملة العالية الكفاءة في بلادها الأصلية.
غير أن موقف المؤرخ بول كنيدي من دول العالم العربي الإسلامي يثير الكثير من نقاط الاستفهام، فهو متخوّف من مصير هذه الدول التي و إن كانت غنية ماليا، و تتوفر على المواد الأولية بكميات هائلة، فهي تعاني سياسيا و اقتصاديا، فالتصدع شمل أنظمتها بين الطبقات الغنية و الأخرى الفقيرة، و العيوب العديدة التي تطبع مختلف الحكومات بين نظام محافظ تقليدي و دولة عسكرية، بل ذهب اعتقاده إلى اعتبار المنطقة منطقة حرب و نزاعات، و يطلق حكما جائرا عليها بقوله: "في البلدان حيث تسود الأصولية، ثمة القليل، أو لا يوجد أبدا، تطلّع للتأهيل أو تقدم نصف الناس، أي العنصر النسوي". فأن يكون له هذا الرأي في نهاية الثمانينات بداية التسعينيات، فهذا غير مفهوم، فالمرأة المسلمة باسم حقوق الإنسان و المساواة الدخلية اتجهت إلى سوق العمل مثلها مثل الرجل، و تحملت أعباء القوامة رغما عنها، فكيف يتجرأ على اعتبار الوضع الاستثنائي للمرأة في المملكة العربية السعودية مثلا بأنه النموذج المعمم؟
و وصف الاختلاف على وضع المرأة المسلمة بالمواجهة بين أصوليين و تقدميين فيه قدر من المبالغة، لأن الجميع متفقين على دورها و مكانتها، بينما شب خلاف بين المسلمين -الذين لا أسمح لنفسي بتسميتهم أصوليين و تقدميين- حول غربنة القوانين المتصلة بالأسرة و كيف لنا تأصيلها وفق البيئة الأصلية، و ما تثيره من هموم و شجون.
في خاتمة الكتاب "التأهب للقرن الواحد والعشرين"، يسأل بول كنيدي "ما العمل؟" مع الأخذ في الحسبان أن النمو السكاني و التدهور البيئي عقبات لا تحتمها الدول، اقترح سياسات ملائمة و تعاون عالمي، آخذا في عين الاعتبار أن الدول تبقى مركز السلطة و الشرعية، فخَفْض نسبة ثاني غاز أوكسيد الكاربون، و تأهيل اليد العاملة، و خَفْض نسبة الولادات ينبغي أن تكون أولويات هذه الدول إن أرادت تجاوز بنجاح التحديات المطروحة والملحاحة. هذا؛ و قد اعترف الكاتب أنه "من العبث للأمم الغنية محاولة فرض هذه التبدلات الاجتماعية، لأن المسألة يجب أن تقرر في المجتمعات النامية ذاتها، ما قد يفضي إلى مواجهة بين التقدميين والأصوليين في مسائل شديدة الحساسية. يتعلق قبول أو رفض هذه الإصلاحات بالقرينة و القناعة، و ليس بالمنطق المجرد".