كأن فى هذا البلد، الحكومة هى ملهاة ناس عاطلين. إميل أوجى من كتابه " صهر السيد بوارى ".
إنتخب إميل أوجى فى 1852 نائبا و قد كان عضوا فى البيت المدنى للإمبراطور نابليون الثالث و عرف عنه دفاعه عن النظام و حقوق العائلة و له أعمال أدبية عديدة حول ظواهر إجتماعية و سياسية و كتابه " صهر السيد بوارى " هو أكثر أعماله شهرة و نجاحا لدى الرأى العام الفرنسى و قد كان يتميز قلمه بنبرة تهكمية مزيج من الجد و الهزل.
و كونه من المثقفين التابعين لطبقة البورجوازين، فقد كان يستنكر إهتمام العامة بمسائل فى غاية الخطورة كنظام الحكم و الدولة. استهجان أوجى هذا مؤداه قناعته المبنية على التصور التالي : السياسة و أمور الدولة حكر على فئة خاصة من الناس هم إما سياسيون و إما نبلاء الطبقة الحاكمة أو على الأقل النخبة المفكرة، فلا يحق لأى أحد أن يدلو بدلوه فى نظام الحكم و لا يجوز لأى أحد أن يطلق أحكاما أو نصائح لأهل الحكم. كان يعتقد النائب البروجوازى أن العوام لا يمتلكون الثقافة و الدراية و المعلومات اللازمة للتحدث فى شؤون الدولة !
بينما فى الديمقراطيات الحالية للمواطن البسيط حق فى انتخاب رئيسه و سن قوانين مختلفة تتوزع بين منع اعطاء الجنسية الى غير السكان الأصليين و بين الموافقة أو رفض دستور قارى ، فى العرف الإسلامى للمواطن حق فى محاسبة رؤساءه و مسؤوليه وصرف شؤونه وفق مصلحته دون الإضرار بمصلحة المسلمين العامة وفقا للقاعدة لا ضرر و لا ضرار و للمسلم الحق فى مبايعة الخليفة على الحرب و السلم.
فسيرة الخلفاء الراشدين الأربعة رضوان الله عليهم مليئة بأمثلة حية للحكم الراشد الذى لا يتجاوز العامة و لا يحتقر وجودها و آراءها، فمبدأ الشوري أثني عليه القرآن الكريم في شخص ملكة سبأ و قد جاء في محكم كتابه، بسم الله الرحمن الرحيم (يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتي تشهدوني)، فكيف لا يلتزم به نبي الإسلام عليه الصلاة و السلام و خلفاءه المهديين رضوان الله عليهم.
و تميز الإسلام بتقريب الجهاز التنفيذى من عامة المسلمين بما أن الخليفة كان يصرف شؤون الرعية فى المسجد، مكان العبادة و الدرس و القضاء. و يوم إتخذ الملوك و الأمراء لأنفسهم أماكن بعيدة عن أعين الناس لإدارة شؤون البلاد، ابتلى الناس بأقسى أنواع الإستبداد و ذاقوا ويلات الاضطهاد و الظلم. فلويس نابوليون كان رئيسا للجمهورية الفرنسية من 1849 الى 1852 و عندما خاف عدم تجديد عهدته قام بانقلاب فى2 دسمبر 1851 بمساعدة أخيه مورنى و بعض رجاله كبرسينى، موباس و سانت أرنو ليعلن عن حل البرلمان و إعادة الانتخاب بالصيغة العالمية و تنظيم استفتاء لإعادة إنتخابه، متحديا جميع مؤسسات الجمهورية !
فلم يتحرج من سجن 27 ألف شخص و نفى معظم المعارضين له و فى 21 دسمبر 1851 تحصل على أغلبية الأصوات ليحكم فرنسا مجددا و فى 14 جانفى 1852 سن لويس نابليون دستور جديد يمنحه عشر سنوات جديدة للحكم ! و بعد تحضير الرأى العام فى 1852 و رفعه لحالة الطوارىء نظم استفتاء جديد لإعلان عن قيام الإمبراطورية الفرنسية و سمى نفسه بنابلون الثالث و تم إلغاء الدستور الذى ولد و مات فى عام واحد ! نلاحظ ماذا يفعل رجل مغرور ليبقى فى كرسى الحكم، إنه لا يتردد أمام شىء و كل شىء جائز له هذا فى بلد ثار ضد النظام الملكى فى 1789 و ها هو الحكم الشمولى الملكى يعود بعد اثنتان و ستون سنة من الثورة الفرنسية.
لا أحد يستطيع أن يضع الحكم فى منأى عن رجال أعماهم حب السلطة و نابليون الثالث مثال على ذلك. فالعامة و البورجوازين و صغار النبلاء كلهم إختاروا فى نهاية القرن الثامن عشر وضع حد لإمتيازات النبلاء و السلطة المطلقة للملك و حاشيته و كبار الأرستقراطيين و جرى ما جرى من 1789 الى 1799 و رغم كل التضحيات عاد الشعب الفرنسى الى عهد الملوكية و الإمبراطورية . عندما سئل ليش فاليزا الرئيس البولونى السابق و زعيم نقابة العمال " تضامن " فى النظام البولونى الشيوعى البائد عن الأسباب التى جعلته يبتعد عن الساحة السياسية باكرا أجاب بتلقائية كبيرة: " عندما تقدمت الى الرئاسيات فى عام 2000 و لم أحوز على النسبة اللازمة للفوز أدركت بأن الشعب البولونى بتصويته هذا أفهمنى بأننى لست فى مستوى التحديات التى تواجهها بلادى، لهذا اخترت أن أنسحب و أن أتفرغ الى ما أريد أن أقوم به منذ مدة طويلة و هو الكتابة و مد يد العون الى من يحتاجوننى. "
فالرجل إحترم ارداة شعبه و تنحى ليترك للآخرين مهمة القيادة ، فليش فاليسا و على خلاف الكثيرين فى عالمنا العربى و الإسلامى فضل أن يحتفظ بتقدير و محبة مواطنيه عوض أن يتقمص دور لا يليق بسجله الحافل بالنضال و العمل. إستنكار إميل أوجيه لا يحجب عنا كمواطنين ضرورة الوقوف بالمرصاد للإنتهازيين و المحتالين المستبدين، فاليقظة هى طوق النجاة للعامة .