مناجاة ربانية
جُبْتُ سماء السعة بعيني، وتساءلت فيما إن كان نجمي تابعًا معي وضمات الأمل حينما كنت أكتب عنها وأنا في لحظات ضعف، حيث لم تسعني أرضي في نثر رحيق أتعابي، فلجأت إلى سماء البهجة والانفتاح برقَّةٍ في مشاعري التي ستتقوَّى حينما ألزم عملي لأبدو شخصًا آخر!
هكذا هو التنوع، يصنع مني إنسانًا لها طبع مختلف، وشخصية تتفاعَلُ بحسب الظرف والشخص، وبحسب المظالم خاصة، أُفرزُها الواحدة تلو الأخرى، وأجعل لها الحلول درجة بدرجة، ومن تعالى صوتُه عليَّ وهو قريب مني، أرفع رأسي لأناجي ربي في ضعف شديد، ليس خوفًا ممن تجرَّأ عليَّ، ولكن خشية من انتقام الله تعالى.
أتردد كثيرًا، لكنها الروح مَن تتكبر عليَّ هي الأخرى أن أُحرِّرَها من صمتي وضعفي، وبضميري أرفع لحظات الشعور بكراهية الطرف الآخر في لحظات الظلم بالصمت؛ احتسابًا وليس تردُّدًا، أخاف كثيرًا أن أنظر إلى السماء وقلبي يتقطَّعُ قطعًا من الأسى، أبغي لنفسي تحمُّلاً وتغاضيًا عن النظر والإحساس، ولكن بداخلي صفقة حزن تريد لها ميثاقًا من ردِّ اعتبار، فأقع ضحيةً بين مِطرقة الكلام، وسندان الصمتِ، أبغي لنفسي خلاصًا من نوع آخر، ربما هو الفرار ولكن ليس للأمام؛ لأنه بالنسبة لفكري هو جُبنٌ، فأعود أدراجي للوراء، ربما ظلمتُ فلانًا، أو سكبتُ ماء زلالاً في غير مَشْربِه، أو ربما أكلتُ في مجلس لم يكن فيه ذكر الله متداولاً ولو بالبسملة، أو ربما لم أنصِفْ موظَّفًا حينما لم أدافع عنه، ولم أُبدِ له مواساةً في لحظتها؛ ربما لانشغالي، أو لغرقي في مصافِّ المشاكل، وكان هذا المستضعف ينتظر مني أن أستخدم علمي ومعرفتي في إحقاق حق مهضوم، فأتقدم عند منتهى قدمي، وأطرق رأسي في التفكير العميق، وقد أبدو أني أضيع وقتي في الشرود، ومَن لا يعرفني يحسبني أفرُّ للراحة المطولة، وفي حقيقتي لست أُلبِّي لجسدي ساعاته الكافية من النوم؛ لأن حرب الكفاح لا تسمح للأحرار بالنوم العميق، والمجالس اللاهية!
هي قلوبٌ تنبض لآلام الآخرين، وهي عيون تتأمَّلُ المُنى، وتُغلِقُ الجَفْنَ على الجَفْنِ لتستعيد نظرة أخرى، حتى تسعد بغدٍ أفضلَ، وتُجدِّدُ لنفسها إيمانًا كبيرًا، وتلغي كل دعوات الضحك، وما تفضله لها مجرد مناجاة ربانية في وحدة خاصة، يصنع أريجها من بساط الرحمة، ففيها لقطات الإنسانية تطرق الفكر لتأخُذَ لها دورها، بل حقها من محاسبة النفس؛ حتى تألف البساطة والغربة، والقلة القليلة من الدعم المعنوي في بُعد الأقرباء، ومن ظنناهم أوفياء، ولكن كان ظنًّا بالنظرة فقط، ولم يكن ميثاقًا بالتجريب حال الظروف الصعبة.
لكن الصدق كل الصدقِ في تلك المناجاة الحقيقية، التي تستدعي التخلِّي عن ملهيات العباد والأقوال والأفعال، هي فسحة طمأنينة وسعادة حقيقية، وكيف لا تكون كذلك وهي وصال ما بين العبد وربه، فيرحل العقل والقلب معًا ليفرضا زخمًا من الحقيقة من معرفة سر من أسرار الوجود؛ ألا وهو التوحيد، سنة ليست تتغير، وترديد ليس يتبدَّل، وكل مَن ألفه حتمًا يَعشقه، ويرفض أن يستبدله بأي حقيقة أخرى، لأنها أَوْلَى الأولويات.
هي هكذا مناجاة الله في حلاوة إيمانية وفي إصرار لكسب ذاك المتنفس لمرهقات هذا الزمن الصعب، حيث الأكثرية من الناس لاهيةٌ أو تسعى لأن تزعجك، أو تكسر عودك الممتد للإصلاح ليس إلا! وسترقب مثلي أنه في سعيك للبناء يأتي مِن خلفك مَن يهدمه، ولست تثأر لنفسك إلا بتلك المناجاة الخفية، التي تبسط فيها يديك طالبًا من الله الرحمة والعافية والحفظ من كيد الأشرار وسوء الرفقاء.
إلهي، إني في مناجاتك أفرُّ إليك، وأسعى بدعائي أن تستجيب لي، إلهي إني ببابك أطرق طالبة لرحمتك وعفوك ومغفرتك، فمن لي سواك يُقيلُ عثرتي، ويكشف همي، ويفرج كربتي؟
إلهي، أنا الفقيرة، وإني بدعائي أشعر بالغنى، حينما أحس أنك قريب مني، وأنت من وعدت بالاستجابة.
إلهي، أنا من خاب ظني في ناس كُثر، وليس يخيب ظني في القرب منك، إلهي، أنا مَن تلبدت سماؤها بغيوم المحن، فرُحتُ أغلق باب بيتي خوفًا من الفتن، لكني صليت وسجدت طويلاً وفي قلبي شعور أنك رافعٌ ضري، وكاشف لغمي، وكافٍ لحاجتي بغناي حينما أذكرك وأسبحك وأحمدك، ولست أنسى جلسة الاستغفار في يومياتي؛ فهي التي تُقلِّلُ الضعف، ولا تزيدني حسرة بل تمسح دمعي بالتفاؤل، فلا تغرقني في ندمي.
صدقًا ما أرحمَك! وما أقدرَك! وأنت من بيده كلُّ شيء، فما لي وما للناس إن هم سخطوا عليَّ، وفي نومي مرتاحة البال بسندك، وفيه خير الرضا والسكينة.
إلهي، ارحمني حينما أخطئ، واعفُ عني حينما لا أقدر على الصبر، وارزقني قوةً لأزداد بها سَعَة في الصبر والتحمُّل، فما عيشي إلا عيش بالقرب منك أشد لذة، وما هنائي إلا هناء الرضا منك عليَّ.. فهو خير الرجاء، لك الحمد حتى ترضى.