من أسابيع كنت أستمع إلي عرض قريبة عزيزة حاملة لجنسية غربية و هي تتحدث عن الوجود الآسيوي في المجتمعات الغربية :" لا نشعر بوجودهم، مع العلم أن لهم أحياءهم و محلاتهم و عاداتهم لكن وجودهم هاديء منسجم مع قيم آسيا الحضارية."
كوني قضيت أهم سنوات طفولتي في أندونيسيا، جاكرطا عاصمة الأرخيبل، و قد إستمدت من طفولتي الآسيوية تلك، حب العمل المتقن و الحركات الصامتة و إعتماد الفعل المحي الذي تباركه النية الطيبة، لازلت علي قناعة تامة أنه يتوجب علينا تعلم الكثير و الكثير عن أهلنا في آسيا. أهم ما ينتبه إليه المرء في آسيا، أنه لا يهم من تكون بقدر ما يهم ماذا تفعل بذكاءك و سواعدك ؟ يكتسي العمل قيمة عالية لدي مجتمعات ضخمة من حيث العدد و راسخة حضاريا.
و هذا ما نفتقده في المجتمعات العربية و لكي لا نذهب بعيدا، لنأخذ النموذج الجزائري، و لنسأل أي شاب هذا السؤال :"كيف تري الآفاق و ماذا تريد أن تقدم لمجتمعك ؟"
يحبطك الرد البائس:" لا آفاق و كيف أعطي و لم آخذ شيئا!!"
أكثر ما يثير القلق في زمننا، طلب العلا بأدني جهد إن لم أقل بلا جهد! و أنا طفلة، كنت أتأمل حيوية شعب ناهز عدده مائة مليون أندونيسي ينطلق كباره و شبابه في صبيحة كل يوم يحثون الخطي نحو الرزق و العلم و المعرفة بينما لسان حال شبابنا، الحصول علي متاع الدنيا هكذا بلا كد و لا شقاء، متجاهلين هذه الحقيقة الربانية بسم الله الرحمن الرحيم (لقد خلقنا الإنسان في كبد) الآية 4 من سورة البلد!!!
عندما نتفحص عن قرب نماذج شبانية من الواقع، أول ما نصطدم به غياب تام لبوصلة يهتدي بها المعني، نحاول أن نلتمس القيم الروحية في سلوكات هؤلاء الشباب التي تمتليء بهم الشوارع، عبثا! فمفهوم الفاعلية الحضارية غائب في ذهنية الأمي و مغيب في حساب المتعلم!
كأن الفرد يولد في مجتمعنا مبتور من جذوره، فلا أحد في محيطه المباشر، كالأسرة، زرع فيه قيم الخير و العمل و التقوي و الفضيلة. يأتي إلي الدنيا لتتنازعه أهواء و شهوات و غرائز و آخر ما يفكر فيه وقفته الرهيبة عند المولي عز و جل يوم الحساب.
هذا و في تعاملنا مع العامة نشعر بغياب الهم الحضاري، فالملايين تنهض في صبيحة كل يوم بلا غاية و أن تسئل أحدهم : الحياة نعمة و دار إبتلاء، ألا تعتقد بأنك مكلفا بأداء رسالة سامية ؟
يجيبك و هو ينظر لك مبهوتا: كل ما أريده أن أعيش!
فتريد أن تستوضح منه : ماذا تعني بقولك هذا ؟
فيسهب في تحديد مطالبه من الحياة، أن يكون له عمل و بيت و سيارة و زوجة و أطفال و هكذا يختزل مهمة نبيلة كالإستخلاف في إحتياجات فيزيائية بحتة!
فمن أين لهذا المجتمع أن ينهض و كل همه ينحصر في الرزق و الخلفة و فقط ؟ أكثر ما يثير الحيرة و أنت تحتك بأفراد مجتمع تنهشه آفات مثل فساد الذمم من القاعدة إلي القمة، أن سلوكك المستقيم يبدو نكرة!
نعم يريد البعض التغيير، لكن قلة منهم يبدون إستعدادا في تحمل أعباء هذا التغيير، و أرد هنا بالمناسبة ما باحت لي به زوجة ديبلوماسي غربي من حوالي عشر سنوات:
"للأسف الشباب الجزائري الذي يهرب من بلده بحثا عن "الإلدروادو" في أوروبا يقفز علي حقيقة أن التطور و الحضارة هناك هم نتاج كفاح مرير دام مئات السنين، كنا نعمل بلا هوادة و نضحي و نبذل من راحتنا و صحتنا و سعادتنا لنصل إلي هذا الرقي!"
و حينما تنقل هذه الملاحظة للشباب الهارب، لا يستثيرهم الأمر بل لا يعبأون به، فهم بحسب أقوال أحدهم:
"نريد الجنة الآن و كفي!"
و أي جنة ؟؟؟
هل فشلت الأسرة المسلمة في هذا القرن الميلادي علي رفع التحدي ؟ ألا و هو إنجاب أفرادا ناضجين واعين تمام الوعي بالمسؤولية الملقاة علي كاهلهم في الإنبعاث الحضاري ؟
أود القول نعم، لكنني أريد أن أكون متفائلة، نحن لازلنا في بداية الطريق، جراحنا كثيرة و النار مندلعة في مناطق كثيرة من عالمنا العربي، مازالت هناك بقية روح و حياة في جسم الأمة و ما أخفق فيه كثيرون ستتولي فئة أخري لم تولد بعد في النهوض به، قناعة مني أن الأخيار الطيبون علي قلتهم يكرهون الإستسلام.