في إحدي معسكرات الإعتقال التي تشبه كثيرا معسكرات "أوشويتز و داشو" لمحت بين الأسلاك الشاءكة ظل ذلك الطفل النحيل و الشاحب، فعوض أن يكون جسما صغيرا ممتلأ بالصحة تعلوه الإبتسامة كانت معالم وجهه البريء تشي بالحيرة و الخوف و البؤس. هذه الصورة وجدتها بين صور عديدة تصور فاجعة الإحتلال الفرنسي في الجزائر.
قلما إلتفتنا للصغار أولئك الجزائرين الذين تعاقبوا جيل بعد جيل طيلة مائة و إثنتان و ثلاثون سنة و الذين دمغوا و للأبد بدمغة الإحتلال الفرنسي البشع. فحتي و هم كبارا إحتفظوا بمخاوفهم و فزعهم و تساؤلاتهم و ضياعهم صغارا. فالإستعمار أول ما إستهدف فئة لا حول لها و لا قوة لها، فبالترهيب و التشريد و التعذيب و القتل صنعوا غولا كبير و كبير جدا في أنفس أولئك الأطفال الأبرياء الذين فتحوا أعينهم علي واقع بشع مستلب لم يمهل طفولتهم و لا براءتهم. فمحاولات المسخ و التنصير التي طالت الشخصية الجزائرية و هذا منذ بدايات الغزو الفرنسي علي الجزائر كان هدفها خلق جيل لا هوية له و لا إنتماء و لا أرضية صلبة يقف عليها. سلبوا الجزائري كل شيء أرضه عرضه دينه عقله و حياته، أرادوا للجزائري حياة العبد التابع الذليل و أما دعاوي التحضر و التنوير فهي محض كذب و إفتراء لأنه بوسعنا إلي يومنا هذا ملامسة آثار فرنسا المدمرة في ذات الإنسان الجزائري.
فذلك المخلوق الضعيف الصغير الذي ينظر إلي أسرته و العالم الخاريجي بنظرة كلها تساؤلات و رعب شعر طيلة عقود متوالية أنه مركون في زاوية لا حق له في مبيت كريم و في لقمة سائغة و في حضن عائلي دافيء و في حق التعليم، باكرا جدا إلتحق بأبيه و أخواله و أعمامه في أعمال السخرة. و لم يكن يفهم لماذا لم يكن يعلن عن ميلاده فهو غير مسجل في بلديات سلطة الإحتلال فهو هكذا مغيب لا وجود له مع أنه حي و أي حياة. فخشية الأولياء التجنيد القسري لأبناءهم كان يدفعهم دفعا إلي عدم تسجيلهم ثم إن المقهورين في الأرض كانوا يأبون التعامل مع سلطة بغيظة كانت تمثل بالنسبة لهم سلطة الإحتلال . فالطفل الجزائري الذي كبر في أجواء الخوف و المهانة و السخط و الغضب المتعاظم في الصدور لم يكن بإمكانه أن يدرك حقيقة ما يعيش. فقد كان يعمل علي التماثل مع أفراد أسرته و علي غرار أبيه و جده كان يكن كل الكره لهؤلاء الرجال البيض ببزات مدنية و عسكرية. فهو لا يملك إلا الحقد و الكره ليعبر عن عميق غضبه لعمليات النهب و الحرق لمحاصيل عائلته. فهو باكرا ولج عالم العمل فلا حق لأمثاله في المدرسة و حتى حينما يكون محظوظا و يدخلها فهو يغادرها في سن باكرة لرفض سلطات الإحتلال بأن يذهب أبعد من ذلك في طلبه للعلم.
فالطفل الجزائري كان أكثر ضحايا الإستعمار هشاشة، فهو لم يكن يملك وعيا أو سلاحا ليصد طغيان الإحتلال. لم يكن بوسعه أن يفهم ما يجري سوي أن هؤلاء البيض القبيحين هم شياطين يملأون حياته رعبا و فاقة.
من سنين تعرفت علي سيدة عاشت نهايات الطفولة و بدايات المراهقة و بدايات الشباب في عهد الإستعمار الكريه و كانت أيامها تقطن و أفراد أسرتها القصبة المدينة القديمة العتيقة في أعالي العاصمة. في إحدي أحاديثها إلتقطت مشهدا بقي عالقا في ذهني و قد ضمنته قصة باللغة الفرنسية عنوانها "دار البنات" نشرت لي في مجموعتي القصصية الأولى بفرنسا تحت عنوان "سيدة إبيدزا." و ها هو المشهد كما روته السيدة الوقورة : "في يوم من الأيام كنت متوجهة إلي المدرسة الفرنسية و كان علي أن أصعد سلالم القصبة في إتجاه الأعلي لأقترب من السور العثماني التاريخي و في رحلتي كان علي أن أمر بثلاث حواجز وضعها الإستعمار الفرنسي ليراقبوا و يفتشوا المارين من سكان القصبة و الغرباء عنها، كنت في سن السابعة آنذاك كلما كنت أقترب من تلك الحواجز التي يقف فيها جنود فرنسيين مدججين بالسلاح كنت أرتعد خوفا. كانوا أحيانا يتركونني أمر دون أن يقلقوني و أحيانا لا، كان أحدهم يقترب مني و يلعب بظفائر شعري السوداء و ينطق بفرنسية متسارعة كلمات يخالها هو أنها حنونة أما أنا فقد كنت أنظر إليه و أنا أحاول أن أداري كرهي و حقدي له، فعائلتي كانت عائلة مجاهدين و شهداء و كنت قد إفتقدت من زمن قصير خالي الذي إستشهد في إحدي المعارك ضد العدو و كانت تلك الصبيحة ثقيلة فكان الجو غائما و بدى لي كأن تهديد ما، كان يخيم علي القصبة. أمتار قبل أن أصل إلى الحاجز الثاني شعرت بإنقباض غريب و فجأة تغير المشهد بسرعة مذهلة كان أحد الجنود قد طلب من أحد المارين أن يعود أدراجه غير أن هذا الأخير لم يطعه و سارع في الإبتعاد فلم يتردد الجنود المجرمين من إطلاق كلابهم الألمانية و هم يصرخون :
- قف قف يا فلاقة ؟؟
فلم أدري ما أفعل هل أتقدم أم أعود أدراجي، فإذا بي بشكل مفاجيء أقرر السير علي خطى ذلك الشخص الهارب من عسكر فرنسا، كنت أجري بكل قوتي كنت أريد أن أسابق الكلاب الشرسة لكنني للأسف عندما أخذت أستدير في منعرج زنقة كدت أسقط على جثة الرجل الشهيد الذي كان قد تعثر فوقع علي الأرض فتكالبت عليه الكلاب تمزقه تمزيقا. كان منظرا مخيفا مرعبا كان لحم الشهيد يتطاير من هنا و هناك و أما أنا فقد كانت عيني مسمرتان علي المشهد و حينما وصل جنود العدو لم يعطوا أوامر لكلابهم كي تترك الرجل الشهيد بل تركوها تتلذذ بتمزيق لحمه إربا إربا. فبدأت أصرخ بأعلي صوتي مفزوعة، فأخذ أحد الجنود بتعنيفي :
- اسكتي و أذهبي الآن. لما إتبعت هذا الرجل هل تعرفينه ؟
كان ماسكا برأسي و هو يردد كلامه بجدية مرعبة، لم أكن قادرة علي الرد من شدة إنفعالي. حاولت أن أفلت من قبضته بعد المحاولة الثالثة نجحت و كاد يلحق بي لولا معارضة ضابطه :
- لا أتركها فهي لا تعرفه إنما اتبعته بفضول منها.
ثم وجه الضابط كلامه لي :
- اذهبي الآن.
حينها إبتعدت خطوات و أنا أحاول أن لا أرى جثة الشهيد المشوهة و عندما أصبحت على مسافة لا بأس بها من العساكر الأعداء، صرخت بأعلى صوتي بالفرنسية : الموت لفرنسا، الله أكبر الجزائر حرة مستقلة.
فأدار أحدهم فوهة سلاحه نحوي لكنني بخفة هربت و اختفيت عن أنظارهم، عدت إلي البيت و أنا أرتعد و قد أصابتني حمى شديدة. لم تفهم أمي ما بي و استخرجت ما شاهدته بصعوبة كبيرة مني و بمجرد ما علمت بما عشته علي المباشر و علي صغر سني أخذتني بين ذراعيها و تمتمت و هي تحنو علي :"يا مريم لا تخافي، فذلك الرجل الشهيد هو الآن في الجنة و هو يرفل في نعيم الجنة و أما نحن الأحياء فسنهزم فرنسا و جيشها و ستستقل الجزائر آجلا أم عاجلا. آمني بذلك و سيتحقق إن شاء الله حلمنا جميعا."
فبكيت بكاءا شديدا بين ذراعي أمي و عقدت العزم منذ ذلك اليوم علي أن أنضم لصفوف المجاهدين و قد قدمت حصتي من الجهاد الذي لا أريد أن أستفيض في عرضها لأنني جاهدت في سبيل الله و ليس من أجل الألقاب و الامتيازات و عشت أجمل يوم في حياتي و هو يوم استقلال الجزائر. صديقيني يا إبنتي لا أحد يعرف قيمة استقلال الجزائر سوى الشهداء و أناس أمثالي. كنت أطلب من الله أن يجعلني أعيش لأرى استقلال الجزائر فقط و حقق لي أمنيتي و منذ ذلك اليوم لم أطلب شيء من الله عز و جل لأنه حقق لي أغلى أمنية على الإطلاق و هي حرية الجزائر و أما الآن فأنا أفكر في مقابلة ربي فقد كبرت و هرمت و قد آن الآوان للرحيل."
هذه الشهادة لسيدة جزائرية رفضت أن أنشر إسمها في مقالتي هذه، طلبت مني الإكتفاء بذكر الواقعة التي عاشتها و هي صغيرة كما جاءت علي لسانها. كل ما أستطيع أن أقوله عنها أنها إحدى الإطارات السامية في الدولة الجزائرية و قد أحيلت على التقاعد و كونت أجيالا من الرجال و من النساء الجزائريات، علمتهم حب الله و حب خدمة وطنهم الجزائر.