الخطأ الطبي إشكالية قانون أم ضمير؟
إنَّ مفهوم الخطأ المِهَني بوجهٍ عام هو إخلالُ ذَوي المِهَن بالواجبات الخاصَّة التي تفرضها عليهم مهنتُهم على النحو الموسَّع للخطأ وعلى اختلاف المهنَة الوارد فيها، سواء التطبيب أو المحاماة أو الهندسَة وغيرها، ومنه يتفرَّع الخطأ الطِّبي في تعريفه أنَّه الخطأ الذي يُنسب للطبيب، والمفروض عليه أن يلتزم بَذْل العناية في واجبه مع المريض، والبعض ذهب لتوافر مسؤوليَّة الطبيب أن يتوافر الخطأ الجسيم؛ إذ لا يكفي الخطأ العادِي حتى يتحقَّق معنى الخطأ الحقيقي، تبقى آراء، والحقيقة أنَّ الخطأ هو انحراف عن جادَّة البراعة والإتقان لتفادي الوقوع في مطبَّات عدم النجاح ولو بنسبة متفاوتة بحسب الفِعل القائم وبحسب جسامة الضَّرر، وكذا الظروف الأخرى المحيطة بالمريض؛ كعدم تقبُّله لحقيقة مرضه الذي تَرِد فيه نسبة عدم الشفاء، وعليه يَرِد الخطأ، ليس من باب التسيُّب أو الإهمال؛ ولكن لأنَّ نسبة سَيطرة المرض على تعافي المريض غلبَت وتجاوزَت نسبةَ التحمُّل والتلاؤم للمثول للشفاء، وهنا ترِد التفرِقة بين الأخطاء العاديَّة التي لا تتصل بأصولِ المهنة ولا تثير نقاشًا علميًّا أو تستلزم الرجوعَ لأهل الخبرة، وبين الأخطاء الجسيمة، ومن هذا التصنيف يمكن الحديث عن الخطأ الفنِّي الذي يرِدُ فيه تشخيص المرض أو اختيار طريقة العلاج أو اختيار الدَّواء، فهنا لا يُسأل الطَّبيب أو الجرَّاح عن خطئه إلاَّ إذا كان جسيمًا مفضيًا إلى عاهة أو وفاة، ولكن وبتفكيرٍ منطقي وواقعي من لُبِّ القضية فإنَّه لا يوجد فرق بين ذَوي المِهَن في نوع الخطأ ودرجته، فهم يخضعون للمسؤولية التقصيرية، وهي التي يَنتفي فيها وجودُ عقد بين صاحب المِهنة والمضرور (المسؤوليَّة العقديَّة).
لكن كيف يُقاس سلوك المِهنة على نحو ما هو متعارَف عليه من ضرورة الحيطة وأخذ الحذَر في أداء الواجب المهني؟ وهل نسبة العجز الحاصل من الخطأ المرتكب تمكِّن من تكييف أو قياس نسبة الأداء؟
يبدو الأمر فيه مَداخل ومخارج كثيرة في طريقة تناولِه، ومن هنا يمكن التطرُّق للخطأ العَمد كعامِل إضافي ومشدد لنسبة الأداء من حيث النَّجاح ومن حيث عدم النَّجاح؛ فالخطأ العمد هو الإخلالُ بواجبٍ مِهَني على نحوٍ يخالف ما نصَّ عليه القانون أيًّا كان نوعه ونموذجه، سواء تعلَّق الأمرُ بتنظيم المِهنَة كقانون الصحة مثلاً، أو بتنظيم المؤسَّسة التي تمارَس فيها مهنة التطبيب والجِراحة كالمستشفيات والعيادات سواء الخاصَّة أو العامة، فهنا الكلُّ مرتبط بعضه ببعض من حيث التَّنظيم وضبط التدرُّج في التقيُّد بالتعليمات والتوجيهات القانونيَّة، لكن ما مدى إيجابيَّة الضمير كعامل مهمٍّ في تفادي الخطأ الطبِّي؟ وهل تبدو مشكلة الخطأ الطبِّي مشكلة قانون بمعنى عدم التقيُّد به أو غياب فاعليَّة الرَّدع التي مِن شأنها أن تضبط السلوكَ المهني وتوجِّهه على نحوٍ يحقِّق أقلَّ الأضرار، أم أنَّها مسألة غياب الضَّمير المِهَني التي تُساهم بنسبة كبيرة في حدوث الخطأ الطبِّي؟
فحتى الجواب عن هذا التساؤل فيه حساسيَّة كبيرة لاستبيان الاستقراء الصَّحيح، الذي في حقيقته سيفتقر إلى الوضوح؛ لأنَّه صعب ضبطُه بشكل صريح وواقعيٍّ، ومن الميدان المهني بكلِّ لوازمه ومستلزماته، وشفافيَّة توفر القصد في التسويف، وبالتالي وقوع الخطأ.
لذلك فإن كانت حريَّة التصرُّف للطَّبيب حقًّا مشروعًا لأنَّه يواجه خطرًا محدقًا بالمريض وعليه تخليصه من الموتِ أو العاهة كأقلِّ تقدير، إلاَّ أنَّ هذا الحق المشروع كباقي الحقوق محكومٌ في حدود الغاية المنوطة للقيام بالواجب المهنيِّ، وعندما يَتجاوز الطبيبُ هذا الحقَّ يصبح متعسِّفًا ويتعرَّض للمُساءلة القانونيَّة، وعليه لا يكفي قيام الطَّبيب بتقديم العلاج للمريض وتلبية نِداء الإنسانيَّة ونداء الواجب المهني، بل لا بدَّ من قيام الطَّبيب بشرح الدَّاء وطريقة العلاج والدَّواء المقدَّم، وكذا التأثيرات الجانبيَّة والمخاطر المحدِقة بالعلاج بحسب ما تتطلَّبه الحاجةُ للعلاج، وهو ما يُعرف بضرورة الإعلام بالوضعيَّة كما هي، وكتمانه في الملفِّ الطبِّي ليصبح سرًّا ممنوعًا على الغير الاطلاعُ عليه بموجب حِفظ كرامة المريض فيما يتعلَّق بالأمراض المستعصية والحالات الخطيرة التي يتوجَّب التكتُّم على ملفِّها، ولا يتم التصريح إلاَّ لأهل المريض.
كما يقع على الطَّبيب شرح امتناعه في القيام بالعمل الجراحي مفسِّرًا له أسباب الامتناع بتقديم النُّصح والتوجيه لِما هو خيرٌ وأفضل لصحَّته تجنُّبًا للخطر، وحتى الخطأ في حالة تقيِيم ورودِه بسبب حالة معقَّدة؛ كإنقاذ جنينٍ من موتٍ محقَّق أو العكس إنقاذ حياة الأمِّ مقابل التضحية بالجنِين، وهنا مَكمن التداخل بين احترام القانون في لزوميَّة الحفاظ على الحياة والجسَد الآدمي من الخطَر وبين الاستماع لصوتِ الضمير في أداء الواجب بما تملِيه عقيدةُ الطَّبيب أو الجرَّاح من إحساس بالمسؤوليَّة أمامَ الله وأمام المريض تذكِّران بأداء قَسَم الطَّبيب، الذي هو تصريح شرفيٌّ بأداء مِهنة الطبِّ أو الجراحة بكلِّ أمانة ومسؤوليَّة، وما يقوم به المريض من متابعةٍ للطبيب أو الفريق المعالِج والمستشفى بسبب خطأ طبِّي إنَّما هو شعور بضياع حقٍّ وتقصير في حماية الصحَّة، وهنا المتعارف عليه أنَّ الطبيب مطالَب ببذل عِناية وليس بتحقيق نتيجة، فتتداخل التكييفات للنتائج، وتتضارب المصالِح بين أحقيَّة المريض في تلقِّي العلاج المناسِب والنوعيَّة الجيدة للأداءات الطبيَّة وشِبْه الطبيَّة، وبين مصلَحة الطَّبيب في حماية كيانه من الاتِّهام وإيلائه المسؤولية الكاملة عن التقصير أو الإهمال أو الإخلال بالتزام أداء الواجِب بأمانة، ليصبح الخطأُ الطبِّي إشكالية مطروحَة في العصر الحاليِّ بشكل مُثير لكثير من الجدَل ولافِت للحسِّ المدني والإدارات والهيئات المسؤولة مِن وزارات وأشخاصٍ مسؤولين بمرتبة وَزير الصحَّة والعدل، وكل من له علاقةٌ بالموضوع، فتصبح الإشكاليَّة بدل الواحدة اثنتين، وهي التكيِيف المبدئي للخطأ الطبِّي من منظور القانون أو من منظور الضَّمير المِهني، بمعنى: قبل أن يَفصل القانون في الخطأ الطبِّي، هل يمكن تفاديه بل واحتواؤه بالضَّمير الواعي الذي يصِل من النَّزاهة في بعض الأحيان إلى التصريح الحقيقيِّ بورود تقصيرٍ، وهذا مستبعَد جدًّا، أم أنَّ القانون وحده كآليَّة رادِعة ومعاقِبة للمتجاوزين بإمكانه أن يسدَّ ثغرة الخطأ الطبِّي حتى لا تتكرَّر بصفة مستمرَّة؟ بل قد تكون صَحوة الضمير الإنساني وسيلةً وعاملاً مساعدًا في تجنيب الطَّبيب والجرَّاح الوقوعَ في الخطأ.
هي إشكاليَّة تبقى مطروحة لحين تلقِّي الجواب الشَّافي، وبمشروعيَّة التكييف ونزاهة التحليل، ومن طرف كلِّ المعنيِّين بالقضيَّة، سواء المريض وأهله، أو الطَّبيب وطاقمه، وكذا المستشفى أو العِيادة كشخصيَّة معنويَّة تجوز مقاضاتُها حال كلِّ خطأ طبِّي، وهو ما يسمَّى الخطأ المرفقي.