روعة مواجهة
مواعيد و لقاءات من غير تحقيق لأهداف ناجحة، لطالما شدَّني شغفٌ كبير لمتابعتها بأم عيني.
حديث وكلام ومشادات في الحوار، لكن لم أستمتع بالمرة بإنصاف أو نصرة أو تهنئة ومباركة لإحدى البطولات في حلبة الصراع، وأيُّ صراع؟ إنه صراع الباطل والحق!
ترى هل أصرف نظري عما يجري من حولي من مفارقات في حياة أعطيها ألف حق أنها فيها أبطالٌ بمعنى الكلمة، لكنهم لا يظهرون للعيان؟
أَومَأْتُ برأسي أني قد أقبَلُ أحد الأدوار ولو في حضور احتضار لأحد الموتى!
أحتاج لمثل هذا الحضور حتى أَحتقرَ نفسي أمام ما تُصرُّ عليه من رغبة في تلقي الأحسن والأجود.
إنه سكون الموت يعلمني أن أُسكِتَ جوعَ الزيادةِ بداخلي؛ لأني لست آخذةً إلا ما كتبه الله لي وبميزان الرضا.
راوغتَ أيها المغرورُ فيما أحب وما لا أحب؛ عساك تكون من عواد الشر دائمًا، لكن لم أشغل بالي بألاعيب شيطانية صنفت في خانة اللغو واللهو، ولم تكن من عواد الشر، بل كنتَ من عواد المخذولين؛ لأن الله فضح فيك كل محاولة يائسة لكسر كل حرة أصيلة من صنف الأنثى الملتزمة، كنت أعرف جيدًا أنك تَحفِر لها حفرًا عميقة لتهوي فيها بكل ما أوتيتْ من حكمة، لكن توكُّلها على الواحد الأحد لم يوفِّقْ فيك مجهودًا يائسًا.
أحسست بها في داخلي فأنصفتُها لما فيه من ضعف، أما أنت فلم أتطلع إلى فشلك بنظري حتى لا أربكك، بل لأتركك في حوار مع نفسك لتسألها هذا السؤال: لماذا تفعل كل هذا مع من أحسنَتْ إليك في عشرتها معك؟
فإن كان غرورًا، فهو سينتهي اليوم أو غدًا، وإن كان رياءً لقوة تحسبها دائمة لك، فهي لن تخدم فيك ظلمك البائس.
خيَّرْتُك بالأمس أن نواجه الحقيقة، فلم تُجبْني، ثم خيَّرْتُك أن تراجع نفسك، وتكتب أسطرًا من اعتذار لمن ظلمتَها، فلم تُجِبْ؛ فهمت وقتها أنها الحماقة من تَنطِقُ بَدَلَك، وأنه الجبن مَن يُعرقِلُ فيك قول الحق، شعرتُ ساعتها بعزة نفس، وأنه لا بد من الترفُّع على أمثالك حتى تفيء لنفسك، وليس يهمُّني بالمرة إن كنت استيقظت من يأسك!
فيكفي أن النار تأكل ما بداخلك حينما لم تَمنَحْ لنفسك فرصة توبة، وتمنحها اعتذارًا لمن أحسن وصالك!
قد أبتسم لصغر عقلك، وقد يؤسفني تعذيبُك لروحك، وأيهما أختار بين تهوِّرٍ منك، وبين مرض نفسي فيك، هل أعذرك أم أواجهك مرات عديدة حتى تصحوَ من غفلتك؟ فلا أحد معصوم من خطأ الآدمية ما دمنا بشرًا.
عرفتُ كثيرين من المساكين خاصة منهن إماءَ الله اللواتي تحملْنَ أعباءً على عاتقهن، وسكتْنَ ضد ظلم الجاهلية الأولى، ظلم أن لا مكانة مرموقة للمرأة في عصر تدير فيه المادة القوة لمن يملك القوة، كما سكتْنَ ضد ظلم الرجولة التي لازمت فيهن صمتًا ودمعًا لم يَنسكِبْ بعدُ خوفًا من كشف أمر الوهن فيهن، وربما أمر اختيارهن الأولى لمن ظنَنَّ أنه سيكون نِعْمَ الشريكُ والوفيُّ، فرُحْنَ يسترن عيوب اختيارهن (والطرف الآخر لم يُعِرِ اهتمامًا لهذا الوفاء).
فهل لي بسؤال عنهن وماذا اقترفَتْ أيديهن إن كن طاهرات عفيفات محتشمات، أَدنَيْنَ من جلابيبهن وخفَضْنَ من أصواتهن، فلم يَكشِفْ أحدٌ قولهن؟ فلِمَ هذا الظلم والإسلام شرَّفهنَّ بمنزلة التقيَّات السائرات على نهج الصحابيات؟! أليس لي أن أحتار مرةً ومرة ومرة أخرى؟ أم أني سألجأ لـمُسكِّن لألم عقلي قبل رأسي؛ لأن ما احتواه عقلي من حيرة لم يرد رأسي حمل العبء منه؟
فلطفًا يا بنت حواء، ناوليني كأسًا من ماء طاهر، أروِ به عطشَ التأسِّي وليس عطش الريق، وأتمنى أن أترك من مشهدي روعةً لك ولغيرك ممن يوافقنكِ جمالاً واحترامًا وعفة، وإني أهديه لكُنَّ بداية ومنتصفًا ونهاية الحديث المنمَّق، فهو عنكن ومُهدى إليكن، ولو لم أسمع وأرى قضايا كسرت القلم بين أناملي من غضبي، لما تكلمت عن هذه المواجهة الصريحة.
سال دمعي لما رتَّلتْ على مسامعي بُنيَّةٌ صغيرة آياتٍ طيباتٍ من القرآن الكريم، وأنا بصدد التفكير في مِحنتكن، فكان أن أشفقت على صوت عذب عند سماعي لهذه الآيات الكريمات من سورة الفجر: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا * كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ﴾ [الفجر: 15 - 23].
كانت هذه الآيات الطيبات هي روعة ما ختمت به مواجهة إنصاف في تساؤل مني: أوليس للإنسان لحظات تذكر وإشفاق على نفسه من عذاب الغد؟ أوليس للإنسان ضمير يستيقظ ويصحو كلما شعر بندم حيال شخص أو ظرف أو قضية من القضايا؟
صدقًا نحن البشر ضِعافٌ وغافلون، ولسنا ندري أننا كذلك!
ثم أمنيتي في البداية لم تشبعْ فيَّ رغبة أن أطفئَ حرقة الأسى، وهي أني مشتاقة أن أشاهد أدوارًا جميلة بل رائعة، تُنصَفُ فيها بنت حواء، وتُكرَّمُ وتُصان حقوقها، إن هي صانت وديعةَ البيت والزوج والمال والأولاد، وفوق كل ذلك بل بداية البدايات أن تتقيَ الله أينما ذهبتْ.