رسالة إلى أمة المليار
قرأتُ كلامًا منوَّعًا عبر صفحات التعليق عن وضْعك يا أمَّة المليار، تابعتُ حوارات فيها الأخذ والرد في إبداء آراء عنك، كان السكون يُسيطر على جسدي دونما حَراك لحساسية المشهد، كان خيالي يرحل إلى بعيد، ليس هناك أحد؛ لا أشخاص مُعلِّقون، ولا آراء تُفكِّك شَتات انتمائي إلى أجزاء متراصة على الرصيف، تبغي لَحاقًا برَكْب فيه التطبيق للهُويَّة، كنتُ أعود إلى حاضري لأُكمِل بقيَّة النقاش عن مصيرك أمَّتي، ولم يمنعني تَحسُّري أن أبدو أكثر تماسكًا وأكثر قوة؛ لأنه يجب أن أكون كذلك، وإلا فلستُ بالكائنة أصلاً في هذا الحين، كنت أُتابِع بعيني وأُحلِّل بضميري ما عرَفته من أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم.
في الوقت ذاته فكَّرت في عدد القَتْلى والمشرَّدين من الأطفال، وبحثت عن الاحتواء الحقيقي لمعاناتهم، ولما سيَنجُم من ويلات الحروب والظُّلم، وكنتُ أُعدِّد المساكنَ المدمَّرة، فيَختلِط الحساب بين لساني لأَكُفَّ عن العدِّ؛ لأنه إلى ما لا نهاية يجوب القُطْر في مصراعيه من الاتساع، أو هكذا تُقرأ الحصيلة، ويُفْهَم النِّتاج بقساوة الحرب؟ أم أني عاجزة عن التحمل والفَهْم، فشأن الدروس العادية لا تُفهَم أحيانًا، ولو بالشرح المطوَّل، فكيف لسيرةٍ لم تَنتهِ بعد أن أستوعِب بدايتها ونهايتها بالصورة والإحصائيات؟
هل يكفي عزوفي عن متابعة الأحداث في أن أبدو أكثر تَماسُكًا أمام قول الأمم في أمتي؟
وهل يكفي مشاركتي في مؤتمرات التحسيس أن أَضَع إصبعي على الجرح بالرقم والدليل في أني ساهمت في نقْل صوتِ الطفل والشيخ لمن لم يَعُوا حقيقةَ العذاب في أهل أمتي؟
راجعت قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((يُوشِك أن تداعى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُق كما تتداعى الأكلة على قَصْعتها))، قلنا: مِن قلَّة بنا يومئذٍ؟ قال: ((لا، أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غُثاء كغثاء السيل, يَنزِع الله المهابةَ من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوَهَن))، قيل: وما الوَهَن؟ قال: ((حُب الحياة، وكراهية الموت)).
إذًا ما تَسلَّط أعداؤنا علينا - أُمَّة المليار - إلا لضَعْفٍ فينا، وتقصير في استقامتنا وفي تآلفنا وتوادُدِنا، فلو كنا متَّحِدين ومُتحابِّين ومجتمعين لحماية أمة المليار، لما تكالبتْ عليها الأمم من كل حَدَب وصَوب.
فمن يوم هُجِر كتاب الله في أصوله الحقيقيَّة لسلوكيَّاتنا، وسُنَّة الرسول المصطفى في تصحيح الاعوجاج فينا، انهالت علينا قذائفُ الاستهانة بمقدساتنا، فمن يَحمينا ويحميها اليوم؟ هو سؤالي ورسالتي في الوقت نَفْسه لكل مَن ينتمي لأمة المليار.
فالسبب والخلل كامن فينا وبداخلنا، ولا داعي لإلقاء اللوم على العدو؛ لأنه مُهيَّأ لتشتيت أواصرنا وزرْع الفتنة في صفوفنا، والآية الكريمة تؤكِّد هذا الضعف: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]؛ لذلك نحن بحاجة كمسلمين إلى عمليَّة لَمِّ الشَّتات فينا؛ للقضاء على آفات التفسُّخ والأنانية المفرِطة، والتي علَّمتنا أن يعيش كلُّ واحد بعيدًا عن مصير أمته، فمن لم يُهِمه أمر المسلمين ليس منهم، وعليه ليس مهمًّا أن تكون سوريَّ الجنسية حتى تشعر بآلام السوريين، وليس شرطًا أن تكون مصريَّ الجنسية حتى تشعر بآلام المصريين، وليس شرطًا أن تكون ليبيًّا حتى تُحِس بهموم الليبيين، فالمهم والأهم في نفس الوقت هو أنك تحمل جنسيَّة إسلامية، وعلى كل واحد منا أن يشعر بهذا الانتماء، فهو أصْلٌ كامن في كلِّ مُسلِم ومَفطور عليه، فقط لا بد من استظهار علامات الإحساس بغير المسلمين والتفكير في مشاكلهم وأزماتهم وإكثار الدعاء لهم؛ لأنهم إخواننا في العقيدة، وهم بتجمعهم بنيان مرصوص، يَشُد بعضه بعضًا، ولن تتمكَّن شاردات العدو من اختراقها، هذه هي القوة، وهذا هو الاعتزاز والتلاحم والتراحم، وإلا فلسنا مسلمين بالمرة.
إن السعادة كلَّ السعادة هي في تعظيم شعائر الله، والدعوة إلى نَهْجه المستقيم؛ حتى تحيا قلوبنا من جديد، لا يزال في الوقت مُتَّسَع ولم تَرْحل عنا الدنيا حتى نُصاب بداء الخَوَر والوَهَن والترهل لمشاعرنا.
ثم برأيي أن أسلوبَ النَّقْد الهدَّام والمتواصِل لبعضنا بعضًا من شأنه زرْع اليأس والشعور بعُقْدة الذنب، ليس المهم أن نتكلَّم كلامًا لنتنافس في إيضاح نقاط الضَّعْف، لكن المهم هو خطاب التوعية والتذكير؛ مِصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، ويجب ألا نُشمِّت الأعداءَ في أمة المليار، فيما يعيشه المسلمون من أزمات وحروب، بل لا بد من الوعي والفَهْم الجيد للانطلاقة من كَبْوة الفشل، ولست أُسمِّيه الفشل الدائم؛ لأنه مؤقَّت وبإمكان الأمور أن تتغيَّر بحسب تغيُّر الإرادات الفاعلة وَفْق آليات تفعيليَّة لبرامج الإستراتيجيات الهادفة والبنَّاءة.
ما تَملِكه أمة المليار لا تَملِكه غيرها من الأمم، ويكفي في ذلك إسلام سمح صالح لكل زمان ومكان.
أظنُّه كان لِزامًا أن نُوضِّح من هو القائم على كِيان أمة المليار، هل هي الشعوب؟ هل هم الحكام؟ هل هي القوانين المتغيِّرة والمعدَّلة من وقت لآخر، وهل هي أموال تُضَخ هنا وهناك؟ وهل هي أفكار أم آراء أم ماذا؟ بمعنى من هو الوصي على أمَّة المليار؟ مَن هو المسؤول عن استمرار الحياة لأمة المليار؟
قد يبدو ذاك وذاك، ولكني أرى في نفسي وفيكَ أيها القارئ مسؤولية في أن نرى أمة المليار مُتألِّقة برجالها ومثقَّفيها وشبابها ونسائها ولمَ لا؟ حتى أطفالها الأبرياء؛ لذلك الآية الكريمة تَنطبِق عليَّ وعليك ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
هي رسالتي لأمة المليار، أمة أرى شجاعتَها وقوَّة تلاحُمِها في مجرد صلاة المسلمين بالحرم، فما بالك لو اجتمع والتئم شَمْلُ المليار كله؟