تأرجح التجربة الطبية بين النفع و الضرر
إن عالم اليوم هو عالم المغامرة و الاكتشاف في انفتاح للعقل البشري على العديد من مقترحات التجارب الطبية و نتائجها فيما إن كانت قد حققت الغرض أم لا ،حتى في صنع الأدوية للأمراض المستعصية تجربة أخرى في محاولات عديدة لإيجاد الدواء الصالح و المفيد لكل حالة، و هو في النهاية غاية في سبيل تطوير الطموح العلمي بما يوافق التطور في الصناعة و التكنولوجيا و التقنية العلمية.
فلو بادرنا لاستنتاج و فهم أهمية التجارب العلمية لوجدناها تعد ضرورة ملحة لأجل تقدم البحث العلمي بحسب ما يفرضه ظهور الأمراض و الفيروسات الجديدة ليكون هذا الظهور دافعا لتكثيف أساليب البحث و التجارب الطبية.
فالي أي مدى من التقبل لذي كل عقل بشري فيما إن كان فيه تأييد بالإيجاب لمحاولات الأطباء و الباحثين و المخبريين ما دفع بهم للاقتناع إلى ضرورة إحداث مبادرات علمية بشتى وسائل الابتكار و التشخيص المادية منها و البشرية ، و لو أنه أحيانا تحبط هذه المبادرة و يصيبها الفشل و بالتالي تقابل التجارب الطبية بالرفض لمن عايشوا هذه المبادرة الطبية ،فما هي أسباب الرفض أذن من جموع المرضى و ذويهم ؟ و إن وجدت ما هي البدائل لتحل مكان التجارب الطبية في سبيل إعانة البشرية للتخلص من تأثيرات المرض و نتائجه المفضية أحيانا إلى الموت؟.
ربما كمبادرة لاحتواء موضوع التجارب الطبية ، يجب أن لا ننسى في ذلك عملية استئصال الأعضاء prélèvements d’organes و الأنسجة و الخلايا tissus et cellules و كذا منتجات جسم الإنسان produits de corps humain بغرض إجراء عمليات نقل أو زرع transfusions ou implantations و التي تشكل أساسيات مهمة لمتطلبات التقدم في الطب الحديث حيث تنامت بصورة ملحوظة خـــــلال الأعــوام الأخيرة (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)عبد القادر الحسيني ابراهيم محفوظ :التجارب الطبية بين الاباحة و التجريم –دراسة مقارنة-القاهرة ، دار النهضة العربية ،2009 ، ص 7.
يبدو أن فكرة التجارب الطبية هي بحاجة إلى مجموعة من الأفكار العلمية التي سوف تطبق على شاكلة ملاحق أساسية لإتمام الخبرة الطبية بما يكفل التقدم الطبي و العلمي و في نفس الوقت مراعاة حرمة الكيان الآدمي و حرية الفرد.
فالطبيب إذ يطلق حريته لاختيار العلاج المناسب لا يلتزم بتحقيق غاية أو نتيجة و لكن يلتزم ببذل عناية ، فهو لا يمكن عليه أن يشفي مريضه و لا أن يحقق نتيجة بدرجة أو بنسبة معينة و لكنه يتبع متطلبات الطب الحديث لمواكبة التقدم العلمي على اختلاف أساليبه و مناهجه.
فإذا خرج الطبيب المعالج عن المألوف و المعتاد عليه في ميدان الطب و التجارب الطبية انعقدت المسؤولية الجنائية حين توافر الخطأ .
فالي جانب مسؤولية الطبيب عن الجهل و الخطأ كان الشراح يعتبرون الطبيب مسؤولا إذا ترك مريضه دون أن يتم علاجه ، حيث قال ريموند دي ليجليز في ملاحظاته عن القانون الفرنسي أن الطبيب كان يستطيع أن يعتذر للمريض عن قبوله لعلاجه من بداية الأمر ،إلا انه و قد قبل العلاج فقد وجب عليه أن يتمه (1).
و مع كل الاحتياطات و التنبه لمراحل التدرج في إتمام العمل الطبي من فحص و تشخيص و عمليات جراحية أو تجاربا طبية فان ذلك لم يقلل من نسبة الأخطاء الطبية حتى أصبحت الحرية في التشخيص لا تعني عدم المسؤولية أو التساهل فيها بل تضبطها المسؤولية عن الخطأ الطبي المرتكب.
ففي فرنسا قضت إحدى المحاكم الفرنسية أنه يجب إجراء فحوص تكميلية للمريض لبيان حالته ، و أن إهمال الطبيب لإجراء هذه الفحوص يعد خطأ معاقبا عليه ، و لذلك فان إجراء الجراح لعملية جراحية دون إجراء الفحوص الدقيقة و الضرورية للمريض يشكل خطأ يسأل عنه الجراح(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)د.أسامة عبد الله قايد،المسؤولية الجنائية للأطفال –دراسة مقارنة- القاهرة ، دار النهضة العربية ،2033، ص 33.
(2)د.عبد القادر الحسيني ابراهيم محفوظ ، المرجع السابق ، ص 14.
فمثلا إذا كان تشخيص مرض من الأمراض المعدية يترتب عليه إصابة الغير بهذا المرض ،فان هذا الخطأ يترتب عنه مسؤولية جنائية للطبيب إلى درجة أن يفقد بعض الأطباء مناصبهم في العمل بسبب أخطاء لا تغتفر ، كأن يعطى تشخيص لمريضة بعد عملية استئصال الثدي أنها مصابة بمرض السرطان على أساس أن التشخيص الأولي يقر بوجود الورم السرطاني ، و لكن بعد إجراء التحاليل تبين أن الثدي المستأصل لا يحمل خلايا سرطانية ، إذ انه من المفروض أن يتم التشخيص الأولي لأكثر من طبيب واحد أو يتم توجيه المريضة لأخصائي في الأورام السرطانية أو إعادة التحاليل لمرة ثانية و حتى ثالثة للتأكد من صحة النتائج فيما إن كان الورم من النوع الخبيث آو الحميد ،و بالتالي تعفى المريضة من عملية الاستئصال ،هذه الأخيرة التي يترتب عنها توابع و آثار سلبية سواء على معنويات المريضة بل حتى بروتوكول العلاج المتبع قد يكون سببا في ظهور متاعب صحية مثل فقر الدم أو مرض القلب ،ما يؤثر على الحالة النفسية و كذا مشاعر الخوف التي تتولد لدى المريضة من وساوس في انتقال المرض إلى الثدي الثاني ، فلو كان التشخيص الأولي مستوفيا لتمام شروطه لما ترتب على ذلك عملية الاستئصال.
و تطبيقا لذلك يعتبر خطأ الطبيب نابع من عدم إتباع التقنيات الحديثة أو عدم استخدام الأجهزة الحديثة في الكشف و التشخيص ، و هنا يسأل الطبيب عن التقصير .
لذلك ، وجب التفرقة بين التجربة الطبية العلاجية التي ترتكز في الأساس على حرية الطبيب في اختيار الأسلوب المناسب لاقتراحه في معالجته للمريض و بين التجربة الطبية العلمية التي ينتفي فيها قصد العلاج ، و في إطلاق حرية الطبيب في اختيار العلاج المناسب به قيدين:
القيد الأول:
أن يكون القصد من وراء أي تجارب هو التجريب.
القيد الثاني:
أن خطأ الطبيب في التشخيص بإمكانه أن يضيع فرصة للمريض في الشفاء.
لذلك وجب على الطبيب في أثناء اختيار الأسلوب العلاجي أن يقوم بإجراء
موازنة فيما بين النفع الذي يعود على المريض و المخاطر المحتملة التي سوف يتعرض لها من جراء استخدام أسلوب علاجي معين ، و في حالة رجحان الضرر على الفائدة التي تعود على المريض بالخسارة فعلى الطبيب أن يبحث عن أسلوب علاجي آخر أكثر نفعا و أقل ضررا (1).
و كنتيجة استخلاصية ، فانه يمكن القول انه لا وجود للتناقض بين حرية الطبيب في اختيار الأسلوب الأمثل للعلاج و بين التجربة الطبية التي تجرى للمريض بقصد العلاج و التخلص من مسببات الألم و الضرر ، و لكن السؤال يطرح حينما ينجم عن ذلك خطأ في التشخيص، لأن التشخيص هو اللبنة الأولى التي يبنى عليها مصير المريض حينما يسلم جسده للطبيب مع العلم أن الكيان الآدمي له حرمته ، فلا داعي للتسرع أو التهور في اختيار العلاج الذي يبدو للوهلة الأولى انه المناسب و الأنسب بحسب ما تظهره حالة المريض الجسدية ،فميزان التقدير يحمل من المنتصف لتتم الموازنة في التشخيص بين النفع و الضرر الذي قد ينجم عن سوء التقدير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)د.عبد القادر الحسيني ابراهيم محفوظ ، المرجع السابق ، ص 39.