سؤال الغريب في وحدته
في مدينتي الجميلة كنت أرقد بهدوء، وخلوِّ البال من أن أحقد على أحد، في مدينتي المتواضعة كنت أجوب الشوارع شارعًا شارعًا، وحيًّا حيًّا، أتفرَّس وجوه البشرية، حيث لاحظت قسوة بادية على عيون مَن تابعني، وقرأ فيَّ اضطرابًا باديًا للعَيان، ليس خوفًا من أحد، لكنها الغربة التي نسجتْ أكفانها حول مشاعري، برغم تلك النَّظرات المطوَّلة تِجاهي، فإني بادرت بالسؤال: أَنْ عفوًا، هل مرَّ عليكم سوّاح ومُسبِّحون يقرعون طبولاً نادرة الإيقاع؟ فقالوا لي: لا، لم يمرَّ أحدٌ، فقلت في نفسي: ربما كان عليَّ ألا أسأل، لكنها محاورُ الغموض من تلفُّ عقدَها حول فكري، فاستأذنت وأكملت المسير عبر شوارع كانت مظلمةً، حيث وجدتُ في ظلمة المسير أُنسًا بغير وحشة، وارتحالاً بغير عدّة، وصمتًا بغير تخمين، كم كان لي في ذاك المسير من لحظاتِ تردُّدٍ في أن أغيِّر مساري إلى طريق آخر، لكني لم أقدر أن أخالف حكمة أُعطِيتْ لي منذ كنت صغيرةً، وهي: ما بدا للعبد غريبًا، وغيرَ مألوف، سيكون هو المرادَ المرغوبَ نيلُه منذ أمدٍ، فصبرت وأكملت السير إلى أن وصلت إلى قارعة طريق قريبة من بصري، نظرت إلى أنوار كانت تسترسِلُ بالقرب من جدران حزينة، فانصبَّ الخوف عليَّ وقتًا طويلاً فارتجفَتْ قدمايَ عصرًا جديدًا، فلزمت الركون حيث أنا، إلى أن سألتني امرأة في عمر النضج الهادئ: سيدتي، هل من خَطْبٍ؟ فقلت: شكرًا لفضلكِ، لكني أبحث عن أشخاص يفهمون قلبي، ورحلوا من غير أن يُودِّعوني، لكن مَن رآهم لآخر موعد دلَّني على هذا المسار، فقالت لي المرأة الملأى بالوقار: خيرٌ لك أن تمضي وتكملي البحث عنهم ما دام قد أَلِفَهم قلبُكِ، فقط اختاري من تسألين عنهم حتى تلقَي جوابًا صحيحًا.
فشكرتُها، وأدَرْتُ ظهري، مغادرةً ذاك الشارعَ المنيرَ، في اتِّباع لخطوات سيري الثقيل، فنادتْ عليَّ تلك المرأة في لحظة كدتُ أتوارى عن أنظارها، فالتفتُّ ألتمِسُ منها فَهمًا لندائها لي، فقالت: من أين أنتِ؟ وما موطنُكِ؟ ولِمَ أنت مهتمةٌ بأمر من رحلوا عنكِ؟
فقلتُ لها: عفوًا، إني لم أقدِّم لك نفسي منذ البداية، فأنا تاريخٌ من آلام، مزَجَتْه دموعٌ من صبر، أنا كتابٌ يحمل بين صفحاته حقائقَ كثيرة أدركتُها وحيدةً، منذ سنوات الصبا، فانطلقت أُكبِّر مثلَ الحمامةِ المحلِّقة في سماء الحرية، أنشد الخير والوُدَّ والصفاء حيثما وقع عليه بصري، وحيثما لامستْه أقدامي، أسير ليلاً طويلاً، ولا أملُّ، وأَمَلُّ نهارًا مثقلاً بهموم المثبِّطين لمساري، ولا أتكلَّمُ، أنامُ على أمل أن أصبِحَ من جديد، وعلى وَقْعِ صبحٍ عتيق، فأمَلُّ على الفور من تزاحم الآراء والرغبات، وحبِّ الذات وتبجيلها، حتى كدتُ أن أختار الرحيل، لما كبرت من غير تخطيط مني، لكنها الظروف من ألزمتني على الرحيل، بعيدًا عن القسوة والألم والجراح الكثيرة، لكن مع رحيلي لم أَنْسَ أن أسأل في طريقي عمن عرفتُهم وعرفوني بشخصي الذي كنتُ أجهَلُ عنه الكثيرَ؛ فأحببتهم بصدق، وتمنيت أن لا يرحلوا عني، لكن هيهاتَ لمن كان أسرعَ مني في حدوثه قدرًا وموعدًا وحدثًا... الحمد لله على كل حال، والحمد لله على ما كان، والحمد لله على ما سيكون، وبإذن الله سأسعى لاختصار المسار، حتى لا يتكرر السؤال على مسامعي: من أنت؟ ومن أي موطن حضرتِ؟ وفيم غايتُكِ من هذا المسار؟
فكثرة السؤال تُحرِجُني، ودقة الفضول تُوقِظُ مواجعَ أخرى أخفيتُها عمدًا؛ حتى لا أتراجعَ للوراء، وأكفَّ عن البحث عن ماضٍ ربَّما حمل معه ملفاتِ مستقبل زاهر بإذن الله.
فقط كانت ضريبة نجاح ليس إلا...، وفقط لأفهم أني مجرد إنسان ضعيف خُلِق عجولاً.