منغصات آخر الزمان
بعض رَصاصات الجبن تكون طائشة، وبعض حروف الرداءة تكون عقيمة من محتواها، وبعضُ أحاسيس الخبث والغَدْر تكون سمًّا لصاحبها يتجرَّعه بنفسه ولا يدري أنه يحرق نفسَه بالحسد من غير شعور، والبعض الكثير من المحاولات البالية ليسَت تجد لها ضالَّة ولن تجدها؛ لأنَّ المرجعيَّة مفقودة والمآل ليس لنصرة دين أو لإحقاق حقٍّ.
إنَّه ميزان العدل، الذي لا يكتمل إلا بالصراحة والجهر أَمام الملأ، إنَّ رسالات الأنبياء كانت حِملاً ثقيلاً لأجل تمكين دِين الله على الأرض، على الرغم من مُساءلة الملائكة لله: كيف يَخلق من يُفسد في الأرض ويسفك الدماء فيها؟ والله وحده الحكيم والعليم، مَن خلَق ابن آدم، وتأييد هذه الحكمة أنَّ الأرض يرثها عبادُ الله الصالحون ببيانٍ واضح في القرآن الكريم، والملاحظ أنَّ في آخر الزمان هذا نحن على مرأًى من مشاهد كثيرة للاغتيالات والحروب الدَّموية والفوضى في كلِّ مكان، وكأنَّ شعارات العيش هي: أن أقتلك، وإلاَّ فلا عيش لي.
فأَن يصبح المسلم عدوًّا لأخيه المسلم ليس بالموت فقط، بل هو تحقيق مخالفةٍ لشرع الله في حِفظ عِرض ومال المسلم لأخيه المسلم؛ لأنَّ سَفْك دمه وانتهاك حرمته كله حرامٌ عليه، في معاملات أضحَت حقيقة حتميَّة وواقعًا معيشًا، بل أصبح هو الأصح في زمن تداول نواقض الأمور كأن تولَّى الولاية لغير أهلها، وأن يُخَوَّن الأمينُ، ويُؤتمن الخائن، حقًّا هناك تسارُع في وتيرة التناقض وعيشِ الحياة بالمقلوب مثلما نكتب جملةً مائلة، ويتحتَّم علينا الرضوخ لقاعدة انحناءة الرأس لفكِّ شفرة معنى تلك العبارة، وإلاَّ فلن نستطيعَ فهم ما كُتب لنا، نفس الشيء لمن نتعامل معهم من البشَر، سواء في مقرَّات عملنا أو في الشَّارع أو من منطلَق حضن الأسرة التي من المفروض هي حامية للعِرض وللمال وللدين، إلاَّ أنَّ منغصات هذا الزمن بيَّنَت اختلالات كثيرة في طريقة التَّعاطي مع هذه المتعبات من الملفَّات والقضايا الإنسانية، حتى صار الحليم حيران، ولا يهتدي لبرٍّ من رشاد وسط كثرة الفتن، قِطعًا من الليل المظلم، ووسط تسارع وتيرةالفساد الأخلاقي والمادِّي والعملي، وحتى العِلمي، وللأسف لما يتوَّج صاحب المستوى المتدنِّي لرئاسة وزارة أو مؤسَّسة فيعطي أوامر للخراب والدَّمار وتفكيكِ روابط التَّواصل والاجتهاد وحب التحصيل العملِي، فيتعطَّل البناء، وتنحدر قِيَم الثَّبات، ويصبح المخلِص متردِّدًا بين الاستسلام لأوامر هؤلاء الأشباه من المسؤولين، فيضيع الحقُّ، ويُقبر العدلُ، وتموت أفكار الطامحين إلى غير رجعة، فيتمايل الضميرُ بين رغبة في التزام صاحبه البيتَ بالاستقالَة من العمل، بحجَّة أنه تعب وقلَّت مقاومتُه للرَّداءة، وفساد الأخلاق وحلول الرذيلة مكان الفضيلة.
إنَّها التناقضات، هي التي أتعبت العقلَ الملتزم والصارم، فجعلته كالسَّكران مرة، وكالتَّائه مرة أخرى، فيصبح على دينه محبًّا، ويمسي على غير ذلك مكرهًا، ولو طُفتَ بنفسك أيُّها القارئ في شوارع مدينتك، لاكتشفت عادات جديدة ظهرَت في مجتمعك ولست تجد لها لا فهمًا ولا شرحًا، وتكتفي بإقناع نفسك وإقناع كل مَن يَسألك ويشاطِرك الملاحظة أن تجيبه: إنَّها علامات الساعة، وهذا صحيح بحسب ما ورد في أحاديث كثيرة لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
شخصيًّا أصبحتُ عازِفة عن مطالعة الجرائد أو مشاهدة التِّلفاز، ولو أنَّ عملي يتطلَّب منِّي أن أتابع باستمرار ما يَقع في محيطي المِهني والمجتمعي، محافظة على نفسيَّة مستقرَّة لأتفادى ذلك، وأحمدُ اللهَ أنَّ في علاقاتي العملية مَن يأتيني بالخبر اليقين ولو أنِّي لستُ ممن يناشده أو يبحث عنه، لكنها أقوال الناس، من تتفقَّد الجديد، ليس من باب التحضُّر أو التقدُّم، ولكنه الفُضول ما يملأ أوقاتهم الفارغة من البناء، فهل لي ولأمثالي رغبة أكيدة في الحلم بغَدٍ واعِد وسط هذه المنغصات؟ صحيح أنا أؤمن إيمانًا قاطعًا أن الخير لا يزال في أمَّتنا إلى قيام الساعة، ولكن مشاهد التأخُّر التي طالَت البلدان العربية والإسلامية تبعث فينا خوفًا محزنًا، يجعلنا نشعر باليأس أحيانًا، ونخشى أن تُتخطَّف أرواحنا ولم نقدِّم بعدُ ما هو مطلوبٌ مِنا في أداء رسالتنا تجاه ربِّنا وديننا.
يحضرني في هذا المقام مقولة السميسر[1] وهو ينقد سياسةَ أحد ملوك الطوائف:
يا مشفقًا مِن خمول قومٍ
ليس لهم عندنا خَلاقُ
ذلُّوا وقد طالما أَذلوا
دَعهم يذوقوا الذي أذاقوا
|
وكلمة خَلاق؛ تعني: الحظ والنصيب من الخير، وهذا القول يدلي بدلوه ليربِط السببَ بالنتيجة؛ أي: الخطيئة بالجزاء، أو الخطأ بالخذلان، وهو ملاحَظ الآن، وعلى كل الأصعدة، يبقى أنَّ أرواحنا تعبَت من مَشاهد التدنِّي كل يوم في الأخلاق والأفعَال والأقوال، فهل سيؤول بِنا الأمر لأَن نخاف من ظلِّنا، ولا نأتمن لا أمَّهاتنا ولا آباءنا بعد أن صارَت الكلمة الطيبة سِلعة رخيصة يتلاعَب بها كلُّ حقودٍ مع كل فرصة تأتيه للتضليل ونَشرالكذب؟ هل هو وَقْت فرار العبد من أبيه، وأمِّه وأخيه، أم أنَّها ممهدات لقربقيام الساعة؟ لا أحد يدري؛ فعِلمها عند الله، لكن فقداننا طَعْمَ العيش وشعورنا بالكدَر والخوف من الآخر وهجرة الآخر ومعاداة الآخر للآخر - كوَّنَت فينا غِشاوة حزِينة لا ترينا المفرَّ إلى أين، ولا تدلنا شرائط البحث على من نأتمِن ومن نصاحب، ولمن نحكي سرَّنا وهمَّنا، ليجد الصادق منَّا نفسَه ملتزمًا ركنًا في بيته يقرأ القرآنَ ويشتكي إلى الله بعد أن ضاقَت به سُبل الائتمان.
كلامي هذا ليس من باب اليَأس؛ فعادتي في كتاباتي أنِّي أصرُّ وبإيماني أن لا يَأْس مع الله، لكن قلقنا سببه تأخُّر الانبعاث الحضاري، وتولِّي جيل اليوم عن حمل مشعل أداء الواجب الذي ترَكه فيهم الأجدادُ، من ضحَّوا وأخلصوا وبنَوا بعد مسيـرة جهادٍ صادقة في سبيل الله، على أمَل أنَّ من سيخلُفهم لن يخيِّب الظنَّ فيهم، وأتمنَّى ألا يخيب ولا يَنطفئ مشعلُ المستقبل الذي نَجهل الكثيرَ من معطياته وسط كوم من المشاكل والعراقيل المفتعلَة وغير المفتعلة، وفي خضمِّ الأحداث التي تقع في العالَم اليوم من اضطرابات يسجِّلها المجتمع الدولِي كلَّ يوم تقريبًا، ما لنا في الختام إلاَّ الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الثباتَ والعودة إليه منكسرين متذلِّلين كلَّما هزَّتنا عواصِف الفِتَن وخَيبات الأمَل، حتى لا نضعف نهائيًّا؛ فالشدائد التي تُحيط بالمؤمن تجعله عُرضة لمطبَّات عديدة، وفي سياق هذا الصراع يجد نفسَه مجرَّدًا من أخوَّة حقيقية تقيه بَرْد الوحدة، وتنسيه وَحشة الأنس، وتشبعه نصحًا صادقًا يكفيه سؤال الإجابة، ودعاء متكررًا عن ظهر الغيب يلقِي على أكتافه معطفَ الستر والحفظ والأمان.
اللهمَّ كن معنا، وقوِّنا، واصرف عنا من يكيد لنا، واجعل تدميره في تدبيره، واكفنا شِرار الناس بما شئت وكيفما شئت، آمين.
[1] السميسر: هو خلف بن فرج الإلبيري، سيرته وأخباره مذكورة في كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق: إحسان عباس، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس 1978، المجلد2، ص 882.