همسة في آذان الحساد
يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((اصنع المعروفَ في أهله وفي غير أهله؛ فإن صادف أهلَه، فهو أهلُه، وإن لم يصادف أهلَه، فأنت أهلُه)).
هي منابر من نور الإحسان، لا يحدُّها حد، ولا تسعها أرضٌ، في عنفوان العطاء، وبهاء الإحسان.
على مر العصور ظلت عباراتُ الضَّعف تنافسه؛ لتنالَ من كرمِه وفضله، إحسان القلب بأن يحب كلَّ مؤمن تقي يرى بنور الله، ويغضب لِما يغضب الله، ثم يحن ويحلم إحسانًا لوجه الله، كثيرة هي المفاهيم المغلوطة لدوافع الرُّوح في أن تسموَ وسط ضباب الحسد والغيرة، بالنسبة للحساد لم تكن الرؤيا واضحةَ المعالم، ولا جيدة الألوان بنسق التدرُّج كتدرج قوس قزح.
في حقيقة الأمر كل شيء كان جميلاً، بهيَّ الطلعة، كل شيء كان منسقًا ومتناسقًا، نعم هي حلية أولياء الله، الجمال فيهم ليس بالمتناقض، الأمر إلى حد كتابة هذه الأسطر بدأ يتضح، كيف، وهل يزال في المنعرج منعطف للظن؟
ربما نعم، وربما لا، ولكن الـ: "نعم" تغلب الـ: "لا" في فقه الإحسان، ماذا كان يصنع الأتقياء في وجوه الحساد، لولا سلاح الإحسان تصوِّبه أناملُهم لتصيب هدفها في عيون الضعف والفشل واليأس من رحمة الله، ثم لو كان فيهم إيمانٌ بوحدانية الله، وبثقل كن فيكون، هل سيجد الحسد ضالته؟
ثم لماذا يحسد المؤمن أخاه المؤمن؟ وهل في الحسد راحة الجسد، وسلوة العين، وطَرَب الأُذن، ونبض القلب بنبضات التواتر، نبضة للحياة، وأخرى للتصميم في الحياة.
بصراحة لم أجدْ بعدُ مبررًا للحسد، ولم أجد بعدُ مقاسًا على مقاس الحسد، لا لشيء سوى أنه أصلاً غير وارد في قاموس الأتقياء، وبالتالي هم يجهلون أن يجدوا تعريفًا لصفة الحسد ولدوافعه، وبالمرَّة لم يرد على صفحات السعادة منطلَقًا لابتسامة صادقة تندفع من أفواه الرِّضا والحمد.
بالكاد أقول: إن هذا الواقع فيه الكثيرُ من المتناقضات، والتي أرى في تركها وعدم التفكير فيها هو ترفعًا عنها، ثم السعادة الحقيقية هي مملكة، والقلب الطيب هو من يتربع على عرشها، عرش الرضا والقناعة بما قسمه اللهُ من أرزاق.
"تؤنسني اللحظة" عبارةٌ قالها ريتشارد نيكسون عندما تولى الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، حينما قال كلمة على الشعب الأمريكي: "إن الولايات المتحدة الأمريكية لا تعاني من أزمة مادية؛ إنما تعاني أزمة رُوحية، لقد وجدنا أنفسنا أغنياء في السلع، لكننا فقراء في الرُّوح، نصل في قرب عظيم إلى الفقر، لكننا نسقط في خلاف حادٍّ على الأرض".
هذا شأن الأمريكان، لم يعطوا للجسد أهمية بقدر ما أعطوا للرُّوحانيات، وهم ليسوا بأصحاب عقيدة، في حين نحن العربَ - بل المسلمين - ننزل إلى سفاسفِ الأمور؛ لنتخلص من عُقَد التخلف، إلى متى بهذه الذهنية البالية، الخاوية من القيم والفضائل؟!
همستي للحساد: كن طالب الكرامة، لا طالب الخسارة؛ فنفسك متحركة في طلب العلا، وربك يطلب منك التقى، والحكمة في ذلك أن تكفوا عن الحسد، واشغلوا أعينكم برؤية الجمال بالثناء، وليس بتمنِّي زوال النعم.
فيا عجبًا للناس لو فكَّروا
فحاسَبوا أنفسَهم وأبصَرُوا
وعبَروا الدنيا إلى غيرِها
فإنما الدُّنيا لهم معبَرُ
لا فخرَ إلا فخرُ أهلِ التُّقى
غدًا إذا ضمَّهمُ المَحشرُ
لَيَعْلَمَنَّ الناسُ أنَّ التُّقى
والبِرَّ كانا خيرَ ما يُذْخَرُ
عجبتُ للإنسانِ في فخرِه
وهْو غدًا في قبرِه يُقبَرُ
ما بالُ مَن أولُه نطفة
وجيفةٌ آخرُه يَفخَرُ
أصبح لا يَملِكُ تقديمَ ما
يرجُو ولا تأخيرَ ما يَحذَرُ
|
وحتى تبقى همسة؛ فإني لن أطيلَ في الكلام؛ لأن في الهمساتِ أفضلَ العِبَرِ، ومختصر الحِكم.
فقط اترُكوا الحسد جانبًا، وانطلقوا في ربوع الرِّضا؛ لتصفو مشاربُ حياتكم، ويهنأ بالُكم، ويطيبَ عيشُكم.