ماذا يعني ارتقائي بالإسلام؟
في تاريخنا الفكريِّ - كمسلمين - كان للإسلام التأثيرُ البالغ في طبيعة واتجاه الحركة الفكرية، التي عرفتْها المجتمعات العربية والإسلامية، والتي تمثَّلت في مظاهر من المعرفة الجيدة لنصوص قرآننا الكريم بلغة جميلة وراقية، حتى أصبح الفكر العربي الإسلامي يَحتَلُّ مكانةً واضحة المعالم في العالم برُمَّتِه، وقد مثَّل هذا التمثيلَ الرياديَّ رُوَّادٌ أوائلُ؛ أمثال الأفغاني، ومحمد عبده وغيرهما؛ إذ تركَّزت مجهودات البعض منهم - حاليًّا - على إصلاح أحوال الأمة، في محاولة إيجاد صيغة للالتقاء بين تراثنا الثقافي وروح العصر، كما أنها صيغة لدمج الجانبين في وحدة متكاملة، تتكيَّفُ مع يفرضُه العالم الافتراضي من مقترحات وآراء، ومعطيات جديدة للتفاعل مع مجالات الحياة الحديثة، ولكن بحذر في درجة الاندفاع نحو الإقبال على هذا العالم بما يحمِلُه من فلسفة شَمِلت الميادين على تنوُّعها، وبما تضمَّنَتْه سياستُه لتغيير وجه العالم إلى وجهٍ آخرَ، تفرِضُه العَوْلَمَةُ والقُوَى السياسية القوية، بخلفيَّة المحافظة على الهَيْمنةِ العالميَّة.
وفي مفهوم النهضة انتقالُ الثقافة والتصوُّرات من التخطيط، والبحث، والتحليل، إلى مرحلة التجسيد، وعليه فهي قائمةٌ على حركات بشرية، تبحَثُ لها عمَّن يَخدُمُ حقَّها من التجسيد، وما يُوفِّرُ لها لقمةَ العيش بكرامة في السعي، ومن غير انتهازية أو تجاوُز، وهذا ما عبَّرتْ عنه الشعوب المنتفضة في ثورات الربيع العربي، وكيف أن المُنتفضين جهروا بكل ما لديهم لإسقاط أنظمة فاسدة، لم تُحقِّقْ بعدُ مطامحَ هذه الشعوب، وما زالت تُصارِعُ وتُكابِدُ لأجل غدٍ أفضل، وفي تصوري أنه لا نهضة حقيقية ولا تغيير جِذْري من غير تفعيل للإسلام كدين يُمثِّلُ الحضارة بمفهومها الشمولي؛ حتى يهنأ بالُ المسلمين بعد أن بعثرت الأمم المتقدمة المواد الخام لبلادهم، وسخَّرتها لفائدتها، ولِمَا يخدمُ اقتصادَها ونموَّها على كل الأصعدة، وكلنا نعلم أن الكفاية الحقيقيَّة لنا - كمسلمين - هو تمثيلنا للإسلام أحسنَ تمثيل، بل أتمَّ تمثيل، بدءًا بنواحي الإنسانية وانتهاء بتفعيل تعاليم ديننا الحنيف: قولاً، وعملاً؛ حتى يستغني عنا العالم الغربي، ويكفَّ عن استغلال ثرواتنا، وفكرنا، وتضليل قيمنا العريقة.
نعم لأن للغرب يدًا فيما نتخبَّطُ فيه اليومَ من تِيهٍ وصراع، وهذه اليد لم تَتَغلغَلْ إلى أوطاننا إلا وهي تدرك وتعي علَّتَنا، ومشكلتنا الرئيسة وهي: عدم ارتقائنا بالإسلام، فماذا يعني ارتقاء كلِّ مسلم بهذا الدين؟
للإجابة عن هذا التساؤل، أكيدٌ أن المَقام لا يَسعُ، والمِدادَ لا يكفي، والحروفَ لن تفي بالرد الوافي؛ لأن مكانة الإسلام كبيرة جدًّا ومرموقة، طالما بَقِيتِ الرسالةُ المحمَّدية خالدةً بتاريخها الحافل ببطولات الحبيب المصطفى، ووفاء أصحابه رضوان الله عليهم؛ حتى يتمكَّن هذا الدين في القلوب، ويستقِرَّ في العقول بذاك الفهم الصحيح والحقيقي لشمائله، على عكس الأوربيين الذين حرموا أنفسهم حلاوةَ هذا الدين، فلم يكن لهم لا رادعٌ ولا وازع ديني يَحرِصُ ويُوجِّهُ سلوكَهم، ولم يجدوا لأنفسهم مرشدًا من هذا الدين الحنيف؛ فظنوا أن الحياة ما هي إلا رَكْضٌ وراء المتعة والملذَّات والراحة والانتفاع المادي من الموجودات المحيطة بهم، وهم يشبهون في ذلك الوصف بتلك المملكة التي لا يقودها سيدٌ، وليس لديها إرثٌ يُمكِّنُها من الحفاظ على مجدها، ومآثر الموجودات لشعوبها، ولجؤوا - كبديل - لتقدمهم إلى القوة والعلم للحصول على الرغبات، والسيطرة على الشعوب المحبة للإسلام، بأساليبَ شتى، سواء كانت غزوًا ثقافيًّا، أم احتكارًا اقتصاديًّا، أم ميوعة في اختراع الآلات والمصانع وناطحات السحاب، وهذه هي وسيلتُهم في التقدم والتباهي أمام الأمم الأخرى، وبقوا على هذه الحال بل تجرؤوا على الإساءة للإسلام؛ لأن هذا الدين يثير مركبَ النقص والشعور بالدونية وعدم معرفة الله خالقِ الكون حقَّ المعرفة، وبذلك ظلَّت القوة والعلم يتطوران على حساب الدين والأخلاق، ومن هنا نشأت فجوةٌ بين الشعوب الأوربية والإسلامية، وهذه الأخيرة التي انسلخت بالتدريج من هُوِيَّتها، وراحت تُقلِّدُ التقليد الأعمى ما تظن فيه خيرًا، ولم تمثل الإسلام أحسن تمثيل، بل لم تَعِشْه لتتغذَّى من قِيَمه، وعظمة مبادئه؛ فتخلَّف المسلمون بفارقين اثنين: الفارق الأول: هو فارق الدين الصحيح، والفارق الثاني: هو العلم والمعرفة؛ إذ أخذوا من الدين الإسلامي ما يبدو منحصرًا فقط في إتيان مناسك؛ كالصلاة، والصوم، والحج، وحرموا أنفسَهم روحانيَّاته التي تُجدِّدُ في المسلم إيمانه، وتُرسِّخُ فيه عقيدةً ليست تتغيَّرُ بتغيُّر الأزمان، وإنما تنمو وتخلد ما بقي المسلم حيًّا، وفي هجران العلم والمعرفة جهل بما يُخطِّطُه لنا الأعداء، فهجرت أمهات الكتب، واستبدلت بتفاسير الصالحين المتفقِّهين في أصول الدين فتاوى على مواقع الإنترنت، ليست تفقه في الدين الصحيح وأحكامه، وعليه فنحن - كمسلمين - في هذا العصر نواجه منعرجًا ومنعطفًا لمحاولة التشبُّثِ بانتمائنا الحقيقي للإسلام وسط صراعات أيديولوجية، وسياسية، وفكرية،ولكل واحد منا أن يسأل هذا السؤال: ماذا يعني ارتقائي بالإسلام؟
إنه الاختيار المُوفَّق والرشيد للسموِّ بهذا الدين العريق، إنه التحرُّرُ من عبودية النَّزَوات والطَّيْش والهوى، إنه البناء الحقيقي للحضارة عبر فواصلَ من عملٍ وجِدٍّ وتعب لتحقيق الغاية النبيلة، وهي الحفاظ على هذا الدين من كل أشكال الإساءة، وفي هذا الحفاظ تندمج نصرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم سموًّا بسنته الشريفة، كما أنَّ في هذا الارتقاء تجاوزًا للعَقَبات المعيقة لتجارب الانبعاث الحضاري في أن تنجح، ويستمر طيفُها حتى تتحقق النهضة السامية بكل أبعاد التقدم، والتربية، والمعرفة الحقيقية لحاجتنا للتغيير.
وفي ذلك دوامٌ لنزاهة الضمير الحي، والذي يأبى أن يغفلَ عن انحراف المسلم عن جادة الصواب، كما في الارتقاء بالإسلام تَرَفُّعٌ عن فهم الأفكار الهدَّامة، والمحاولات الفاشلة، التي تسعى حثيثًا إلى تشويه صورة الإسلام لدى العارفين بتعاليمه، ولدى الجاهلين به.
إن الارتقاء بالإسلام هو حركة تُمثِّلُ الموجة العاكسة لكل رأي، أو فكرة من شأنها أن تُقلِّلَ من ريادته كدين رسَمَ للمسلم طريقًا من استقامة وطمأنينة وسعادة في الدارين، فهل لنا كمسلمين عيش سعيد بغير الارتقاء بالإسلام: اسمًا، وصورة، ومنهجًا، وقناعة؟
إن الارتقاء بالإسلام هو السمو برسالته، والاستماتة في نشرها عبر العالم، وتحرير القلم والفكر والإرادة من مُثبِّطات الاعوجاج والتضليل والتشويه لمبادئه.
إن الارتقاء بالإسلام هو الوسيلة الوحيدة لصدِّ هجمات العدو عليه؛ لأن الاستعمار - على مرِّ العصور - لم يفرِضْ رَقابتَه على الدين إلا لأنه يعلم أنه الوسيلة الوحيدة لتقويم أخلاق الشعوب، فهل ارتقى كلُّ مسلم ومسلمة بالإسلام في ذاته، فغيَّرها نحو الأحسن، وصحَّح أخطاءها، ونقَّح العيوب فيها، وسما بأخلاقه، وكان سفيرًا لأعظم دين؟ تلكم هي المهمة النبيلة لنعي ثقافة الارتقاء بالإسلام؛ مِصداقًا لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم ﴾ [الرعد: 11].