اللغة العربية ورهان التفوق
إنَّ عمر اللغة العربيَّة عمر مديد، امتدَّ منذ القِدَم باعتبارها من أقدم اللُّغات الحيَّة، وما وصلت إليه اللُّغة العربيَّة إلى يومنا هذا من انتشارٍ فبفضل القرآن الكريم؛ حيث حفظ لها مرتبتَها وجعلها لغةً أولى في مناطق كثيرة من العالم، ونالَت شرف لغة الحضارة الإسلاميَّة حتى أصبحَت في نظر كلِّ مسلم لغة مقدَّسة، كيف لا وهو يَقرأ بها آيات الله ويشرح التفسيرَ بمدلولات كلماتها الغنيَّة في المعنى والمغزى؟
وتعدُّد اللُّغات كان موجودًا عند العرب منذ أيَّام الجاهليَّة؛ حيث كانت هناك لَهجة لكلِّ قبيلةٍ من القبائل، وقد استمرَّ الوضع هكذا عند مجِيء الإسلام، ومن أبرز الأسباب التي أدَّت لولادة لهجات عربيَّة مختلفة منذ القدَم هو أنَّ العرب كانوا في بداية عهدِهم أُمِّيِّين، لا تربطهم تجارة ولا إمارة ولا دين، وبسبب تأثير العوامل المناخيَّة وتغيُّر الظروف الجغرافية والاقتصاديَّة والدَّوافع الثقافيَّة إلى ما هنالك من أسباب أخرى، فكان من الطبيعيِّ أن ينشأ من ذلك - ومن اختلاف الوضع - اضطراب في اللُّغة كالترادُف واختلاف اللهجات في الإبدال والإعلال والبناء والإعراب، كما تُوجد ظاهرة الثنائيَّة اللغويَّة في اللُّغة العربيَّة، وهذه الظَّاهرة تعني اختلاف اللُّغة العاميَّة عن اللُّغة الفصحى، وهناك فَرق شاسِع بين العاميَّة والفصحى في اللُّغة العربيَّة عند مقارنتها بلغات العالم الأخرى[1].
لكن اليوم نعيش أَزمة لغويَّة طاحِنة، فقد زاحمَت اللغة الإنجليزية اللغةَ العربيَّة في عمق وجودها، على الرغم من تفاوت القوانين والدَّساتير في الإقرار باللُّغة العربيَّة كلغةٍ رسميَّة، إلاَّ أنَّ الواقع يوضح أنَّ ما هو مقنَّن في الدَّساتير ليس مطبَّقًا بحذافيره في التعاملات اللُّغوية بين الحاملين لجنسيَّة عربية؛ حيث يقرُّ للغةِ العربية أن تكون لغةً رسميَّة، ولغة أُمًّا قبل باقي اللُّغات المزاحمة، ولكن الواقع غير ذلك.
وهو ما كان جليًّا في السفَر والسياحة والتجارة؛ إذ تسيطر اللغة الإنجليزية على معظم التعاملات اللغوية على اعتبارها لغة عالميَّة مهيمِنة كسحَت بِقاع العالم بفرضيَّة أن لا منافِس لها، فمثلاً وبالنَّظر إلى دول المغرب العربي كالجزائر وتونس والمغرب، فعلى الرغم من حصولها على الاستقلال فإنَّها لم تستقلَّ لغويًّا عن المستعمِر الذي مكَّن للغتِه حتى صارَت اللغة الفرنسيَّة مسيطرة في الاستعمال على اللُّغة العربية، على الرغم من أنَّ الدستور ينص صراحة أنَّ اللغة الرسميَّة هي اللغة العربية، وهنا مكمن الخلَل في عدم تفعيل القوانين بشكلٍ حرفيٍّ، حتى يستعدَّ المجتمع في كلِّ لحظة للخطاب العربي الصريح دونما أي إشكاليَّة في ازدواجيَّة اللغة.
هذا، والمعروف أنَّ ظهور التقنيات الحديثة غيَّر مجرى التَّاريخ، وسارَع في وتيرة الأَحداث، ونسَّق نقلَ المعلومة على نحوٍ سمح للُّغات الأخرى أن تنافس اللغةَ العربية على أساس أنَّ دليل استعمال التكنولوجيا مكتوبٌ باللغة الصَّانعة لهذه التكنولوجيا، وبالتالي تصبح العربيَّة أَمام التكنولوجيا في وضعٍ محرِج، ما يحتاج لتأليف المعاجِم المترجِمة للكلمات المفتاحيَّة لأي ثَورة معلوماتيَّة، هذا ليس معناه أنَّ المكانة الحقيقيَّة للغة العربية هي مهددة الآن، بالعكس فهي لغة الدِّين الإسلاميِّ الذي لا يمكن قراءة القرآن بغيرها، وهي وسيلة لمعرفة مراد الله من الواجبات بعد فهمها من القرآن، وعليه فلا بدَّ من إيلاء هذه اللغة العرِيقة حقَّها من الظُّهور وفي كلِّ الميادين؛ حتى ترتَقي وتتفوَّق على غيرها من اللغات العالميَّة، فالحضارة في أصلها لا يترجمها موروثٌ حضاريٌّ بقدر ما يصنعها تمسُّك وإصرار في التداول اللفظي وفي شتَّى المجالات، وهنا مكمن الرهان في عالَمٍ تسوده النَّقلة النوعيَّة لحركيَّة الاستثمار وتداول البورصات وسِعر العملة، ومنه تتجلَّى مُشكلة اللُّغة العربيَّة في ضَعف استعمالها برغم ما تملِكه من مرونةٍ وجمال وقوَّة في اللفظ والبيان، كما أن الإشكاليَّة الكبيرة المطروحة بشدَّة هي أنَّ اللغةَ العربيَّة تُهان وفي عقر دارها؛ حيث لا يعرفها أبناؤها الذين يتكلَّمون هجينًا وخليطًا من لغات عدَّة، فلم يقتصر التقصير في المجالات العلميَّة في المدارس والجامعات، بل حتى في المجالاتِ الإنسانيَّة، وهذا ما يعزل أفرادَ المجتمع الواحد عن لغتهم الأم، ويربطهم بثقافة ونسق حياتي ليس متأصِّلاً في عادات وتقالِيد البلَد، وعليه تَظهر هذه النخبة المعارِضة للُّغة العربية لتتحكَّم في سيرورة النسق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بوتيرةٍ لا تلبِّي الرغبةَ الأصليَّة لأفراد المجتمع العربي، فيشتد النِّزاعُ ممَّن يدافعون عن اللغة العربية، ويطالبون بتطبيقِها في الحكومات والإدارات والمناهج التعليميَّة، وحتى في طرق التَّداول والتعامل.
فمثلاً فرنسا خرجَت من كلِّ مستعمراتها، ولكنَّها تركَت من يُدافع عن ثقافتها بتعلِيم بعض النُّخب الذين أصبحوا كتابًا أحاديي اللغة، يفهمون لغة (الكولون) ولا يفهمون لغتهم الوطنيَّة، وهم الذين يقيمون الدنيا الآن بالدعوة إلى الانفِتاح على الفرنسيَّة، ويمدحون كلَّ ما يأتي من فرنسا، على أنَّه انفِتاح على العالم، ويَدْعون بقوة إلى الازدواجيَّة اللغويَّة ويقولون: إنَّها قدرنا وغنيمتُنا التي لا تَسامُح فيها[2].
إنَّها حقيقة، لكن هناك مِن النُّخبة المنصِفين الذين نادوا بضرورة أن تظهر اللُّغة العربيَّة على لسان كلِّ عربيٍّ كلغةٍ أُولى في النُّطق؛ لأنَّهم أحسوا بذاك القَهر اللُّغوي داخل ذات اللُّغة، نعم لقد كان هناك رافضون لإغراءات الفرنكوفونية، ونجد بعضَ الكتَّاب ممَّن يتقِنون الفرنسيَّة وينظرون إلى أنفسهم أنَّهم أسمى من المعربين، وكان منهم من كان يُتقن العربيَّة فانتقل ليكتب بالفرنسيَّة ليقال عنه: إنَّه يُتقن الفرنسيَّة، وفي ذلك قضاء لمصالح شخصيَّة فقط.
ومن هنا فالفرنسيَّة مدينة لهم؛ لأنَّهم خدموا إشعاع اللُّغة الفرنسيَّة خارجَ حدودها، وهنا نقطة الإيجاب في الفرنكوفونية بالنسبة للفرنسيِّين، فهل نعتبر[3]؟
وعليه لتحقيق رهان التَّفوُّق للُّغة العربيَّة في مواجهة اللُّغات الأجنبيَّة الجارفة، فإنَّه يجب دخول مجتمع المعرِفة والذي لا يكون إلاَّ باللغة الوطنيَّة، ولا بدَّ من إعادة دراسة التَّجارب لإنجاح مشروع توسِعة اللُّغة العربيَّة في شتَّى الميادين؛ وذلك بإعادة دِراسة سُبل الاعتبار واقتراح بدائلَ لترقِية العربيَّة، والبحث عن آليَّات لتمكينها في بلدانها، وما التَّجربة الفرنسيَّة إلاَّ نموذج ناجح في الحفاظ على اللُّغة، وهي مَن رصدَت وزارةً للفرنكوفونية، وخصَّصَت لها ميزانيَّة تفوق ميزانيَّة وزارة الدِّفاع الفرنسِي، وهو واضح في تخصيصها مِنحًا للأجانب للدِّراسة في جامعاتها، وإقامتها ندوات وملتقيَات داخلَ فرنسا وخارجَها لأجل الحِفاظ على الموروث اللُّغوي، ولن يكون مستحيلاً أن يتمَّ تفوُّق اللغة العربيَّة لتتألَّق بمرتبة تفوُّقيَّة في العالم، وليس مستحيلاً أن تتصدَّر المرتبة الأولى بدل اللغة الإنجليزيَّة، خاصَّة أنَّها لغة عرِيقة وقديمة، وما تحتاج إليه هو التمكين والاستعمال والترويج لها، بشرط أن تتمَّ متابعة البرامج التنمويَّة لها، ويكون هناك حرص على تحديث وتجديد طبعات المجلدات والقواميس المترجمة إلى اللغة العربيَّة، والدَّفع بهذه اللغة في مشروع ذخيرة لغويَّة تخترق العالمَ، سواء في السياحة أو التعليم أو التعاملاتِ التجاريَّة، وحتَّى في مستحدثات التكنولوجيا، صحيح أن المهمة تبدو صعبة بالنَّظر إلى ما تعيشه اللُّغة العربيَّة من مضايقاتٍ؛ مثل ضعف إنتاج المصطلح العلميِّ، ونقص انتشار اللُّغة العربيَّة على الشبكة العنكبوتيَّة وفي طرق التواصل الاجتماعي، وهو ما يسبِّب عدمَ الشكل وبالتالي سيشْكل في المنطوق من الكلام، لكن تحدِّي التنافس غير الشرِيف للغات الأجنبيَّة على اللغة العربيَّة يمنح لمحبِّيها إرادة قويَّة للتحدِّي وفَرْض موروثِها اللغوي بالقوَّة.
ولنعلم في الأخير أنَّ اللُّغة ممارَسة، والممارسة إبْدَاع وفنٌّ ومحاباة في حبِّ اللُّغة العربيَّة في المجالات العلمية والاجتماعيَّة والإنسانيَّة، ونحن مَن ندفع اللُّغة إلى مَركبة التفوُّق، ونحن من نعيدها إلى التردِّي للوراء، فبقدر حِرص الحكومات والأفراد والجمعيَّات والإدارات على استعمال اللُّغة العربيَّة في الإدارة والمدرسة والجامعة، وحتَّى في الخطاب العاديِّ اليومي - بقدر ما سنَضمن لها التقدُّم، ونمنحها فُرصة للتألُّق ومنافسة اللُّغات المسيطِرة على اللِّسان البشري، فالأخذُ بآخِر معطيَات العلم والتكنولوجيا، واتِّخاذ اللُّغة العربيَّة لغة الإعلام والترجمة، والانفتاح على التعدُّد اللغوي - هو آليَّة مضمونة لإنجاح مشروع التفوُّق اللُّغوي للُّغة العربيَّة.