د.يوسف مكي
لن نبتعد كثيرا عن تشخيص الواقع، حين نقرر أن ما حدث في الوطن العربي، منذ مطالع العام المنصرم، بدءا بالثورة التونسية، هو مفاجأة كاملة للمثقفين العرب. والحق أن أفضل توصيف له هو أنه مفاجأة الأمة لذاتها. فرغم حالة الاحتقان العامة، التي تسبب فيها عجز النخب السياسية عن مقابلة استحقاقات الناس، فإن ما كان طافيا على السطح لم يشي بأننا على موعد مع براكين عاتية لا تبقي ولا تذر،وأن ألسنتها، ستطال المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط، لتعبر مجددا، في اللاوعي الجمعي عن وحدة التاريخ والمصير.
غابت عن هذه الثورات، في المقدمات والنتائج، الوظيفة الاستشرافية للمثقف، وأصبح دوره اللهث باستمرار خلف تداعياتها الملحمية، ومحاولة تفكيك رموزها وطلاسمها. وبهذا الغياب، أصبحت القدرة شبه معدومة، لدى النخب الفكرية والمجتمعية، على قراءة المستقبل، والتهيؤ لمستلزماته. وجل ما تمكن المثقفون العرب طرحه، هو تقديم قراءة ارتجاعية للحدث، تحاول الإسهام في فهم ما جرى من أحداث، دون أن تتيح لها سرعة حركتها فسحة للنظر نحو المستقبل.
هل نتلمس العذر لمثقفينا العرب، لعجزهم عن قراءة ما كان يفتعل تحت القشرة، باعتبارهم جزء من حالة العجز، التي جثمت على صدورنا عقودا طويلة. ولذلك كان من الطبيعي، أن لا يتوقعوا في قراءاتهم الاستشرافية، تفجر انتفاضة من نوع استثنائي، فوق المتصور. انتفاضة بدت وكأنها اقتحمت بواباتنا من المجهول وعالم اللامعقول.
هل نتلمس العذر للمثقفين العرب لعجزهم عن التنبؤ بما جرى، لأن ذلك، من وجهة نظرنا، عمل مستحيل، إن لم يرفده الوعي والقدرة على التبضيع والتفكيك، وهو ما لم يعد ممكنا بعد تجريف سياسي أخذ في طريقه اليابس والأخضر. لقد فرض على المثقفين العرب، التعامل مع أحداث دراماتيكية، غير مسبوقة، مرتبكة في تداعيها، وواسعة في حراكها، وفضفاضة في طريقة اندفاعاتها.
ففسيفسائية تداعي هذه الثورات، جعلت من المتعذر وعي المسوغات الحقيقية لاندلاعها والتعامل معها جميعا بنسق واحد. ومن غير شك، فإن أوضاع البلدان العربية، غير متماثلة في واقعها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وذلك يعني بالضرورة اختلاف الأدوات، والمبررات التي أدت إلى اندلاع الثورات في كل منها. فليس الاستبداد وحده، هو مبرر انطلاق هذه الثورات، وهو أيضا ليس الفقر. فهناك بلدان يرتفع فيها سقف الحرية، ولكنها تعاني من الفساد والفقر، وهناك بلدان أخرى يطغي فيها سقف الاستبداد ولكنها في وضع أفضل بمستوى معدلات الدخل مقارنة بغيرها من الأقطار العربية.
ذلك يعني، أن هناك أسباب مركبة، لاندلاع هذه الثورات، تختلف في مسوغاتها من بلد لآخر. ولعل أكبر محرض على اندلاعها في وقت واحد هو ما يمكن وصفه بموسم الهجرة إلى الثورة، اقتباسا من عنوان الرواية الرائعة ’’موسم الهجرة للشمال’’ للراحل الطيب صالح. بمعنى أن العامل الرئيس لاندلاع هذه الحركة، في هذا التوقيت بالذات هو التأثير والتأثر... بين بلدان جمعتها اللغة والتاريخ والجغرافيا والمعاناة المشتركة.
هناك معضلة أخرى، تتعلق بإمكانية التزام المثقف بالحياد، الذي هو شرط العلمية والموضوعية في التفكيك والتحليل. إن ذلك يفترض وجود المثقف خارج الحدث، وذلك ما لا يتسق مع الثورات العربية، التي هي بالنسبة لمعظم المثقفين العرب، إنقاذ وتخليص من حالة الاغتراب، بكل تجلياتها وتفرعاتها.
وبديهي القول أن التداعيات السياسية للثورات لا تزال في مهدها. فبالكاد يمكن القول إن تونس استكملت بناء مؤسسات ما بعد تفجر ثورتها. أما أرض الكنانة، فرغم استكمالها الانتخابات النيابية ومجلس الشورى والتصويت على التعديلات الدستورية، فإن أمامها مهمة تشكيل الحكومة، والانتخابات الرئاسية. وتعيش انفلاتا أمنيا لم تشهد له مثيلا مند عقود طويلة. وفي ليبيا لا تزال الفوضى وانفلات الأمن يعمان هذا البلد الشقيق. والحال ينطبق على الأوضاع باليمن، آملين للبلدين سرعة التعافي والسير على السكة الصحيحة.
في بقية البلدان العربية التي مر بها ’’موسم الهجرة’’ تعثرت في بعضها عمليات الحسم، وظلت في قوة زخمها. وحدثت تسويات سياسية، وتبن للمطالب الإصلاحية في بلدان أخرى. وهناك شعور عام لدى عامة الناس، ومن ضمنهم المثقفين، باستمرار المناخ الذي ارتبط باشتعال الثورات. لكن تقديم قراءة استشرافية دقيقة تسهم في صياغة خارطة طريق للانتقال السلمي وإقامة الدولة المدنية في هده البلدان، لا تزال صعبة.
لكن ذلك على أية حال، لا يعني أن المثقف سيقف متفرجا وعاجزا خلف ما يجري من حوله، من غير أن يكون له دور. لقد اندفع عدد كبير من المثقفين العرب إلى القلب من ركب الثورات، منذ أيامها الأولى قبل بلوغها ساعة الحسم. وكانوا هم كتاب الدساتير، والمروجين للمبادئ الجديدة. وهم أيضا قادة الحراك السياسي، الذي أمن للتحولات مسارها السلمي، وقادة الأحزاب السياسية، التي تتنافس على حصد المقاعد في المجالس النيابية ومجالس الشورى، ويشكل الفائزون منهم، الحكومات الجديدة التي تقود السلطة في البلاد بالسنوات القادمة. وهنا يتداخل دور المثقف بالسياسي، في مشهد مغاير لم تعهده الأمة العربية منذ عقود طويلة.
إلا أن ذلك ينبغي أن لا يؤخذ على علاته. ففي البلدان العربية، التي نجحت الثورات في تغيير أنماط الحكم، سينقسم المثقفون: قسم داخل السلطة يلعب دور المثقف والسياسي في آن معا، وآخر بالمعارضة، يلعب دور المثقف الذي يواصل التحريض على التغيير، لكنه يرنو إلى بلوغ السلطة في دورات نيابية لاحقة.
ذلك يعني في الحالتين، أن السياسي والمثقف، يسيران في خطين متوازيين، رغم ما يبدو من تعارض وتنافر بين الوظيفتين. ففي حالة بلوغ السلطة يضطلع المثقف بوظيفة السياسي، من حيث انتقاله من الحالة المثالية والرومانسية، إلى الواقعية والبراغماتية. لكن المتوقع أن يبقى بعضا من مواصفات ما قبل استلام السلطة من رؤية حالمة ومثالية في جانب الطرف المعارض، حتى تأتيه الفرصة لتسلم الحكم.
في كل الأحوال، يظل وجود السياسي والمثقف أمرا مهما وجوهريا. فالمثقف هو الذي يقدم المبتدأ، بصياغته للنظريات السياسية والبرامج التطبيعية لإدارة الدولة والمجتمع. ولكنه لن يتمكن من الوصول إلى الخبر ويحقق نظرياته وبرامجه ومناهجه، إلا بحالتين: الأولى أن يحتضن السياسي موقف المثقف ويتبناه، ويعمل على تحقيقه، فلا تبقى أحلام المثقف معلقة بالهواء. والثانية أن ينتقل المثقف إلى خانة السياسي، ويضطلع بدوره. والخطورة هنا أن يغادر دوره كمثقف ملتزم إلى الأبد. لكن دورة التاريخ لن تتوقف. فسوف ينبثق من رحم الواقع الاجتماعي الجديد، مثقفون جدد، يجدون عناوين أخرى ونظريات وبرامج مغايرة لمن سبقهم. وتلك هي سنن الكون. وتبقى محاور أخرى بحاجة إلى المزيد من التحليل والتأصيل.
*التجديد
لن نبتعد كثيرا عن تشخيص الواقع، حين نقرر أن ما حدث في الوطن العربي، منذ مطالع العام المنصرم، بدءا بالثورة التونسية، هو مفاجأة كاملة للمثقفين العرب. والحق أن أفضل توصيف له هو أنه مفاجأة الأمة لذاتها. فرغم حالة الاحتقان العامة، التي تسبب فيها عجز النخب السياسية عن مقابلة استحقاقات الناس، فإن ما كان طافيا على السطح لم يشي بأننا على موعد مع براكين عاتية لا تبقي ولا تذر،وأن ألسنتها، ستطال المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط، لتعبر مجددا، في اللاوعي الجمعي عن وحدة التاريخ والمصير.
غابت عن هذه الثورات، في المقدمات والنتائج، الوظيفة الاستشرافية للمثقف، وأصبح دوره اللهث باستمرار خلف تداعياتها الملحمية، ومحاولة تفكيك رموزها وطلاسمها. وبهذا الغياب، أصبحت القدرة شبه معدومة، لدى النخب الفكرية والمجتمعية، على قراءة المستقبل، والتهيؤ لمستلزماته. وجل ما تمكن المثقفون العرب طرحه، هو تقديم قراءة ارتجاعية للحدث، تحاول الإسهام في فهم ما جرى من أحداث، دون أن تتيح لها سرعة حركتها فسحة للنظر نحو المستقبل.
هل نتلمس العذر لمثقفينا العرب، لعجزهم عن قراءة ما كان يفتعل تحت القشرة، باعتبارهم جزء من حالة العجز، التي جثمت على صدورنا عقودا طويلة. ولذلك كان من الطبيعي، أن لا يتوقعوا في قراءاتهم الاستشرافية، تفجر انتفاضة من نوع استثنائي، فوق المتصور. انتفاضة بدت وكأنها اقتحمت بواباتنا من المجهول وعالم اللامعقول.
هل نتلمس العذر للمثقفين العرب لعجزهم عن التنبؤ بما جرى، لأن ذلك، من وجهة نظرنا، عمل مستحيل، إن لم يرفده الوعي والقدرة على التبضيع والتفكيك، وهو ما لم يعد ممكنا بعد تجريف سياسي أخذ في طريقه اليابس والأخضر. لقد فرض على المثقفين العرب، التعامل مع أحداث دراماتيكية، غير مسبوقة، مرتبكة في تداعيها، وواسعة في حراكها، وفضفاضة في طريقة اندفاعاتها.
ففسيفسائية تداعي هذه الثورات، جعلت من المتعذر وعي المسوغات الحقيقية لاندلاعها والتعامل معها جميعا بنسق واحد. ومن غير شك، فإن أوضاع البلدان العربية، غير متماثلة في واقعها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وذلك يعني بالضرورة اختلاف الأدوات، والمبررات التي أدت إلى اندلاع الثورات في كل منها. فليس الاستبداد وحده، هو مبرر انطلاق هذه الثورات، وهو أيضا ليس الفقر. فهناك بلدان يرتفع فيها سقف الحرية، ولكنها تعاني من الفساد والفقر، وهناك بلدان أخرى يطغي فيها سقف الاستبداد ولكنها في وضع أفضل بمستوى معدلات الدخل مقارنة بغيرها من الأقطار العربية.
ذلك يعني، أن هناك أسباب مركبة، لاندلاع هذه الثورات، تختلف في مسوغاتها من بلد لآخر. ولعل أكبر محرض على اندلاعها في وقت واحد هو ما يمكن وصفه بموسم الهجرة إلى الثورة، اقتباسا من عنوان الرواية الرائعة ’’موسم الهجرة للشمال’’ للراحل الطيب صالح. بمعنى أن العامل الرئيس لاندلاع هذه الحركة، في هذا التوقيت بالذات هو التأثير والتأثر... بين بلدان جمعتها اللغة والتاريخ والجغرافيا والمعاناة المشتركة.
هناك معضلة أخرى، تتعلق بإمكانية التزام المثقف بالحياد، الذي هو شرط العلمية والموضوعية في التفكيك والتحليل. إن ذلك يفترض وجود المثقف خارج الحدث، وذلك ما لا يتسق مع الثورات العربية، التي هي بالنسبة لمعظم المثقفين العرب، إنقاذ وتخليص من حالة الاغتراب، بكل تجلياتها وتفرعاتها.
وبديهي القول أن التداعيات السياسية للثورات لا تزال في مهدها. فبالكاد يمكن القول إن تونس استكملت بناء مؤسسات ما بعد تفجر ثورتها. أما أرض الكنانة، فرغم استكمالها الانتخابات النيابية ومجلس الشورى والتصويت على التعديلات الدستورية، فإن أمامها مهمة تشكيل الحكومة، والانتخابات الرئاسية. وتعيش انفلاتا أمنيا لم تشهد له مثيلا مند عقود طويلة. وفي ليبيا لا تزال الفوضى وانفلات الأمن يعمان هذا البلد الشقيق. والحال ينطبق على الأوضاع باليمن، آملين للبلدين سرعة التعافي والسير على السكة الصحيحة.
في بقية البلدان العربية التي مر بها ’’موسم الهجرة’’ تعثرت في بعضها عمليات الحسم، وظلت في قوة زخمها. وحدثت تسويات سياسية، وتبن للمطالب الإصلاحية في بلدان أخرى. وهناك شعور عام لدى عامة الناس، ومن ضمنهم المثقفين، باستمرار المناخ الذي ارتبط باشتعال الثورات. لكن تقديم قراءة استشرافية دقيقة تسهم في صياغة خارطة طريق للانتقال السلمي وإقامة الدولة المدنية في هده البلدان، لا تزال صعبة.
لكن ذلك على أية حال، لا يعني أن المثقف سيقف متفرجا وعاجزا خلف ما يجري من حوله، من غير أن يكون له دور. لقد اندفع عدد كبير من المثقفين العرب إلى القلب من ركب الثورات، منذ أيامها الأولى قبل بلوغها ساعة الحسم. وكانوا هم كتاب الدساتير، والمروجين للمبادئ الجديدة. وهم أيضا قادة الحراك السياسي، الذي أمن للتحولات مسارها السلمي، وقادة الأحزاب السياسية، التي تتنافس على حصد المقاعد في المجالس النيابية ومجالس الشورى، ويشكل الفائزون منهم، الحكومات الجديدة التي تقود السلطة في البلاد بالسنوات القادمة. وهنا يتداخل دور المثقف بالسياسي، في مشهد مغاير لم تعهده الأمة العربية منذ عقود طويلة.
إلا أن ذلك ينبغي أن لا يؤخذ على علاته. ففي البلدان العربية، التي نجحت الثورات في تغيير أنماط الحكم، سينقسم المثقفون: قسم داخل السلطة يلعب دور المثقف والسياسي في آن معا، وآخر بالمعارضة، يلعب دور المثقف الذي يواصل التحريض على التغيير، لكنه يرنو إلى بلوغ السلطة في دورات نيابية لاحقة.
ذلك يعني في الحالتين، أن السياسي والمثقف، يسيران في خطين متوازيين، رغم ما يبدو من تعارض وتنافر بين الوظيفتين. ففي حالة بلوغ السلطة يضطلع المثقف بوظيفة السياسي، من حيث انتقاله من الحالة المثالية والرومانسية، إلى الواقعية والبراغماتية. لكن المتوقع أن يبقى بعضا من مواصفات ما قبل استلام السلطة من رؤية حالمة ومثالية في جانب الطرف المعارض، حتى تأتيه الفرصة لتسلم الحكم.
في كل الأحوال، يظل وجود السياسي والمثقف أمرا مهما وجوهريا. فالمثقف هو الذي يقدم المبتدأ، بصياغته للنظريات السياسية والبرامج التطبيعية لإدارة الدولة والمجتمع. ولكنه لن يتمكن من الوصول إلى الخبر ويحقق نظرياته وبرامجه ومناهجه، إلا بحالتين: الأولى أن يحتضن السياسي موقف المثقف ويتبناه، ويعمل على تحقيقه، فلا تبقى أحلام المثقف معلقة بالهواء. والثانية أن ينتقل المثقف إلى خانة السياسي، ويضطلع بدوره. والخطورة هنا أن يغادر دوره كمثقف ملتزم إلى الأبد. لكن دورة التاريخ لن تتوقف. فسوف ينبثق من رحم الواقع الاجتماعي الجديد، مثقفون جدد، يجدون عناوين أخرى ونظريات وبرامج مغايرة لمن سبقهم. وتلك هي سنن الكون. وتبقى محاور أخرى بحاجة إلى المزيد من التحليل والتأصيل.
*التجديد