د. يوسف مكي
يستوحي هذا الحديث عنوانه من كتاب أصدره المفكر العربي، ناصيف نصار حمل عنوان "طريق الاستقلال الفلسفي سبيل الفكر العربي إلى الحرية والإبداع. والكتاب صدر في طبعته الأولى عام 1975، قبل أكثر من أربعين عاما، لكن تحليلاته لا تزال سارية المفعول حتى هذه اللحظة. فالفكر العربي، رغم التحولات الكونية الهائلة التي حدثت منذ منتصف السبعينيات حتى يومنا هذا ظل في بيات طويل. ولم يحدث ما يشي بأننا على طريق تجاوز الواقع المأزوم الراهن.
ولعل من المهم في هذا السياق، التمييز بين النقل والإضافة، وبين ماهية الفكر والإبداع فيه. ذلك أن انفتاح الكتاب العرب، على الفلسفة هو أمر واقع لا جدال فيه. وقد ترجمت مئات الكتب الفلسفية من اللغات الأجنبية إلى العربية. ولا يكاد يوجد بيننا مثقف لم يسمع بفوكو وماركيز وجرامشي وماركس وهيجل وسبنسر، والقائمة طويلة...
وبالمثل هناك قراءات عميقة للتراث العربي، بمختلف حقبه. ولا تكاد مكتبة عربية، تخلو من كتب الغزالي وابن رشد والفارابي وابن الهيثم وابن سيناء الكندي.
ما نجادل فيه، بهذه القراءة، ليس غياب النقل للفكر الفلسفي، وإنما الإضافة عليه، بحسبان ذلك يشكل أول إضافة، ومحاولة كشف لطريق فلسفي عربي، لا ينعزل عن الموروث الإنساني والعربي، بل يتفاعل معه ويضيف عليه، ويخلق فلسفته الخاصة، المتماهية مع واقعه.
واقع الحال، أن من أحد أسباب الأزمة العربية، هو غياب البوصلة الفكرية، وذلك نتاج طبيعي لغياب المبادرة والخلق والإبداع. لقد بدأ مشروع اليقظة العربية، وهو مشروع سياسي بامتياز، من غير مشروع فكري، وكان ذلك أمرا كارثيا. لأن إي مشروع سياسي، لن يكون ناجحا ما لم يسنده مشروع فكري، بمبنى فلسفي واضح.
كان دور حركة اليقظة العربية، لحظة انبعاثها، هو دور الناقل للأفكار وليس الصانع لها. وكان الأبرز بين تلك الأفكار، فكر الحداثة، باعتبار مشروع الاستقلال عن الهيمنة العثمانية، في نسخته الأصلية مشروعا حداثيا، يتطلع إلى تقرير المصير، وتشييد دولة الحق والقانون. وقد برزت في هذا السياق، أسماء لامعة كفارس الشدياق وشبلي شميل، وفرح انطون وناصيف اليازجي، وبطرس البستاني، ولطفي السيد، وغيرهم...
لكن شقا آخر في حركة اليقظة عبر عن حضور قوي أيضا، هو الشق المتأثر بالموروث التراثي. وفي هذا الاتجاه برزت مستويات عدة، بين من طالب استحضار التاريخ العربي، ورأى أن العرب، تقدموا وصنعوا أكبر حضارة عرفتها الإنسانية، حين التزموا بالموروث الإسلامي، وأنهم لا حاجة لهم في الانفتاح على الفكر الغربي. وبين من قال بضرورة التفاعل والتكامل بين الموروث الإسلامي والفكر الإنساني. وفي سياق الدعوة إلى الاستفادة من الموروث برزت أسماء لامعة أيضا في دورات متعاقبة، كجمال الدين الأفغاني، وعبدالرحمن الكواكبي ومحمد رشيد رضا، ورفاعة رافع الطهطاوي، وعلي عبد الرازق وطه حسين وعباس محمود العقاد...
دخل الفكر العربي، عصر التنوير من غير بوصلة فكرية. ورأى في نقل الفكر الغربي، المصحوب بافتتان شديد بما أنجزته الحضارة الغربية، سبيلا للخلاص من الاستبداد العثماني. وغيب بذلك إمكانية خلق فلسفة عربية جديدة. ولم يكن ذلك غريبا على تلك المرحلة. فطبيعة لحظة المواجهة مع الأتراك، لم تكن لحظة مستقلة، أو ذاتية، ولكنها لحظة حراك دولي لاطلاق رصاصة الرحمة على الرجل المريض بالاستانة، والانقضاض على السلطنة العثمانية، واقتسام ممتلكاتها بين المنتصرين في الحرب.
وبالنسبة لنا نحن العرب، كانت تلك لحظة توتر، خشينا أن نكون خارج دائرة الفعل إن لم نقتنصها، ونستثمر نتائجها لصالح قيام دولة عربية مستقلة في الجزء الشرقي من الوطن العربي. لحطة التوتر وتجاذباتها الدولية والإقليمية، لم تتح للفكر العربي، رفاهية الخلق والابداع، وتأسيس فكر فلسفي خاص به. وكان البديل عن ذلك هو الاستعاضة بالنقل بدلا عن الخلق.
وكان للحظة التوتر تلك اسقاطاتها ليس فقط على نتائج ما بعد الحرب. لقد سقط قادة النهضة، يسقطون في مطب الهيمنة الغربية، بعد خلاصهم من الاحتلال العثماني، حين اتفق المنتصرون، فيما عرف باتفاقية سايكس بيكو، على تقسيم الغنائم فيما بينهم، وتنكروا للوعود التي قطعوها لزعماء النهضة، بمنح العراق، وبلاد الشام الاستقلال التام، وقيام دولة عربية مستقلة موحدة بالمشرق العربي.
كان أول مأزق سقط فيه الفكر العربي، أنه في لحظة افتتانه بالحضارة الغربية، التزم بحرفية الحداثة الغربية، وأمل أن يؤسس في لحظة الاستقلال دولة على مقاسها. ورفع في حينه شعار العلم والمعرفة والتقانة ودولة الحق والقانون. وتسلل ذلك أيضا إلى دعاة التفاعل بين الموروث الثقافي للأمة والفكر الحداثي. وفي هذا السياق يسجل لرفاعة رافع الطهطاوي قوله: " ليكن الوطن مكان سعادتنا العامة الذي نبنيه من خلال الحرية والفكر والمصنع". وقد ضمن في كلماته هذه جملة العناصر الأربعة للمشروع الحداثي: دولة الحق والقانون ممثلة في الحرية، والعلم والمعرفة ممثلة في الفكر، والتقانة ممثلة في المصنع.
وبسبب غياب الأطر الفلسفية الناظمة للمشروع النهضوي العربي، وحالة التوتر غاب التمييز بين الحداثة وما بعدها. وسقطنا والغرب يعيش ما بعد حداثته، في وهم تمسكه بفكر الحداثة. وحين فوجئنا بجنازر دبابات الاحتلال الفرنسي، وهي تطأ عاصمة الشام، وأرض الكنانة وعاصمة العباسيين، هربنا للخلف، وتنكرنا للمشاريع الفكرية التي فتنا بها. وكان نتاج هذا الهروب، هو العودة إلى التقليد، والتمسك بالنصوص المتكلسة، وانبثاق جماعة الإخوان المسلمين، كرد منفعل‘ على هزيمة المشروع الحداثي.
ومنذ ذلك الحين، والدورة التاريخية، تتناوب بين فكر حداثي، ونهج أصالي، ولن يكون لنا مخرج، من هذا الدوران، إلى بتأسيس فلسفة عربية مستقلة، تأخذ بعين الاعتبار، موقع العرب في التاريخ، والجغرافيا، وتكون معبرا عن مزاوجة عملية بين الإرث الناهض من التاريخ، وحقائق المرحلة التي نحياها، فلسفة تجعلنا في القلب من العالم، وصناعا في حركته وليس على هامشه.