العولمة ظاهرة ارتبطت بتوسع أحجام السوق، وهي بذلك في نسختها الأصلية صنو للاستعمار الحديث، الذي كسر الحواجز القومية، وانطلق من القارة الأوروبية إلى القارات القديمة، وإلى أمريكا اللاتينية، لتحقيق جملة من الأهداف، يأتي على رأسها، كسر الحواجز الجمركية، والسيطرة على المناطق والمعابر الاستراتيجية، ونهب الموارد الطبيعية والمواد الخام، وتأمين أسواق جديدة، لمنتجات دول المركز.
تطور مفهوم العولمة لاحقا، لتحلق به الشركات المتعددة الجنسية، والتي يطلق عليها مجازا في دول العالم الثالث بالشركات المتعدية الجنسية، في |شارة جلية لطبيعتها التي تفتقر إلى المساواة، وتنحو نحو احتكار الأسواق العالمية. وقد حققت هذه الظاهرة اندماج أسواق جميع بلدان العالم، في اقتصادات السوق الرأسمالية.
وحتى ما عرف فيه حينه بالكتلة الاشتراكية، في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي، وجدت أنفسها، منذ ارتفاع الجدار الحديدي، الذي ارتبط بالمرحلة الستالينية، مرتبطة رغم شعاراتها العقائدية الصاخبة بالأسواق العالمية الكبرى، ومتأثرة بها.
مع اقتراب نهايات الحرب الباردة، وتضعضع الاتحاد السوفييتي، بفعل الأزمات الاقتصادية الماحقة التي مرت به، وشيخوخة نظامه، برزت العولمة في أشكال جديدة، عبر عنها بقوة نشوء منظمة التجارة العالمية الجات, بعد فترة وجيزة من سقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، وتربع الولايات المتحدة، كقطب أوحد دون منازع، على عرش الهيمنة الدولية.
جاء الإعلان عن تأسيس منظمة التجارة العالمية في مطلع عام 1995م، ليشكل انتقالا رئيسيا في مفهوم العولمة، نقله من طابعه الاستعماري القسري، إلى الشكل المؤسساتي، الذي تستند عملياته على أسس ناظمة، مقرة ومعترف بها من قبل جميع الأعضاء المنخرطين في هذه المنظمة التي تضطلع بوضع الأسس والقوانين الناظمة للعلاقات التجارية بين الأمم، والمستندة في جوهرها ومقدماتها على حرية السوق، وفتح الأبواب مشرعة للتنافس الحر، بين عالم صناعي متقدم، قطع خطوات كبرى على طريق التصنيع والنماء، وبين عالم متخلف، لا يزال يبحث عن مواقع أقدامه، في عالم لا يحترم غير لغة القوة. وفي العام الماضي، 2016 بلغ عدد الدول التي انضمت إلى هذه المنظمة، 164 دولة، إضافة إلى 20 دولة أخرى بصفة مراقب. والهدف الرئيس المعلن لنشاط هذه المنظمة هو تحرير الاقتصاد، وفتح الأسواق، والسماح بتدفق رؤوس الأموال، بين الدول من غير قيود، وإلغاء الحواجز الجمركية.
وطبيعي أمام الأهداف المعلنة لمنظمة التجارة العالمية، أن تشمل أنشطتها، خدمات الاتصالات السلكية اللاسلكية، وتكنولوجيا المعلومات، والخدمات المالية، من تجارة بنكية وتأمين، وأوراق ومعلومات مالية، وخدمات الكترونية.
وأخطر ما في مشروع منظمة التجارة الدولي، أنه يفرض نمطا اقتصاديا واحدا على العالم بأسره. وهذا النمط الاقتصادي، له تبعات سياسية واجتماعية، لا يمكن الفكاك منها، طالما قبل المنخرطون في هذه المنظمة بقوانين اللعب فيها.
ولم يكن بد للدول الباحثة عن الأمن والاستقرار، وعن فرص اقتصادية بين الكبار من الالتحاق بمنظمة التجارة العالمية، وقبول شروط الانخراط بها، رغم أن بعض هذه الشروط له تبعاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في داخل هذه البلدان، وفي مقدمة تلك النتائج، الحيلولة دون نمو حقيقي للصناعات الوطنية، في البلدان النامية، التي لم يكن في وسعها التنافس مع الكارتلات الدولية الكبرى، الذي دخلت في مرحلة التصنيع بالأبعاد الكبيرة mass production.
لكن السحر انقلب على الساحر.. فالولايات المتحدة الأمريكية، التي أرادت من خلال ريادتها لتأسيس هذه المنظمة احتكار السوق، وإبقاء بلدان العالم النامي، إلى ما لا نهاية، سوقا استهلالية لمنتجاتها، اصطدمت بواقع مرير، لم تتحسب له من قبل.
كانت الخشية في السبعينيات والثمانينات من القرن المنصرم، من نهوض هندي اقتصادي، توفر له قوته البشرية، وقدراته العلمية، إنتاج بضائع رخيصة، من ضمنها سيارات النقل والركاب، بأسعار زهيدة، تكون قادرة على اكتساح السوق العالمية. وقد شملت الاجتماعات الأولى لمنظمة التجارة العالمية، محاولات من الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية واليابان، لإعاقة عمليات التصنيع وحرية الحركة للهند. وتم فرض شروط مجحفة بحقها، متناقضة مع مبادئ منظمة التجارة العالمية، بذريعة اختلاف بيئتها، بالمقارنة مع الدول الصناعية المتقدمة.
لكن اكتساح السوق العالمية، جاء من التنين الصيني، الذي حققت تجارته اختراقات واسعة في جميعه القارات، مستفيدا من المكتسبات التي أتاحها له انضمامه في منظمة التجارة الدولية، وأيضا قوته البشرية الهائلة، وضعف عملته.
في العقدين الأخيرين، بشكل خاص حقق الاقتصاد الصيني، طفرات عالية، تمكن فيها من فرض سطوته. وقد أسهم إلى حد كبير في مساعدة الولايات المتحدة الأمريكية، على الخروج من أزمتها الاقتصادية، من خلال شرائه المكثف والواسع لسندات الخزينة الأمريكية، وتقديمه قروض كبيرة، للحكومة الفيدرالية، وشرائه للكثير من المصانع التي أعلنت إفلاسها أو كانت على وشك الإفلاس. باتت الصين تتحدى أقوى اقتصاد في العالم، حيث يتوقع أن يكون ثقل اقتصادها معادلا لقوة أمريكا الاقتصادية في وقت قريب، قد لا يتجاوز الأربع سنوات من هذا التاريخ.
في ظل ظروف كهذه، عادت ثقافة الانكفاء والعزلة تطل من جديد، وكان الاقتراع البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي، أول خطوة رئيسية في سياسة الانكفاء. لكن حكومة الرئيس الأمريكي ترامب، هي الأوضح في التعبير عن سياسة الانكفاء والعزلة، والعودة إلى القوانين القديمة للسوق. وهي سياسة تعيد إلى الحماية الوطنية، وفرض الحواجز الجمركية مجددا الاعتبار. وتتخلى بوضوح عن المبادئ والأهداف الاقتصادية التي بشرت بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ بداية التسعينيات من القرن المنصرم.
مجددا لم يعد عالم الاقتصاد، يقبل بالقرية العالمية الواحدة، وبالانفتاح الاقتصادي، وحرية السوق، لقد انقلب السحر على الساحر.