أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي
تفريط في الدور التربوي كيف؟
مرّت عقود وربما قرون على أمتنا وهي تمارس- بمجموعها- عباداتها الشعائرية بما في ذلك الشعائر الكبرى صلوات ( الجمعة- العيد – رمضان) وكذا شعيرة الحج على نحو من الطقوس الروحية التي تربط العبد بالربّ على نحو فردي، لكن ثمارها السلوكية وتفعيل آثارها في صورتها الفردية أو الجماعية قليلاً ما تبرز عبر الحركة العملية أو السلوكية على الأرض. وإذا كانت كثير من الدراسات والنقاشات قد دارت حول شعائر الإسلام الممثلة في أركان(الصلاة والزكاة والصوم والحج) وأخذت جانباً مقدّراً من التوصيف والتحليل للوظائف السلوكية لكل منها؛ فإن فريضة الجمعة ولوازمها التي أهمها الخطبة هي الأقل تناولاً- حسب معرفة كاتب هذه السطور- وربما يرجع ذلك إلى ضمور شعيرتها ولوازمها الأخرى وأهمها (خطبتاها) ردحاً طويلاً من الدهر، وتحويلها بكل لوازمها إلى مجرد طقس أسبوعي روتيني صوري، خالٍ من الروح والفاعلية، حيث ظلت الخطبة في بعض الحقب في كثير من أقطار أمتنا أشبه بالمادة المحفوظة، وفي بعضها الآخر تحفظ أجزاء من مفرداتها، وفي كثير من أقطارنا فإن الدعاء للوالي أو السلطان- بصرف النظر عن سلوكه الشخصي أو قيادته للحكم- من شروط القبول في هذه المواقع، ونسيان ذلك أو تناسيه يعدّ واحداً من الشرائط المنقوصة، أي الكفيلة بإبعاد الخطيب من موقعه، وربما توجيه اتهام له بمعاداة السلطات أو التآمر مع قوى داخلية أو خارجية ضدّ الوطن! ولم تَعُد لخطبة الجمعة حيويتها وتأثيرها السلوكي المنشود إلا مع اندلاع الثورات العربية، حيث ينتظرها الأحرار والثوار والمستضعفون الواعُون بفارغ الصبر، لأنها محطة تزوّد بغذاء تربوي روحي وفكري وسياسي جديد يمكنّها من البقاء متفاعلة مع الحدث حتى الأسبوع التالي وهكذا، حتى تحقيق الهدف الرئيس، فيما باتت الأنظمة السياسية تحسب لهذا اليوم ألف حساب، إذ يأتي (كابوس) الجمعة وأياديهم على قلوبهم من الهلَع، ولسان حالهم يصرخ: اللهم سلّم: تُرى هل تبقينا هذه الجمعة إلى عصرها أم تقذف بنا خارج دائرتي الزمان والمكان ؟ لاسيما وقد قضت إرادة الله-تعالى- بأن يتحدّد مصير كل طاغية رحل في هذه الثورات في يوم جمعة!
وإذا كان الطغاة الأوائل قد استسلموا باكراً تحت دويّ غضبة شعوبهم، حيث لم تطُل بهم الأيام كي يتنبهوا لمسلك الضرار في الجمعة وخطبتيها، ذاك الذي سلكه من جاء عليهم الدور لاحقاً، حيث راحوا يعدّون لكل جمعة (ضرارها) بكل لوازم العدةّ من (خطيب موجّه، وخطبة مبرمجة، وجمهور مدفوع بشتى وسائل الإغراء والإغواء، والترغيب والترهيب، وموقع مؤمّن من غضبة جمهور الأحرار، وقبل ذلك وبعده خزينة مالية يحسبونها بلا نفاد إلخ...) ولكن صدق الله { فأّمّا الزبد فيذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال} ( الرعد:17).
ومن المفارقات اللافتة أن تجد بعض السلطات الرسمية -حتى قبل اندلاع شرارة الثورات- ترفع عقيرتها في وجه كل حديث يتصل بالشأن السياسي في المسجد، بدعوى أن لاعلاقة للمسجد بذلك، لكنها توجِّه على نحو ملزم الخطباء (الرسميين) في بلدانها ليتناولوا سياساتها أو بعض قراراتها المثيرة للجدل بالمباركة والتأييد، وربما انتزعوا آية من سياقها، أو حديثاً من نسقه الموضوعي ليدعموا به سياسة الحاكم وقراراته، مصوِّرين من يقف في وجه ذلك بالخروج عن طاعة ولي الأمر، ومنازعته في الحكم، بل ربما المروق من الدِّين! ومن ابتلي بمثل تلك الحقب أو عاش في مثل تلك الأقطار، أو توافق حضوره لصلاة الجمعة والاستماع إلى خطبتيها في بعض تلك المساجد، ربما خطر بباله – إن كان لديه قدر من ثقافة الأديان- أنه–والحالة هذه- كأنّما يستمع إلى موعظة (أحد) في (كاتدرائية) أو كنيسة، لا إلى خُطبة جمعة في مسجد من مساجد المسلمين، أي أنّه إذا كانت المقولة الشهيرة في الديانة المسيحية – على سبيل المثال – تؤكّد أن تدع (ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، أي أنّه لاشأن للدين -والعبادة منه- بوجه أخص- بالحياة السياسية والاقتصادية والمجتمعية بصورة عامة- وإن استثني من ذلك شأن الأحوال الشخصية في أضيق نطاق أو التأييد والمباركة للسياسات القائمة من غير نقاش أو استفصال- فإن حديث بعض الخطباء في بعض الأقطار أو الأحيان يشعرك بعدم قيام فارق حقيقي بين الدين الإسلامي والديانة المسيحية من هذه الناحية!
غيبوبة حضارية:
والمقصود هنا أن عظمة الدين الإسلامي وتميّزه يكمن – في أحد جوانبه- في شموله وتكامله ومناصرته لقيم الحرية والعدالة والمساواة بين البشر، ونحو ذلك من القيم الكليّة المطلقة، فإذا كان خطيب الجمعة يعمد إلى تلك الخصوصية فيعمل على تذويبها؛ حين يتجاهل قضايا أمته، وينأى بنفسه وجمهوره عن الوقوف في وجه التحديّات الداخلية أو الخارجية؛ ومعالجة الأمراض الاجتماعية بكل أبعادها؛ فإنّه يسهم في سلب جوهر معاني العبادة الشعائرية، ويجعل من دين الإسلام نسخة مشوّهة من بقيّة الأديان التي أصابها قدر من التحريف والتزييف في أصول مصادرها. ولقد بلغت الغيبوبة الحضارية ببعض الخطباء عديمي الشخصية أن استنسخوا خطباً من بيئات غير بيئاتهم، كذاك الخطيب الذي اعتلى منبراً في مسجد ببعض القرى النائية من المحافظات الشمالية اليمنية بداية العهد الجمهوري مستنسخاً خطبة وردت ضمن كتاب للخُطب المنبرية طبع في عدن أيام الاستعمار البريطاني لها، حيث وجدت دور الخيالة( السينما) وبعض دور اللهو ونحوها هناك، فعمد إلى تقريع جمهوره بالتعنيف والتهويل والوعد والوعيد لأنهم إمّا يقعون في ذلك المحظور، أو أنّهم لايقاومونه، على حين أنّهم لايدركون مفردات (السينما) ودور اللهو ومصطلحات الدعارة وغيرها!!! أو ذاك الخطيب الذي كان قد استظهر خطب ابن نباتة –رحمه الله- تلك التي كتبت في بعض حقب العهد العثماني، ولأن ذلك العهد قد اشتهر بالمعارك والغزو، فلقد كان التقليد السائد أن يدعو الخطباء في آخر خطب الجمعة للسلطان(الغازي بن الغازي)، أي الوالي العثماني، ولكن ذلك الكتاب وقع بين يدي خطيب (تقليدي) معاصر فراح يلهج بالدّعاء في آخر خٌطبته لـ(الغازي بن الغازي)، أو كذاك الخطيب الذي نسي نص خطبته في جيب معطفه الآخر- وقد كان حانوتياً- وظن أن الورقة المطوية في جيب معطفه الذي يرتديه هي نص خطبة الجمعة، وكم كانت ورطته حين لم يستفق من غفوته العميقة إلا بعد أن سمع قهقهة بعض المصلين تقرع سمعه، إذ ذكر بعض أسمائهم ضمن قائمة أصحاب الديون في (خطبته) !!
ويبدو أنّ مثل هذه المسلكيات من قبل أمثال هؤلاء الخطباء قد انعكست على بعض جمهورهم حين تجد عدداً غير قليل من المسلمين لايجدون ما يحفزهم إلى حضور خطبتي الجمعة، سوى أنّها محض عبادة شعائرية، فهم إذ يحضرون صلاة الجمعة فإن ذلك يتم عادة في آخر (مراسيم) الخطبة الثانية، أو ربما مع بداية إقامة الصلاة، وذلك لمجرّد إسقاط فريضة الجمعة – بوصفها عبادة- ليس أكثر! وفي ذلك رسالة ضمنية مزدوجة، تحمل في شقها الأول تعبيراً مقصوداً أو غير مقصود عن الوضع (المميت) لفقدان الرسالة التربوية لخطبة الجمعة، إذ أفضى بها إلى حالة الغيبوبة تلك، أمّا شقها الثاني فقد يكون احتجاجاً على (التوظيف) أو (التسييس) لها، حيث غدت في أحيان أو أقطار أخرى خطاباً تعبوياً خاصاً بجماعة أو مذهب أو حزب أو طائفة لا شأن للسواد الأعظم من المتلقين به.
ولايستثنى من هذا الوضع لخطبة الجمعة حال المسلمين في الغرب، فبدلاً من أن تدرك الأقليات المسلمة هنالك مشكلات المسلمين في تلك البيئة وجملة التحدّيات التي تتهدد وجودهم، فتعمل على حلّها والبحث عن معالجات موضوعية لها، إذا بها تنقل بعض أمراض مجتمعاتها الأصلية وبعض مظاهر تخلّفها إلى مجتمعاتها الغربية الجدية، وأتذكّر أنني وبعض الزملاء الذين زرنا الولايات المتحدة الأمريكية في شهر يوليو من صيف العام الماضي 2010م صُدمنا اشدّ ماتكون الصدمة بقدر ماكانت فرحتنا لاتوصف قبل ذلك، حين دعينا من قبل وزارة الخارجية الأمريكية لأداء صلاة الجمعة وحضور خطبتيها داخل الكونجرس الأمريكي، ولشد ماكانت دهشتنا من الخطيب (الطائفي) المسقع ذي اللغة الإنجليزية (الرصينة)، الذي اكتشفنا أنّه ضيف قادم من دولة أجنبية أخرى، وقد استهل خطبته –كما خاتمتها- بطقوسه المذهبية الخاصة، بل جاء موضوع الخطبة طائفياً بامتياز، وكل الاستشهادات تقريباً لم تلامس نصاً قرآنياً أو حديثاً شريفاً إلا إذا جاء تأييداً للطائفة، أما أغلب الاستشهادات فمن روايات سادة الطائفة، تخيّلوا ذلك كلّه يتم في (الكونجرس) بـ( واشنطن)، ولعموم موظفي البيت الأبيض وبعض زوار الولايات المتحدة (الرسميين)، ولاشك أنهم ينتمون إلى مذاهب واتجاهات شتّى!!
إفراط في الدور التربوي كيف:
ليس معنى هذا –كما قد يتبادر إلى أذهان بعض القرّاء- أن الخطبة المنشودة اليوم هي تلك التي تأتي في الظروف العادية -أو حتى الاستثنائية كالأوضاع التي كانت تعيشها معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية قبل اندلاع شرارة الثورة في بعضها- على كل شئون الحياة بجميع تفاصيلها، ولاسيما السياسية منها، فتشبعها بحثاً وشرحاً وتحليلاً واستنتاجاً وتعبئة بهذا المفهوم أو ذاك -من ثمّ- فذلك تطرّف مضاد مذموم، إذ الخطيب الناجح هو الذي يأتي على مجمل قضايا المجتمع أو تحدّيات الأمة، التي لانزاع بين أفراد مجتمعاتها بوجه عام، وتلك قضايا كثيرة لايمكن حصرها في مثل هذا العجالة، أمّا القضايا التي تمثِّل محل نزاع وتجاذب بين أطراف سياسية أو نخبوية أو حزبية أو مذهبية أو طائفية أو نحو ذلك، فليس للخطيب حق تناولها، على نحو مباشر لاسيما حين تكون موضع نزاع اللحظة، فذلك يعدّ توظيفاً رخيصاً لمقام مقدَّس، يتحكم فيه هذا اللون وذاك، وأعني لوني السلطة والمعارضة . ولو فتح هذا الباب على مصراعيه لكان باب فتنة لاينغلق، إذ يصبح المتلقّي العادي من الجمهور محتاراً بين خطابين كليهما يستندان إلى (المقدَّس) الديني، ولا يدري المستهدف من يصدّق بعد ذلك، إذ إن هذا يتحدّث باسم (السماء) وذاك يتحدّث من المنطلق ذاته، والضحية هو الجمهور، بل الإساءة إنما ترجع إلى الدّين ذاته!
ومع التشديد على هذا المعنى في الظروف العادية أو الاستثنائية فإن ثمّة مندوحة استثنائية يفرضها واجب الوقت ومنطق الحَدَث، كما هو الشأن في حال الثورات التي بدأت تغشى المنطقة اليوم فإن شرارة ذلك ومحرّكه الأساس إنما انطلق من يوم الجمعة، نظراً لما يتضمنه ذلك من معان الالتقاء والاجتماع والتفرّغ على نحو لايتحقّق في أي مناسبة أخرى، لكن حين تنتقل الثورة من طور الفكرة إلى طور الفعل والتنفيذ فلاشك- لدى كاتب هذه السطور على الأقل- أن ليس ميدان ذلك دور المساجد، بل الساحات الأخرى التي تأتي مصاحبة لحدث الثورة ومستلزماتها، سواء من حيث التجمع المتكاثر للناس على النحو الذي تضيق به المساجد ودور العبادة عادة، أم لأن جمهور المسجد- وهذا هو الأهم- خليط قد يكون متنافراً من هذا اللون السياسي أو الفكري أو المذهبي أو ذاك، ومن ثمّ فلا ينبغي لخطيب ذي وجهة سياسية أو فكرية أو مدرسية معيّنة أن يفرض على جمهوره الذي حضر أغلبه أو جزء منه على الأقل بقصد العبادة المجرّدة - قبل أي مقصد آخر- أن يجرّعه رأيه وفهمه وأن يفرض عليه –من ثمّ -موقفه ورؤيته، ولأّنه في هذه الحال لا ولن يستطيع- ولايحق له ذلك- أن ينكر أو يمنع خطيباً آخر يحتل مسجداً آخر، إن هو تناول الموضوع ذاته على نحو يختلف في تحليليه واستخلاصاته وموقفه ورؤيته السياسية أو الفكري أو المدرسية عن الخطيب الأول. وإذا تذكّرنا أنّ المعارضة(الإسلامية تحديداً) هي التي يغلب على أفرادها المناداة بحقهم في أن يتناولوا سياسة السلطات العامة والخاصة الكلية والجزئية اليوم من على منابر المساجد، في الوقت الذي يطالبون فيه الاتجاه المصنّف على السلطة أن يكفّ عن ترويجه لسياسات الحاكم وإضفاء المشروعية أو (القداسة) عليها، بوصف ذلك نفاقاً أو تسويقاً للسوء والسلوك المنحرف للحاكم وسياساته؛ فلنتذكّر أن ذلك محال –على الصعيد العملي- لأن الحاكم يمتلك من إمكانات التأثير –وربما الإقناع بحكم إمكانات السلطة ونفوذها، بما في ذلك العدد الهائل من المساجد، بما لايتوافر لأسباب موضوعية للمعارضة-؛ فإن إدراك خطيئة الزج بالمساجد في تبنّي هذه الرؤية أو الموقف أو ذاك سيتجلّى أكثر مايكون. أمّا إذا تعمّقنا أكثر واستشرفنا المستقبل القريب- بإذن الله- وذلك حين تنتصر الثورة، وتنقلب الموازين، أي حين يغدو المعارض حاكماً، وسواء غدا الحاكم اليوم معارضاً غداً، أم جاء غيره ليحتل موقع المعارضة الجادّة المؤثرة أو غير المؤثرة؛ فإن خطورة الإصرار على الرأي الذي ينادي به بعض المعارضين اليوم من الإسلاميين أو سواهم سيبرز وجه الخطورة فيه أكثر من أي وقت مضى، لأن أول إجراء من الوارد أن يحصل -في ظل الإصرار على صواب الموقف اليوم المتمثل في حق الخطباء المعارضين أن يتناولوا سياسة الحاكم العامة والخاصة الكلية والجزئية- هو حق وزارة الأوقاف أو الشئون الإسلامية في الحكومة المقبلة- بعد انتصار الثورة بإذن الله – أن تعمل على استبدال كل خطيب لا يتبنى سياساتها الجديدة - دعونا الآن من موقف هذا الخطيب مع الثورة أو ضدّها قبل انتصارها- وفي حال رفضه لأسباب فكرية أو حزبية أو مذهبية أو غيرها، فما الذي يتوقّع أن تتخذه إزاءه؟ هل من الوارد أن تسمح له بتبني ما يحلو له أو لمذهبه أو حزبه أو مدرسته الفكرية أو السياسية؟ أم أنها ستضع خطوطاً عريضة في شكل ثوابت (شرعية) و(تربوية) و(وطنية) ...إلخ ؟ ومن غير الوارد بأي معنى أن يقال لكل خطيب جمعة: نحن دولة (ديمقراطية) أو (دولة مدنية حديثة) ومن حق كل خطيب مسجد التعبير في خطبة الجمعة بما يراه وفقاً لأيديولوجيته الخاصة، بما في ذلك مناهضة الثورة أو الدعوة لثورة مضادّة، إذ إن ذلك من أبرز متضمنات الدولة المدنية (حماية حق التفكير والتعبير لكل أحد) !!!
سكرة اللحظة:
أمّا مايبدو أن الجميع في غفلة شبه تامة عنه فهو إدراك أن مكوّنات الثورة في هذا المجتمع أو ذاك اليوم أشتات من أحزاب وجماعات واتجاهات بينها من الاختلاف الكلّي والجزئي في الوضع العادي والطبيعي ما لايخفى على متابع، بيد أن ثمّة وضعاً استثنائياً دفع بها للالتقاء تمثّل في تغوّل سياسة السلطة السياسية وسيطرتها وإقصائها الحادّ لكل المعارضين الجادّين واستئثارها بكل إمكانات الدولة ومكوّناتها، وإذا انتفى ذلك الهدف المشترك أو العلّة الأساس فمن غير المستبعد – إن لم يكن ذلك هو الوضع الطبيعي في أكثر تلك المجتمعات- أن يعود كل إطار إلى إطاره، وفي هذه الحال سيتضح أن دعم الأحزاب التي لاتسيطر على المساجد أو أن لاحضور لها يذكر فيها لن تظل في السماح لخطباء حلفاء الأمس بالاستمرار في تبني سياساتهم الخاصة، أو أطاريحهم التي لم تعد تمثل اليوم (سياسة الثوّار) بالأمس، ولعلّ أقرب الشواهد إلى هذا الوضع ما يعتمل اليوم في تونس، فبعد أن كان الجميع يرمي حزب التجمع الدستوري الحاكم عن قوس واحدة؛ إذا ببعض تلك الأطياف اليوم تصم حركة النهضة بتوظيف المسجد لأغراض حزبية خاصة ومسيّسة، مما دعا أمين عام الحركة هناك السيّد حمّادي الجبالي يوم الجمعة 29/4/2011م إلى أن يصرِّح بأنّه ضد كل توظيف أو حديث مسيّس في المسجد وخطبة الجمعة بوجه خاص، مشدّداً على أن ذلك هو الموقف الرسمي للحركة، ردّاً على اتهامها بازدواجية الخطاب بهذا الشأن.
صفوة القول: إن رسالة الجمعة التربوية تجسّدت في أجواء الثورة في عموم ساحات التغيير كأبرز ما تكون عليه عملية الإحياء لدورها في مثل هذه الظروف، وهو ما يقتضي من الأحرار جميعاً دعماً وتأييداً ومباركة، ولكن ذلك لايعني تعميماً لهذه الحالة بكل تفاصيلها في الأوضاع العادية، أو حتى الاستثنائية بالنسبة للمساجد، لعموم الأسباب المشار إليها فيما تقدّم، ليبقى التركيز حول المتفق عليه، بين عموم المذاهب والأحزاب ومختلف المدارس الفكرية والسياسية في مختلف المجالات، ولاشكّ أن ذلك يقدّر في كل مجتمع بقَدَره.
أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي – أستاذ أصول التربية وفلسفتها- كلية التربية – جامعة صنعاء.
*تربيتنا
تفريط في الدور التربوي كيف؟
مرّت عقود وربما قرون على أمتنا وهي تمارس- بمجموعها- عباداتها الشعائرية بما في ذلك الشعائر الكبرى صلوات ( الجمعة- العيد – رمضان) وكذا شعيرة الحج على نحو من الطقوس الروحية التي تربط العبد بالربّ على نحو فردي، لكن ثمارها السلوكية وتفعيل آثارها في صورتها الفردية أو الجماعية قليلاً ما تبرز عبر الحركة العملية أو السلوكية على الأرض. وإذا كانت كثير من الدراسات والنقاشات قد دارت حول شعائر الإسلام الممثلة في أركان(الصلاة والزكاة والصوم والحج) وأخذت جانباً مقدّراً من التوصيف والتحليل للوظائف السلوكية لكل منها؛ فإن فريضة الجمعة ولوازمها التي أهمها الخطبة هي الأقل تناولاً- حسب معرفة كاتب هذه السطور- وربما يرجع ذلك إلى ضمور شعيرتها ولوازمها الأخرى وأهمها (خطبتاها) ردحاً طويلاً من الدهر، وتحويلها بكل لوازمها إلى مجرد طقس أسبوعي روتيني صوري، خالٍ من الروح والفاعلية، حيث ظلت الخطبة في بعض الحقب في كثير من أقطار أمتنا أشبه بالمادة المحفوظة، وفي بعضها الآخر تحفظ أجزاء من مفرداتها، وفي كثير من أقطارنا فإن الدعاء للوالي أو السلطان- بصرف النظر عن سلوكه الشخصي أو قيادته للحكم- من شروط القبول في هذه المواقع، ونسيان ذلك أو تناسيه يعدّ واحداً من الشرائط المنقوصة، أي الكفيلة بإبعاد الخطيب من موقعه، وربما توجيه اتهام له بمعاداة السلطات أو التآمر مع قوى داخلية أو خارجية ضدّ الوطن! ولم تَعُد لخطبة الجمعة حيويتها وتأثيرها السلوكي المنشود إلا مع اندلاع الثورات العربية، حيث ينتظرها الأحرار والثوار والمستضعفون الواعُون بفارغ الصبر، لأنها محطة تزوّد بغذاء تربوي روحي وفكري وسياسي جديد يمكنّها من البقاء متفاعلة مع الحدث حتى الأسبوع التالي وهكذا، حتى تحقيق الهدف الرئيس، فيما باتت الأنظمة السياسية تحسب لهذا اليوم ألف حساب، إذ يأتي (كابوس) الجمعة وأياديهم على قلوبهم من الهلَع، ولسان حالهم يصرخ: اللهم سلّم: تُرى هل تبقينا هذه الجمعة إلى عصرها أم تقذف بنا خارج دائرتي الزمان والمكان ؟ لاسيما وقد قضت إرادة الله-تعالى- بأن يتحدّد مصير كل طاغية رحل في هذه الثورات في يوم جمعة!
وإذا كان الطغاة الأوائل قد استسلموا باكراً تحت دويّ غضبة شعوبهم، حيث لم تطُل بهم الأيام كي يتنبهوا لمسلك الضرار في الجمعة وخطبتيها، ذاك الذي سلكه من جاء عليهم الدور لاحقاً، حيث راحوا يعدّون لكل جمعة (ضرارها) بكل لوازم العدةّ من (خطيب موجّه، وخطبة مبرمجة، وجمهور مدفوع بشتى وسائل الإغراء والإغواء، والترغيب والترهيب، وموقع مؤمّن من غضبة جمهور الأحرار، وقبل ذلك وبعده خزينة مالية يحسبونها بلا نفاد إلخ...) ولكن صدق الله { فأّمّا الزبد فيذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال} ( الرعد:17).
ومن المفارقات اللافتة أن تجد بعض السلطات الرسمية -حتى قبل اندلاع شرارة الثورات- ترفع عقيرتها في وجه كل حديث يتصل بالشأن السياسي في المسجد، بدعوى أن لاعلاقة للمسجد بذلك، لكنها توجِّه على نحو ملزم الخطباء (الرسميين) في بلدانها ليتناولوا سياساتها أو بعض قراراتها المثيرة للجدل بالمباركة والتأييد، وربما انتزعوا آية من سياقها، أو حديثاً من نسقه الموضوعي ليدعموا به سياسة الحاكم وقراراته، مصوِّرين من يقف في وجه ذلك بالخروج عن طاعة ولي الأمر، ومنازعته في الحكم، بل ربما المروق من الدِّين! ومن ابتلي بمثل تلك الحقب أو عاش في مثل تلك الأقطار، أو توافق حضوره لصلاة الجمعة والاستماع إلى خطبتيها في بعض تلك المساجد، ربما خطر بباله – إن كان لديه قدر من ثقافة الأديان- أنه–والحالة هذه- كأنّما يستمع إلى موعظة (أحد) في (كاتدرائية) أو كنيسة، لا إلى خُطبة جمعة في مسجد من مساجد المسلمين، أي أنّه إذا كانت المقولة الشهيرة في الديانة المسيحية – على سبيل المثال – تؤكّد أن تدع (ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، أي أنّه لاشأن للدين -والعبادة منه- بوجه أخص- بالحياة السياسية والاقتصادية والمجتمعية بصورة عامة- وإن استثني من ذلك شأن الأحوال الشخصية في أضيق نطاق أو التأييد والمباركة للسياسات القائمة من غير نقاش أو استفصال- فإن حديث بعض الخطباء في بعض الأقطار أو الأحيان يشعرك بعدم قيام فارق حقيقي بين الدين الإسلامي والديانة المسيحية من هذه الناحية!
غيبوبة حضارية:
والمقصود هنا أن عظمة الدين الإسلامي وتميّزه يكمن – في أحد جوانبه- في شموله وتكامله ومناصرته لقيم الحرية والعدالة والمساواة بين البشر، ونحو ذلك من القيم الكليّة المطلقة، فإذا كان خطيب الجمعة يعمد إلى تلك الخصوصية فيعمل على تذويبها؛ حين يتجاهل قضايا أمته، وينأى بنفسه وجمهوره عن الوقوف في وجه التحديّات الداخلية أو الخارجية؛ ومعالجة الأمراض الاجتماعية بكل أبعادها؛ فإنّه يسهم في سلب جوهر معاني العبادة الشعائرية، ويجعل من دين الإسلام نسخة مشوّهة من بقيّة الأديان التي أصابها قدر من التحريف والتزييف في أصول مصادرها. ولقد بلغت الغيبوبة الحضارية ببعض الخطباء عديمي الشخصية أن استنسخوا خطباً من بيئات غير بيئاتهم، كذاك الخطيب الذي اعتلى منبراً في مسجد ببعض القرى النائية من المحافظات الشمالية اليمنية بداية العهد الجمهوري مستنسخاً خطبة وردت ضمن كتاب للخُطب المنبرية طبع في عدن أيام الاستعمار البريطاني لها، حيث وجدت دور الخيالة( السينما) وبعض دور اللهو ونحوها هناك، فعمد إلى تقريع جمهوره بالتعنيف والتهويل والوعد والوعيد لأنهم إمّا يقعون في ذلك المحظور، أو أنّهم لايقاومونه، على حين أنّهم لايدركون مفردات (السينما) ودور اللهو ومصطلحات الدعارة وغيرها!!! أو ذاك الخطيب الذي كان قد استظهر خطب ابن نباتة –رحمه الله- تلك التي كتبت في بعض حقب العهد العثماني، ولأن ذلك العهد قد اشتهر بالمعارك والغزو، فلقد كان التقليد السائد أن يدعو الخطباء في آخر خطب الجمعة للسلطان(الغازي بن الغازي)، أي الوالي العثماني، ولكن ذلك الكتاب وقع بين يدي خطيب (تقليدي) معاصر فراح يلهج بالدّعاء في آخر خٌطبته لـ(الغازي بن الغازي)، أو كذاك الخطيب الذي نسي نص خطبته في جيب معطفه الآخر- وقد كان حانوتياً- وظن أن الورقة المطوية في جيب معطفه الذي يرتديه هي نص خطبة الجمعة، وكم كانت ورطته حين لم يستفق من غفوته العميقة إلا بعد أن سمع قهقهة بعض المصلين تقرع سمعه، إذ ذكر بعض أسمائهم ضمن قائمة أصحاب الديون في (خطبته) !!
ويبدو أنّ مثل هذه المسلكيات من قبل أمثال هؤلاء الخطباء قد انعكست على بعض جمهورهم حين تجد عدداً غير قليل من المسلمين لايجدون ما يحفزهم إلى حضور خطبتي الجمعة، سوى أنّها محض عبادة شعائرية، فهم إذ يحضرون صلاة الجمعة فإن ذلك يتم عادة في آخر (مراسيم) الخطبة الثانية، أو ربما مع بداية إقامة الصلاة، وذلك لمجرّد إسقاط فريضة الجمعة – بوصفها عبادة- ليس أكثر! وفي ذلك رسالة ضمنية مزدوجة، تحمل في شقها الأول تعبيراً مقصوداً أو غير مقصود عن الوضع (المميت) لفقدان الرسالة التربوية لخطبة الجمعة، إذ أفضى بها إلى حالة الغيبوبة تلك، أمّا شقها الثاني فقد يكون احتجاجاً على (التوظيف) أو (التسييس) لها، حيث غدت في أحيان أو أقطار أخرى خطاباً تعبوياً خاصاً بجماعة أو مذهب أو حزب أو طائفة لا شأن للسواد الأعظم من المتلقين به.
ولايستثنى من هذا الوضع لخطبة الجمعة حال المسلمين في الغرب، فبدلاً من أن تدرك الأقليات المسلمة هنالك مشكلات المسلمين في تلك البيئة وجملة التحدّيات التي تتهدد وجودهم، فتعمل على حلّها والبحث عن معالجات موضوعية لها، إذا بها تنقل بعض أمراض مجتمعاتها الأصلية وبعض مظاهر تخلّفها إلى مجتمعاتها الغربية الجدية، وأتذكّر أنني وبعض الزملاء الذين زرنا الولايات المتحدة الأمريكية في شهر يوليو من صيف العام الماضي 2010م صُدمنا اشدّ ماتكون الصدمة بقدر ماكانت فرحتنا لاتوصف قبل ذلك، حين دعينا من قبل وزارة الخارجية الأمريكية لأداء صلاة الجمعة وحضور خطبتيها داخل الكونجرس الأمريكي، ولشد ماكانت دهشتنا من الخطيب (الطائفي) المسقع ذي اللغة الإنجليزية (الرصينة)، الذي اكتشفنا أنّه ضيف قادم من دولة أجنبية أخرى، وقد استهل خطبته –كما خاتمتها- بطقوسه المذهبية الخاصة، بل جاء موضوع الخطبة طائفياً بامتياز، وكل الاستشهادات تقريباً لم تلامس نصاً قرآنياً أو حديثاً شريفاً إلا إذا جاء تأييداً للطائفة، أما أغلب الاستشهادات فمن روايات سادة الطائفة، تخيّلوا ذلك كلّه يتم في (الكونجرس) بـ( واشنطن)، ولعموم موظفي البيت الأبيض وبعض زوار الولايات المتحدة (الرسميين)، ولاشك أنهم ينتمون إلى مذاهب واتجاهات شتّى!!
إفراط في الدور التربوي كيف:
ليس معنى هذا –كما قد يتبادر إلى أذهان بعض القرّاء- أن الخطبة المنشودة اليوم هي تلك التي تأتي في الظروف العادية -أو حتى الاستثنائية كالأوضاع التي كانت تعيشها معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية قبل اندلاع شرارة الثورة في بعضها- على كل شئون الحياة بجميع تفاصيلها، ولاسيما السياسية منها، فتشبعها بحثاً وشرحاً وتحليلاً واستنتاجاً وتعبئة بهذا المفهوم أو ذاك -من ثمّ- فذلك تطرّف مضاد مذموم، إذ الخطيب الناجح هو الذي يأتي على مجمل قضايا المجتمع أو تحدّيات الأمة، التي لانزاع بين أفراد مجتمعاتها بوجه عام، وتلك قضايا كثيرة لايمكن حصرها في مثل هذا العجالة، أمّا القضايا التي تمثِّل محل نزاع وتجاذب بين أطراف سياسية أو نخبوية أو حزبية أو مذهبية أو طائفية أو نحو ذلك، فليس للخطيب حق تناولها، على نحو مباشر لاسيما حين تكون موضع نزاع اللحظة، فذلك يعدّ توظيفاً رخيصاً لمقام مقدَّس، يتحكم فيه هذا اللون وذاك، وأعني لوني السلطة والمعارضة . ولو فتح هذا الباب على مصراعيه لكان باب فتنة لاينغلق، إذ يصبح المتلقّي العادي من الجمهور محتاراً بين خطابين كليهما يستندان إلى (المقدَّس) الديني، ولا يدري المستهدف من يصدّق بعد ذلك، إذ إن هذا يتحدّث باسم (السماء) وذاك يتحدّث من المنطلق ذاته، والضحية هو الجمهور، بل الإساءة إنما ترجع إلى الدّين ذاته!
ومع التشديد على هذا المعنى في الظروف العادية أو الاستثنائية فإن ثمّة مندوحة استثنائية يفرضها واجب الوقت ومنطق الحَدَث، كما هو الشأن في حال الثورات التي بدأت تغشى المنطقة اليوم فإن شرارة ذلك ومحرّكه الأساس إنما انطلق من يوم الجمعة، نظراً لما يتضمنه ذلك من معان الالتقاء والاجتماع والتفرّغ على نحو لايتحقّق في أي مناسبة أخرى، لكن حين تنتقل الثورة من طور الفكرة إلى طور الفعل والتنفيذ فلاشك- لدى كاتب هذه السطور على الأقل- أن ليس ميدان ذلك دور المساجد، بل الساحات الأخرى التي تأتي مصاحبة لحدث الثورة ومستلزماتها، سواء من حيث التجمع المتكاثر للناس على النحو الذي تضيق به المساجد ودور العبادة عادة، أم لأن جمهور المسجد- وهذا هو الأهم- خليط قد يكون متنافراً من هذا اللون السياسي أو الفكري أو المذهبي أو ذاك، ومن ثمّ فلا ينبغي لخطيب ذي وجهة سياسية أو فكرية أو مدرسية معيّنة أن يفرض على جمهوره الذي حضر أغلبه أو جزء منه على الأقل بقصد العبادة المجرّدة - قبل أي مقصد آخر- أن يجرّعه رأيه وفهمه وأن يفرض عليه –من ثمّ -موقفه ورؤيته، ولأّنه في هذه الحال لا ولن يستطيع- ولايحق له ذلك- أن ينكر أو يمنع خطيباً آخر يحتل مسجداً آخر، إن هو تناول الموضوع ذاته على نحو يختلف في تحليليه واستخلاصاته وموقفه ورؤيته السياسية أو الفكري أو المدرسية عن الخطيب الأول. وإذا تذكّرنا أنّ المعارضة(الإسلامية تحديداً) هي التي يغلب على أفرادها المناداة بحقهم في أن يتناولوا سياسة السلطات العامة والخاصة الكلية والجزئية اليوم من على منابر المساجد، في الوقت الذي يطالبون فيه الاتجاه المصنّف على السلطة أن يكفّ عن ترويجه لسياسات الحاكم وإضفاء المشروعية أو (القداسة) عليها، بوصف ذلك نفاقاً أو تسويقاً للسوء والسلوك المنحرف للحاكم وسياساته؛ فلنتذكّر أن ذلك محال –على الصعيد العملي- لأن الحاكم يمتلك من إمكانات التأثير –وربما الإقناع بحكم إمكانات السلطة ونفوذها، بما في ذلك العدد الهائل من المساجد، بما لايتوافر لأسباب موضوعية للمعارضة-؛ فإن إدراك خطيئة الزج بالمساجد في تبنّي هذه الرؤية أو الموقف أو ذاك سيتجلّى أكثر مايكون. أمّا إذا تعمّقنا أكثر واستشرفنا المستقبل القريب- بإذن الله- وذلك حين تنتصر الثورة، وتنقلب الموازين، أي حين يغدو المعارض حاكماً، وسواء غدا الحاكم اليوم معارضاً غداً، أم جاء غيره ليحتل موقع المعارضة الجادّة المؤثرة أو غير المؤثرة؛ فإن خطورة الإصرار على الرأي الذي ينادي به بعض المعارضين اليوم من الإسلاميين أو سواهم سيبرز وجه الخطورة فيه أكثر من أي وقت مضى، لأن أول إجراء من الوارد أن يحصل -في ظل الإصرار على صواب الموقف اليوم المتمثل في حق الخطباء المعارضين أن يتناولوا سياسة الحاكم العامة والخاصة الكلية والجزئية- هو حق وزارة الأوقاف أو الشئون الإسلامية في الحكومة المقبلة- بعد انتصار الثورة بإذن الله – أن تعمل على استبدال كل خطيب لا يتبنى سياساتها الجديدة - دعونا الآن من موقف هذا الخطيب مع الثورة أو ضدّها قبل انتصارها- وفي حال رفضه لأسباب فكرية أو حزبية أو مذهبية أو غيرها، فما الذي يتوقّع أن تتخذه إزاءه؟ هل من الوارد أن تسمح له بتبني ما يحلو له أو لمذهبه أو حزبه أو مدرسته الفكرية أو السياسية؟ أم أنها ستضع خطوطاً عريضة في شكل ثوابت (شرعية) و(تربوية) و(وطنية) ...إلخ ؟ ومن غير الوارد بأي معنى أن يقال لكل خطيب جمعة: نحن دولة (ديمقراطية) أو (دولة مدنية حديثة) ومن حق كل خطيب مسجد التعبير في خطبة الجمعة بما يراه وفقاً لأيديولوجيته الخاصة، بما في ذلك مناهضة الثورة أو الدعوة لثورة مضادّة، إذ إن ذلك من أبرز متضمنات الدولة المدنية (حماية حق التفكير والتعبير لكل أحد) !!!
سكرة اللحظة:
أمّا مايبدو أن الجميع في غفلة شبه تامة عنه فهو إدراك أن مكوّنات الثورة في هذا المجتمع أو ذاك اليوم أشتات من أحزاب وجماعات واتجاهات بينها من الاختلاف الكلّي والجزئي في الوضع العادي والطبيعي ما لايخفى على متابع، بيد أن ثمّة وضعاً استثنائياً دفع بها للالتقاء تمثّل في تغوّل سياسة السلطة السياسية وسيطرتها وإقصائها الحادّ لكل المعارضين الجادّين واستئثارها بكل إمكانات الدولة ومكوّناتها، وإذا انتفى ذلك الهدف المشترك أو العلّة الأساس فمن غير المستبعد – إن لم يكن ذلك هو الوضع الطبيعي في أكثر تلك المجتمعات- أن يعود كل إطار إلى إطاره، وفي هذه الحال سيتضح أن دعم الأحزاب التي لاتسيطر على المساجد أو أن لاحضور لها يذكر فيها لن تظل في السماح لخطباء حلفاء الأمس بالاستمرار في تبني سياساتهم الخاصة، أو أطاريحهم التي لم تعد تمثل اليوم (سياسة الثوّار) بالأمس، ولعلّ أقرب الشواهد إلى هذا الوضع ما يعتمل اليوم في تونس، فبعد أن كان الجميع يرمي حزب التجمع الدستوري الحاكم عن قوس واحدة؛ إذا ببعض تلك الأطياف اليوم تصم حركة النهضة بتوظيف المسجد لأغراض حزبية خاصة ومسيّسة، مما دعا أمين عام الحركة هناك السيّد حمّادي الجبالي يوم الجمعة 29/4/2011م إلى أن يصرِّح بأنّه ضد كل توظيف أو حديث مسيّس في المسجد وخطبة الجمعة بوجه خاص، مشدّداً على أن ذلك هو الموقف الرسمي للحركة، ردّاً على اتهامها بازدواجية الخطاب بهذا الشأن.
صفوة القول: إن رسالة الجمعة التربوية تجسّدت في أجواء الثورة في عموم ساحات التغيير كأبرز ما تكون عليه عملية الإحياء لدورها في مثل هذه الظروف، وهو ما يقتضي من الأحرار جميعاً دعماً وتأييداً ومباركة، ولكن ذلك لايعني تعميماً لهذه الحالة بكل تفاصيلها في الأوضاع العادية، أو حتى الاستثنائية بالنسبة للمساجد، لعموم الأسباب المشار إليها فيما تقدّم، ليبقى التركيز حول المتفق عليه، بين عموم المذاهب والأحزاب ومختلف المدارس الفكرية والسياسية في مختلف المجالات، ولاشكّ أن ذلك يقدّر في كل مجتمع بقَدَره.
أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي – أستاذ أصول التربية وفلسفتها- كلية التربية – جامعة صنعاء.
*تربيتنا