أ.د. أحمد محمّد الدَّغَشِي
أستاذ أصول التربية وفلسفتها - كلية التربية – جامعة صنعاء
توطئة:
بعد ذات حوار صحفي مع كاتب هذه السطور تناول جملة من قضايا الفكر والتربية وإشكالات العمل الإسلامي بعث إليّ بعض الأصدقاء بتعليقات شخصية على مجمل ما دار في الحوار، غير أن واحدا من تلك التعليقات كان- حسب تقديري- الأجدر بالتأمل الطويل، ومن ثم توقفت عنده مليّاً، لأنّه يحمل – في جوهره- وجهة نظر فئة من النخبة، لطالما قرأت أو سمعت من يقدّمها بوصفها المخرج من الأزمة الفكرية والسياسية الراهنة، ليس في المجتمع اليمني فحسب بل في المجتمعات العربية والإسلامية عامة، وتلكم هي فكرة (العلمانية)، كنظام سياسي يعمل على الفصل بين الدين والدولة، ويسعى لإخراجنا من صراع الطوائف والمذاهب والأحزاب (الدينية)! لاسيما مع المستجدات الأخيرة للفتنة التي توصف بـ(الطائفية) في العراق، أو اندلاع فتنة صعدة عبر مراحلها المتعاقبة منذ منتصف العام 2004م، وتداعياتها التي لا يعلم إلا الله نهاية لها، ناهيك عن المشكل اللبناني .
ولأن الموضوع يمثّل همّاً قديماً نسبياً لدى كاتب هذه السطور، من حيث الرغبة في مناقشة هذه الأطروحة؛ فلم أجد قلمي يتوقّف إلا بعد كتابة صفحات ناهزت العشرين، ثمّ تطوّرت الفكرة أكثر فأخذت المنحى المنهجي في جانب التوثيق، وأضحت على النحو الحالي، حواراً بين صديقين، ونظراً لما تتضمنه من معان وأفكار، رأيت أن يشاركني القراء ولا سيما من يعنيهم الأمر مداولتها، وأن يثروها بتعقيباتهم ورؤاهم .
وقبل أن أعرض مناقشتي لما ورد في رسالة الصديق الذي آثر عدم ذكر اسمه كاملاً لغرض النشر؛ أرى أن من الأهمية والأمانة معاً إيراد رسالته كما وردت إلا من بعض الجوانب الفنية التي منحني الصديق حق التصرّف فيها، إذ هو بعثها في الأصل إليّ بوصفي صديقاً أنظر فيها لإثرائها على المستوى الثنائي، لا لنشرها على الملأ، لكنني استحسنت فكرة النشر العام للفكرتين، واستأذنته في ذلك، فأذن بعد تفكير، وأبدى استحسانه – من ثمّ- كذلك، شريطة إجراء بعض تلك التصرفات الفنية في رسالته، وإليك – قارئي الكريم – :
أولاً نص رسالة الصديق ناصر:
سلام عليكم يا دكتور وشكرا على إرسال المقابلة واسمح لي بأن أشير إلى بعض النقاط من وحي المقابلة ومن غيرها فيما يلي:
1- أحيي فيك نشاطك الفكري بغض النظر عن درجة اتفاقي أو اختلافي معه، فمن المفيد أن يترجم المرء ما يفكر فيه إلى عمل مادي كما تعمل في كتاباتك.
2- هناك الكثير من الأفكار الرائعة التي تحملها كتاباتك، وأشعر أنها لم تنل ما تستحقه من اهتمام وأرجع سببه إلى السياسة التي ترفع الأعمال السطحية حين تكون في مصلحة من يملك السلطة والثروة وتخفي أو تتجاهل الأعمال العميقة حين تمس بسلطتها، ومع ذلك فإني مؤمن بأن العمل الجاد والأصيل سيبقى كذلك مهما تم تجاهله للأسباب التي ذكرتها.
3- رغم أني قد أكون في موقع مغاير لموقعك الفكري إلا أني تلمست من خلال المقابلات الشخصية – على قلتها – أو من خلال ما أقرأه لك بأنك تمتلك ذهنية العلماء (لا اقصد علماء الدين بالضرورة) والذي يتضح من خلال صدق ما تكتب وإيمانك به وغوصك في الظواهر التي تناقشها. وهذه الصفات تجعلني أناقشك بكل حرية إيماناً مني بحقيقة أن من يمتلك هذه الذهنية يعتبر الحوار معه أمراً حيوياً لتطوير الأفكار، إضافة إلى ذلك فإن الصدق وعدم التعصب والابتعاد – قدر الإمكان – عن الأفكار المسبقة هي الذخيرة الأساسية للأفكار الجديدة والأصيلة والذي أعتقد وبصدق أنك مؤهل لها.
4- في مقابلتك أشرت إلى قضية ’’تجنح’’ الحركة الإسلامية في اليمن وتجزئها في المناطق الأخرى – كما فهمت- وقد فهمت بأنك غير مؤيد لهذه الظاهرة. وفي هذا الشأن دعني أشر إلى أن فكرة الوحدة المطلقة لحزب أو حركة أو توجه فكري ما، ما هي إلا وهم ِصرف فالناس لا يمكن لهم أن يكونوا متوحدين تحت قيادة ما إلا في حالة الأحزاب الشمولية التي تمتلك من وسائل القمع ما يمكنها من خلق هذه الوحدة القسرية، أما الأمر الطبيعي فإنّه التجنح والانشقاقات وتعدد المدارس الفكرية وغيرها هي الحالة السوية والطبيعية، فكما أشرت في المقابلة فلا توجد حركة دينية أو فكرية بعيدة عن السياسية، والسياسة مصالح متنافرة ومادام الأمر كذلك فإن الطبيعي أن يكون هناك تعدد وليس العكس. وأعتقد من وجهة نظر سياسية أن التعدد والاختلاف هو أجدى لأي مجتمع من ’’الأحادية’’ لأنها مصطنعة ولابد أن يكون مصدرها القسر. فلو أن هناك أحادية فكرية للتيار الإسلامي في اليمن لما تمكنت أن تكتب ما تكتبه ولكان حالك حال الكتاب في العصر السوفيتي الذي كان عليهم أن يرددوا ما تمليه عليهم قيادة الحزب، وقد أشرت إلى مصادرة ما كتبت من قبل قيادة الحزب التي لم يعجبها ما قلت.
5- أتفق معك على أن التشدد أحياناً باسم السنة ليس بمنأى عن مخرجات نظام سياسي استمد شرعية وجوده منها، وما ينطبق على هذا الفكر في القديم والحديث ينطبق على جميع المذاهب والأفكار الإسلامية الأخرى، ففي حال تتبعنا مصدر فكرة ما سنجدها إحدى مخرجات السياسة والسيطرة إلى حد كبير، فلا وجود للفكر خارج السلطة كما يذهب إليه البعض.
6- استطرادا لما سبق فإن الأفكار والمظاهر الدينية في مجتمعاتنا الحالية ما هي إلا مخرجات لواقع سياسي/اقتصادي/اجتماعي من حيث إن غياب الشرعية السياسية المستندة إلى التفويض الشعبي الحر والعقلاني-وهو أحد مخرجات الحداثة- تجعل الدين إحدى وسائل الحصول على الشرعية السياسية، ويستوي في ذلك الحكام ومعارضوهم، فالجميع يوظف الدين للحصول على شرعية للسيطرة على السلطة والثروة والمكانة. وما لم تحل مشكلة السلطة عن طريق التفويض الشعبي فإن الدين سيبقى إحدى وسائل الصراع على السلطة، وأعتقد أن أي بحث لشرعية سياسية عن طريق الدين تحت إي مسمى (دين وسطي أو متطرف) هو بحث في الطريق الخطأ، فالسياسة التي تبنى على الدين مصيرها الحتمي هو الاستبداد بغض النظر عن طبيعة الدين، واسمح لي بتذكيرك بمصير حسن الترابي في السودان ورجال الدين الذين قمعوا ولازالوا يقمعون في إيران رغم أنهم من تولوا إقامة هذه النظم.
7- أشرت في المقابلة إلى وجود مظاهر دخيلة على الزيدية من مثل الاحتفال بالغدير أو بالمولد وغيرها. وفي هذا الشأن أحب أن أشير إلى أنه ليس هناك ما يمكن تسميته بمظاهر دخيلة أو ثابتة، استنادا إلى حقيقة يؤكدها التاريخ الاجتماعي للبشر الذي يقول لنا بأننا متحركون ومتغيرون، وهذا ما يميزنا عن الحيوانات، وكلما كنا في مجتمعات منفتحة كلما كان تغيرنا أسرع والعكس صحيح، وما ينطبق على الحوثيين وما اعتبرته مظاهر دخيلة ينطبق على الآخرين، فهل تستطيع أن تجزم بان المظاهر لما يمكن تسميتهم بالسنة في اليمن اليوم تشبه ما كانوا عليه قبل أربعين عاما، قبل أن يأتي المد السلفي، وما ينطبق على السنة ينطبق على الزيود أو غيرهم، فالحركة والتغيير هي القاعدة بينما الجمود هو الاستثناء.
8- لم أفهم قصدك حين قلت بأن الحوثيين ربما أدركوا خطاء المطالبة بإنشاء جامعة خاصة بهم، فلم أفهم أين الخطاء هل في الفكرة أو التوقيت، حيث إن العدالة تقتضي أن يسمح للحوثيين بما يسمح لمنافسيهم حين أنشأوا جامعة ومعاهد بأموال أتى معظمها من خارج الحدود، أو أن العدالة تقتضي أن نمنع الجميع، وهنا نعود إلى مسألة العلمانية، التي أتت كحل عملي وضروري لمسألة التعدد الديني والمذهبي والفكري، فبدونها فإننا سنجد أنفسنا في تناقض واضح مع ما نؤمن به. ودعني أسترسل في هذا الموضوع - الذي أعتقد أنني قد أشرت له في رسالة سابقة - فكما ترى فإن المناهج الدراسية في اليمن والخطاب الرسمي في اليمن قد تم احتكاره لصالح فريق ديني /سياسي (سني/إخواني/سلفي) خلال الأربعين عاما الماضية وتم ذلك بدعم سعودي واضح ومباشر، وفي هذا الصدد تم بناء أكثر من 95% من المساجد الجديدة في اليمن بأموال سنية/سلفية، وتم (سلفنة) المساجد في جميع أنحاء اليمن بما فيها مواطن الزيدية والإسماعيلية والصوفية، وأصبحنا نتعامل مع هذا الأمر وكأنه أمر عادي جدا، فبإمكان س من الناس أن ينشئ جامعاً ومركز تحفيظ قرآن لفاعل خير من السعودية أو الخليج وبدعم ومباركة رسمية، في نفس الوقت لو سمعنا بأن هناك مسجداً زيدياً/اثني عشرياً يتم بناؤه بأموال من شيعة إيران أو العراق فإننا نرى في الأمر مؤامرة وشراً مستطيراً. ولو تمعنا قليلا في الأمر لوجدنا أن هناك تناقضاً في الطرح وغياباً للعدالة، فبأي حق نحرم طائفة دينية زيدية أو اثنى عشرية من أن تبني مساجد ومعاهد وفي نفس الوقت نسمح ونبارك لطائفة أخرى بأن تعمل ذلك.
إن هذه المشاكل تجعلنا نقترب أكثر وأكثر باتجاه العلمانية التي تقتضي أن لا تتدخل الدولة في القضايا الدينية بالمعنى الذي يجعلها محايدة، وهذا الحياد يقتضي إما أن تسمح الدولة للجميع بالتمتع بنفس الحقوق كأن تسمح الدولة للزيود بأن ينشئوا جامعة ومدارس ومعاهد بأموال الشيعة كما تسمح للسنة، وفي هذه الحالة فإن النتيجة المنطقية لهذا الوضع هو الاحتراب والتناحر وفقا لأجندات داخلية وخارجية، أو أن الدولة تمنع الجميع من بناء هذه المنشئات، وطبيعي أن هذا الحل سيبدو غريبا وفقا للواقع الموضوعي لليمن في الوقت الحالي، ومع ذلك فإن نقاشي معك ليس إلا لفتح آفاق للتأمل، وهو أمر مهم لتلمس الواقع.
اعذرني على الإطالة، وعلى الأخطاء اللغوية خاصة وأنني لم أحب أن أعيد قراءة النص وأبقيته كما هو، لخوفي من أن المراجعة قد تجعلني أتخلى عن فكرة إرساله كما عملت مع موضوع سابق حيث إنني هممت بإرسال رسالة لك وفكرت بأن أراجعها وحتى الآن لا أعرف أين وضعتها.
وفي الأخير أكرر شكري لاهتمامك وأجد نفسي أكرر إعجابي بما تقوم به وأملي في أن تستمر في الكتابة والبحث وشكرا
ناصر
ثانياً: مناقشة لما ورد في رسالة الصديق ناصر :
أخي الأعز الأستاذ ناصر عافاك الله
وعليك سلام الله
أحييك على تواصلك الأخوي الصادق، وليس من قبيل المجاملة أو رد الثناء بمثله أن أجزم بأنك واحد من المثقفين القلائل الخلّص الذين يتفاعلون مع حراك الثقافة والفكر على نحو من الجدية والصدق والوضوح والثقة . وكم حزنت حين أخبرتني بأنك قد فقدت ملحوظات سابقة ظنا منك بأنني قد لا أتقبل ما فيها إلا بعد مراجعة وتنقيح،كي لا أنزعج من بعض ما ورد فيها. ومع أن هذا لطف كريم منك إلا أنه أشعرني بفقدان درر من النصائح الصادقة، كما أشعرتني بأنك في هذه تعاملت معي برسمية وكلفة، وإن كانت في حقيقة الأمر جزءا من ذوقك الرفيع، لكن آمل مستقبلاً أن ترفع أي كلفة لتتم الاستفادة المرجوّة بشفافية.
أخي ناصر اسمح لي بأن أتفاعل مع رسالتك على نحو لم أتفاعل به مع رسائل أعزاء آخرين، بعضهم من كبار أساتذتي، وبعضهم من المفكّرين المرموقين،-وكلهم خارج اليمن- وذلك لما احتوته رسالتك من القضايا والأفكار الجريئة الحريّة بالبحث والنقاش، وسأبدأ بالشأن اليمني وخصوصياته لأنتقل بعد ذلك إلى المشكلة الأساس وهي مناقشة فكرة العلمانية، وعما إذا كانت حلّاً فعلياً لمجتمعاتنا الإسلامية. وألخِّص ذلك في العناوين التالية:
حركة الفكر بين الرسمية والفردية:
*بادي الرأي فإنّ ما أعنيه بالمظاهر الدخيلة على الزيدية التي أشرت إليها في رسالتك لا يفهم منه تبرير للمظاهر الدخيلة على غيرهم، لكن كان الحديث في هذا السياق ليس أكثر. ومع تأكيدي على أن حركة الفكر وتداخل الثقافة - ولاسيما في بعض تفريعاتها- يصعب الوقوف أمامها، أو منعها، لكن ما قصدته هو أن ليس من المعقول منح الشرعية (الرسمية) لمثل تلك الممارسات لأنها تؤول إلى ( فتنة) محققة. ولست في معرض سرد الدلائل على أن لكل مجتمع حدوداً ثقافية وفكرية وسياسية لا يمكن تجاوزها في الشرق أو الغرب، وأنت في هذا -تحديدا- سيّد العارفين. وإذ أقول ذلك فإني لا أعني إلا الجانب الرسمي أما الحراك الفردي فهو قائم - كما قلت- شئنا أم أبينا. ويبقى أن استيراد أفكار متطرفة من وراء الحدود أو البحار لآخرين في الماضي لا يعني مبرراً للذهاب في هذا المسار حتى النهاية المشئومة!
علمنة السياسة التعليمية:
* وفي هذا السياق ومع تداخل الأيديولوجي بالسياسي بالتعليمي يرد الحديث عن جامعة زيدية أو شيعية كما فعل الآخرون. وأود الإشارة إلى تساؤلك حول مقصدي هنا، فإنما قلت ما قلت في سياق ضعف أملي في صمود الاتفاق بين السلطة والحوثيين بعد إعلان إيقاف العمليات العسكرية فيما اصطلح على تسميتها بالحرب السادسة، لأن مطلب الجامعة الزيدية والمدارس الشرعية مطلب أساس عندهم- وقد أثبتت الأيام الماضية صواب هذه الوجهة- فتساءلت هل تخلّى الحوثيون عن المطلب الثقافي أو التربوي، بحيث لم يأتوا على ذكره في بنود الاتفاق؟ ولم أعرض لرأيي في الموافقة على مطلبهم من عدمه، ذلك أنني تناولته في غير ما مناسبة، لكن لابد من التذكير هنا بان المقارنة بين المطالب المنهجية الخاصة بالزيدية المتأثرة ببعض ما يدور وراء البحار؛ يختلف جزئيا عن تلك (المنجزات) التي حققها الطرف الآخر وهم (دعاة السنة) من مختلف الأطر والمدارس، لأن الجامع بين مطالبهم تلك والواقع اليمني وجود المذهب (السني) الشافعي على نطاق واسع. وأدرك أن ليس كل ما تحقق أو يسعى البعض إلى تحقيقه عبر مؤسسات التعليم أو مؤسسة المسجد يمثل بالضرورة ذلك المذهب، ولكنه لا يختلف من حيث الأصول والقواعد - بصورة عامة- مع المذهب السني الشافعي. على أنني أشاركك الرأي بأن ثمة أجندة خاصة أحياناً لاتجاهات أخرى غير الحوثية ( ولعلك تابعت دراستي لموضوع: السلفيون في اليمن وجدلية العلاقة بين المركز والأطراف)، لكنني من جانب آخر لست أرى الأمر مرتبطاً بالضرورة بمؤامرة خارجية، لا عند السنة التي يصفها البعض بـ( الوهابية)، ولا عند الشيعة التي يصفها البعض بـ(الرافضة)، بل هناك رؤى وقناعات لاعلاقة لها بالوقوف ضدّ المذهب الشيعي الزيدي على نحو مؤامرة أو محاولة إقصاء أو تهميش له، كما أن هناك رؤى وقناعات للطرف الآخر، لاعلاقة لها بالضرورة كذلك بالمذهب السنّي الشافعي ومحاولة إقصائه أو تهميشه. ومن وجهة نظري الخاصة فليس ثمة ضرورة ملحّة في كل حال، لذلك الاتباع، أو وجوب التقيّد بما في المذهبين، لكن ما أود التأكيد عليه في هذه العجالة- -وبحسب السؤال المحوري الوارد في الحوار المشار إليه مع أخيك عن الظاهرة الحوثية - أن ثمّة شواهد في الآونة الأخيرة بوجه خاص تشير إلى محاولة لإيجاد مجموعة مذهبية (جديدة ) في اليمن، تتبنى الفكر الشيعي الإثني عشري الجعفري، على نحو رسمي مشروع، وليس على نحو فردي حرّ، وذلك ما حذّر منه حسين الحوثي قبل غيره، الذي يبدو أنه تنبّه إلى أن تلك الفئة تتدّثر بمعبأة دعوته، كما أوضحت ذلك في كتابي عن (الظاهرة الحوثية)، وذلك أمر جدّ مختلف عن الفكر الزيدي، بكل فرقه بما فيها ما تعرف بـ(الجارودية)، بل يتصادم مع تلك الظواهر (الدخيلة) القادمة من مذهب لا وجود يذكر له في اليمن، وتلك هي الفتنة التي عنيتها، تلك التي نحن في غنى عنها من الأساس، ولا أريد أن أكرّر التفصيل حول السماح الفردي الحرّ والسماح الرسمي العام المشروع .
إن تحفّظي إنما يكمن في التداعيات أو المآلات أو الفتن المتوّقعة التي قد يقود إليها تحويل المجتمع اليمني إلى بؤرة صراع (متخلّف) لأفكار وافدة من هذا القطر أو ذاك أو ذاك باسم الدين .
التنوّع لا الانصهار:
* ما فهمته من أنني أدعو إلى ان تصبح الحركة الإسلامية نسخة واحدة؛ فهو ما لم يخطر لي على بال، بل على العكس من ذلك، فقد قصدت - وربما لم أفصح عن ذلك- أن ما وصفته بالشمولية والقهر هو الذي تعاني منه الحركة اليوم، مما أفضى إلى خلق مثل تلك الجيوب، ولو أنها تركت الجميع يفكرون بحرية في إطار الثوابت الكلية - وأرجو أن لا تفهمها غموضا أو مطاطية تدفع للالتفاف على الحرية الفكرية المنشودة - بحيث تستوعب كل أطياف الاجتهادات والتفكير بكل ترحيب وحب؛ لما حدث هذا التشظي والتربص والتراشق بالاتهامات في الغرف الخاصة! وما قد أختلف معك فيه أن هذا التنوع لا يستلزم بالضرورة ما وصفته بقولك ’’ فلو أن هناك أحادية فكرية للتيار الإسلامي في اليمن لما تمكنت أن تكتب ما تكتبه ولكان حالك حال الكتاب في العصر السوفيتي الذي كان عليهم أن يرددوا ما تمليه عليهم قيادة الحزب، وقد أشرت إلى مصادرة ما كتبت من قبل قيادة الحزب التي لم يعجبها ما قلت’’ . فأنا –يا صديقي- إنما قلت ما قلت من خارج الإطار، ولو كنت داخله لما تمكنت من ذلك إلا بضريبة عسيرة.
أصالة الذات قبل حداثة الآخر:
*مع أنني أتفق معك في جزء من مقدمة العبارة التالية إلا أني سأختلف معك في قدر جوهري من النتيجة وذلك حين قلت:’’ استطراداً لما سبق فإن الأفكار والمظاهر الدينية في مجتمعاتنا الحالية ما هي إلا مخرجات لواقع سياسي/اقتصادي/اجتماعي من حيث إن غياب الشرعية السياسية المستندة إلى التفويض الشعبي الحر والعقلاني، وهو أحد مخرجات الحداثة، تجعل الدين إحدى وسائل الحصول على الشرعية السياسية ويستوي في ذلك الحكام ومعارضوهم، فالجميع يوظف الدين للحصول على شرعية للسيطرة على السلطة والثروة والمكانة. وما لم تحل مشكلة السلطة عن طريق التفويض الشعبي فإن الدين سيبقى إحدى وسائل الصراع على السلطة، وأعتقد أن أي بحث لشرعية سياسية عن طريق الدين تحت أي مسمى (دين وسطي أو متطرف) هو بحث في الطريق الخطأ، فالسياسة التي تبنى على الدين مصيرها الحتمي هو الاستبداد بغض النظر عن طبيعة الدين، واسمح لي بتذكيرك بمصير حسن الترابي في السودان ورجال الدين الذين قمعوا ولازالوا يقمعون في إيران رغم أنهم من تولوا إقامة هذه النظم’’.
فالتفويض الشعبي حقاً هو أساس حل المشكلة السياسية، وما يترتب عليها من جوانب حيوية فاعلة ومؤثرة على مسار الحياة كلها، لكن أرجو أن لا يعزى ذلك إلى (الحداثة) (modernism) لأنها هنا لا تنصرف – بحسب سياق الحديث - إلا إلى مفهومها الغربي (العلماني)(Secularism)، الذي يعني’’ مذهباً أدبياً، بل نظرية فكرية لا تستهدف الحركة الإبداعية وحدها، بل تدعو إلى التمرّد على الواقع بكل جوانبه السياسية الاجتماعية والاقتصادية’’ ...أمّا مصطلح(modernity) فيعني ’’إحداث تجديد وتغيير في المفاهيم السائدة المتراكمة عبر الأجيال نتيجة وجود تغيير اجتماعي أو فكري أحدثه اختلاف الزمن’’، ويحسن بنا تسميته بـ(المعاصرة)؛ لأنه يعني التجديد بوجه عام، دون الارتباط بنظرية ترتبط بمفاهيم وفلسفات متداخلة متشابكة ( مولاي المصطفى البرجاوي، الحداثة بين الاستيعاب والاستلاب: قراءة مفاهيمية ونقدية، مجلة البيان، الرياض: العدد (274)، جمادي الآخرة1431هـ - مايو يونيو 2010م، ص 79)، وكان يمكن أن ينسب ذلك إلى المعاصرة أو ما يُعرف في أدبنا الإسلامي بـ(التجديد).
ومع أن محاولة التمييز بين كل من مصطلحات (modernism) و (modernity)
و( (modernization بحيث يعني الأول الحداثة، فيما يعني الثاني المعاصرة على حين ينصرف الثالث إلى معنى التجديد أو التحديث، على نحو ما ذهب إليه بعض الباحثين(مولاي المصطفى البرجاوي، المرجع السابق، ص 79)؛ أمر لا يخلو من تكلّف وتداخل لايخفى، في ظل مراجعة جملة الأدب النظري الذي تناولته المعاجم والقواميس ذات الصلة سواء منها العربية أو غير العربية، التي تناولت مفردة الحداثة بحيث لاتميّز بين (modernism) و (modernity) ؛ بيد أن ذلك لايعفي الباحث المنهجي الناقد من إدراك السياق الذي نشأ فيه المصطلح، ذلك أنّ ثمّة مدلولاً بيئياً أو عرفياً تحدِّده طبيعة النشأة وتطوّرات التشكّل، وليس لغوياً مجرداً فقط،، على نحو ما تذهب إليه الفلسفة البنيوية، وهذا جوهر إشكالها.
إن التدقيق في عملية النشأة والتشكّل عملية منهجية لا يجوز تجاوزها من قبل أيّ باحث منهجي، وهو ما ينبّه إليه بعض كبار الباحثين النقّاد في هذا المجال أمثال الفيلسوف عبد الوهاب المسيري حين يؤكّد في هذا السياق أنه ’’ قد لوحظ في العالم الثالث وجود مصطلحات أخرى مثل (الديمقراطية) و(العقلانية)، و(التنوير) و(التحديث) و(التغريب) تقف جنباً إلى جنب مع مصطلح العلمانية، ولكنها تتداخل معه في بعض الأحيان، بل ويفترض بعضهم قدراً من الارتباط العضوي، وأحياناً الترادف بينها، وهذا الخلط له أساسه، ففعل (مودرنايز Modernize) أي ( يُحدِّث) – على سبيل المثال- يعني إعادة صياغة المجتمع بحيث يتم استبعاد المعايير التقليدية، وإخضاع كل شيء للمعايير العقلية المادية العلمانية التي تتفق مع معايير الحداثة، برؤيتها للإنسان (برؤيتها للإنسان والكون )، وهذا هو أيضاً الترشيد (في الإطار المادي)، (فالتحديث هنا يعني (التحديث في الإطار المادي). ولا يختلف فعل( ويسترنايز Westernize)، أي (يُغرِّب)، بمعنى ( فرض أنماط وأساليب ومعايير الحياة الغربية) عن فعل ( يُحدِّث)، فالأنماط والأساليب (الغربية) التي يتم فرضها هي الأنماط والأساليب والمعايير العلماني، وحيث إن المجتمعات الغربية الحديث هي المجتمعات الأولى التي طبقّت فيها هذه المعايير، وتصاعدت فيها معدّلات العلمنة، حتى سادت المعايير العلمانية بشكل كبير، حتى تكاد تقترب هذه المجتمعات من الحالة النموذجية، التي يُقال لها ( مجتمع علماني)، لكل هذا ثمّة تداخل كبير يقترب من حدّ الترادف بين هذا المصطلح وسابقه، ويلاحظ أنه في العالم الثالث، تؤدّي العلمنة في معظم الأحيان إلى التغريب، واستخدام العلم والتكنولوجيا المفصلين عن القيمة’’ (عبد الوهاب المسيري، العلمانية تحت المجهر، حوار مع عزيز العظمة، ضمن سلسلة: حوارات لقرن جديد، ص 49، 1421هـ-2000م الطبعة الأولى، بيروت ودمشق: دار الفكر المعاصر و دار الفكر).
وقد أدركت أن مقصودك بالحداثة: (modernism) المعنى السائد في سياقها الليبرالي الغربي العلماني، الذي يحتمل نشؤه بعد نهاية مرحلة العصور الوسطى في أوروبا، وظهور عصر النهضة هناك أي ’’في القرن الخامس عشر الميلادي، الذي جاء على حساب سلطة الكنيسة، وأتى بالدولة القومية، ذات التوجّهات العلمانية والديمقراطية في نهاية المطاف’’ (عبد الناصر المودع، دليل المصطلحات السياسية، ص 121، 2006م، الطبعة الثانية، صنعاء: مركز التنمية المدنية، مؤسسة فريدريش إيبرت). وثمّة من يذهب إلى أن الوعي بها نشأ في العصر الوسيط، وإن كانت صفتها برزت في القرن السادس عشر( فواد وهبه، المعجم الفلسفي، ص282، 1998م، د.ط، بيروت:دار قباء)، وإن ذهبت بعض المعاجم إلى أن الحداثة لم تظهر إلا بعد اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789م، أي في القرن الثامن عشر (ملحق التعريفات التابع لكتاب العلمانية تحت المجهر، عبد الوهاب المسيري، وعزيز العظمة، مرجع سابق ص 311، إعداد: محمّد صهيب الشريف). وذلك كلّه يعني في نتيجته حقيقة موضوعية واحدة هي أن الحداثة وفقاً لسياق النشأة والتداول الغالب اليوم لاتعني سوى التغريب ((westernization، وليس التحديث أو (التجديد) (modernization) ، وهو ما أقرّ به الفيلسوف المغربي الراحل محمّد عابد الجابري في سياق مقارنته بين الموقف من الفلسفة لبعض المدارس الإسلامية القديمة وبين غيرها، بما يشبه الموقف اليوم من الحداثة ’’ باعتبار أن الحداثة لا تعترف بمرجعية أخرى غير العقل، ولكنها حداثة لا تخلو – مثل حداثة اليوم- من نوع من (الاغتراب) في فكر (الآخر)’’ . ثم يؤكّد فكرته بالقول:’’ ونحن عندما نستعمل هنا كلمة (اغتراب) فإننا نعني ما نقول...’’( محمّد عابد الجابري، مقدّمة كتاب ابن رشد( فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال)، ص 48، 2002م، الطبعة الثالثة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية).
لذلك وغيره فإني لا أسمح لنفسي بتجاوز المنطق المنهجي فأستعير مصطلحات ذات دلالات لا تعبِّر عن السياق الحضاري الذي تنتمي إليه أمتي وحضارتي، بل أعمد إلى مصطلح المعاصرة أو (التجديد) فأدور في إطارهما بحثاً واشتغالاً فكرياً، إذ الثاني –بوجه أخص- مصطلح عربي إسلامي ذو دلالات واضحة وصريحة، وفق سياقه التاريخي كذلك، وفي الحديث الشريف:’’ يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدّد لهذه الأمة أمر دينها’’ (أخرجه أبو داود في السنة، وأبو عمرو الداني في الفتن، والحاكم في المستدرك ، والبيهقي في معرفة السنن والآثار، والخطيب في التاريخ، والهروي في ذم الكلام، كما أورد ذلك الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وحكم على الحديث بالصحة، وعّد رجاله ثقات رجال مسلم انظر: محمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1403 هـ - 1983م، الثالثة، بيروت ودمشق : المكتب الإسلامي ، جـ 2 ص 150 – 151، حديث رقم (599) ).
إن التجديد – ياسيّدي- يتضمّن استنبات الحل في أصله من الذات، وفق مشكلاتها الذاتية والبيئية والحضارية، والتفاعل الإيجابي معها – لا الانفعال السلبي – في ضوء التحديات المفروضة عليها من خارجها (الآخر)، على حين أن (الحداثة) قامت ولا تزال دلالاتها منصرفة إلى (التغريب)، الذي يفرضه القوي المهيمن على الضعيف المستلَب، حيث يفرض -من ثمَّ- أنموذجه في التغيير والإصلاح حتى لو جاء ذلك معتسفاً لحقائق التاريخ متصادماً مع الواقع الموضوعي. وخذ هذا المثال عن عملية تفويض حق الشعب التي أشرت إليها، فإن التجديد فيها يعني هنا إحياء أمر قد اندرس، بسبب غلبة التخلّف إبّان عصور الانحطاط الثقافي التي طغت على المجتمع العربي الإسلامي من بعد القرن الخامس الهجري، وطلّت تتحكم على نحو أو آخر في مناهج التفكير عند بعضنا حتى اليوم، لاسيما في الشأن السياسي وتطبيقاته المتغيّرة. وصحيح أن ليس كل أمر نعمل على تطبيقه اليوم، أو نضطر إلى ذلك؛ لابد أن يكون له سلف وأسوة لدى السابقين من السَلَف، بيد أن مسألة التفويض الشعبي هذه ذات سَلَف، من خلال التطبيق العملي الذي تمّ بالفعل، في العصر الأول للإسلام، أي عصر الراشدين، وهنا المفارقة اللافتة. لقد انتخب المسلمون الأوائل عثمان بن عفّان- رضي الله عنه- ليدير أمورهم ويسوس دولتهم الفتيّة، بناء على اختيارهم وقناعاتهم وتفويضهم له،وتلك تجربة عملية يثبتها المؤرّخ ابن كثير(ت:774هـ) -على سبيل المثال وهو مؤرخ وإمام (سَلَفي كبير)- إذ يروي في تاريخه أن عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- الذي يمكن وصفه اليوم برئيس لجنة الانتخابات والترشيح، ظلّ يستشير الناس -ولمّا يُدفن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بعد- في مرشحي الخلافة بعد عمر: عثمان بن عفّان أم علي بن أبي طالب؟ واستمرّ ’’ يجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس، وأقيادهم جميعاً وأشتاتاً، مثنى وفرادى، ومجتمعين سرّاً وجهراً، حتى خلص إلى النساء المخدّرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة، في مدّة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان، في تقدّم عثمان بن عفّان، إلا ما ينقل عن عمّار والمقداد أنهما أشارا بعليّ بن أبي طالب، ثمّ بايعا مع النّاس على ما سنذكره، فسعى في ذلك عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها لايغتمض بكثير نوم إلا صلاة ودعاء واستخارة وسؤالاً من ذوي الرأي عنهم، فلم يجد أحداً يعدل بعثمان بن عفّان -رضي الله عنه- ’’(البداية والنهاية، ج7، ص146، د.ت، د.ط، الاسكندرية: المكتب الجامعي الحديث) .
تساؤلات مشروعة:
ولك الآن أن ترجع بفكرك بعيداً لهذه الممارسة التاريخية ذات الأهمية البالغة، كي تستنتج من خلالها أن لا مشكلة جوهرية بين الممارسة(الديموقراطية) التي أحبذ وصفها شخصياً بـ(الشوروية)، وبين ما تنادي به -كما آخرون- من ضرورة التفويض الشعبي...إلخ بيد أن ذلك لايؤذن باستعارة كاملة للنموذج الغربي(الديموقراطي)، إذا ما أدركنا حقيقة الذات قبل الانبهار بحقيقة الآخر. واسمح لي أن أصارحك القول - وأنت أخ سبَّاق إلى ذلك- : إن مشكلة المشكلات عندنا- ضعف إدراكنا بحقيقة الذات من خلال معين القرآن الكريم وصحيح السنة المطهرة، قبل أي مصدر آخر. وأدرك أنك ستبادر إلى القول ولكن وفق فهم أي مدرسة أو مذهب، وهنا أرجو أن تصلك نسخة من دراسة سابقة لأخيك حول إشكال من يمثل الإسلام؟ تلك التي صدرت قبل أكثر من عامين عن مركز الناقد الثقافي بدمشق، مع جملة دراسات أخرى، بهذا العنوان.؟ واسمح لي فقط الآن أن أذكّر بجزئية منها فيما يتصّل بظاهرة المدارس المتعارضة، فهذه حقيقة ثابتة – أعني التعارض والاختلاف حتى في الأصول والكليّات- في كل الأديان والفلسفات والمدارس والأفكار والاتجاهات الدينية والسماوية، العلمانية والأرضية، المؤمنة والملحدة، غير أن ذلك لايؤذن لدى أيّ منها بضياع الحقيقة، أوبسلامتها جميعاً، من حيث السويّة في الفكر أو الاستقامة في المنهج، وإلا فأنت تعلم -قبل غيرك- أن الديمقراطية ألوان شتّى، وأن الاشتراكية كذلك مذاهب قِدداً، بل العلمانية – أيها العزيز- نماذج وصور فيها من التناقض والاحتراب أحياناً ما لايخفى على مثلك، فهل العلمانية الفرنسية كالبريطانية كالأمريكية – على سبيل المثال- ؟ بالقطع ليست كذلك؟ وها أنت ذا تدعو للأخذ بهذا النموذج فأي النماذج تعني؟ وهلاّ وقفت مع نفسك وقفة تساؤل علمية موضوعية صادقة- كعهدي بك- أيّ النماذج نأخذ؟ ومن الذي يمنح واحدة منها المشروعية ويحرم سواها؟وكيف سنواجه من سيعارض النموذج المختار من قبل فئة، نفذت إلى السلطة، بأي طريقة، مشروعة أو غير مشروعة، أو تمكنّت من إقناع صانع القرار بالعلمانية؟ على افتراض أن ذلك أمر ممكن الورود، ولن يواجَه من عموم المجتمع المتديّن، بانتفاضة أو ثورة شعبية شاملة؟ أرجو أن لا تقول لي فقط: مهما يكن الأمر فليس أحد يدّعي لأي منها قداسة السماء، بخلاف اختلاف (المتديّنين)، حيث يدّعي كل منهم وصايته على الدين باسم السماء. ولئن قلت لي ذلك أولم تقل فلا أستبعد أن يقول ذلك بعض من قد يطلّع على حوارنا، أو من يؤمن بالعلمانية كـحتمية (دوغماء) لاتقبل سوى الانصياع والإذعان. وحينها أجدني مضطرّاً لأن أسترسل فأذكّر بأن ليس لأحد أن يصف الفكر الإسلامي الوسطي{ وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}(البقرة:143) بصفات التحدّث باسم السماء، أو أن يشبّهه بالحكم الديني الثيوقراطي الكهنوتي(الكنسي) الذي حدث في أوروبا على مدى قرون متطاولة، على يد رجال الديّن هنالك، ذلك أنه وإن وجد عندنا من قد يمارس مسلك البابوات ورجال الدّين؛ فإنّه يمثل وضع الشذوذ، وإلا لما كان لسان حال الأئمة العظام ومقالاتهم كالأئمة الأربعة وسواهم تؤكّد أن ليس للعالم أو المفتي أن يجزم بالحل والحرمة في كل مسألة تعرض له، وإنما يقدم رأيه وفهمه لا أكثر ولا أقل، ولولا خشية الإطالة لأوردت عليك بعضاً من ذلك، لكني جمعت بعض أقوالهم في هذا الباب في دراستي المشار إليها في كتاب( من يمثل الإسلام؟)، وحسبي في هذا السياق الإشارة إلى ذلك التوجيه النبوي العظيم الذي يخاطب فيه النبي – صلى الله عليه وآله وسلّم- قادته العسكريين – على سبيل المثال – بقوله: ( ........ وإنك إن حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على رأيك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا )(مسلم، صحيح مسلم (بشرح النووي) ، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته بآداب الغزو وغيرها عن بريدة بن الحصيب، د.ت ،د .ط ، القاهرة المكتبة الأميرية ومطبعتها، جـ 12 ص39 – 40). فالاتجاه الغالب – أيها العزيز- في كل عصر هو اتجاه الوسطية الإسلامية، أي السواد الأعظم من المسلمين، من مختلف المذاهب والطوائف المعروفة بـ(أهل القبلة)، استناداً إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن أنس بن مالك’’ من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم الذي له ذمّة الله ورسوله’’، وهذا الاتجاه يبرأ في مجمله من ذلك المسلك (البابوي) الشائن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فذلك الوصف ذاته أعني احتكار الحقيقة والتحدّث باسم المطلق والنهائي؛ ينطبق على الاتجاه العام لـ (العلمانية)، من حيث التطبيق والواقع، في الغالب الأعم، لا من حيث الشعار والإعلان، ولا يعنيني أكثر من الأول، ذلك أن الشعار مالم يجد له مصداقية مجسّدة لأحقيته كاتجاه عام أو غالب يظل شعاراً فارغ المحتوى والفاعلية. وكي لا نقع في ازدواجية المعايير فإنك إن قلت لي: الأخطاء في التطبيق لاتعني فساد النظرية ضرورة فسأجيبك لماذا تستقيم هذه القاعدة في اتجاه العلمانية ولاتستقيم في اتجاه الفكر الإسلامي، مع فارق جوهري لصالح الفكر الإسلامي يكمن في أنّه ظل فاعلاً مؤثّراً – بأقدار متفاوتة- طيلة أكثر من أربعة عشر قرناً على حين أن كل المقدّسات والأيديولوجيات (الوضعية) تلاشت في بضعة عقود، ولم يبق لها سوى نخب متناحرة غالباً، معزولة عن الفاعلية والتأثير المجتمعي، وما ظل منها حاكماً فقد نُسخت نظريته عملياُ، ولم يبق من جوهر الفكرة الأصلي سوى العنوان، أمّا تطبيقها فلايقارن بتطبيق النظرية السياسية الإسلامية، على مدى القرون السابقة، أيّاً ماشاب بعضها، من خلل أو انحراف، ولعلك تلاحظ معي أنّ كل الضربات التي وجّهت للإسلام؛ لم تقض عليه بل زادته قوّة إلى قوّته، إذ يخرج كل مرّة، أكثر قوّة وصلابة من السابق، كالذهب الذي لا تزيده قوّة الطرق إلا لمعاناً، ولك أن تلاحظ هذا في حجم التآمر على الإسلام في أيامنا داخلياً وخارجياً، مع ما يعلمه الجميع من الوضع البائس للمجتمعات الإسلامية، وذلك يؤكِّد أن قوّة الإسلام الذاتية المستمدة من قوة أساسه، وثراء ينبوعه هي المحكّ الفاصل بينه وبين كل الأيديولوجيات والمقدّسات البشرية؟!!!
مفارقة : المقدّس الديني أم العلماني؟
* إنّّ ما يوصف بالمقدّس((Sacred الديني ليس المشكلة الكبرى حقيقة، بالقدر الذي يؤكّد أن إحلال العلمانية ليس الحلّ السحري لمجتمعاتنا. ومع التأكيد على أن الاستبداد والعسف والطغيان قد يرد تحت دثار الدِّين أو العلمانية؛ لكن المفارقة التي ينبغي أن لانمرّ عليها مرور الكرام تشير إلى أمر غاية في المفارقة، ذلك أن كل من أراد أن ينال من المقدّس إنما يشير إلى المقدّس الديني، دون غيره من مقدّسات العلمانية، على حين أن كل الشواهد تدلّ أن أبرز الطغاة الذين حكموا العالم المعاصر الشرقي والغربي أغلبهم إن لم يكن جميعهم ممن ينتمون إلى تيار العلمانية، وليس التيارات الدينية، وإذا كنتُ جريئاً فأذكر بعض رموز العلمانية الشيوعية السوفيتية أو الغربية أو الصينية أو سواها كاستالين ولينين وهتلر وموسوليني، أو ماوتسي تونج وحتى بوش الابن، وسواهم من مختلف القارات والبلدان، غير أني أصدقك القول: إني لا أجرؤ أن ألمِّح إلى بعض (المقدّسات) العربية العلمانية– كي لا أفقد بعض أصدقائي وربما بعض قرّائي- ذلك أن حجم الهالة وضخامة التقديس بل (إخلاص العبادة) على الطريقة العلمانية طبعاً، تلك التي صنعت حولهم هالة (الكهنة)، بحيث لا يسمح بانتقاد أو حتى إبداء ملاحظة لدى بعضهم، تحول دون ذلك التصريح، أو الجبن – إن شئت الدّقة- !! ورحم الله الراحل العزيز حميد شحرة الذي أشار في ذات مقال بمجلة نوافذ إلى أن كثرة الحديث عن المهدي المنتظر لابد له من مراجعة، إذ لا يعقل أن يظهر المهدي – وفق مذهب المؤمنين بقدومه- في عالم لايزال يقدّس أمثال الرمز فلان وفلان وهم على غير منهج المهدي قطعاً(وعدّد شخصيات مقدّسة عند اليمين واليسار)، فلم يغفر له بعضهم وجهة نظره، بل لقد قال لي رحمه الله في ثنايا استغرابي لسرّ ذلك الهجوم العنيف عليه: أتدري ممن أتى أقسى الردود؟ فسألته ممن ياتُرى؟وظننت أنّه سيشير إلى أحد المراهقين المتهوّرين، لكنه ذكر لي شخصية يسارية مسنّة نسبياً، يعلو سمتها الظاهري الوقار، واشتهرت منذ سنوات بالتنسّك والزهد، ذلك أن حميداً مسّ مقدّسه (الفرد)!!
فبالله عليك – عزيزي ناصر- ما المقدّس في أعلى درجات الغلوّ إن لم يكن ذلك تقديساً للعباد، لكن تركيز بعضنا السلبي –للأسف- على المقدّس الديني وحده، أفقده التوازن، وراح يجري وراء سراب (مقدّس) لاشعوري هو العلمانية ؟!
بتعبير آخر أليس مثيراً للعجب حقّاً أن يأتي من يعمل على إقناعنا اليوم بأن سبيل التحرّر من القمع وانتهاك الحقوق والحرّيات، وإخراجنا من دائرة الاستبداد والظلم والتخلّف إنما يكمن في إعلان موقف رافض للدين بمفهومه الحضاري الشامل، واستيراد (دين) بِدْعي غريب جديد على مجتمعاتنا–وإن لم يعترف بذلك أنصار العلمانية لكن العبرة بالتطبيق لها كمنهج حياة-.
يقول المفكّر المصري رفيق حبيب ( وهو من عائلة مسيحية شهيرة في مصر) :’’ والحق أن العلمانية ليست التعبير الدقيق فالفكرة والكلمة في القاموس الغربي هي الدنيوية في مقابل الدينية، وهي أيضاً غير المقدّس في مقابل المقدّس . ومن هذه الرؤية تم نزع الضمير عن العقل وأصبح الأخير مرجعه بيولوجياً ومادياً، لأن العقل هو أكثر جهاز بيولوجي متقدِّم ووظيفته أصبحت تحقيق الّلذة البيولوجية ، لذلك أصبحت المادة (تتقدّم) من خلال مرجعية مادية متحرّرة من كل قيد (معنوي)،غير مادي مفارق للمادة ومتجاوز للطبيعة.
ولنا أن نرى الصورة بأسلوب آخر فليس صحيحاً أن الحضارة الغربية بلا مقدّس، بل هي بلا ضمير مقدّس، فنزع القداسة عن الدِّين والضمير والأخلاق ، أو بمعنى آخر تنحية هذه التكوينات المعنوية كان – وما زال- يعني أنّ القداسة تمّ سحبها من مجال المثال المتجاوز للمادة إلى المادة نفسها، فالحاصل أنّ الّلذة أصبحت مفهوماً مقدّساً، وكذلك مجتمع الوفرة والرفاهية والاستهلاك ، وكل هذه المنظومة المادية . لذلك فالعقل الحرّ يمارس حرّيته من خلال اعترافه الضمني بقداسة الرؤية المادية ، فأصبح حرّاً من الضمير ، وأسيراً للرؤية المادية ، لذلك فإن أيّ تفكير ينزع القداسة عن المادة ، يعتبر تفكيراً ظلامياً وخارج العصر’’ ( رفيق حبيب، المقدّس والحرّية،ص 10- 11، 1418هـ- 1998م، الطبعة الأولى، القاهرة وبيروت: دار الشروق).
ويتابع:’’ بهذا المعنى نرى أن لكل حضارة مرجعية مقدّسة، لا يمكن المساس بها. وهذه المرجعية قد تكون مستمدة من الضمير والقيم والدّين، أي متجاوزة لعالم العمادة، وقد تكون ملتصقة بالمادة ونابعة منها. لهذا فروح العصر تقدّس المادة، عندما جعلت العقل مرجع نفسه، والإنسان مركز الكون، ثمّ تح. ومع نهاية القرن العشرين تحوّلت القداسة شيئاً فشيئاً، فيما يسمّى بما بعد الحداثة، فأصبحت القداسة للمادة التي أصبحت مركز الكون . تلك الرؤيا السائدة لدى الحضارة الغربية، هي ما يتمّ زرعه في أوساط العرب والمسلمين، منذ قرنين من الزمان تقريباً. ومع نهاية القرن العشرين أصبحت هذه الرؤية سافرة على أمّة الوسط ، في محاولة لزرع قداسة العقل والإنسان والمادة، في مواجهة قداسة الأخلاق والقيم والدّين’’( المرجع السابق، ص 11).
ويوجز رفيق حبيب رأيه في هذا بقوله:’’ وحتى نحرّر المسألة؛ نؤكّد ما وصلنا إليه سابقا، من أن العلمانية هي نزع القداسة عن الدّين، أي عن المقدَّس، وجعل المادي والدنيوي وغير المقدّس مقدَّساً ضمنياً. وما أردنا تأكيده أن أيّ حضارة تبدأ ببديهيات لا تقبل الجدل ومسلّمات يفترض صحتها ولا يتم التشكيك فيها، وهذه النقاط المرجعية هي المقدّس، حتى وإن كانت أفكراً مادية وغير إنسانية. وبالتالي نتصوّر أنّ المقدّس ضرورة، لأنه الغاية النهائية الكامنة في أيّ رؤية ، والتي تحدّد تمسك الرؤية واستمرارها وقدرتها على إعادة إنتاج أفعالها ... من هنا نؤكِّد ضرورة المقدّس، وعليه يجب أن نحدّد موقفنا لابين الارتكان للمقدّس من عدمه بل بين أن يكون المقدّس هو الضمير أو يكون العقل الحرّ النفعي. فالتصوّر العلماني يفرض علينا مقدّسات، تحت شعارات تنادي بتحرير العقل من قيود المقدّسات.
وبالتالي فما نواجهه اليوم هو صراع بين مقدّس وآخر، أي بين قبول الرؤية المادية كمقدّس، أو إعادة إفعال مقدساتنا، والتي تنتمي للضمير والدّين والأخلاق . فالاختيار بين تقديس المادة، وتقديس المعنى. وفي النهاية فالقداسة ضرورة والاختيار بالتالي حتمي’’ ( المرجع نفسه، ص 12-13).
وحاصل القول: إنّه إذا كان دين الإسلام يمنح كل من يعيش في كنف حضارته حرية فردية وجماعية قلّ نظيرها، بشهادة بعض رموز الديانة المسيحية ( راجع: القرضاوي: بيّنات الحل الإسلامي،ص 231- 247 )؛ فإن الدين الجديد (العلمانية) ليس بأكثر من قهر لأغلبية المجتمع، وإقصاء للمخالف من داخل الدائرة، وسقوط في شرك الازدواجية فجّة في المعايير، على حين يتم استعارة خرقاء لمقدّس الآخر المهيمن ونموذجه ومعاييره، كي تصبح وحدها المطلق والنهائي والقول الفصل !!
ألا ترى أن بعض العلمانيين يدّعي لعلمانيته أو اتجاهه الفكري أو الأيديولوجي (قداسة) من نوع ما قد تكون أبلغ من قداسة السماء، ولا تختلف في شيء عن قداسة غلاة المتدينين وتطرّفهم؟ وإلا ففسّر لي ظاهرة الاحتراب المسلّح بين الفئات العلمانية في أكثر من قطر، ولعلك تذكر – على سبيل المثال- أن الحركات القومية واليسارية في عالمنا العربي – على سبيل المثال- علمانية ( لا نزاع في ذلك)، وقد حدث بينها من الاقتتال تحت عناوينها (المقدّسة الخاصة)( القومية- العروبة - الوحدة- - الاشتراكية- الدفاع عن الطبقات الكادحة- العدالة الاجتماعية- الوطن- العروبة...إلخ) ضد قائمة الشرّ المطلقة ( الرجعية- الأصولية- القوى المتطرفة الإسلاموية- حركات الإسلام السياسي ...إلخ)، وفي سبيل القضاء عليها استباحت كل محرّم كتدنيس قداسة الدّين، أو انتهاك العرض والشرف والكرامة، أو التفريط بالسيادة، والتبعية لهذه القوة المهيمنة أو تلك، وهل الصراع الداخلي الشهير يبن جناحي حزب البعث في العراق وسوريا طيلة العقود الماضية، أو صراع المجموعات الماركسية المسلّحة التي كانت تحكم جنوب اليمن، وما عرف بمحرقة 13 يناير عام 1986م، إلى حدّ أن بلغت درجة التصفية على الهويّة – على سبيل المثال-، عدا الصراع الشهير بين البعثيين والشيوعيين في العراق أو سوريا أو مصر، إلا أمثلة محدودة من أمثلة عدّة، لكن كأني بآخرين ممن يشايعون مقولة (الحلّ العلماني) سيقولون: سلّمنا بأن البلاد ذات الأغلبية المسلمة المتجانسة لاتستدعي العلمانية فكيف بالبلدان ذات الإثنيات والطوائف الدينية والعرقية المختلفة الكبرى كلبنان أو العراق، أو حتى الهند أو نحوها، هل يمكن النزاع بأن العلمانية هي الدواء الناجع والحل الحتمي في مجتمعات مختلفة كهذه؟! وأجدني من منطلق العقل والشرع والواقع أنازع في ذلك جدّا، بل أرى أن ذلك إنما يؤيّد وجهة النظر الأخرى القائلة إن العلمانية في المجتمعات الإسلامية كارثة مجتمعية محقّقة، وفي غير الإسلامية لا تمثّل حلّاً كاملاً، بدليل جملة من الوقائع التي أكّدت ذلك، وسأشير إلى طرف يسير منها لاحقاً، ولكن قبل ذلك دعنا نناقش النموذج العلماني الفاقد لروحه التي يزعم أنها سرّ بقائه وتفوّقه وهي (الديمقراطية)، على حين أنه لايعلن اعترافه بخطيئة دعواه، حين يجد نقيض ذلك على الأرض، في غير ما تجربة، بل يمضي ليقدّم تبريرات (متهافتة)، تشعرك بأن العقل والأخلاق معاً غير معتبرين في مقاييس النماذج العلمانية، بل المصالح وحدها، حتى لو كانت ظالمة فاشية قاتلة للديمقراطية (المفترى عليها)، وذلك هو الانعكاس العملي للفلسفة التربوية البراجماتية في أبشع صورها !
علمانية بلا ديمقراطية:
إذا كان بعض المؤمنين بحتمية الحل العلماني يحاولون تبرير الإخفاق الذريع الذي منيت به العلمانية في أكثر من مجتمع؛ بأنّه لم يتلازم مع الديمقراطية؛ فبالله عليك أجبني ما الذي يتبقى من العلمانية إذا فرّغت من جوهرها الديمقراطي هذا؟ أو – بالأصحّ- نُزعت منها روحها التي تباهي بها كل التجارب الأخرى؟! أي بأن تصادر حقوق أغلبية المجتمع الإسلامي – أيّ مجتمع- إذا فرضنا عليه الحل العلماني إرضاء لرغبة (نخبة) معزولة، لاقيمة لها في الضمير الجمعي للمجتمع، ولا تأثير يذكر، كمّاً ونوعاً! ومعذرة لهذه المصارحة التي ربما تزعج بعض الأصدقاء والزملاء. واسمح لي هنا بأن أورد رواية ذات مغزى حكاها الشيخ المجاهد الراحل محمّد الغزالي وتكشف جانباً من أزمة الوعي لدى الاتجاه العلماني بعامة، فيروي الشيخ أن حواراً جرى بينه وبين شخص (يدّعي العلمانية والديمقراطية)؛ حين بادره الشيخ بالسؤال عن معنى الديمقراطية، فأجاب الرجل -في زهو-: أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، فردّ عليه الشيخ أكْمِل التعريف، فردّ الرجل بأن هذا هو التعريف بأكمله، فألح عليه الشيخ إلا أن يكمل التعريف، فردّ الرجل بإصرار أكبر، وثقة لامجال فيها للشك، بأن هذا هو التعريف ولا مزيد عليه، فردّ الشيخ: إن بقية التعريف عندكم أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، إلا أن يكون الشعب مسلماً، فلا يحق له ذلك!!
إن عدت وقلت لي إن استشهاد خصوم العلمانية بالنماذج التي حكمت سوريا أو العراق أو مصر أو تونس أو تركيا أو جنوب اليمن (سابقاً) علمانيات منقوصة، لأنها افتقدت شرطاً أساسياً فيها وهو الديمقراطية، وعلى افتراض أن ذلك أمر مسلّم به لدى كل من يؤمن بالحل العلماني، وأن ذلك بات اعترافاً من الجميع بخطيئة الإقصاء والمصادرة التي لحقت ببعض فرقاء العمل السياسي والفكري في السابق، وفي مقدّمتهم ذوو الاتجاهات الإسلامية؛ وأن ذلك الاعتراف إعلان رسمي بالتوبة بعد الخطيئة؛ فإن اعتراضاً آخر وجيهاً على منطق كهذا سيرِد من داخل فلسفة العلمانية ذاتها، وذلك حين تطالبها بان تكون ديمقراطية، بمعنى أن تسمح لجميع قوى المجتمع وفعالياته الحيّة بالمشاركة بمن فيهم الإسلاميون، مع أن الإسلاميين هم الأغلبية التلقائية عادة، (والنموذج التركي خير شاهد)؛ لكن التناقض السافر والساخر معاً سيبرزان بفجاجة ما بعدها فجاجة، حين تأخذ العلمانية باليسار ما تظن أنها قد أعطته باليمين، أي أن الشجعان من أبنائها الذين ينتقدونها من الداخل ويعترفون بجريرة قهرها وتسلطها وإقصائها لأكبر القوى الحية في المجتمع– وهم يقصدون الإسلاميين بطبيعة الحال- سينزعون روح الإسلاميين في الوقت الذي يطالبون فيه بالسماح لهم بالمشاركة السياسية، لأنهم إذ يطالبون العلمانية بالتوأمة أو التلازم مع الديمقراطية؛ فإنهم يطالبون الإسلاميين في الوقت ذاته بأن يتخلوا عن مقوّمهم الأساس وهو الإيمان بشمول الإسلام للنظام السياسي والاقتصادي والتربوي والإعلامي والصحّي والمجتمعي من الناحية الأخلاقية والسلوكية، وأن يقتصر برنامجهم على جوانب الخدمات والتنمية البعيدة عن كل ما يشي إلى الإيمان بتدخّل السياسة أو الاقتصاد أو التربية أو الإعلام في الدين، مع أن دينهم يمثّل القاعدة الأساس الموجّه لهم في برنامجهم الخدماتي هذا وسواه، مما يزعج سدنة العلمانية السماح لهم بالإعلان عنه، وذلكم هو الفاصل الجوهري بين الإسلاميين وفرقائهم في الغالب، في أيّ مجتمع، من الناحية الفكرية أو الفلسفية!
نموذج العلمانية في العراق:
وإذا كان البعض يأبى إلا أن يصوّر النموذج الحالي الذي يحكم العراق وما يمثّله من انتهاكات خطيرة جدّا لحقوق الإنسان، بأنّه نتاج حكم (رجال الدين) أو المؤسسة الدينية ليستدل من خلال ذلك على حتمية الحلّ العلماني الذي كان يحكم العراق قبل سقوطها في 2003م؛ فإن تلك مغالطة مركّبة، تستأهل التعليق، إذ إن العهد الجديد إن هو في الواقع إلا إفراز صارخ لواحدة من أكبر مخرجات أكبر الدول علمانية في العالم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، فهي التي تدخّلت لإسقاط الحكومة (الدكتاتورية) السابقة، بالمدفع والدبابة والطائرات، والصواريخ والأسلحة المحرّمة دولياً، وليس عبر الصندوق وبالوسائل الديمقراطية، أو لأن التغيير هناك قد جاء عقب انتفاضة شعبية داخلية حرّة مستقلّة، ولكن تم الاحتلال العسكري للعراق تحت دعوى كاذبة مضحكة هي امتلاك العراق لسلاح الدّمار الشامل، وهي أكذوبة مخزية، ثبت سخفها وانحطاطها قبل أن تبدأ الولايات المتحدة بتدمير العراق إنساناً وبيئة ومؤسسات وعلماء، وكل ما كان مشرقاً فيها، لتعيده إلى ما قبل عهد القراءة والكتابة والطباعة، وقبل أن تعلن الوكالة الدولية للطاقة الذريّة أمام العالم أجمع أن لا حقيقة لوجود سلاح دمار شامل في العراق، ولكن جاء ذلك الإعلان بعد خراب البصرة، بل العراق كلّه، بالتنسيق مع جملة من المرتزقة، أغلبهم ينتمي إلى المؤسسة الدينية (التقليدية)، وهم الذين تسنّموا مقاليد الأمور هنالك، وغدو ذوي الصوت العالي بل الحاسم!!! ويتلقّون الدعم المطلق من الإدارة الأمريكية، وعلى حين تعلن الولايات المتحدة عداءها المطلق لإيران، التي تصف حكمها بحكم (الملالي) و(رجال الدّين)، وتتوعدها بالعقوبات القاسية، بل تذهب أحياناً إلى خيار الحرب العسكرية معها؛ فإن دعمها لا ينقطع عن أبرز حلفاء إيران و (رجال الدّين) في العراق، لكن ذلك كلّه لن ينسينا أن جريمة احتلال العراق وتدميره باتت مجلجلة مضاعفة، أكثر من أي وقت مضى، بما كان يستدعي عقاباً رادعاً من المؤسسة الدولية للمحتل، ومحاسبة داخلية عسيرة في دولة المؤسسات العلمانية، لمهندسي الحرب الكبار؟ أمثال مجرم الحرب رامسفيلد – على سبيل المثال- وكبير الإرهابيين (بوش)؟ وسيئة الذكر (كونداليزا رايس) هل حوكموا، وأودعوا السجون، من ثمّ؟ أم أنهم يتمتعون بكل امتيازات (القادة التاريخيين الأبطال)؟!! ولكن – من جانب آخر – أعود مع نفسي فأتساءل: أليس من السخف وضع أسئلة كهذه إذا كانت سياسة بوش من الناحية الجوهرية والعملية – دعوكم من الأشكال والدعايات الإعلامية في الانسحاب الصوري ونحوه- مستمرة في العراق، كما في أفغانستان، في عهد من ظنّه البعض (مخلّصاً) جديداً ؟!
وعلى افتراض حسن النيّة أو السذاجة وأن الإدارة الأمريكية وقعت تحت تأثير الخداع من قبل عملائها (ذوي العمائم)، وسواهم، فبنت على ذلك قرارها المشئوم بالحرب القذرة؛ فإنّه كان المتوقّع منطقياً وأخلاقياً أن لا تستمر الإدارة الأمريكية السابقة أو الحالية في دعم تلك الحكومات العميلة، بل أن تنفض أياديها عنهم، وتعلن أمام العالم براءتها منهم، ذلك أن رموزها استغفلوها فأوهموها بوجود سلاح شامل ولا حقيقة له، بيد أن أم الديمقراطيات المعاصرة، وإن شئت فقل (النموذج العلماني الأبرز في العالم) الذي يباهي بأن نموذجه العلماني فريد، إذ هو قائم على الفصل بين الدين والدولة، حماية للدين من الدولة، على خلاف النموذج الأوروبي الذي يفصل بين الدّين والدولة حماية للدولة من الدِّين؛ استمر في دعم سلطة ( رجال الدين) من (ذوي العمائم) ومؤازرتهم ليحكموا العراق(الحديث)، بعد أن أحالت سياساتها أرضهم يباباً، إذ منحتهم المشروعية المطلقة، وحمتهم بقواتها العسكرية، وصارت العراق – بفضل سياسة الولايات المتحدة الخارجية- تحتل المراتب المتقدّمة في سلّم الدول الفاسدة، وفق آخر تقرير لمنظمة الشفافية الدولية للعام 2009م، ودفعت هذه السياسة بشركات الحماية الخاصة سيئة السمعة كـ( بلاك ووتر) وسواها، إلى أن تسلك منهج المتوحّشين البرابرة، ضدّ أبناء العراق، خارج القانون، ولم تحاسب أحداً فرداً أو مؤسسة على جرائمه، سواء كانوا عراقيين أم أمريكيين ، تلك الجرائم التي فاقت كل خيال، إذ استعملت أساليب جهنمية في سجونها المتوحِّشة وأشهرها (أبو غريب)، وانتهكت حقوق الإنسان على نحو قل ّ أن يوجد له نظير، وكم من أفراح استحالت إلى أتراح، تحت دعوى ملاحقة المجموعات الإرهابية! ولك الآن أن تتساءل معي كيف يحدث ذلك التناقض كلّه ؟ أي أن تدعم أكبر دولة علمانية (رجالات دين) أساءوا إلى الدين والدنيا معاً، ومثّل نموذجهم في الحكم الصورة إن لم تكن الأبشع؛ فإنها لا تقلّ بشاعة عن أسوأ النماذج في المنطقة، أم أنها السياسة أولاً وآخراً، فلا يعصم شعار دين أو علمانية من يسير في ركاب الشرّ، ويبيّت للظلم والعدوان، وإذاً فلماذا نرفع عقيرتنا بأن الحل السحري كلّه يكمن في النموذج العلماني، وأن القضاء على الصراعات الطائفية والإثنية، إنما يتم من خلال الحل العلماني لاسواه، على حين نجد أن أكبر الدول العلمانية تدعم نموذجاً (دينياً) للحكم في العراق – مثلاً-؟!!
ويبقى من الضروري هنا التأكيد على أن الحكم الذي كان يحكم العراق قبل السقوط على أيدي قوات الاحتلال وعملائها كان نموذجاً علمانياً، وليس دينياً، ذلك مؤكّد، لكن السؤال الأهم هنا : هل تعايش الجميع في ظل ذلك الحكم حقّا؟ الواقع يشهد أن الجميع لم يتعايش، وإنما كان مقموعاً، والقمع لايعني القناعة، وهذا شأن الديكتاتوريات التي تحكم بالحديد والنار في القديم والحديث، ترعب المجتمع بسياساتها القمعية، فيعيش الناس كالقطعان، فيصوّر الحاكم وزبانيته ذلك على أنّه أمن واستقرار وتعايش، وشتّان بين منطق قطع الطريق ومنطق البطولة! وفي النموذج العراقي(العلماني) السابق للاحتلال: كم من علماء دين أحرار معتدلين(وسطيين) من السنّة قبل الشيعة، دخلوا السجون، وبعضهم مات تحت التعذيب، وانتهكت كرامته، وربما جرّ ذلك وبالاً على عائلته، وبعضهم الآخر عاش مشرّداً، كما أن بعضهم الآخر، تناسى كل الذي جرى له أو لآسرته أو لإخوانه، وراح اليوم ينزوي في إطار المشروع الطائفي الخاص به كردّ فعل أعمى على الطرف الآخر، ثم إنه كان في إطار ذلك الحزب (العلماني) شُلل ومراكز قوى، أهمها العشيرة، بل الأسرة، وذلك إفراز آخر من إفرازات العلمانية في منطقتنا! أقول ذلك لأن دعاة الحلّ العلماني يحمّلون الدَّين تبعات كل سلوك منحرف ممن يدّعي انتساباً إليه، دون أن يحمّل الطرف العلماني الوزر ذاته !
العلاقة بين الدين والسياسة في الولايات المتحدة:
عزيزي ناصر:
لعلك مطّلَِع على بعض الأطاريح أو الدراسات أو التقارير أو المقالات التي تناولت علاقة الدّين بالدولة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومدى تأثير العامل الديني على صانع القرار السياسي هناك؛ إلا أني لا أدري إن كنت قد اطّلعت على أطروحة الدكتوراة التي تقدّم بها الدكتور يوسف الحسن عن البُعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني؛ وفي ظني أنها تعدّ من أوفى تلك الدراسات وأعمقها، حيث خلصت – وأستميحك لقراءة بعض نتائج الدراسة- إلى أن الاتجاه الصهيوني مترسّخ في المسيحية الأصولية بالولايات المتحدة، وأن نظرة هذه الحركة تقوم على قانون لاهوتي توراتي يتلخّص في ضرورة إيمان كل مسحي مخلص بالعودة الثانية للمسيح(Second Coming of Christ) وأن قيام دولة (إسرائيل) واستيلاءها على مدينة القدس إشارة إلهية تعني أن العودة الثانية للمسيح على وشك الحدوث. وبناء على ذلك فإن مسألة دعم إسرائيل مادياً ومعنوياً ليس أمراً اختياريا، أو إنسانياً، بل قضاء إلهي لأنه يسرّع في قدوم المسيح، ومن ثم فإن من يقف ضدّ إسرائيل فإنما يقف ضدّ إرادة الله! ( يوسف الحسن، البُعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني، 1990م، الطبعة الأولى، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ص 186).
وفيما يتعلّق بدستورية فصل الدّين عن الدولة في الولايات المتحدة تخلص الدراسة إلى أنّه ’’ وعلى الرغم من دستورية فصل الدّين عن الدولة؛ فإن الجدار بينهما كان واهياً، وإن الفصل كان مقصوداً به حماية الدّين من تدخّل الدولة في شؤونه، وإن تنفيذه عملياً ظل عرضة للتغيّر تبعاً لموازين القوّة داخل المجتمع، ولأطماع الدولة والكنيسة، وقدرة أحدهما على أن تسود على الأخرى، فتتجاوز حدود المستوى النظري لعملية الفصل.
وقد تبيّن أن الكنيسة الأمريكية نظام شمولي في أغراضه وأنشطته وعلاقاته، وتمزج الدين بالتعليم وبالخدمات الاجتماعية، وبالطب وبالسياسة وبالفنّ وبالحرب والسلم...إلخ ولا يفلت من شباكها شيء يتعلّق بالحياة اليومية للإنسان. وقد استنتجت الدراسة أن البروتستانتية هي التي تمثّل الأكثرية الغالبة للشعب الأمريكي، وتكمن فيها مصادر النفوذ السياسي، ليس بسبب كثرة عددها فحسب، بل لكونها طبقة الكنيسة العليا، أو ما يسمّى كنيسة الانكلوسكسون البيض التي تختصر عادة بكلمة ’’واسب’’ (WASP) . وقد استخدمت الكنيسة الوسائل والأساليب نفسها التي تستخدمها المنظمات والمؤسسات المدنية، من حيث التأثير في السياسة العامة للمجتمع، وخاصة ممارسة أساليب الضغط المنظّم المسمّى اللوبي، ووسائل استطلاع الرأي العام، وأجهزة الإعلام الحديثة، وأدوات الاتصال الجماهيري. كما ملكت وأدارت جامعات ومؤسسات تربوية وتعليمية وإعلامية واستثمارية، مما وفّر لها إمكانات مالية ضخمة، وملكت بذلك عقول الملايين من الأمريكيين وجيوبهم، وقد وجدت الدراسة أن العقدين الأخيرين ( يقصد السبعينات والثمانينات) شهدا توسّعاً في التعليم الديني في الولايات المتحدة، الأمريكية، سواء من حيث عدد المؤسسات التعليمية أو عدد التلاميذ، فضلاً عن انتخاب رئيسين للجمهورية يؤمنان بأهمية الدّين وبدوره في المجتمع، فالرئيس السابق جيمي كارتر أعلن عن عقيدته وإيمانه بشعار ( الولادة الثانية) كمسيحي أصولي، وجسّد ما في هذه العقيدة من اتجاهات صهيونية نظرياً وعملياً. كما عبّر عن ذلك ومارسه الرئيس رونالد ريغان، واعتبر أن للدّين دوراً أساسياً في الحياة السياسية للولايات المتحدة الأمريكية. وفي النتيجة فإن حركة المسيحية الصهيونية التي هي في غالبيتها بروتستانتية، هي أهم ظاهرة سياسية في العقدين الأخيرين من هذا القرن’’ ( المرجع السابق، ص 188-189).
وتأمّل في زمن هذه الدراسة فإنها كانت في التسعينات من القرن الميلادي المنصرم، أي قبل عقدين من الآن، وقارن ذلك بالسياسات التي جاءت بعد ريجان، ناهيك عن عهد بوش (الابن)، وما جرى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مطلع الألفية الثالثة، حيث ما برح بوش يكرّر مقولته بأن الرب أوحى إليه أن يتخذ قراره المصيري أو الكوني هنا أو هناك، ولذلك ارتكب كثيراً من الحماقات المدمّرة، في سياسات إدارته الخارجية، ومنها قرارا الحرب في أفغانستان والعراق، وبوش (الابن) هو أول من أعلن -من بين رؤساء الولايات المتحدة- عنوان الحرب الصليبية (Crusade War ) عند إعلانه الحرب على أفغانستان في 2001م، وقد ظن البعض ذلك منه زلّة لسان، بعد أن عاد فاعتذر، نظراً للتداعيات المدويّة لمقولته، إلا أن التحليل النفسي (السيكولوجي) لشخصيته في ضوء مواقفه الأخرى وانتمائه الفكري والوجداني المعروف إلى اليمين المسيحي (Christian Right Wing)، أو ما يُعرف بـالمسيحية الصهيونية (Christian Zionist) يقود إلى نتيجة فحواها أن الرجل يعني ما يقول، وليست زلّة لسان، بل تعبير عن ذهنيته ونفسيته واتجاهاته تجاه الآخر (المسلم). ومن المعلوم أن المحافظين الجّدد (The Neo Conservatives) ذوي المنزع الاحتلالي للعالم باسم نشر القيم الأمريكية في العالم يمثلون الأغلبية في عهد إدارته، وقد تأكّد ذلك أكثر مع تزايد نفوذهم داخل البيت الأبيض وفي قرارات إدارته، ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بذريعة أن غياب الديمقراطية عن جزء من العالم سيؤدي إلى تهديد بقيّة العالم، ومنه العالم الغربي، والولايات المتحدة بوجه أخص، وإذا لم يكن من سبيل سوى القوّة لفرض ذلك، فلِمِ لا؟ ( راجع: عبد الناصر المودع، مرجع سابق، ص 125-126).
وقد قامت قناة الجزيرة مؤخراً وتحديداً في (17/8/2010م) عبر برنامجها الأسبوعي (من واشنطن) في إطار موضوع (دعم الكنائس الإنجيلية الأميركية للسياسات الإسرائيلية) الذي يقدّمه الإعلامي عبد الرحيم فقرا باستضافة (بورتر سبيكمان) المخرج والمنفذ للفيلم السينمائي With God on Our Side أو ’’الله معنا’’ واستهل مقدّم البرنامج حواره بوضع التساؤل التالي:’’ ماذا يحدث عندما يتمعن إنجيلي أميركي في مسلماته بشأن العلاقة بين المنظمات الإنجيلية الأميركية وإسرائيل؟’’ وقبل أن يبدأ الحوار مع المخرج استعرض البرنامج بعضاً من المشاركات المسجلة في الفيلم على النحو التالي:
[مشاهد من فيلم الله معنا]
جون هاغي: إن خمسين مليوناً من البروتستانت الإنجيليين وخمسة ملايين من اليهود في أميركا الشمالية متشابهون إلى حد بعيد.
مشارك: إن الارتباط بين اليهود وأرض وإسرائيل هو حجر الزاوية للمسيحية الصهيونية.
القس جورج موريسون: لا تستطيع أن تفصل الأرض عن الشعب، عندما وعد الله إبراهيم وإسحق ويعقوب وكافة اليهود فإن الوعد تضمن قطعة من الأرض تسمى إسرائيل، إنها في الواقع البلد الوحيد في العالم الذي وضع الله حدوده ومعالمه. وأعطى تلك الأرض، ولو كنت لأنظر بدقة في الكتاب المقدس وحدود الأرض فإنني أرى أن المعالم تذهب إلى أبعد شمالا أكثر مما هي عليه الآن حتى تصل إلى دمشق وجنوبا إلى نهر مصر وفوق البحر الأبيض المتوسط، وبعد ذلك بالطبع عبر الجانب الشرقي من نهر الأردن الذي يضم الأردن.
مسيحيي فلسطيني: لقد توصلت إلى نتيجة مفادها أن هناك خطأ ما في لاهوت الإنجيليين، إن لاهوتهم أدى إلى أن يرفضوا وأن يتعرضوا إلى أخ لا يناسب لاهوتهم وهذه هي خطيئة.
جون هاغي: نحن ندعو وزارة الخارجية الأميركية والرئيس جورج بوش إلى عدم الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات من شأنها أن تؤدي إلى تدميرها’’ .
ثم بدأ عبد الرحيم فقرا بتقديم أسئلته لـ( سبيكمان) على النحو التالي، وإليك الجانب الأهم منها بنصها لأهميتها في هذا السياق:
عبد الرحيم فقرا: يسعدني أن أرحب في الأستوديو بالمخرج والمنتج التنفيذي لفيلم With God on Our Side الله معنا، بورتر سبيكمان، مرحبا بك. أريد أن تحدثنا أولا عن مصدر هذا الفيلم، من أين جاءت فكرة هذا الفيلم؟
بورتر سبيكمان: الفكرة هي في الأساس رحلتي الشخصية وهي رحلة رأيتها تتكرر لدى عدد كبير من الإنجيليين، أنا نشأت في عائلة مسيحية في الولايات المتحدة ولقنت نظرة معينة تجاه الشرق الأوسط وإسرائيل وكيف أن الإنجيل ونظرة عقائدية معينة يقع تسخيرها لدعم تلك النظرة وذلك كان يشمل كل شيء من حيث كيف يجب علينا أن ندعم الشعب اليهودي وما هي النظرة السياسية التي يتعين علينا أن نكرسها، ولكن لا نسمع وجهة نظر مختلفة أبدا. ثم ذهبت مع زوجتي لقضاء بعض الوقت في الضفة الغربية في منطقة القدس فتعرفت على فلسطينيين ورأيت الأوضاع بأم عيني، وسرعان ما تساءلت لماذا لم يحدثني أحد عن هذا من قبل، ثم ترى بعض ما يجري على الأرض ويصعب عليك موافقة ذلك مع ما تعلمته من دروس المسيح، فهذا الفيلم يستكشف بعض تلك التساؤلات التي تواجه بعض الناس عندما يلتقون بوجهة النظر الأخرى.
عبد الرحيم فقرا: كيف غير هذا الاكتشاف السياسي كيف غير شخصيتك وكيف غير المنظور العقائدي للعالم حولك؟
بورتر سبيكمان: لقد أصبحت الأمور أكثر عملية، فأنت تنظر إلى الأمور من منطلق أوسع فبدل استخدام وجهة النظر العقائدية عبر ما يقوله الإنجيل لدعم جهة معينة أي اليهود في هذه الحالة وكل ما يفعلونه ساعدني على رؤية الناس في الشرق الأوسط وبالأخص الفلسطينيين بأكثر قدر من الرحمة والرأفة ولفهم بعض المعاناة والضيق الذي يعانونه وهذا يرجع إلى إيماني بتعاليم المسيح الذي علمنا الرحمة بالأرملة واليتيم والمظلوم يصبح من الصعب فهم بعض الأشياء التي تحصل فما نحاول قوله هو أنك لا يمكنك تقديم فريق من الناس على فريق آخر بل إذا كنت تزعم أنك مسيحي عليك أن تتعاطى مع المنطقة وشعوبها بشكل عادل ومنصف للجميع.
عبد الرحيم فقرا: هل كانت هناك أية أصداء معينة لهذا التحول في تفكيرك السياسي والعقائدي في الأوساط الكنسية أو الكنائس الإنجيلية في الولايات المتحدة خاصة فيما يتعلق بمنظورها لإسرائيل؟
بورتر سبيكمان: لقد كان الجمهور المستهدف هم أناس مثلي أنا وكريستوفر الذي يظهر في الفيلم وآخرون ممن كانت لهم تجربة السفر إلى هناك ورؤية الأمور كما هي، أغلبية المسيحيين الإنجيليين ينشؤون على دعم إسرائيل استنادا على ما يقوله الإنجيل ولكن عندما يرون وجهات النظر المختلفة يتوقفون فجأة ويطرحون على أنفسهم وجوب تغيير نظرتهم، وكلهم يطرحون نفس السؤال، لماذا أخفي عني كل هذا؟ هناك أيضا ردة الفعل الأخرى من أولئك الذين ينحازون إلى إسرائيل بقوة وهم غير قادرين على استيعاب أي نظرة أخرى يعتبرون هذا زندقة ويقولون لا يمكنك طرح هذه الأسئلة وما يترتب على ذلك من تبعات سلبية للفيلم، ولكن بشكل عام الجمهور الذي استهدفناه يستوعب الرسالة المضمنة في الفيلم.
عبد الرحيم فقرا: الآن بالنسبة لنفوذ الكنائس الإنجيلية هنا في الولايات المتحدة في موقع ما من الفيلم وردت إشارة إلى إيباك وفحوى تلك الإشارة إن أمكن أن ألخصها هو أنه إذا كان الناس يعتقدون أن تأثير إسرائيل في المجتمع الأميركي يتم عبر إيباك لكان ذلك أهون، هناك ما هو أدهى وأقوى من ذلك وهو تأثير الكنائس الإنجيلية في النظام السياسي الأميركي، حدثنا عن هذا الجانب؟
بورتر سبيكمان: هذا الأمر مرتبط بالناخبين في الولايات المتحدة فهم في معظمهم مسيحيون أو يعتبرون أنفسهم مسيحيين، عندما يكون لك مرشح سواء للكونغرس أو للرئاسة فإن الاختبار الحيوي الأول هو موقفك من إسرائيل، إيباك لها أجندة سياسية لدعم إسرائيل وهذا أمر مشروع، هناك مجموعات ضغط عديدة في الولايات المتحدة ولكن بالنسبة للمسيحيين هذا يتعدى الموقف السياسي ليلامس العقيدة وبالتالي السؤال أصلا غير مقبول، أنا أعرف العديد من المسيحيين الذين يحبون مرشحا معينا على أسس سياسية ولكن عندما يساورهم أي شك أن المرشح لا يكون داعما لإسرائيل بالحد المطلوب فهم يحجمون عن دعم ذلك المرشح، فالناخب الأميركي الذي هو داعم لإسرائيل له تأثير دراماتيكي على المشهد السياسي.
عبد الرحيم فقرا: إنما قوة الكنائس الإنجيلية في الولايات المتحدة ما مصدر هذه القوة هل هو مصدر عددي من حيث أتباع عدد هذه الكنائس؟ هل هو من حيث الموارد المادية المتاحة لهذه الكنائس، كيف يتم لها كل هذا التأثير على المجريات السياسية في الولايات المتحدة؟
بورتر سبيكمان: أعتقد أن كل هذه النقاط تتضافر فهي الأعداد والموارد وهي أصوات الناخبين في نهاية الأمر، كما قلت الكثير من المسيحيين لن يصوتوا لمرشح رئاسي أو لمجلس الشيوخ أو لأي وظيفة منتخبة طالما لم يشعروا أنهم يدعمون إسرائيل دون تردد. وبخصوص الموارد، الكنائس تجمع ملايين الدولارات كل سنة لدعم النشاط الاستيطاني في الأراضي المحتلة وعندما كنا بصدد إنتاج هذا الفيلم زرنا كنيسة القس جون هاغي ’’المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل’’ في تلك الليلة فقط سلموا ثماني ملايين دولار لعمد وممثلين عن مستوطنات مختلفة ولجمع تلك الأموال هم يتحدثون عن بناء حدائق للأطفال ودور يتامى ومساعدة الفقراء بالإضافة إلى ما يشبه الوعيد الإنجيلي الذي مفاده أن من واجبك كإنجيلي مساعدة الشعب اليهودي بالرجوع إلى الآية 12 من سفر التكوين والوعد الإبراهيمي، وبالتالي هناك وعيد عقائدي من جهة ووعد المباركة وفي غياب خيار آخر يصبح هذا موردا هائلا ا.هـ.
على أنه تأكّد لي شخصياً من خلال زيارتي -مع بعض الزملاء- مؤخراً ( في شهر يوليو 2010م)، للولايات المتحدة الأمريكية في إطار برنامج الحوار الديني(Inter Faith Dialog ) الذي تنظمه وزارة الخارجية الأمريكية سنويا؛ً أن الحديث المركّز الذي تلقيّناه في أكثر من مؤسسة ومركز أبحاث ونحوهما عن نظرية الفصل بين الدين والدولة في الولايات المتحدة أظهر لنا مدى التناقض بين ذاك التنظير وبين ما كنا نشاهده من مظاهر الدين المنتشرة في الشوارع والجامعات والمؤسسات الأمريكية الرسمية المختلفة، ولا سيما ما يتصل منها بالتماثيل الخاصة ببعض رجال الديِّن، أو بأسماء بعض الشوارع ذات الطابع الديني. ولعل من أبرز ما لفت نظر الوفد الزائر ما شاهده في الكنيسة الوطنية الكبرى بالعاصمة واشنطن (وهي الثانية على مستوى الولايات المتحدة، والسادسة على مستوى العالم، وقد استغرق بناؤها 83 سنة، أي من 1907-1983م) من مظاهر التماثيل اللافتة ولا سيما تمثال ضخم على بوابة الدخول للرئيس الأسبق إبراهام لنكن، مع نصّ رسالته التي تركها لأصدقائه وأنصاره، حين ترك ولايته (الينوى) مغادراً إلى البيت الأبيض بواشنطن العاصمة، لتولّي مقاليد الحكم، وتمثال آخر لايقل ضخامة عن سابقه وغير بعيد عنه للرئيس الأمريكي الأسبق جورج واشنطن، وفي المقدّمة تمثال ثالث تحته (ضريح) بارز يرمز إلى أحد أبرز الطيارين المقاتلين الذين دافعوا عن الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، والسؤال الذي يفرض نفسه ما علاقة الكنيسة بذلك كلّه، إذا كان حقّاً ثمة فصل كامل بين الديني والسياسي، مع أنّها كلها مظاهر سياسية بامتياز؟ وحين وضعنا هذا السؤال على من يعنيهم الشأن في الكنيسة لم نجد ما يقنع!. ويبقى ما هو أبرز من ذلك وهو ما حدثتني وزملائي دليلتنا في الكنيسة السيدة الديبلوماسية (آنا كوكي) التي عملت لمدة ثلاثين عاماً – كما أخبرتنا- مع الخارجية الأمريكية منها بضع سنوات في تل أبيب بفلسطين المحتلة( لاحظ عدم الشعور بالحرج بين مهمتها السياسية السابقة وعملها الديني (المتواضع) الحالي) ومع أن معلومتها التي ذكرتها لنا وأكّد عليها رجال الدين الذين التقيناهم بعد ذلك معروفة نقلتها وسائل الإعلام الأمريكية وسواها في ذلك الحين؛ إلا أن دلالتها الآن غدت أمامنا بعيدة تستأهل التوقّف والمراجعة، بعد أن صُخّت آذاننا بالمباهاة في الفصل الكامل بين السياسة والدين، حيث أكّدت أن الرئيس الحالي باراك أوباما حرص منذ اليوم الثاني لإعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2008م، أن يتجه إلى مقرّ الكنيسة الوطنية، بحيث لايبادر إلى تنفيذ أي مهمة له داخل البيت الأبيض أو خارجه، على مستوى السياسة الداخلية أو الخارجية، حتى يُمنح (صكّ) المشروعية عبر مباركة الكنيسة الوطنية، وكأنّه بذلك يقدّم أوراق اعتماد عهده وسياساته من قبل الكنيسة وسلطة رجال الدّين، ولعلّه بذلك يؤكّد أكثر براءته مما كان – ولا يزال- ينبزه به خصومه الجمهوريون-خاصة- منّ أنّه مسلم أو ينتمي إلى سلالة مسلمة، ربما تجعله قريباً إلى الأقلية المسلمة، أو متعاطفاً مع قضايا العالم الإسلامي، رغم تبرؤه المتتابع لذلك، ووضع نافذة على موقعه أثناء الانتخابات الرئاسية تبدّد (الشبهات) حول مسألة إسلامه، وأن لا حقيقة لذلك، بل هو كيد الخصوم! وهكذا فالعلمانية التي يدّعون أنها لا تنظر إلى مسألة الدّين باتت واحدة من أكبر الاتهامات التي مورست ضدّ أوباما، - ولا تزال في تصاعد- ولولا نفيه المتكرّر وممارساته العملية، وبالأخص إعلانه أن مسألة العلاقة الوثيقة مع الكيان الصهيوني، ووقوفه ضدّ حماس وحزب الله، وجملة القضايا العادلة لأمتنا، مسألة ثابتة في السياسة الأمريكية، وهو ليس استثناء في ذلك؛ لأثّرت عليه تهمة ( إسلامه) سلباً في نتائج الانتخابات الرئاسية، ولكن جريرة أصوله البيئية الإسلامية تأتي عليه بالويلات كلما ظهرت قضية للمسلمين فيها صلة، فيسلّط عليه سيف (الإرهاب الإنجيلي) أو العلماني الاستئصالي، فيعود متراجعاً، كي لا تتأكّد تهمة تعاطفه مع المسلمين، ولعل آخرها موقفه الذي كان قد نظر إليه البعض بإعجاب من بناء مركز (قرطبة) الإسلامي قرب موقع البرجين في (نيويورك)، لكنه سرعان ما أعلن تراجعه عن موقفه على الخلفية ذاتها. وهكذا حتى إدانة أوباما للقس (المعتوه) تيري جونز الذي كان قد أعلن اعتزامه حرق المصحف الشريف في ولاية (فلوريدا) يوم الحادي عشر من سبتمبر 2010م، وأوباما في موقفه هذا ليس خاصاً بل يكاد يمثِّل إجماعاً من جمهور رجالات الدين المسيحي واليهودي، كما الساسة والعسكريون وسواهم من صنّاع القرار في أمريكا، لكن موقف أوباما استغل كذلك للتذكير بأنّه إنما ينطلق في موقفه من اعتناقه (الخفي) للإسلام!! ولا حظ أن جانباً كبيراً من مواقف أوباما تتلك تتعلق بالسياسة الداخلية للولايات المتحدة، أمّا خارجها فم يعد ثمة – في اعتقادي – ما يستأهل الجدل حول سياسة إدارة أوباما، إذ لا تختلف جوهرياً عن سابقاتها- إن لم تكن أسوأ- في بعض المواقف، ولا سيما بعد مرور أكثر من عام على انكشاف زيف خطابه (الخادع) في جامعة القاهرة، وهو ما سجّل لطمة جديدة للمخدوعين وما أكثرهم، وفي مقدّمتهم كثير من أهل الدّين والسياسة على حدّ سواء!!
بتعبير آخر أكثر مباشرة : هل نتوقّع في مجتمع يفاخر بالعلمانية أن يأتي يوم يصبح فيه رئيسه مسلماً مادامت كل هذه الحرب قد قامت على أوباما، رغم أن ليس بينه وبين الإسلام نسب إلا انتماء بيئي قديم لعائلته، لطالما أعلن براءته منه!! وهكذا فالحديث عن حياد العلمانية في الولايات المتحدة تجاه الدّين أضحى مجرد خرافة، فضحتها المواقف العملية للعلمانيين بدءاً من بلد المنشأ وانتهاء ببلدان الاستدراج المعلّب في مجتمعاتنا الإسلامية!
وبعد ذلك كلّه لا مناص من الإشارة إلى حقيقة عامة وهي أن لاعلاقة لذلك بالدين المسيحي في أغلبيته في العالم، ولا سيما في الشرق، فينبغي أن لا يغيب عنّا في حمأة هذا الصراع أن عناوين كالإنجيليين، أو الأصوليين المسيحيين، أو اليمين المسيحي، أو الصهيونية المسيحية، لا تختلف من حيث المضمون عن الحركة الصهيونية (Zionism Movement)، ومن المعلوم أن هذه الأخيرة حركة علمانية لاعلاقة لها بالدين اليهودي، بدليل أن أغلب مؤسسيها الذين اجتمعوا في مدينة بال بسويسرا عام 1897م كانوا غير متدينين أو ملحدين من الأساس، لكنها وجدت في الورقة الدينية أفضل السبل لتحقيق مشروعها في الاحتلال والعدوان، وهذه ظاهرة عامة لاتستثني ديناً سماوياً أو غير سماوي، حيث يتم (تسييس) الدّين أحياناً لأغراض يعلم كل باحث جاد أن الدين الحق بريء من الظلم والقهر والعدوان وانتهاك حرمات الآخرين و سحق كرامتهم باسم السماء، !! .
العلمانية في المجتمعات غير الإسلامية هل نجحت؟:
* مع أن ما سبق من تدليل على زيف الفصل الحقيقي بين الدّين والدّولة في الولايات المتحدة يعدّ كافياً -في اعتقادي- على عدم دّقة الزعم بمثالية الحلّ العلماني، بيد أنّه لا بأس من استعراض نماذج أخرى تفكّك (أسطورة) الحلّ السحري للعلمانية. فالعلمانية في المجتمع الهندي المتعدّد الأديان والمعتقدات لم تتمكن من التغلّب على الصراعات الدينية، بل يحزننا التأكيد على أن ضحايا تلك الصراعات في الغالب مسلمون، إذ الحزبان الحاكمان الرئيسان: المؤتمر (الهندي) و حزب (بهارتيا جاناتا) -وكلاهما علمانيان- لم يمنعا المجازر ضد أكبر أقلية في العالم وهم المسلمون الهنود الذين يفوق عددهم المائة وسبعين مليوناً، وأبرزها مذابح آسام، في الثمانينات من القرن المنصرم، وكذا هدم المسجد البابري عام 1992، ومحاولة بناء المعبد المزعوم على أنقاضه. وتقدّر عدد المجازر التي ارتكبت ضدّ المسلمين منذ استقلال الهند عام 1947م حتى مطلع التسعينات من القرن الماضي بـ (40 ألف مجزرة) ( راجع: فؤاد البنا، حاضر العالم الإسلامي ومعضلاته، ص 116، 1426هـ -2005م، الطبعة الثانية، تعز: مؤسسة الجمهورية للصحافة والنشر)، بل لم تحل العلمانية هناك دون الصراع الدامي بين السيخ والهندوس الذي ذهبت ضحيّته رئيسة الوزراء السابقة (انديرا غاندي).
كذلك كان الحال في المجتمعات الأوروبية الشرقية الشيوعية والغربية الأوربية ورغم المنطق الظاهري لتبنيها العلمانية، لكن علمانيتها لم تقض على الصراعات الدينية هناك، وغدت مسألة غير ديمقراطية الأنظمة الشيوعية معترفاً بها، حتى من قِبل كثير من أبنائها وأنصارها، وهذا واحد من أبرز أدلّة خرافة الحلّ العلماني؛ ولقد كان منطق تلك المجتمعات الشيوعية التي اشتهرت بمعاداة جميع الأديان أن أساس جميع الأديان تخلّف ورجعية وأفيون للشعوب ولا سيما الإسلام -لكونه ديناً ودولة- فتبنت العلمانية الكليةّ الحادّة عملياً، وعرف عنها التمييز ضد المسلمين بوجه خاص، فأبادت الملايين منهم، سواء في الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، أم في تلك الجمهوريات التي حكمت فيها الشيوعية في أوروبا الشرقية أم في سواها، (راجع في ذلك ما أورده الدكتور يوسف القرضاوي في كتابيه بيّنات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، ص 224-225، د.ت، د.ط، د.م:د.ن وردّ علمي على د. فؤاد زكريا وجماعة العلمانيين: الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه،ص 193-197، 1407هـ- 1987م، الطبعة الأولى، القاهرة: دار الصحوة).
أما العلمانية في المجتمعات الغربية الرأسمالية فإنها لم تقض على الصراعات الطائفية بالمطلق، وعلى سبيل المثال؛ فلا تزال مظاهرات الكاثوليك في أيرلندا واحتجاجاتهم المتكرّرة ضد البروتستنانت، تشهد بين الحين والآخر ثورات عارمة، لايميّزها عن أيّ صراع طائفي متخلّف أعمى يذهب ضحيته الألوف، ويستمر لعقود وربما قرون، على خلفية ما يُعرف هنالك بالأحد الدامي في 30 يناير (كانون الثاني) 1972م، على أيدي القوات البريطانية، حيث فتحت النار على المتظاهرين في ذلك اليوم وقتلت 14 شخصاً منهم، بينهم 7 مراهقين، وكلّهم من الكاثوليك، لكنّه تطوّر بعد ذلك عبر العقود الماضية، ذلك فبلغ 3500 قتيل، وفي عام واحد فقط بلغ عدد القتلى عام 1972م 472 فرداً، ناهيك عن المعوّقين والمصابين، ثم الاحتقانات التي تتناقلها الأجيال، بغية الثأر والانتقام، حيث إن (العلمانية) الحاكمة هنالك منذ أمد غير قصير لم تعامل جميع مواطنيها بروتستنانت وكاثوليك على قدم المساواة، بل كان يشعر المواطنون الكاثوليك بأن الحكومة تعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية، بخلاف أقرانهم من الأيرلنديين البروتستنانت، وهو ما مثّل الشرارة الأولى لتكوين الجيش الجمهوري الإيرلندي، واندلاع المواجهات العنيفة، بين البروتستانت والكاثوليك، طيلة العقود الماضية، مما دفع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير عام 1998 لتشكيل لجنة (سيفيل)، بناء على ’’اتفاقية الجمعة الحزينة’’ لإحلال السلام يوم 10/4/1998م، ولم تعلن نتائج تلك اللجنة إلا مؤخراً على لسان رئيس الوزراء الحالي (ديفيد كاميرون)، الذي أعلن أمام النواب في مجلس العموم البريطاني، وفي بث مباشر على جميع القنوات الإخبارية البريطانية، في شهر يونيو الماضي(2010م) اعترافه أن تلك الأحداث كانت (مأساوية وصادمة)، واعتذر علنياً لأهالي الضحايا، مقرّاً أن المتظاهرين الذين قتلوا في ذلك اليوم كانوا جميعاً مدنيين، ولم يكونوا إرهابيين، كما كانوا يوصمون بذلك طيلة العقود الماضية، ومع ذلك فإن اعتذار كاميرون قد جر إلى فتح باب الملاسنات والاتهامات المتضادّة، وعدّ بعض البروتستانت هذا الملف مطوياً، وفتحه اليوم يعيد إنكاء الجراح، على حين عدّ بعض الكاثوليك الاعتذار والاعتراف بالخطأ غير كاف، مطالبين بمحاكمة أولئك القتلة، خاصة وأن بعضهم لايزال حيّاً (راجع تقرير : راغدة بهنام: صحيفة الشرق الأوسط، 5 رجـب 1431 هـ الموافق 17 يونيو 2010 العدد، 11524). ومما يؤكّد صعوبة تجاوز ذلك ما حدث يومي8، 10/ 2009م من أحداث عنف وتفجير ومحاولات اغتيال استهدفت مركزا للشرطة البريطانية في أيرلندا الشمالية وأحد أفرادها، إذ تجددت المخاوف من تجدد العنف، ورغم تبرؤ الطرفين الرئيسين هناك من ذلك، وهما البروتستانت عبر ’’حزب الوحدويين’’ (أي مع بريطانيا) والكاثوليك عبر حزب ’’شين فين’’ الذراع السياسي لما عُرف بالجيش الإيرلندي السري؛ إلا أن مراقبين يرون في ذلك شاهداً على احتمال عودة أعمال العنف، لاسيما وأن اتفاقية الجمعة الحزينة لم تكن محل رضى جميع قيادات الجيش الجمهوري الإيرلندي وأفراده، بل عملت على شقه، وخروج تنظيم عنه يُعرف بـ(الجيش الإيرلندي الحقيقي)، لرفضه بنود الاتفاقية، وما يزال يعمل سرا، ولا يستبعد أن يكون قد جمع من الأسلحة ما يكفي لإثارة الصراع من جديد، لا سيما إذا تحولت ردود الفعل الداعية إلى التهدئة من جانب أحزاب البروتستانت إلى ردود فعل عنيفة أو إلى موقف سياسي يؤدي إلى سقوط الحكومة الائتلافية( راحع تقريراً بعنوان: الخلفية التاريخية لقضية أيرلندا الشمالية: صراع طائفي لأكثر من أربعة قرون في : http://www.midadulqalam.info/midad/modules.php?name=News&file=article&sid=1162)
ذلك كلّه إنما يؤكِّد حقيقة أن العلمانية ليست حلّاً سحرياً مطلقاً حتى للمجتمعات غير الإسلامية، فما بالك بالإسلامية، بل إن الحديث عن نجاح مقدّر للتجربة العلمانية هناك بحيث ارتبطت بالحداثة والديمقراطية والعقلانية في بعض مساراتها لايعني سلامتها من أمراض الاستبداد والفاشية والتخلّف، وهي الحقيقة التي أكّد عليها الدكتور المسيري بقوله: ’’ورغم اعترافنا بوجود هذا الترابط بين التحديث والديموقراطية والعقلانية من جهة، والعلمانية من جهة أخرى، إلا أننا لا نرى أن هذه الرابطة عضوية أو ضرورية (وكما سنبين فيما بعد، يمكن أن ترتبط العلمانية باللاعقلانية والاستبداد والفاشية)، ولكن عملية الربط والتداخل تؤدّي إلى اختلاط المجال الدلالي لمصطلح (العلمانية)، وتربطه بمنظومات قيمية ونماذج معرفية ليست بالضرورة كامنة فيه، وإنما تضاف إليه ’’( المسيري، في حواره مع العظمة، مرجع سابق، ص 50).
فلنبحث في الجذور:
* إننا حين نأخذ نموذج الإسلام من خلال بعض ممارسات المسلمين السلبية أمس واليوم، أو كما يصوره الآخر البعيد، بل الخصم الحضاري العنيد تاريخيا وحاضرا؛ نظلم الإسلام الذي يدعو إلى البحث والعدل والإنصاف مع الذات كما مع الآخر، كما نظلم أنفسنا التي لم تكلف نفسها عناء الالتزام بمقتضيات البحث العلمي، من حيث البحث
أستاذ أصول التربية وفلسفتها - كلية التربية – جامعة صنعاء
توطئة:
بعد ذات حوار صحفي مع كاتب هذه السطور تناول جملة من قضايا الفكر والتربية وإشكالات العمل الإسلامي بعث إليّ بعض الأصدقاء بتعليقات شخصية على مجمل ما دار في الحوار، غير أن واحدا من تلك التعليقات كان- حسب تقديري- الأجدر بالتأمل الطويل، ومن ثم توقفت عنده مليّاً، لأنّه يحمل – في جوهره- وجهة نظر فئة من النخبة، لطالما قرأت أو سمعت من يقدّمها بوصفها المخرج من الأزمة الفكرية والسياسية الراهنة، ليس في المجتمع اليمني فحسب بل في المجتمعات العربية والإسلامية عامة، وتلكم هي فكرة (العلمانية)، كنظام سياسي يعمل على الفصل بين الدين والدولة، ويسعى لإخراجنا من صراع الطوائف والمذاهب والأحزاب (الدينية)! لاسيما مع المستجدات الأخيرة للفتنة التي توصف بـ(الطائفية) في العراق، أو اندلاع فتنة صعدة عبر مراحلها المتعاقبة منذ منتصف العام 2004م، وتداعياتها التي لا يعلم إلا الله نهاية لها، ناهيك عن المشكل اللبناني .
ولأن الموضوع يمثّل همّاً قديماً نسبياً لدى كاتب هذه السطور، من حيث الرغبة في مناقشة هذه الأطروحة؛ فلم أجد قلمي يتوقّف إلا بعد كتابة صفحات ناهزت العشرين، ثمّ تطوّرت الفكرة أكثر فأخذت المنحى المنهجي في جانب التوثيق، وأضحت على النحو الحالي، حواراً بين صديقين، ونظراً لما تتضمنه من معان وأفكار، رأيت أن يشاركني القراء ولا سيما من يعنيهم الأمر مداولتها، وأن يثروها بتعقيباتهم ورؤاهم .
وقبل أن أعرض مناقشتي لما ورد في رسالة الصديق الذي آثر عدم ذكر اسمه كاملاً لغرض النشر؛ أرى أن من الأهمية والأمانة معاً إيراد رسالته كما وردت إلا من بعض الجوانب الفنية التي منحني الصديق حق التصرّف فيها، إذ هو بعثها في الأصل إليّ بوصفي صديقاً أنظر فيها لإثرائها على المستوى الثنائي، لا لنشرها على الملأ، لكنني استحسنت فكرة النشر العام للفكرتين، واستأذنته في ذلك، فأذن بعد تفكير، وأبدى استحسانه – من ثمّ- كذلك، شريطة إجراء بعض تلك التصرفات الفنية في رسالته، وإليك – قارئي الكريم – :
أولاً نص رسالة الصديق ناصر:
سلام عليكم يا دكتور وشكرا على إرسال المقابلة واسمح لي بأن أشير إلى بعض النقاط من وحي المقابلة ومن غيرها فيما يلي:
1- أحيي فيك نشاطك الفكري بغض النظر عن درجة اتفاقي أو اختلافي معه، فمن المفيد أن يترجم المرء ما يفكر فيه إلى عمل مادي كما تعمل في كتاباتك.
2- هناك الكثير من الأفكار الرائعة التي تحملها كتاباتك، وأشعر أنها لم تنل ما تستحقه من اهتمام وأرجع سببه إلى السياسة التي ترفع الأعمال السطحية حين تكون في مصلحة من يملك السلطة والثروة وتخفي أو تتجاهل الأعمال العميقة حين تمس بسلطتها، ومع ذلك فإني مؤمن بأن العمل الجاد والأصيل سيبقى كذلك مهما تم تجاهله للأسباب التي ذكرتها.
3- رغم أني قد أكون في موقع مغاير لموقعك الفكري إلا أني تلمست من خلال المقابلات الشخصية – على قلتها – أو من خلال ما أقرأه لك بأنك تمتلك ذهنية العلماء (لا اقصد علماء الدين بالضرورة) والذي يتضح من خلال صدق ما تكتب وإيمانك به وغوصك في الظواهر التي تناقشها. وهذه الصفات تجعلني أناقشك بكل حرية إيماناً مني بحقيقة أن من يمتلك هذه الذهنية يعتبر الحوار معه أمراً حيوياً لتطوير الأفكار، إضافة إلى ذلك فإن الصدق وعدم التعصب والابتعاد – قدر الإمكان – عن الأفكار المسبقة هي الذخيرة الأساسية للأفكار الجديدة والأصيلة والذي أعتقد وبصدق أنك مؤهل لها.
4- في مقابلتك أشرت إلى قضية ’’تجنح’’ الحركة الإسلامية في اليمن وتجزئها في المناطق الأخرى – كما فهمت- وقد فهمت بأنك غير مؤيد لهذه الظاهرة. وفي هذا الشأن دعني أشر إلى أن فكرة الوحدة المطلقة لحزب أو حركة أو توجه فكري ما، ما هي إلا وهم ِصرف فالناس لا يمكن لهم أن يكونوا متوحدين تحت قيادة ما إلا في حالة الأحزاب الشمولية التي تمتلك من وسائل القمع ما يمكنها من خلق هذه الوحدة القسرية، أما الأمر الطبيعي فإنّه التجنح والانشقاقات وتعدد المدارس الفكرية وغيرها هي الحالة السوية والطبيعية، فكما أشرت في المقابلة فلا توجد حركة دينية أو فكرية بعيدة عن السياسية، والسياسة مصالح متنافرة ومادام الأمر كذلك فإن الطبيعي أن يكون هناك تعدد وليس العكس. وأعتقد من وجهة نظر سياسية أن التعدد والاختلاف هو أجدى لأي مجتمع من ’’الأحادية’’ لأنها مصطنعة ولابد أن يكون مصدرها القسر. فلو أن هناك أحادية فكرية للتيار الإسلامي في اليمن لما تمكنت أن تكتب ما تكتبه ولكان حالك حال الكتاب في العصر السوفيتي الذي كان عليهم أن يرددوا ما تمليه عليهم قيادة الحزب، وقد أشرت إلى مصادرة ما كتبت من قبل قيادة الحزب التي لم يعجبها ما قلت.
5- أتفق معك على أن التشدد أحياناً باسم السنة ليس بمنأى عن مخرجات نظام سياسي استمد شرعية وجوده منها، وما ينطبق على هذا الفكر في القديم والحديث ينطبق على جميع المذاهب والأفكار الإسلامية الأخرى، ففي حال تتبعنا مصدر فكرة ما سنجدها إحدى مخرجات السياسة والسيطرة إلى حد كبير، فلا وجود للفكر خارج السلطة كما يذهب إليه البعض.
6- استطرادا لما سبق فإن الأفكار والمظاهر الدينية في مجتمعاتنا الحالية ما هي إلا مخرجات لواقع سياسي/اقتصادي/اجتماعي من حيث إن غياب الشرعية السياسية المستندة إلى التفويض الشعبي الحر والعقلاني-وهو أحد مخرجات الحداثة- تجعل الدين إحدى وسائل الحصول على الشرعية السياسية، ويستوي في ذلك الحكام ومعارضوهم، فالجميع يوظف الدين للحصول على شرعية للسيطرة على السلطة والثروة والمكانة. وما لم تحل مشكلة السلطة عن طريق التفويض الشعبي فإن الدين سيبقى إحدى وسائل الصراع على السلطة، وأعتقد أن أي بحث لشرعية سياسية عن طريق الدين تحت إي مسمى (دين وسطي أو متطرف) هو بحث في الطريق الخطأ، فالسياسة التي تبنى على الدين مصيرها الحتمي هو الاستبداد بغض النظر عن طبيعة الدين، واسمح لي بتذكيرك بمصير حسن الترابي في السودان ورجال الدين الذين قمعوا ولازالوا يقمعون في إيران رغم أنهم من تولوا إقامة هذه النظم.
7- أشرت في المقابلة إلى وجود مظاهر دخيلة على الزيدية من مثل الاحتفال بالغدير أو بالمولد وغيرها. وفي هذا الشأن أحب أن أشير إلى أنه ليس هناك ما يمكن تسميته بمظاهر دخيلة أو ثابتة، استنادا إلى حقيقة يؤكدها التاريخ الاجتماعي للبشر الذي يقول لنا بأننا متحركون ومتغيرون، وهذا ما يميزنا عن الحيوانات، وكلما كنا في مجتمعات منفتحة كلما كان تغيرنا أسرع والعكس صحيح، وما ينطبق على الحوثيين وما اعتبرته مظاهر دخيلة ينطبق على الآخرين، فهل تستطيع أن تجزم بان المظاهر لما يمكن تسميتهم بالسنة في اليمن اليوم تشبه ما كانوا عليه قبل أربعين عاما، قبل أن يأتي المد السلفي، وما ينطبق على السنة ينطبق على الزيود أو غيرهم، فالحركة والتغيير هي القاعدة بينما الجمود هو الاستثناء.
8- لم أفهم قصدك حين قلت بأن الحوثيين ربما أدركوا خطاء المطالبة بإنشاء جامعة خاصة بهم، فلم أفهم أين الخطاء هل في الفكرة أو التوقيت، حيث إن العدالة تقتضي أن يسمح للحوثيين بما يسمح لمنافسيهم حين أنشأوا جامعة ومعاهد بأموال أتى معظمها من خارج الحدود، أو أن العدالة تقتضي أن نمنع الجميع، وهنا نعود إلى مسألة العلمانية، التي أتت كحل عملي وضروري لمسألة التعدد الديني والمذهبي والفكري، فبدونها فإننا سنجد أنفسنا في تناقض واضح مع ما نؤمن به. ودعني أسترسل في هذا الموضوع - الذي أعتقد أنني قد أشرت له في رسالة سابقة - فكما ترى فإن المناهج الدراسية في اليمن والخطاب الرسمي في اليمن قد تم احتكاره لصالح فريق ديني /سياسي (سني/إخواني/سلفي) خلال الأربعين عاما الماضية وتم ذلك بدعم سعودي واضح ومباشر، وفي هذا الصدد تم بناء أكثر من 95% من المساجد الجديدة في اليمن بأموال سنية/سلفية، وتم (سلفنة) المساجد في جميع أنحاء اليمن بما فيها مواطن الزيدية والإسماعيلية والصوفية، وأصبحنا نتعامل مع هذا الأمر وكأنه أمر عادي جدا، فبإمكان س من الناس أن ينشئ جامعاً ومركز تحفيظ قرآن لفاعل خير من السعودية أو الخليج وبدعم ومباركة رسمية، في نفس الوقت لو سمعنا بأن هناك مسجداً زيدياً/اثني عشرياً يتم بناؤه بأموال من شيعة إيران أو العراق فإننا نرى في الأمر مؤامرة وشراً مستطيراً. ولو تمعنا قليلا في الأمر لوجدنا أن هناك تناقضاً في الطرح وغياباً للعدالة، فبأي حق نحرم طائفة دينية زيدية أو اثنى عشرية من أن تبني مساجد ومعاهد وفي نفس الوقت نسمح ونبارك لطائفة أخرى بأن تعمل ذلك.
إن هذه المشاكل تجعلنا نقترب أكثر وأكثر باتجاه العلمانية التي تقتضي أن لا تتدخل الدولة في القضايا الدينية بالمعنى الذي يجعلها محايدة، وهذا الحياد يقتضي إما أن تسمح الدولة للجميع بالتمتع بنفس الحقوق كأن تسمح الدولة للزيود بأن ينشئوا جامعة ومدارس ومعاهد بأموال الشيعة كما تسمح للسنة، وفي هذه الحالة فإن النتيجة المنطقية لهذا الوضع هو الاحتراب والتناحر وفقا لأجندات داخلية وخارجية، أو أن الدولة تمنع الجميع من بناء هذه المنشئات، وطبيعي أن هذا الحل سيبدو غريبا وفقا للواقع الموضوعي لليمن في الوقت الحالي، ومع ذلك فإن نقاشي معك ليس إلا لفتح آفاق للتأمل، وهو أمر مهم لتلمس الواقع.
اعذرني على الإطالة، وعلى الأخطاء اللغوية خاصة وأنني لم أحب أن أعيد قراءة النص وأبقيته كما هو، لخوفي من أن المراجعة قد تجعلني أتخلى عن فكرة إرساله كما عملت مع موضوع سابق حيث إنني هممت بإرسال رسالة لك وفكرت بأن أراجعها وحتى الآن لا أعرف أين وضعتها.
وفي الأخير أكرر شكري لاهتمامك وأجد نفسي أكرر إعجابي بما تقوم به وأملي في أن تستمر في الكتابة والبحث وشكرا
ناصر
ثانياً: مناقشة لما ورد في رسالة الصديق ناصر :
أخي الأعز الأستاذ ناصر عافاك الله
وعليك سلام الله
أحييك على تواصلك الأخوي الصادق، وليس من قبيل المجاملة أو رد الثناء بمثله أن أجزم بأنك واحد من المثقفين القلائل الخلّص الذين يتفاعلون مع حراك الثقافة والفكر على نحو من الجدية والصدق والوضوح والثقة . وكم حزنت حين أخبرتني بأنك قد فقدت ملحوظات سابقة ظنا منك بأنني قد لا أتقبل ما فيها إلا بعد مراجعة وتنقيح،كي لا أنزعج من بعض ما ورد فيها. ومع أن هذا لطف كريم منك إلا أنه أشعرني بفقدان درر من النصائح الصادقة، كما أشعرتني بأنك في هذه تعاملت معي برسمية وكلفة، وإن كانت في حقيقة الأمر جزءا من ذوقك الرفيع، لكن آمل مستقبلاً أن ترفع أي كلفة لتتم الاستفادة المرجوّة بشفافية.
أخي ناصر اسمح لي بأن أتفاعل مع رسالتك على نحو لم أتفاعل به مع رسائل أعزاء آخرين، بعضهم من كبار أساتذتي، وبعضهم من المفكّرين المرموقين،-وكلهم خارج اليمن- وذلك لما احتوته رسالتك من القضايا والأفكار الجريئة الحريّة بالبحث والنقاش، وسأبدأ بالشأن اليمني وخصوصياته لأنتقل بعد ذلك إلى المشكلة الأساس وهي مناقشة فكرة العلمانية، وعما إذا كانت حلّاً فعلياً لمجتمعاتنا الإسلامية. وألخِّص ذلك في العناوين التالية:
حركة الفكر بين الرسمية والفردية:
*بادي الرأي فإنّ ما أعنيه بالمظاهر الدخيلة على الزيدية التي أشرت إليها في رسالتك لا يفهم منه تبرير للمظاهر الدخيلة على غيرهم، لكن كان الحديث في هذا السياق ليس أكثر. ومع تأكيدي على أن حركة الفكر وتداخل الثقافة - ولاسيما في بعض تفريعاتها- يصعب الوقوف أمامها، أو منعها، لكن ما قصدته هو أن ليس من المعقول منح الشرعية (الرسمية) لمثل تلك الممارسات لأنها تؤول إلى ( فتنة) محققة. ولست في معرض سرد الدلائل على أن لكل مجتمع حدوداً ثقافية وفكرية وسياسية لا يمكن تجاوزها في الشرق أو الغرب، وأنت في هذا -تحديدا- سيّد العارفين. وإذ أقول ذلك فإني لا أعني إلا الجانب الرسمي أما الحراك الفردي فهو قائم - كما قلت- شئنا أم أبينا. ويبقى أن استيراد أفكار متطرفة من وراء الحدود أو البحار لآخرين في الماضي لا يعني مبرراً للذهاب في هذا المسار حتى النهاية المشئومة!
علمنة السياسة التعليمية:
* وفي هذا السياق ومع تداخل الأيديولوجي بالسياسي بالتعليمي يرد الحديث عن جامعة زيدية أو شيعية كما فعل الآخرون. وأود الإشارة إلى تساؤلك حول مقصدي هنا، فإنما قلت ما قلت في سياق ضعف أملي في صمود الاتفاق بين السلطة والحوثيين بعد إعلان إيقاف العمليات العسكرية فيما اصطلح على تسميتها بالحرب السادسة، لأن مطلب الجامعة الزيدية والمدارس الشرعية مطلب أساس عندهم- وقد أثبتت الأيام الماضية صواب هذه الوجهة- فتساءلت هل تخلّى الحوثيون عن المطلب الثقافي أو التربوي، بحيث لم يأتوا على ذكره في بنود الاتفاق؟ ولم أعرض لرأيي في الموافقة على مطلبهم من عدمه، ذلك أنني تناولته في غير ما مناسبة، لكن لابد من التذكير هنا بان المقارنة بين المطالب المنهجية الخاصة بالزيدية المتأثرة ببعض ما يدور وراء البحار؛ يختلف جزئيا عن تلك (المنجزات) التي حققها الطرف الآخر وهم (دعاة السنة) من مختلف الأطر والمدارس، لأن الجامع بين مطالبهم تلك والواقع اليمني وجود المذهب (السني) الشافعي على نطاق واسع. وأدرك أن ليس كل ما تحقق أو يسعى البعض إلى تحقيقه عبر مؤسسات التعليم أو مؤسسة المسجد يمثل بالضرورة ذلك المذهب، ولكنه لا يختلف من حيث الأصول والقواعد - بصورة عامة- مع المذهب السني الشافعي. على أنني أشاركك الرأي بأن ثمة أجندة خاصة أحياناً لاتجاهات أخرى غير الحوثية ( ولعلك تابعت دراستي لموضوع: السلفيون في اليمن وجدلية العلاقة بين المركز والأطراف)، لكنني من جانب آخر لست أرى الأمر مرتبطاً بالضرورة بمؤامرة خارجية، لا عند السنة التي يصفها البعض بـ( الوهابية)، ولا عند الشيعة التي يصفها البعض بـ(الرافضة)، بل هناك رؤى وقناعات لاعلاقة لها بالوقوف ضدّ المذهب الشيعي الزيدي على نحو مؤامرة أو محاولة إقصاء أو تهميش له، كما أن هناك رؤى وقناعات للطرف الآخر، لاعلاقة لها بالضرورة كذلك بالمذهب السنّي الشافعي ومحاولة إقصائه أو تهميشه. ومن وجهة نظري الخاصة فليس ثمة ضرورة ملحّة في كل حال، لذلك الاتباع، أو وجوب التقيّد بما في المذهبين، لكن ما أود التأكيد عليه في هذه العجالة- -وبحسب السؤال المحوري الوارد في الحوار المشار إليه مع أخيك عن الظاهرة الحوثية - أن ثمّة شواهد في الآونة الأخيرة بوجه خاص تشير إلى محاولة لإيجاد مجموعة مذهبية (جديدة ) في اليمن، تتبنى الفكر الشيعي الإثني عشري الجعفري، على نحو رسمي مشروع، وليس على نحو فردي حرّ، وذلك ما حذّر منه حسين الحوثي قبل غيره، الذي يبدو أنه تنبّه إلى أن تلك الفئة تتدّثر بمعبأة دعوته، كما أوضحت ذلك في كتابي عن (الظاهرة الحوثية)، وذلك أمر جدّ مختلف عن الفكر الزيدي، بكل فرقه بما فيها ما تعرف بـ(الجارودية)، بل يتصادم مع تلك الظواهر (الدخيلة) القادمة من مذهب لا وجود يذكر له في اليمن، وتلك هي الفتنة التي عنيتها، تلك التي نحن في غنى عنها من الأساس، ولا أريد أن أكرّر التفصيل حول السماح الفردي الحرّ والسماح الرسمي العام المشروع .
إن تحفّظي إنما يكمن في التداعيات أو المآلات أو الفتن المتوّقعة التي قد يقود إليها تحويل المجتمع اليمني إلى بؤرة صراع (متخلّف) لأفكار وافدة من هذا القطر أو ذاك أو ذاك باسم الدين .
التنوّع لا الانصهار:
* ما فهمته من أنني أدعو إلى ان تصبح الحركة الإسلامية نسخة واحدة؛ فهو ما لم يخطر لي على بال، بل على العكس من ذلك، فقد قصدت - وربما لم أفصح عن ذلك- أن ما وصفته بالشمولية والقهر هو الذي تعاني منه الحركة اليوم، مما أفضى إلى خلق مثل تلك الجيوب، ولو أنها تركت الجميع يفكرون بحرية في إطار الثوابت الكلية - وأرجو أن لا تفهمها غموضا أو مطاطية تدفع للالتفاف على الحرية الفكرية المنشودة - بحيث تستوعب كل أطياف الاجتهادات والتفكير بكل ترحيب وحب؛ لما حدث هذا التشظي والتربص والتراشق بالاتهامات في الغرف الخاصة! وما قد أختلف معك فيه أن هذا التنوع لا يستلزم بالضرورة ما وصفته بقولك ’’ فلو أن هناك أحادية فكرية للتيار الإسلامي في اليمن لما تمكنت أن تكتب ما تكتبه ولكان حالك حال الكتاب في العصر السوفيتي الذي كان عليهم أن يرددوا ما تمليه عليهم قيادة الحزب، وقد أشرت إلى مصادرة ما كتبت من قبل قيادة الحزب التي لم يعجبها ما قلت’’ . فأنا –يا صديقي- إنما قلت ما قلت من خارج الإطار، ولو كنت داخله لما تمكنت من ذلك إلا بضريبة عسيرة.
أصالة الذات قبل حداثة الآخر:
*مع أنني أتفق معك في جزء من مقدمة العبارة التالية إلا أني سأختلف معك في قدر جوهري من النتيجة وذلك حين قلت:’’ استطراداً لما سبق فإن الأفكار والمظاهر الدينية في مجتمعاتنا الحالية ما هي إلا مخرجات لواقع سياسي/اقتصادي/اجتماعي من حيث إن غياب الشرعية السياسية المستندة إلى التفويض الشعبي الحر والعقلاني، وهو أحد مخرجات الحداثة، تجعل الدين إحدى وسائل الحصول على الشرعية السياسية ويستوي في ذلك الحكام ومعارضوهم، فالجميع يوظف الدين للحصول على شرعية للسيطرة على السلطة والثروة والمكانة. وما لم تحل مشكلة السلطة عن طريق التفويض الشعبي فإن الدين سيبقى إحدى وسائل الصراع على السلطة، وأعتقد أن أي بحث لشرعية سياسية عن طريق الدين تحت أي مسمى (دين وسطي أو متطرف) هو بحث في الطريق الخطأ، فالسياسة التي تبنى على الدين مصيرها الحتمي هو الاستبداد بغض النظر عن طبيعة الدين، واسمح لي بتذكيرك بمصير حسن الترابي في السودان ورجال الدين الذين قمعوا ولازالوا يقمعون في إيران رغم أنهم من تولوا إقامة هذه النظم’’.
فالتفويض الشعبي حقاً هو أساس حل المشكلة السياسية، وما يترتب عليها من جوانب حيوية فاعلة ومؤثرة على مسار الحياة كلها، لكن أرجو أن لا يعزى ذلك إلى (الحداثة) (modernism) لأنها هنا لا تنصرف – بحسب سياق الحديث - إلا إلى مفهومها الغربي (العلماني)(Secularism)، الذي يعني’’ مذهباً أدبياً، بل نظرية فكرية لا تستهدف الحركة الإبداعية وحدها، بل تدعو إلى التمرّد على الواقع بكل جوانبه السياسية الاجتماعية والاقتصادية’’ ...أمّا مصطلح(modernity) فيعني ’’إحداث تجديد وتغيير في المفاهيم السائدة المتراكمة عبر الأجيال نتيجة وجود تغيير اجتماعي أو فكري أحدثه اختلاف الزمن’’، ويحسن بنا تسميته بـ(المعاصرة)؛ لأنه يعني التجديد بوجه عام، دون الارتباط بنظرية ترتبط بمفاهيم وفلسفات متداخلة متشابكة ( مولاي المصطفى البرجاوي، الحداثة بين الاستيعاب والاستلاب: قراءة مفاهيمية ونقدية، مجلة البيان، الرياض: العدد (274)، جمادي الآخرة1431هـ - مايو يونيو 2010م، ص 79)، وكان يمكن أن ينسب ذلك إلى المعاصرة أو ما يُعرف في أدبنا الإسلامي بـ(التجديد).
ومع أن محاولة التمييز بين كل من مصطلحات (modernism) و (modernity)
و( (modernization بحيث يعني الأول الحداثة، فيما يعني الثاني المعاصرة على حين ينصرف الثالث إلى معنى التجديد أو التحديث، على نحو ما ذهب إليه بعض الباحثين(مولاي المصطفى البرجاوي، المرجع السابق، ص 79)؛ أمر لا يخلو من تكلّف وتداخل لايخفى، في ظل مراجعة جملة الأدب النظري الذي تناولته المعاجم والقواميس ذات الصلة سواء منها العربية أو غير العربية، التي تناولت مفردة الحداثة بحيث لاتميّز بين (modernism) و (modernity) ؛ بيد أن ذلك لايعفي الباحث المنهجي الناقد من إدراك السياق الذي نشأ فيه المصطلح، ذلك أنّ ثمّة مدلولاً بيئياً أو عرفياً تحدِّده طبيعة النشأة وتطوّرات التشكّل، وليس لغوياً مجرداً فقط،، على نحو ما تذهب إليه الفلسفة البنيوية، وهذا جوهر إشكالها.
إن التدقيق في عملية النشأة والتشكّل عملية منهجية لا يجوز تجاوزها من قبل أيّ باحث منهجي، وهو ما ينبّه إليه بعض كبار الباحثين النقّاد في هذا المجال أمثال الفيلسوف عبد الوهاب المسيري حين يؤكّد في هذا السياق أنه ’’ قد لوحظ في العالم الثالث وجود مصطلحات أخرى مثل (الديمقراطية) و(العقلانية)، و(التنوير) و(التحديث) و(التغريب) تقف جنباً إلى جنب مع مصطلح العلمانية، ولكنها تتداخل معه في بعض الأحيان، بل ويفترض بعضهم قدراً من الارتباط العضوي، وأحياناً الترادف بينها، وهذا الخلط له أساسه، ففعل (مودرنايز Modernize) أي ( يُحدِّث) – على سبيل المثال- يعني إعادة صياغة المجتمع بحيث يتم استبعاد المعايير التقليدية، وإخضاع كل شيء للمعايير العقلية المادية العلمانية التي تتفق مع معايير الحداثة، برؤيتها للإنسان (برؤيتها للإنسان والكون )، وهذا هو أيضاً الترشيد (في الإطار المادي)، (فالتحديث هنا يعني (التحديث في الإطار المادي). ولا يختلف فعل( ويسترنايز Westernize)، أي (يُغرِّب)، بمعنى ( فرض أنماط وأساليب ومعايير الحياة الغربية) عن فعل ( يُحدِّث)، فالأنماط والأساليب (الغربية) التي يتم فرضها هي الأنماط والأساليب والمعايير العلماني، وحيث إن المجتمعات الغربية الحديث هي المجتمعات الأولى التي طبقّت فيها هذه المعايير، وتصاعدت فيها معدّلات العلمنة، حتى سادت المعايير العلمانية بشكل كبير، حتى تكاد تقترب هذه المجتمعات من الحالة النموذجية، التي يُقال لها ( مجتمع علماني)، لكل هذا ثمّة تداخل كبير يقترب من حدّ الترادف بين هذا المصطلح وسابقه، ويلاحظ أنه في العالم الثالث، تؤدّي العلمنة في معظم الأحيان إلى التغريب، واستخدام العلم والتكنولوجيا المفصلين عن القيمة’’ (عبد الوهاب المسيري، العلمانية تحت المجهر، حوار مع عزيز العظمة، ضمن سلسلة: حوارات لقرن جديد، ص 49، 1421هـ-2000م الطبعة الأولى، بيروت ودمشق: دار الفكر المعاصر و دار الفكر).
وقد أدركت أن مقصودك بالحداثة: (modernism) المعنى السائد في سياقها الليبرالي الغربي العلماني، الذي يحتمل نشؤه بعد نهاية مرحلة العصور الوسطى في أوروبا، وظهور عصر النهضة هناك أي ’’في القرن الخامس عشر الميلادي، الذي جاء على حساب سلطة الكنيسة، وأتى بالدولة القومية، ذات التوجّهات العلمانية والديمقراطية في نهاية المطاف’’ (عبد الناصر المودع، دليل المصطلحات السياسية، ص 121، 2006م، الطبعة الثانية، صنعاء: مركز التنمية المدنية، مؤسسة فريدريش إيبرت). وثمّة من يذهب إلى أن الوعي بها نشأ في العصر الوسيط، وإن كانت صفتها برزت في القرن السادس عشر( فواد وهبه، المعجم الفلسفي، ص282، 1998م، د.ط، بيروت:دار قباء)، وإن ذهبت بعض المعاجم إلى أن الحداثة لم تظهر إلا بعد اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789م، أي في القرن الثامن عشر (ملحق التعريفات التابع لكتاب العلمانية تحت المجهر، عبد الوهاب المسيري، وعزيز العظمة، مرجع سابق ص 311، إعداد: محمّد صهيب الشريف). وذلك كلّه يعني في نتيجته حقيقة موضوعية واحدة هي أن الحداثة وفقاً لسياق النشأة والتداول الغالب اليوم لاتعني سوى التغريب ((westernization، وليس التحديث أو (التجديد) (modernization) ، وهو ما أقرّ به الفيلسوف المغربي الراحل محمّد عابد الجابري في سياق مقارنته بين الموقف من الفلسفة لبعض المدارس الإسلامية القديمة وبين غيرها، بما يشبه الموقف اليوم من الحداثة ’’ باعتبار أن الحداثة لا تعترف بمرجعية أخرى غير العقل، ولكنها حداثة لا تخلو – مثل حداثة اليوم- من نوع من (الاغتراب) في فكر (الآخر)’’ . ثم يؤكّد فكرته بالقول:’’ ونحن عندما نستعمل هنا كلمة (اغتراب) فإننا نعني ما نقول...’’( محمّد عابد الجابري، مقدّمة كتاب ابن رشد( فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال)، ص 48، 2002م، الطبعة الثالثة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية).
لذلك وغيره فإني لا أسمح لنفسي بتجاوز المنطق المنهجي فأستعير مصطلحات ذات دلالات لا تعبِّر عن السياق الحضاري الذي تنتمي إليه أمتي وحضارتي، بل أعمد إلى مصطلح المعاصرة أو (التجديد) فأدور في إطارهما بحثاً واشتغالاً فكرياً، إذ الثاني –بوجه أخص- مصطلح عربي إسلامي ذو دلالات واضحة وصريحة، وفق سياقه التاريخي كذلك، وفي الحديث الشريف:’’ يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدّد لهذه الأمة أمر دينها’’ (أخرجه أبو داود في السنة، وأبو عمرو الداني في الفتن، والحاكم في المستدرك ، والبيهقي في معرفة السنن والآثار، والخطيب في التاريخ، والهروي في ذم الكلام، كما أورد ذلك الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وحكم على الحديث بالصحة، وعّد رجاله ثقات رجال مسلم انظر: محمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1403 هـ - 1983م، الثالثة، بيروت ودمشق : المكتب الإسلامي ، جـ 2 ص 150 – 151، حديث رقم (599) ).
إن التجديد – ياسيّدي- يتضمّن استنبات الحل في أصله من الذات، وفق مشكلاتها الذاتية والبيئية والحضارية، والتفاعل الإيجابي معها – لا الانفعال السلبي – في ضوء التحديات المفروضة عليها من خارجها (الآخر)، على حين أن (الحداثة) قامت ولا تزال دلالاتها منصرفة إلى (التغريب)، الذي يفرضه القوي المهيمن على الضعيف المستلَب، حيث يفرض -من ثمَّ- أنموذجه في التغيير والإصلاح حتى لو جاء ذلك معتسفاً لحقائق التاريخ متصادماً مع الواقع الموضوعي. وخذ هذا المثال عن عملية تفويض حق الشعب التي أشرت إليها، فإن التجديد فيها يعني هنا إحياء أمر قد اندرس، بسبب غلبة التخلّف إبّان عصور الانحطاط الثقافي التي طغت على المجتمع العربي الإسلامي من بعد القرن الخامس الهجري، وطلّت تتحكم على نحو أو آخر في مناهج التفكير عند بعضنا حتى اليوم، لاسيما في الشأن السياسي وتطبيقاته المتغيّرة. وصحيح أن ليس كل أمر نعمل على تطبيقه اليوم، أو نضطر إلى ذلك؛ لابد أن يكون له سلف وأسوة لدى السابقين من السَلَف، بيد أن مسألة التفويض الشعبي هذه ذات سَلَف، من خلال التطبيق العملي الذي تمّ بالفعل، في العصر الأول للإسلام، أي عصر الراشدين، وهنا المفارقة اللافتة. لقد انتخب المسلمون الأوائل عثمان بن عفّان- رضي الله عنه- ليدير أمورهم ويسوس دولتهم الفتيّة، بناء على اختيارهم وقناعاتهم وتفويضهم له،وتلك تجربة عملية يثبتها المؤرّخ ابن كثير(ت:774هـ) -على سبيل المثال وهو مؤرخ وإمام (سَلَفي كبير)- إذ يروي في تاريخه أن عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- الذي يمكن وصفه اليوم برئيس لجنة الانتخابات والترشيح، ظلّ يستشير الناس -ولمّا يُدفن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بعد- في مرشحي الخلافة بعد عمر: عثمان بن عفّان أم علي بن أبي طالب؟ واستمرّ ’’ يجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس، وأقيادهم جميعاً وأشتاتاً، مثنى وفرادى، ومجتمعين سرّاً وجهراً، حتى خلص إلى النساء المخدّرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة، في مدّة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان، في تقدّم عثمان بن عفّان، إلا ما ينقل عن عمّار والمقداد أنهما أشارا بعليّ بن أبي طالب، ثمّ بايعا مع النّاس على ما سنذكره، فسعى في ذلك عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها لايغتمض بكثير نوم إلا صلاة ودعاء واستخارة وسؤالاً من ذوي الرأي عنهم، فلم يجد أحداً يعدل بعثمان بن عفّان -رضي الله عنه- ’’(البداية والنهاية، ج7، ص146، د.ت، د.ط، الاسكندرية: المكتب الجامعي الحديث) .
تساؤلات مشروعة:
ولك الآن أن ترجع بفكرك بعيداً لهذه الممارسة التاريخية ذات الأهمية البالغة، كي تستنتج من خلالها أن لا مشكلة جوهرية بين الممارسة(الديموقراطية) التي أحبذ وصفها شخصياً بـ(الشوروية)، وبين ما تنادي به -كما آخرون- من ضرورة التفويض الشعبي...إلخ بيد أن ذلك لايؤذن باستعارة كاملة للنموذج الغربي(الديموقراطي)، إذا ما أدركنا حقيقة الذات قبل الانبهار بحقيقة الآخر. واسمح لي أن أصارحك القول - وأنت أخ سبَّاق إلى ذلك- : إن مشكلة المشكلات عندنا- ضعف إدراكنا بحقيقة الذات من خلال معين القرآن الكريم وصحيح السنة المطهرة، قبل أي مصدر آخر. وأدرك أنك ستبادر إلى القول ولكن وفق فهم أي مدرسة أو مذهب، وهنا أرجو أن تصلك نسخة من دراسة سابقة لأخيك حول إشكال من يمثل الإسلام؟ تلك التي صدرت قبل أكثر من عامين عن مركز الناقد الثقافي بدمشق، مع جملة دراسات أخرى، بهذا العنوان.؟ واسمح لي فقط الآن أن أذكّر بجزئية منها فيما يتصّل بظاهرة المدارس المتعارضة، فهذه حقيقة ثابتة – أعني التعارض والاختلاف حتى في الأصول والكليّات- في كل الأديان والفلسفات والمدارس والأفكار والاتجاهات الدينية والسماوية، العلمانية والأرضية، المؤمنة والملحدة، غير أن ذلك لايؤذن لدى أيّ منها بضياع الحقيقة، أوبسلامتها جميعاً، من حيث السويّة في الفكر أو الاستقامة في المنهج، وإلا فأنت تعلم -قبل غيرك- أن الديمقراطية ألوان شتّى، وأن الاشتراكية كذلك مذاهب قِدداً، بل العلمانية – أيها العزيز- نماذج وصور فيها من التناقض والاحتراب أحياناً ما لايخفى على مثلك، فهل العلمانية الفرنسية كالبريطانية كالأمريكية – على سبيل المثال- ؟ بالقطع ليست كذلك؟ وها أنت ذا تدعو للأخذ بهذا النموذج فأي النماذج تعني؟ وهلاّ وقفت مع نفسك وقفة تساؤل علمية موضوعية صادقة- كعهدي بك- أيّ النماذج نأخذ؟ ومن الذي يمنح واحدة منها المشروعية ويحرم سواها؟وكيف سنواجه من سيعارض النموذج المختار من قبل فئة، نفذت إلى السلطة، بأي طريقة، مشروعة أو غير مشروعة، أو تمكنّت من إقناع صانع القرار بالعلمانية؟ على افتراض أن ذلك أمر ممكن الورود، ولن يواجَه من عموم المجتمع المتديّن، بانتفاضة أو ثورة شعبية شاملة؟ أرجو أن لا تقول لي فقط: مهما يكن الأمر فليس أحد يدّعي لأي منها قداسة السماء، بخلاف اختلاف (المتديّنين)، حيث يدّعي كل منهم وصايته على الدين باسم السماء. ولئن قلت لي ذلك أولم تقل فلا أستبعد أن يقول ذلك بعض من قد يطلّع على حوارنا، أو من يؤمن بالعلمانية كـحتمية (دوغماء) لاتقبل سوى الانصياع والإذعان. وحينها أجدني مضطرّاً لأن أسترسل فأذكّر بأن ليس لأحد أن يصف الفكر الإسلامي الوسطي{ وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}(البقرة:143) بصفات التحدّث باسم السماء، أو أن يشبّهه بالحكم الديني الثيوقراطي الكهنوتي(الكنسي) الذي حدث في أوروبا على مدى قرون متطاولة، على يد رجال الديّن هنالك، ذلك أنه وإن وجد عندنا من قد يمارس مسلك البابوات ورجال الدّين؛ فإنّه يمثل وضع الشذوذ، وإلا لما كان لسان حال الأئمة العظام ومقالاتهم كالأئمة الأربعة وسواهم تؤكّد أن ليس للعالم أو المفتي أن يجزم بالحل والحرمة في كل مسألة تعرض له، وإنما يقدم رأيه وفهمه لا أكثر ولا أقل، ولولا خشية الإطالة لأوردت عليك بعضاً من ذلك، لكني جمعت بعض أقوالهم في هذا الباب في دراستي المشار إليها في كتاب( من يمثل الإسلام؟)، وحسبي في هذا السياق الإشارة إلى ذلك التوجيه النبوي العظيم الذي يخاطب فيه النبي – صلى الله عليه وآله وسلّم- قادته العسكريين – على سبيل المثال – بقوله: ( ........ وإنك إن حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على رأيك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا )(مسلم، صحيح مسلم (بشرح النووي) ، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته بآداب الغزو وغيرها عن بريدة بن الحصيب، د.ت ،د .ط ، القاهرة المكتبة الأميرية ومطبعتها، جـ 12 ص39 – 40). فالاتجاه الغالب – أيها العزيز- في كل عصر هو اتجاه الوسطية الإسلامية، أي السواد الأعظم من المسلمين، من مختلف المذاهب والطوائف المعروفة بـ(أهل القبلة)، استناداً إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن أنس بن مالك’’ من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم الذي له ذمّة الله ورسوله’’، وهذا الاتجاه يبرأ في مجمله من ذلك المسلك (البابوي) الشائن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فذلك الوصف ذاته أعني احتكار الحقيقة والتحدّث باسم المطلق والنهائي؛ ينطبق على الاتجاه العام لـ (العلمانية)، من حيث التطبيق والواقع، في الغالب الأعم، لا من حيث الشعار والإعلان، ولا يعنيني أكثر من الأول، ذلك أن الشعار مالم يجد له مصداقية مجسّدة لأحقيته كاتجاه عام أو غالب يظل شعاراً فارغ المحتوى والفاعلية. وكي لا نقع في ازدواجية المعايير فإنك إن قلت لي: الأخطاء في التطبيق لاتعني فساد النظرية ضرورة فسأجيبك لماذا تستقيم هذه القاعدة في اتجاه العلمانية ولاتستقيم في اتجاه الفكر الإسلامي، مع فارق جوهري لصالح الفكر الإسلامي يكمن في أنّه ظل فاعلاً مؤثّراً – بأقدار متفاوتة- طيلة أكثر من أربعة عشر قرناً على حين أن كل المقدّسات والأيديولوجيات (الوضعية) تلاشت في بضعة عقود، ولم يبق لها سوى نخب متناحرة غالباً، معزولة عن الفاعلية والتأثير المجتمعي، وما ظل منها حاكماً فقد نُسخت نظريته عملياُ، ولم يبق من جوهر الفكرة الأصلي سوى العنوان، أمّا تطبيقها فلايقارن بتطبيق النظرية السياسية الإسلامية، على مدى القرون السابقة، أيّاً ماشاب بعضها، من خلل أو انحراف، ولعلك تلاحظ معي أنّ كل الضربات التي وجّهت للإسلام؛ لم تقض عليه بل زادته قوّة إلى قوّته، إذ يخرج كل مرّة، أكثر قوّة وصلابة من السابق، كالذهب الذي لا تزيده قوّة الطرق إلا لمعاناً، ولك أن تلاحظ هذا في حجم التآمر على الإسلام في أيامنا داخلياً وخارجياً، مع ما يعلمه الجميع من الوضع البائس للمجتمعات الإسلامية، وذلك يؤكِّد أن قوّة الإسلام الذاتية المستمدة من قوة أساسه، وثراء ينبوعه هي المحكّ الفاصل بينه وبين كل الأيديولوجيات والمقدّسات البشرية؟!!!
مفارقة : المقدّس الديني أم العلماني؟
* إنّّ ما يوصف بالمقدّس((Sacred الديني ليس المشكلة الكبرى حقيقة، بالقدر الذي يؤكّد أن إحلال العلمانية ليس الحلّ السحري لمجتمعاتنا. ومع التأكيد على أن الاستبداد والعسف والطغيان قد يرد تحت دثار الدِّين أو العلمانية؛ لكن المفارقة التي ينبغي أن لانمرّ عليها مرور الكرام تشير إلى أمر غاية في المفارقة، ذلك أن كل من أراد أن ينال من المقدّس إنما يشير إلى المقدّس الديني، دون غيره من مقدّسات العلمانية، على حين أن كل الشواهد تدلّ أن أبرز الطغاة الذين حكموا العالم المعاصر الشرقي والغربي أغلبهم إن لم يكن جميعهم ممن ينتمون إلى تيار العلمانية، وليس التيارات الدينية، وإذا كنتُ جريئاً فأذكر بعض رموز العلمانية الشيوعية السوفيتية أو الغربية أو الصينية أو سواها كاستالين ولينين وهتلر وموسوليني، أو ماوتسي تونج وحتى بوش الابن، وسواهم من مختلف القارات والبلدان، غير أني أصدقك القول: إني لا أجرؤ أن ألمِّح إلى بعض (المقدّسات) العربية العلمانية– كي لا أفقد بعض أصدقائي وربما بعض قرّائي- ذلك أن حجم الهالة وضخامة التقديس بل (إخلاص العبادة) على الطريقة العلمانية طبعاً، تلك التي صنعت حولهم هالة (الكهنة)، بحيث لا يسمح بانتقاد أو حتى إبداء ملاحظة لدى بعضهم، تحول دون ذلك التصريح، أو الجبن – إن شئت الدّقة- !! ورحم الله الراحل العزيز حميد شحرة الذي أشار في ذات مقال بمجلة نوافذ إلى أن كثرة الحديث عن المهدي المنتظر لابد له من مراجعة، إذ لا يعقل أن يظهر المهدي – وفق مذهب المؤمنين بقدومه- في عالم لايزال يقدّس أمثال الرمز فلان وفلان وهم على غير منهج المهدي قطعاً(وعدّد شخصيات مقدّسة عند اليمين واليسار)، فلم يغفر له بعضهم وجهة نظره، بل لقد قال لي رحمه الله في ثنايا استغرابي لسرّ ذلك الهجوم العنيف عليه: أتدري ممن أتى أقسى الردود؟ فسألته ممن ياتُرى؟وظننت أنّه سيشير إلى أحد المراهقين المتهوّرين، لكنه ذكر لي شخصية يسارية مسنّة نسبياً، يعلو سمتها الظاهري الوقار، واشتهرت منذ سنوات بالتنسّك والزهد، ذلك أن حميداً مسّ مقدّسه (الفرد)!!
فبالله عليك – عزيزي ناصر- ما المقدّس في أعلى درجات الغلوّ إن لم يكن ذلك تقديساً للعباد، لكن تركيز بعضنا السلبي –للأسف- على المقدّس الديني وحده، أفقده التوازن، وراح يجري وراء سراب (مقدّس) لاشعوري هو العلمانية ؟!
بتعبير آخر أليس مثيراً للعجب حقّاً أن يأتي من يعمل على إقناعنا اليوم بأن سبيل التحرّر من القمع وانتهاك الحقوق والحرّيات، وإخراجنا من دائرة الاستبداد والظلم والتخلّف إنما يكمن في إعلان موقف رافض للدين بمفهومه الحضاري الشامل، واستيراد (دين) بِدْعي غريب جديد على مجتمعاتنا–وإن لم يعترف بذلك أنصار العلمانية لكن العبرة بالتطبيق لها كمنهج حياة-.
يقول المفكّر المصري رفيق حبيب ( وهو من عائلة مسيحية شهيرة في مصر) :’’ والحق أن العلمانية ليست التعبير الدقيق فالفكرة والكلمة في القاموس الغربي هي الدنيوية في مقابل الدينية، وهي أيضاً غير المقدّس في مقابل المقدّس . ومن هذه الرؤية تم نزع الضمير عن العقل وأصبح الأخير مرجعه بيولوجياً ومادياً، لأن العقل هو أكثر جهاز بيولوجي متقدِّم ووظيفته أصبحت تحقيق الّلذة البيولوجية ، لذلك أصبحت المادة (تتقدّم) من خلال مرجعية مادية متحرّرة من كل قيد (معنوي)،غير مادي مفارق للمادة ومتجاوز للطبيعة.
ولنا أن نرى الصورة بأسلوب آخر فليس صحيحاً أن الحضارة الغربية بلا مقدّس، بل هي بلا ضمير مقدّس، فنزع القداسة عن الدِّين والضمير والأخلاق ، أو بمعنى آخر تنحية هذه التكوينات المعنوية كان – وما زال- يعني أنّ القداسة تمّ سحبها من مجال المثال المتجاوز للمادة إلى المادة نفسها، فالحاصل أنّ الّلذة أصبحت مفهوماً مقدّساً، وكذلك مجتمع الوفرة والرفاهية والاستهلاك ، وكل هذه المنظومة المادية . لذلك فالعقل الحرّ يمارس حرّيته من خلال اعترافه الضمني بقداسة الرؤية المادية ، فأصبح حرّاً من الضمير ، وأسيراً للرؤية المادية ، لذلك فإن أيّ تفكير ينزع القداسة عن المادة ، يعتبر تفكيراً ظلامياً وخارج العصر’’ ( رفيق حبيب، المقدّس والحرّية،ص 10- 11، 1418هـ- 1998م، الطبعة الأولى، القاهرة وبيروت: دار الشروق).
ويتابع:’’ بهذا المعنى نرى أن لكل حضارة مرجعية مقدّسة، لا يمكن المساس بها. وهذه المرجعية قد تكون مستمدة من الضمير والقيم والدّين، أي متجاوزة لعالم العمادة، وقد تكون ملتصقة بالمادة ونابعة منها. لهذا فروح العصر تقدّس المادة، عندما جعلت العقل مرجع نفسه، والإنسان مركز الكون، ثمّ تح. ومع نهاية القرن العشرين تحوّلت القداسة شيئاً فشيئاً، فيما يسمّى بما بعد الحداثة، فأصبحت القداسة للمادة التي أصبحت مركز الكون . تلك الرؤيا السائدة لدى الحضارة الغربية، هي ما يتمّ زرعه في أوساط العرب والمسلمين، منذ قرنين من الزمان تقريباً. ومع نهاية القرن العشرين أصبحت هذه الرؤية سافرة على أمّة الوسط ، في محاولة لزرع قداسة العقل والإنسان والمادة، في مواجهة قداسة الأخلاق والقيم والدّين’’( المرجع السابق، ص 11).
ويوجز رفيق حبيب رأيه في هذا بقوله:’’ وحتى نحرّر المسألة؛ نؤكّد ما وصلنا إليه سابقا، من أن العلمانية هي نزع القداسة عن الدّين، أي عن المقدَّس، وجعل المادي والدنيوي وغير المقدّس مقدَّساً ضمنياً. وما أردنا تأكيده أن أيّ حضارة تبدأ ببديهيات لا تقبل الجدل ومسلّمات يفترض صحتها ولا يتم التشكيك فيها، وهذه النقاط المرجعية هي المقدّس، حتى وإن كانت أفكراً مادية وغير إنسانية. وبالتالي نتصوّر أنّ المقدّس ضرورة، لأنه الغاية النهائية الكامنة في أيّ رؤية ، والتي تحدّد تمسك الرؤية واستمرارها وقدرتها على إعادة إنتاج أفعالها ... من هنا نؤكِّد ضرورة المقدّس، وعليه يجب أن نحدّد موقفنا لابين الارتكان للمقدّس من عدمه بل بين أن يكون المقدّس هو الضمير أو يكون العقل الحرّ النفعي. فالتصوّر العلماني يفرض علينا مقدّسات، تحت شعارات تنادي بتحرير العقل من قيود المقدّسات.
وبالتالي فما نواجهه اليوم هو صراع بين مقدّس وآخر، أي بين قبول الرؤية المادية كمقدّس، أو إعادة إفعال مقدساتنا، والتي تنتمي للضمير والدّين والأخلاق . فالاختيار بين تقديس المادة، وتقديس المعنى. وفي النهاية فالقداسة ضرورة والاختيار بالتالي حتمي’’ ( المرجع نفسه، ص 12-13).
وحاصل القول: إنّه إذا كان دين الإسلام يمنح كل من يعيش في كنف حضارته حرية فردية وجماعية قلّ نظيرها، بشهادة بعض رموز الديانة المسيحية ( راجع: القرضاوي: بيّنات الحل الإسلامي،ص 231- 247 )؛ فإن الدين الجديد (العلمانية) ليس بأكثر من قهر لأغلبية المجتمع، وإقصاء للمخالف من داخل الدائرة، وسقوط في شرك الازدواجية فجّة في المعايير، على حين يتم استعارة خرقاء لمقدّس الآخر المهيمن ونموذجه ومعاييره، كي تصبح وحدها المطلق والنهائي والقول الفصل !!
ألا ترى أن بعض العلمانيين يدّعي لعلمانيته أو اتجاهه الفكري أو الأيديولوجي (قداسة) من نوع ما قد تكون أبلغ من قداسة السماء، ولا تختلف في شيء عن قداسة غلاة المتدينين وتطرّفهم؟ وإلا ففسّر لي ظاهرة الاحتراب المسلّح بين الفئات العلمانية في أكثر من قطر، ولعلك تذكر – على سبيل المثال- أن الحركات القومية واليسارية في عالمنا العربي – على سبيل المثال- علمانية ( لا نزاع في ذلك)، وقد حدث بينها من الاقتتال تحت عناوينها (المقدّسة الخاصة)( القومية- العروبة - الوحدة- - الاشتراكية- الدفاع عن الطبقات الكادحة- العدالة الاجتماعية- الوطن- العروبة...إلخ) ضد قائمة الشرّ المطلقة ( الرجعية- الأصولية- القوى المتطرفة الإسلاموية- حركات الإسلام السياسي ...إلخ)، وفي سبيل القضاء عليها استباحت كل محرّم كتدنيس قداسة الدّين، أو انتهاك العرض والشرف والكرامة، أو التفريط بالسيادة، والتبعية لهذه القوة المهيمنة أو تلك، وهل الصراع الداخلي الشهير يبن جناحي حزب البعث في العراق وسوريا طيلة العقود الماضية، أو صراع المجموعات الماركسية المسلّحة التي كانت تحكم جنوب اليمن، وما عرف بمحرقة 13 يناير عام 1986م، إلى حدّ أن بلغت درجة التصفية على الهويّة – على سبيل المثال-، عدا الصراع الشهير بين البعثيين والشيوعيين في العراق أو سوريا أو مصر، إلا أمثلة محدودة من أمثلة عدّة، لكن كأني بآخرين ممن يشايعون مقولة (الحلّ العلماني) سيقولون: سلّمنا بأن البلاد ذات الأغلبية المسلمة المتجانسة لاتستدعي العلمانية فكيف بالبلدان ذات الإثنيات والطوائف الدينية والعرقية المختلفة الكبرى كلبنان أو العراق، أو حتى الهند أو نحوها، هل يمكن النزاع بأن العلمانية هي الدواء الناجع والحل الحتمي في مجتمعات مختلفة كهذه؟! وأجدني من منطلق العقل والشرع والواقع أنازع في ذلك جدّا، بل أرى أن ذلك إنما يؤيّد وجهة النظر الأخرى القائلة إن العلمانية في المجتمعات الإسلامية كارثة مجتمعية محقّقة، وفي غير الإسلامية لا تمثّل حلّاً كاملاً، بدليل جملة من الوقائع التي أكّدت ذلك، وسأشير إلى طرف يسير منها لاحقاً، ولكن قبل ذلك دعنا نناقش النموذج العلماني الفاقد لروحه التي يزعم أنها سرّ بقائه وتفوّقه وهي (الديمقراطية)، على حين أنه لايعلن اعترافه بخطيئة دعواه، حين يجد نقيض ذلك على الأرض، في غير ما تجربة، بل يمضي ليقدّم تبريرات (متهافتة)، تشعرك بأن العقل والأخلاق معاً غير معتبرين في مقاييس النماذج العلمانية، بل المصالح وحدها، حتى لو كانت ظالمة فاشية قاتلة للديمقراطية (المفترى عليها)، وذلك هو الانعكاس العملي للفلسفة التربوية البراجماتية في أبشع صورها !
علمانية بلا ديمقراطية:
إذا كان بعض المؤمنين بحتمية الحل العلماني يحاولون تبرير الإخفاق الذريع الذي منيت به العلمانية في أكثر من مجتمع؛ بأنّه لم يتلازم مع الديمقراطية؛ فبالله عليك أجبني ما الذي يتبقى من العلمانية إذا فرّغت من جوهرها الديمقراطي هذا؟ أو – بالأصحّ- نُزعت منها روحها التي تباهي بها كل التجارب الأخرى؟! أي بأن تصادر حقوق أغلبية المجتمع الإسلامي – أيّ مجتمع- إذا فرضنا عليه الحل العلماني إرضاء لرغبة (نخبة) معزولة، لاقيمة لها في الضمير الجمعي للمجتمع، ولا تأثير يذكر، كمّاً ونوعاً! ومعذرة لهذه المصارحة التي ربما تزعج بعض الأصدقاء والزملاء. واسمح لي هنا بأن أورد رواية ذات مغزى حكاها الشيخ المجاهد الراحل محمّد الغزالي وتكشف جانباً من أزمة الوعي لدى الاتجاه العلماني بعامة، فيروي الشيخ أن حواراً جرى بينه وبين شخص (يدّعي العلمانية والديمقراطية)؛ حين بادره الشيخ بالسؤال عن معنى الديمقراطية، فأجاب الرجل -في زهو-: أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، فردّ عليه الشيخ أكْمِل التعريف، فردّ الرجل بأن هذا هو التعريف بأكمله، فألح عليه الشيخ إلا أن يكمل التعريف، فردّ الرجل بإصرار أكبر، وثقة لامجال فيها للشك، بأن هذا هو التعريف ولا مزيد عليه، فردّ الشيخ: إن بقية التعريف عندكم أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، إلا أن يكون الشعب مسلماً، فلا يحق له ذلك!!
إن عدت وقلت لي إن استشهاد خصوم العلمانية بالنماذج التي حكمت سوريا أو العراق أو مصر أو تونس أو تركيا أو جنوب اليمن (سابقاً) علمانيات منقوصة، لأنها افتقدت شرطاً أساسياً فيها وهو الديمقراطية، وعلى افتراض أن ذلك أمر مسلّم به لدى كل من يؤمن بالحل العلماني، وأن ذلك بات اعترافاً من الجميع بخطيئة الإقصاء والمصادرة التي لحقت ببعض فرقاء العمل السياسي والفكري في السابق، وفي مقدّمتهم ذوو الاتجاهات الإسلامية؛ وأن ذلك الاعتراف إعلان رسمي بالتوبة بعد الخطيئة؛ فإن اعتراضاً آخر وجيهاً على منطق كهذا سيرِد من داخل فلسفة العلمانية ذاتها، وذلك حين تطالبها بان تكون ديمقراطية، بمعنى أن تسمح لجميع قوى المجتمع وفعالياته الحيّة بالمشاركة بمن فيهم الإسلاميون، مع أن الإسلاميين هم الأغلبية التلقائية عادة، (والنموذج التركي خير شاهد)؛ لكن التناقض السافر والساخر معاً سيبرزان بفجاجة ما بعدها فجاجة، حين تأخذ العلمانية باليسار ما تظن أنها قد أعطته باليمين، أي أن الشجعان من أبنائها الذين ينتقدونها من الداخل ويعترفون بجريرة قهرها وتسلطها وإقصائها لأكبر القوى الحية في المجتمع– وهم يقصدون الإسلاميين بطبيعة الحال- سينزعون روح الإسلاميين في الوقت الذي يطالبون فيه بالسماح لهم بالمشاركة السياسية، لأنهم إذ يطالبون العلمانية بالتوأمة أو التلازم مع الديمقراطية؛ فإنهم يطالبون الإسلاميين في الوقت ذاته بأن يتخلوا عن مقوّمهم الأساس وهو الإيمان بشمول الإسلام للنظام السياسي والاقتصادي والتربوي والإعلامي والصحّي والمجتمعي من الناحية الأخلاقية والسلوكية، وأن يقتصر برنامجهم على جوانب الخدمات والتنمية البعيدة عن كل ما يشي إلى الإيمان بتدخّل السياسة أو الاقتصاد أو التربية أو الإعلام في الدين، مع أن دينهم يمثّل القاعدة الأساس الموجّه لهم في برنامجهم الخدماتي هذا وسواه، مما يزعج سدنة العلمانية السماح لهم بالإعلان عنه، وذلكم هو الفاصل الجوهري بين الإسلاميين وفرقائهم في الغالب، في أيّ مجتمع، من الناحية الفكرية أو الفلسفية!
نموذج العلمانية في العراق:
وإذا كان البعض يأبى إلا أن يصوّر النموذج الحالي الذي يحكم العراق وما يمثّله من انتهاكات خطيرة جدّا لحقوق الإنسان، بأنّه نتاج حكم (رجال الدين) أو المؤسسة الدينية ليستدل من خلال ذلك على حتمية الحلّ العلماني الذي كان يحكم العراق قبل سقوطها في 2003م؛ فإن تلك مغالطة مركّبة، تستأهل التعليق، إذ إن العهد الجديد إن هو في الواقع إلا إفراز صارخ لواحدة من أكبر مخرجات أكبر الدول علمانية في العالم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، فهي التي تدخّلت لإسقاط الحكومة (الدكتاتورية) السابقة، بالمدفع والدبابة والطائرات، والصواريخ والأسلحة المحرّمة دولياً، وليس عبر الصندوق وبالوسائل الديمقراطية، أو لأن التغيير هناك قد جاء عقب انتفاضة شعبية داخلية حرّة مستقلّة، ولكن تم الاحتلال العسكري للعراق تحت دعوى كاذبة مضحكة هي امتلاك العراق لسلاح الدّمار الشامل، وهي أكذوبة مخزية، ثبت سخفها وانحطاطها قبل أن تبدأ الولايات المتحدة بتدمير العراق إنساناً وبيئة ومؤسسات وعلماء، وكل ما كان مشرقاً فيها، لتعيده إلى ما قبل عهد القراءة والكتابة والطباعة، وقبل أن تعلن الوكالة الدولية للطاقة الذريّة أمام العالم أجمع أن لا حقيقة لوجود سلاح دمار شامل في العراق، ولكن جاء ذلك الإعلان بعد خراب البصرة، بل العراق كلّه، بالتنسيق مع جملة من المرتزقة، أغلبهم ينتمي إلى المؤسسة الدينية (التقليدية)، وهم الذين تسنّموا مقاليد الأمور هنالك، وغدو ذوي الصوت العالي بل الحاسم!!! ويتلقّون الدعم المطلق من الإدارة الأمريكية، وعلى حين تعلن الولايات المتحدة عداءها المطلق لإيران، التي تصف حكمها بحكم (الملالي) و(رجال الدّين)، وتتوعدها بالعقوبات القاسية، بل تذهب أحياناً إلى خيار الحرب العسكرية معها؛ فإن دعمها لا ينقطع عن أبرز حلفاء إيران و (رجال الدّين) في العراق، لكن ذلك كلّه لن ينسينا أن جريمة احتلال العراق وتدميره باتت مجلجلة مضاعفة، أكثر من أي وقت مضى، بما كان يستدعي عقاباً رادعاً من المؤسسة الدولية للمحتل، ومحاسبة داخلية عسيرة في دولة المؤسسات العلمانية، لمهندسي الحرب الكبار؟ أمثال مجرم الحرب رامسفيلد – على سبيل المثال- وكبير الإرهابيين (بوش)؟ وسيئة الذكر (كونداليزا رايس) هل حوكموا، وأودعوا السجون، من ثمّ؟ أم أنهم يتمتعون بكل امتيازات (القادة التاريخيين الأبطال)؟!! ولكن – من جانب آخر – أعود مع نفسي فأتساءل: أليس من السخف وضع أسئلة كهذه إذا كانت سياسة بوش من الناحية الجوهرية والعملية – دعوكم من الأشكال والدعايات الإعلامية في الانسحاب الصوري ونحوه- مستمرة في العراق، كما في أفغانستان، في عهد من ظنّه البعض (مخلّصاً) جديداً ؟!
وعلى افتراض حسن النيّة أو السذاجة وأن الإدارة الأمريكية وقعت تحت تأثير الخداع من قبل عملائها (ذوي العمائم)، وسواهم، فبنت على ذلك قرارها المشئوم بالحرب القذرة؛ فإنّه كان المتوقّع منطقياً وأخلاقياً أن لا تستمر الإدارة الأمريكية السابقة أو الحالية في دعم تلك الحكومات العميلة، بل أن تنفض أياديها عنهم، وتعلن أمام العالم براءتها منهم، ذلك أن رموزها استغفلوها فأوهموها بوجود سلاح شامل ولا حقيقة له، بيد أن أم الديمقراطيات المعاصرة، وإن شئت فقل (النموذج العلماني الأبرز في العالم) الذي يباهي بأن نموذجه العلماني فريد، إذ هو قائم على الفصل بين الدين والدولة، حماية للدين من الدولة، على خلاف النموذج الأوروبي الذي يفصل بين الدّين والدولة حماية للدولة من الدِّين؛ استمر في دعم سلطة ( رجال الدين) من (ذوي العمائم) ومؤازرتهم ليحكموا العراق(الحديث)، بعد أن أحالت سياساتها أرضهم يباباً، إذ منحتهم المشروعية المطلقة، وحمتهم بقواتها العسكرية، وصارت العراق – بفضل سياسة الولايات المتحدة الخارجية- تحتل المراتب المتقدّمة في سلّم الدول الفاسدة، وفق آخر تقرير لمنظمة الشفافية الدولية للعام 2009م، ودفعت هذه السياسة بشركات الحماية الخاصة سيئة السمعة كـ( بلاك ووتر) وسواها، إلى أن تسلك منهج المتوحّشين البرابرة، ضدّ أبناء العراق، خارج القانون، ولم تحاسب أحداً فرداً أو مؤسسة على جرائمه، سواء كانوا عراقيين أم أمريكيين ، تلك الجرائم التي فاقت كل خيال، إذ استعملت أساليب جهنمية في سجونها المتوحِّشة وأشهرها (أبو غريب)، وانتهكت حقوق الإنسان على نحو قل ّ أن يوجد له نظير، وكم من أفراح استحالت إلى أتراح، تحت دعوى ملاحقة المجموعات الإرهابية! ولك الآن أن تتساءل معي كيف يحدث ذلك التناقض كلّه ؟ أي أن تدعم أكبر دولة علمانية (رجالات دين) أساءوا إلى الدين والدنيا معاً، ومثّل نموذجهم في الحكم الصورة إن لم تكن الأبشع؛ فإنها لا تقلّ بشاعة عن أسوأ النماذج في المنطقة، أم أنها السياسة أولاً وآخراً، فلا يعصم شعار دين أو علمانية من يسير في ركاب الشرّ، ويبيّت للظلم والعدوان، وإذاً فلماذا نرفع عقيرتنا بأن الحل السحري كلّه يكمن في النموذج العلماني، وأن القضاء على الصراعات الطائفية والإثنية، إنما يتم من خلال الحل العلماني لاسواه، على حين نجد أن أكبر الدول العلمانية تدعم نموذجاً (دينياً) للحكم في العراق – مثلاً-؟!!
ويبقى من الضروري هنا التأكيد على أن الحكم الذي كان يحكم العراق قبل السقوط على أيدي قوات الاحتلال وعملائها كان نموذجاً علمانياً، وليس دينياً، ذلك مؤكّد، لكن السؤال الأهم هنا : هل تعايش الجميع في ظل ذلك الحكم حقّا؟ الواقع يشهد أن الجميع لم يتعايش، وإنما كان مقموعاً، والقمع لايعني القناعة، وهذا شأن الديكتاتوريات التي تحكم بالحديد والنار في القديم والحديث، ترعب المجتمع بسياساتها القمعية، فيعيش الناس كالقطعان، فيصوّر الحاكم وزبانيته ذلك على أنّه أمن واستقرار وتعايش، وشتّان بين منطق قطع الطريق ومنطق البطولة! وفي النموذج العراقي(العلماني) السابق للاحتلال: كم من علماء دين أحرار معتدلين(وسطيين) من السنّة قبل الشيعة، دخلوا السجون، وبعضهم مات تحت التعذيب، وانتهكت كرامته، وربما جرّ ذلك وبالاً على عائلته، وبعضهم الآخر عاش مشرّداً، كما أن بعضهم الآخر، تناسى كل الذي جرى له أو لآسرته أو لإخوانه، وراح اليوم ينزوي في إطار المشروع الطائفي الخاص به كردّ فعل أعمى على الطرف الآخر، ثم إنه كان في إطار ذلك الحزب (العلماني) شُلل ومراكز قوى، أهمها العشيرة، بل الأسرة، وذلك إفراز آخر من إفرازات العلمانية في منطقتنا! أقول ذلك لأن دعاة الحلّ العلماني يحمّلون الدَّين تبعات كل سلوك منحرف ممن يدّعي انتساباً إليه، دون أن يحمّل الطرف العلماني الوزر ذاته !
العلاقة بين الدين والسياسة في الولايات المتحدة:
عزيزي ناصر:
لعلك مطّلَِع على بعض الأطاريح أو الدراسات أو التقارير أو المقالات التي تناولت علاقة الدّين بالدولة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومدى تأثير العامل الديني على صانع القرار السياسي هناك؛ إلا أني لا أدري إن كنت قد اطّلعت على أطروحة الدكتوراة التي تقدّم بها الدكتور يوسف الحسن عن البُعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني؛ وفي ظني أنها تعدّ من أوفى تلك الدراسات وأعمقها، حيث خلصت – وأستميحك لقراءة بعض نتائج الدراسة- إلى أن الاتجاه الصهيوني مترسّخ في المسيحية الأصولية بالولايات المتحدة، وأن نظرة هذه الحركة تقوم على قانون لاهوتي توراتي يتلخّص في ضرورة إيمان كل مسحي مخلص بالعودة الثانية للمسيح(Second Coming of Christ) وأن قيام دولة (إسرائيل) واستيلاءها على مدينة القدس إشارة إلهية تعني أن العودة الثانية للمسيح على وشك الحدوث. وبناء على ذلك فإن مسألة دعم إسرائيل مادياً ومعنوياً ليس أمراً اختياريا، أو إنسانياً، بل قضاء إلهي لأنه يسرّع في قدوم المسيح، ومن ثم فإن من يقف ضدّ إسرائيل فإنما يقف ضدّ إرادة الله! ( يوسف الحسن، البُعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني، 1990م، الطبعة الأولى، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ص 186).
وفيما يتعلّق بدستورية فصل الدّين عن الدولة في الولايات المتحدة تخلص الدراسة إلى أنّه ’’ وعلى الرغم من دستورية فصل الدّين عن الدولة؛ فإن الجدار بينهما كان واهياً، وإن الفصل كان مقصوداً به حماية الدّين من تدخّل الدولة في شؤونه، وإن تنفيذه عملياً ظل عرضة للتغيّر تبعاً لموازين القوّة داخل المجتمع، ولأطماع الدولة والكنيسة، وقدرة أحدهما على أن تسود على الأخرى، فتتجاوز حدود المستوى النظري لعملية الفصل.
وقد تبيّن أن الكنيسة الأمريكية نظام شمولي في أغراضه وأنشطته وعلاقاته، وتمزج الدين بالتعليم وبالخدمات الاجتماعية، وبالطب وبالسياسة وبالفنّ وبالحرب والسلم...إلخ ولا يفلت من شباكها شيء يتعلّق بالحياة اليومية للإنسان. وقد استنتجت الدراسة أن البروتستانتية هي التي تمثّل الأكثرية الغالبة للشعب الأمريكي، وتكمن فيها مصادر النفوذ السياسي، ليس بسبب كثرة عددها فحسب، بل لكونها طبقة الكنيسة العليا، أو ما يسمّى كنيسة الانكلوسكسون البيض التي تختصر عادة بكلمة ’’واسب’’ (WASP) . وقد استخدمت الكنيسة الوسائل والأساليب نفسها التي تستخدمها المنظمات والمؤسسات المدنية، من حيث التأثير في السياسة العامة للمجتمع، وخاصة ممارسة أساليب الضغط المنظّم المسمّى اللوبي، ووسائل استطلاع الرأي العام، وأجهزة الإعلام الحديثة، وأدوات الاتصال الجماهيري. كما ملكت وأدارت جامعات ومؤسسات تربوية وتعليمية وإعلامية واستثمارية، مما وفّر لها إمكانات مالية ضخمة، وملكت بذلك عقول الملايين من الأمريكيين وجيوبهم، وقد وجدت الدراسة أن العقدين الأخيرين ( يقصد السبعينات والثمانينات) شهدا توسّعاً في التعليم الديني في الولايات المتحدة، الأمريكية، سواء من حيث عدد المؤسسات التعليمية أو عدد التلاميذ، فضلاً عن انتخاب رئيسين للجمهورية يؤمنان بأهمية الدّين وبدوره في المجتمع، فالرئيس السابق جيمي كارتر أعلن عن عقيدته وإيمانه بشعار ( الولادة الثانية) كمسيحي أصولي، وجسّد ما في هذه العقيدة من اتجاهات صهيونية نظرياً وعملياً. كما عبّر عن ذلك ومارسه الرئيس رونالد ريغان، واعتبر أن للدّين دوراً أساسياً في الحياة السياسية للولايات المتحدة الأمريكية. وفي النتيجة فإن حركة المسيحية الصهيونية التي هي في غالبيتها بروتستانتية، هي أهم ظاهرة سياسية في العقدين الأخيرين من هذا القرن’’ ( المرجع السابق، ص 188-189).
وتأمّل في زمن هذه الدراسة فإنها كانت في التسعينات من القرن الميلادي المنصرم، أي قبل عقدين من الآن، وقارن ذلك بالسياسات التي جاءت بعد ريجان، ناهيك عن عهد بوش (الابن)، وما جرى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مطلع الألفية الثالثة، حيث ما برح بوش يكرّر مقولته بأن الرب أوحى إليه أن يتخذ قراره المصيري أو الكوني هنا أو هناك، ولذلك ارتكب كثيراً من الحماقات المدمّرة، في سياسات إدارته الخارجية، ومنها قرارا الحرب في أفغانستان والعراق، وبوش (الابن) هو أول من أعلن -من بين رؤساء الولايات المتحدة- عنوان الحرب الصليبية (Crusade War ) عند إعلانه الحرب على أفغانستان في 2001م، وقد ظن البعض ذلك منه زلّة لسان، بعد أن عاد فاعتذر، نظراً للتداعيات المدويّة لمقولته، إلا أن التحليل النفسي (السيكولوجي) لشخصيته في ضوء مواقفه الأخرى وانتمائه الفكري والوجداني المعروف إلى اليمين المسيحي (Christian Right Wing)، أو ما يُعرف بـالمسيحية الصهيونية (Christian Zionist) يقود إلى نتيجة فحواها أن الرجل يعني ما يقول، وليست زلّة لسان، بل تعبير عن ذهنيته ونفسيته واتجاهاته تجاه الآخر (المسلم). ومن المعلوم أن المحافظين الجّدد (The Neo Conservatives) ذوي المنزع الاحتلالي للعالم باسم نشر القيم الأمريكية في العالم يمثلون الأغلبية في عهد إدارته، وقد تأكّد ذلك أكثر مع تزايد نفوذهم داخل البيت الأبيض وفي قرارات إدارته، ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بذريعة أن غياب الديمقراطية عن جزء من العالم سيؤدي إلى تهديد بقيّة العالم، ومنه العالم الغربي، والولايات المتحدة بوجه أخص، وإذا لم يكن من سبيل سوى القوّة لفرض ذلك، فلِمِ لا؟ ( راجع: عبد الناصر المودع، مرجع سابق، ص 125-126).
وقد قامت قناة الجزيرة مؤخراً وتحديداً في (17/8/2010م) عبر برنامجها الأسبوعي (من واشنطن) في إطار موضوع (دعم الكنائس الإنجيلية الأميركية للسياسات الإسرائيلية) الذي يقدّمه الإعلامي عبد الرحيم فقرا باستضافة (بورتر سبيكمان) المخرج والمنفذ للفيلم السينمائي With God on Our Side أو ’’الله معنا’’ واستهل مقدّم البرنامج حواره بوضع التساؤل التالي:’’ ماذا يحدث عندما يتمعن إنجيلي أميركي في مسلماته بشأن العلاقة بين المنظمات الإنجيلية الأميركية وإسرائيل؟’’ وقبل أن يبدأ الحوار مع المخرج استعرض البرنامج بعضاً من المشاركات المسجلة في الفيلم على النحو التالي:
[مشاهد من فيلم الله معنا]
جون هاغي: إن خمسين مليوناً من البروتستانت الإنجيليين وخمسة ملايين من اليهود في أميركا الشمالية متشابهون إلى حد بعيد.
مشارك: إن الارتباط بين اليهود وأرض وإسرائيل هو حجر الزاوية للمسيحية الصهيونية.
القس جورج موريسون: لا تستطيع أن تفصل الأرض عن الشعب، عندما وعد الله إبراهيم وإسحق ويعقوب وكافة اليهود فإن الوعد تضمن قطعة من الأرض تسمى إسرائيل، إنها في الواقع البلد الوحيد في العالم الذي وضع الله حدوده ومعالمه. وأعطى تلك الأرض، ولو كنت لأنظر بدقة في الكتاب المقدس وحدود الأرض فإنني أرى أن المعالم تذهب إلى أبعد شمالا أكثر مما هي عليه الآن حتى تصل إلى دمشق وجنوبا إلى نهر مصر وفوق البحر الأبيض المتوسط، وبعد ذلك بالطبع عبر الجانب الشرقي من نهر الأردن الذي يضم الأردن.
مسيحيي فلسطيني: لقد توصلت إلى نتيجة مفادها أن هناك خطأ ما في لاهوت الإنجيليين، إن لاهوتهم أدى إلى أن يرفضوا وأن يتعرضوا إلى أخ لا يناسب لاهوتهم وهذه هي خطيئة.
جون هاغي: نحن ندعو وزارة الخارجية الأميركية والرئيس جورج بوش إلى عدم الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات من شأنها أن تؤدي إلى تدميرها’’ .
ثم بدأ عبد الرحيم فقرا بتقديم أسئلته لـ( سبيكمان) على النحو التالي، وإليك الجانب الأهم منها بنصها لأهميتها في هذا السياق:
عبد الرحيم فقرا: يسعدني أن أرحب في الأستوديو بالمخرج والمنتج التنفيذي لفيلم With God on Our Side الله معنا، بورتر سبيكمان، مرحبا بك. أريد أن تحدثنا أولا عن مصدر هذا الفيلم، من أين جاءت فكرة هذا الفيلم؟
بورتر سبيكمان: الفكرة هي في الأساس رحلتي الشخصية وهي رحلة رأيتها تتكرر لدى عدد كبير من الإنجيليين، أنا نشأت في عائلة مسيحية في الولايات المتحدة ولقنت نظرة معينة تجاه الشرق الأوسط وإسرائيل وكيف أن الإنجيل ونظرة عقائدية معينة يقع تسخيرها لدعم تلك النظرة وذلك كان يشمل كل شيء من حيث كيف يجب علينا أن ندعم الشعب اليهودي وما هي النظرة السياسية التي يتعين علينا أن نكرسها، ولكن لا نسمع وجهة نظر مختلفة أبدا. ثم ذهبت مع زوجتي لقضاء بعض الوقت في الضفة الغربية في منطقة القدس فتعرفت على فلسطينيين ورأيت الأوضاع بأم عيني، وسرعان ما تساءلت لماذا لم يحدثني أحد عن هذا من قبل، ثم ترى بعض ما يجري على الأرض ويصعب عليك موافقة ذلك مع ما تعلمته من دروس المسيح، فهذا الفيلم يستكشف بعض تلك التساؤلات التي تواجه بعض الناس عندما يلتقون بوجهة النظر الأخرى.
عبد الرحيم فقرا: كيف غير هذا الاكتشاف السياسي كيف غير شخصيتك وكيف غير المنظور العقائدي للعالم حولك؟
بورتر سبيكمان: لقد أصبحت الأمور أكثر عملية، فأنت تنظر إلى الأمور من منطلق أوسع فبدل استخدام وجهة النظر العقائدية عبر ما يقوله الإنجيل لدعم جهة معينة أي اليهود في هذه الحالة وكل ما يفعلونه ساعدني على رؤية الناس في الشرق الأوسط وبالأخص الفلسطينيين بأكثر قدر من الرحمة والرأفة ولفهم بعض المعاناة والضيق الذي يعانونه وهذا يرجع إلى إيماني بتعاليم المسيح الذي علمنا الرحمة بالأرملة واليتيم والمظلوم يصبح من الصعب فهم بعض الأشياء التي تحصل فما نحاول قوله هو أنك لا يمكنك تقديم فريق من الناس على فريق آخر بل إذا كنت تزعم أنك مسيحي عليك أن تتعاطى مع المنطقة وشعوبها بشكل عادل ومنصف للجميع.
عبد الرحيم فقرا: هل كانت هناك أية أصداء معينة لهذا التحول في تفكيرك السياسي والعقائدي في الأوساط الكنسية أو الكنائس الإنجيلية في الولايات المتحدة خاصة فيما يتعلق بمنظورها لإسرائيل؟
بورتر سبيكمان: لقد كان الجمهور المستهدف هم أناس مثلي أنا وكريستوفر الذي يظهر في الفيلم وآخرون ممن كانت لهم تجربة السفر إلى هناك ورؤية الأمور كما هي، أغلبية المسيحيين الإنجيليين ينشؤون على دعم إسرائيل استنادا على ما يقوله الإنجيل ولكن عندما يرون وجهات النظر المختلفة يتوقفون فجأة ويطرحون على أنفسهم وجوب تغيير نظرتهم، وكلهم يطرحون نفس السؤال، لماذا أخفي عني كل هذا؟ هناك أيضا ردة الفعل الأخرى من أولئك الذين ينحازون إلى إسرائيل بقوة وهم غير قادرين على استيعاب أي نظرة أخرى يعتبرون هذا زندقة ويقولون لا يمكنك طرح هذه الأسئلة وما يترتب على ذلك من تبعات سلبية للفيلم، ولكن بشكل عام الجمهور الذي استهدفناه يستوعب الرسالة المضمنة في الفيلم.
عبد الرحيم فقرا: الآن بالنسبة لنفوذ الكنائس الإنجيلية هنا في الولايات المتحدة في موقع ما من الفيلم وردت إشارة إلى إيباك وفحوى تلك الإشارة إن أمكن أن ألخصها هو أنه إذا كان الناس يعتقدون أن تأثير إسرائيل في المجتمع الأميركي يتم عبر إيباك لكان ذلك أهون، هناك ما هو أدهى وأقوى من ذلك وهو تأثير الكنائس الإنجيلية في النظام السياسي الأميركي، حدثنا عن هذا الجانب؟
بورتر سبيكمان: هذا الأمر مرتبط بالناخبين في الولايات المتحدة فهم في معظمهم مسيحيون أو يعتبرون أنفسهم مسيحيين، عندما يكون لك مرشح سواء للكونغرس أو للرئاسة فإن الاختبار الحيوي الأول هو موقفك من إسرائيل، إيباك لها أجندة سياسية لدعم إسرائيل وهذا أمر مشروع، هناك مجموعات ضغط عديدة في الولايات المتحدة ولكن بالنسبة للمسيحيين هذا يتعدى الموقف السياسي ليلامس العقيدة وبالتالي السؤال أصلا غير مقبول، أنا أعرف العديد من المسيحيين الذين يحبون مرشحا معينا على أسس سياسية ولكن عندما يساورهم أي شك أن المرشح لا يكون داعما لإسرائيل بالحد المطلوب فهم يحجمون عن دعم ذلك المرشح، فالناخب الأميركي الذي هو داعم لإسرائيل له تأثير دراماتيكي على المشهد السياسي.
عبد الرحيم فقرا: إنما قوة الكنائس الإنجيلية في الولايات المتحدة ما مصدر هذه القوة هل هو مصدر عددي من حيث أتباع عدد هذه الكنائس؟ هل هو من حيث الموارد المادية المتاحة لهذه الكنائس، كيف يتم لها كل هذا التأثير على المجريات السياسية في الولايات المتحدة؟
بورتر سبيكمان: أعتقد أن كل هذه النقاط تتضافر فهي الأعداد والموارد وهي أصوات الناخبين في نهاية الأمر، كما قلت الكثير من المسيحيين لن يصوتوا لمرشح رئاسي أو لمجلس الشيوخ أو لأي وظيفة منتخبة طالما لم يشعروا أنهم يدعمون إسرائيل دون تردد. وبخصوص الموارد، الكنائس تجمع ملايين الدولارات كل سنة لدعم النشاط الاستيطاني في الأراضي المحتلة وعندما كنا بصدد إنتاج هذا الفيلم زرنا كنيسة القس جون هاغي ’’المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل’’ في تلك الليلة فقط سلموا ثماني ملايين دولار لعمد وممثلين عن مستوطنات مختلفة ولجمع تلك الأموال هم يتحدثون عن بناء حدائق للأطفال ودور يتامى ومساعدة الفقراء بالإضافة إلى ما يشبه الوعيد الإنجيلي الذي مفاده أن من واجبك كإنجيلي مساعدة الشعب اليهودي بالرجوع إلى الآية 12 من سفر التكوين والوعد الإبراهيمي، وبالتالي هناك وعيد عقائدي من جهة ووعد المباركة وفي غياب خيار آخر يصبح هذا موردا هائلا ا.هـ.
على أنه تأكّد لي شخصياً من خلال زيارتي -مع بعض الزملاء- مؤخراً ( في شهر يوليو 2010م)، للولايات المتحدة الأمريكية في إطار برنامج الحوار الديني(Inter Faith Dialog ) الذي تنظمه وزارة الخارجية الأمريكية سنويا؛ً أن الحديث المركّز الذي تلقيّناه في أكثر من مؤسسة ومركز أبحاث ونحوهما عن نظرية الفصل بين الدين والدولة في الولايات المتحدة أظهر لنا مدى التناقض بين ذاك التنظير وبين ما كنا نشاهده من مظاهر الدين المنتشرة في الشوارع والجامعات والمؤسسات الأمريكية الرسمية المختلفة، ولا سيما ما يتصل منها بالتماثيل الخاصة ببعض رجال الديِّن، أو بأسماء بعض الشوارع ذات الطابع الديني. ولعل من أبرز ما لفت نظر الوفد الزائر ما شاهده في الكنيسة الوطنية الكبرى بالعاصمة واشنطن (وهي الثانية على مستوى الولايات المتحدة، والسادسة على مستوى العالم، وقد استغرق بناؤها 83 سنة، أي من 1907-1983م) من مظاهر التماثيل اللافتة ولا سيما تمثال ضخم على بوابة الدخول للرئيس الأسبق إبراهام لنكن، مع نصّ رسالته التي تركها لأصدقائه وأنصاره، حين ترك ولايته (الينوى) مغادراً إلى البيت الأبيض بواشنطن العاصمة، لتولّي مقاليد الحكم، وتمثال آخر لايقل ضخامة عن سابقه وغير بعيد عنه للرئيس الأمريكي الأسبق جورج واشنطن، وفي المقدّمة تمثال ثالث تحته (ضريح) بارز يرمز إلى أحد أبرز الطيارين المقاتلين الذين دافعوا عن الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، والسؤال الذي يفرض نفسه ما علاقة الكنيسة بذلك كلّه، إذا كان حقّاً ثمة فصل كامل بين الديني والسياسي، مع أنّها كلها مظاهر سياسية بامتياز؟ وحين وضعنا هذا السؤال على من يعنيهم الشأن في الكنيسة لم نجد ما يقنع!. ويبقى ما هو أبرز من ذلك وهو ما حدثتني وزملائي دليلتنا في الكنيسة السيدة الديبلوماسية (آنا كوكي) التي عملت لمدة ثلاثين عاماً – كما أخبرتنا- مع الخارجية الأمريكية منها بضع سنوات في تل أبيب بفلسطين المحتلة( لاحظ عدم الشعور بالحرج بين مهمتها السياسية السابقة وعملها الديني (المتواضع) الحالي) ومع أن معلومتها التي ذكرتها لنا وأكّد عليها رجال الدين الذين التقيناهم بعد ذلك معروفة نقلتها وسائل الإعلام الأمريكية وسواها في ذلك الحين؛ إلا أن دلالتها الآن غدت أمامنا بعيدة تستأهل التوقّف والمراجعة، بعد أن صُخّت آذاننا بالمباهاة في الفصل الكامل بين السياسة والدين، حيث أكّدت أن الرئيس الحالي باراك أوباما حرص منذ اليوم الثاني لإعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2008م، أن يتجه إلى مقرّ الكنيسة الوطنية، بحيث لايبادر إلى تنفيذ أي مهمة له داخل البيت الأبيض أو خارجه، على مستوى السياسة الداخلية أو الخارجية، حتى يُمنح (صكّ) المشروعية عبر مباركة الكنيسة الوطنية، وكأنّه بذلك يقدّم أوراق اعتماد عهده وسياساته من قبل الكنيسة وسلطة رجال الدّين، ولعلّه بذلك يؤكّد أكثر براءته مما كان – ولا يزال- ينبزه به خصومه الجمهوريون-خاصة- منّ أنّه مسلم أو ينتمي إلى سلالة مسلمة، ربما تجعله قريباً إلى الأقلية المسلمة، أو متعاطفاً مع قضايا العالم الإسلامي، رغم تبرؤه المتتابع لذلك، ووضع نافذة على موقعه أثناء الانتخابات الرئاسية تبدّد (الشبهات) حول مسألة إسلامه، وأن لا حقيقة لذلك، بل هو كيد الخصوم! وهكذا فالعلمانية التي يدّعون أنها لا تنظر إلى مسألة الدّين باتت واحدة من أكبر الاتهامات التي مورست ضدّ أوباما، - ولا تزال في تصاعد- ولولا نفيه المتكرّر وممارساته العملية، وبالأخص إعلانه أن مسألة العلاقة الوثيقة مع الكيان الصهيوني، ووقوفه ضدّ حماس وحزب الله، وجملة القضايا العادلة لأمتنا، مسألة ثابتة في السياسة الأمريكية، وهو ليس استثناء في ذلك؛ لأثّرت عليه تهمة ( إسلامه) سلباً في نتائج الانتخابات الرئاسية، ولكن جريرة أصوله البيئية الإسلامية تأتي عليه بالويلات كلما ظهرت قضية للمسلمين فيها صلة، فيسلّط عليه سيف (الإرهاب الإنجيلي) أو العلماني الاستئصالي، فيعود متراجعاً، كي لا تتأكّد تهمة تعاطفه مع المسلمين، ولعل آخرها موقفه الذي كان قد نظر إليه البعض بإعجاب من بناء مركز (قرطبة) الإسلامي قرب موقع البرجين في (نيويورك)، لكنه سرعان ما أعلن تراجعه عن موقفه على الخلفية ذاتها. وهكذا حتى إدانة أوباما للقس (المعتوه) تيري جونز الذي كان قد أعلن اعتزامه حرق المصحف الشريف في ولاية (فلوريدا) يوم الحادي عشر من سبتمبر 2010م، وأوباما في موقفه هذا ليس خاصاً بل يكاد يمثِّل إجماعاً من جمهور رجالات الدين المسيحي واليهودي، كما الساسة والعسكريون وسواهم من صنّاع القرار في أمريكا، لكن موقف أوباما استغل كذلك للتذكير بأنّه إنما ينطلق في موقفه من اعتناقه (الخفي) للإسلام!! ولا حظ أن جانباً كبيراً من مواقف أوباما تتلك تتعلق بالسياسة الداخلية للولايات المتحدة، أمّا خارجها فم يعد ثمة – في اعتقادي – ما يستأهل الجدل حول سياسة إدارة أوباما، إذ لا تختلف جوهرياً عن سابقاتها- إن لم تكن أسوأ- في بعض المواقف، ولا سيما بعد مرور أكثر من عام على انكشاف زيف خطابه (الخادع) في جامعة القاهرة، وهو ما سجّل لطمة جديدة للمخدوعين وما أكثرهم، وفي مقدّمتهم كثير من أهل الدّين والسياسة على حدّ سواء!!
بتعبير آخر أكثر مباشرة : هل نتوقّع في مجتمع يفاخر بالعلمانية أن يأتي يوم يصبح فيه رئيسه مسلماً مادامت كل هذه الحرب قد قامت على أوباما، رغم أن ليس بينه وبين الإسلام نسب إلا انتماء بيئي قديم لعائلته، لطالما أعلن براءته منه!! وهكذا فالحديث عن حياد العلمانية في الولايات المتحدة تجاه الدّين أضحى مجرد خرافة، فضحتها المواقف العملية للعلمانيين بدءاً من بلد المنشأ وانتهاء ببلدان الاستدراج المعلّب في مجتمعاتنا الإسلامية!
وبعد ذلك كلّه لا مناص من الإشارة إلى حقيقة عامة وهي أن لاعلاقة لذلك بالدين المسيحي في أغلبيته في العالم، ولا سيما في الشرق، فينبغي أن لا يغيب عنّا في حمأة هذا الصراع أن عناوين كالإنجيليين، أو الأصوليين المسيحيين، أو اليمين المسيحي، أو الصهيونية المسيحية، لا تختلف من حيث المضمون عن الحركة الصهيونية (Zionism Movement)، ومن المعلوم أن هذه الأخيرة حركة علمانية لاعلاقة لها بالدين اليهودي، بدليل أن أغلب مؤسسيها الذين اجتمعوا في مدينة بال بسويسرا عام 1897م كانوا غير متدينين أو ملحدين من الأساس، لكنها وجدت في الورقة الدينية أفضل السبل لتحقيق مشروعها في الاحتلال والعدوان، وهذه ظاهرة عامة لاتستثني ديناً سماوياً أو غير سماوي، حيث يتم (تسييس) الدّين أحياناً لأغراض يعلم كل باحث جاد أن الدين الحق بريء من الظلم والقهر والعدوان وانتهاك حرمات الآخرين و سحق كرامتهم باسم السماء، !! .
العلمانية في المجتمعات غير الإسلامية هل نجحت؟:
* مع أن ما سبق من تدليل على زيف الفصل الحقيقي بين الدّين والدّولة في الولايات المتحدة يعدّ كافياً -في اعتقادي- على عدم دّقة الزعم بمثالية الحلّ العلماني، بيد أنّه لا بأس من استعراض نماذج أخرى تفكّك (أسطورة) الحلّ السحري للعلمانية. فالعلمانية في المجتمع الهندي المتعدّد الأديان والمعتقدات لم تتمكن من التغلّب على الصراعات الدينية، بل يحزننا التأكيد على أن ضحايا تلك الصراعات في الغالب مسلمون، إذ الحزبان الحاكمان الرئيسان: المؤتمر (الهندي) و حزب (بهارتيا جاناتا) -وكلاهما علمانيان- لم يمنعا المجازر ضد أكبر أقلية في العالم وهم المسلمون الهنود الذين يفوق عددهم المائة وسبعين مليوناً، وأبرزها مذابح آسام، في الثمانينات من القرن المنصرم، وكذا هدم المسجد البابري عام 1992، ومحاولة بناء المعبد المزعوم على أنقاضه. وتقدّر عدد المجازر التي ارتكبت ضدّ المسلمين منذ استقلال الهند عام 1947م حتى مطلع التسعينات من القرن الماضي بـ (40 ألف مجزرة) ( راجع: فؤاد البنا، حاضر العالم الإسلامي ومعضلاته، ص 116، 1426هـ -2005م، الطبعة الثانية، تعز: مؤسسة الجمهورية للصحافة والنشر)، بل لم تحل العلمانية هناك دون الصراع الدامي بين السيخ والهندوس الذي ذهبت ضحيّته رئيسة الوزراء السابقة (انديرا غاندي).
كذلك كان الحال في المجتمعات الأوروبية الشرقية الشيوعية والغربية الأوربية ورغم المنطق الظاهري لتبنيها العلمانية، لكن علمانيتها لم تقض على الصراعات الدينية هناك، وغدت مسألة غير ديمقراطية الأنظمة الشيوعية معترفاً بها، حتى من قِبل كثير من أبنائها وأنصارها، وهذا واحد من أبرز أدلّة خرافة الحلّ العلماني؛ ولقد كان منطق تلك المجتمعات الشيوعية التي اشتهرت بمعاداة جميع الأديان أن أساس جميع الأديان تخلّف ورجعية وأفيون للشعوب ولا سيما الإسلام -لكونه ديناً ودولة- فتبنت العلمانية الكليةّ الحادّة عملياً، وعرف عنها التمييز ضد المسلمين بوجه خاص، فأبادت الملايين منهم، سواء في الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، أم في تلك الجمهوريات التي حكمت فيها الشيوعية في أوروبا الشرقية أم في سواها، (راجع في ذلك ما أورده الدكتور يوسف القرضاوي في كتابيه بيّنات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، ص 224-225، د.ت، د.ط، د.م:د.ن وردّ علمي على د. فؤاد زكريا وجماعة العلمانيين: الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه،ص 193-197، 1407هـ- 1987م، الطبعة الأولى، القاهرة: دار الصحوة).
أما العلمانية في المجتمعات الغربية الرأسمالية فإنها لم تقض على الصراعات الطائفية بالمطلق، وعلى سبيل المثال؛ فلا تزال مظاهرات الكاثوليك في أيرلندا واحتجاجاتهم المتكرّرة ضد البروتستنانت، تشهد بين الحين والآخر ثورات عارمة، لايميّزها عن أيّ صراع طائفي متخلّف أعمى يذهب ضحيته الألوف، ويستمر لعقود وربما قرون، على خلفية ما يُعرف هنالك بالأحد الدامي في 30 يناير (كانون الثاني) 1972م، على أيدي القوات البريطانية، حيث فتحت النار على المتظاهرين في ذلك اليوم وقتلت 14 شخصاً منهم، بينهم 7 مراهقين، وكلّهم من الكاثوليك، لكنّه تطوّر بعد ذلك عبر العقود الماضية، ذلك فبلغ 3500 قتيل، وفي عام واحد فقط بلغ عدد القتلى عام 1972م 472 فرداً، ناهيك عن المعوّقين والمصابين، ثم الاحتقانات التي تتناقلها الأجيال، بغية الثأر والانتقام، حيث إن (العلمانية) الحاكمة هنالك منذ أمد غير قصير لم تعامل جميع مواطنيها بروتستنانت وكاثوليك على قدم المساواة، بل كان يشعر المواطنون الكاثوليك بأن الحكومة تعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية، بخلاف أقرانهم من الأيرلنديين البروتستنانت، وهو ما مثّل الشرارة الأولى لتكوين الجيش الجمهوري الإيرلندي، واندلاع المواجهات العنيفة، بين البروتستانت والكاثوليك، طيلة العقود الماضية، مما دفع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير عام 1998 لتشكيل لجنة (سيفيل)، بناء على ’’اتفاقية الجمعة الحزينة’’ لإحلال السلام يوم 10/4/1998م، ولم تعلن نتائج تلك اللجنة إلا مؤخراً على لسان رئيس الوزراء الحالي (ديفيد كاميرون)، الذي أعلن أمام النواب في مجلس العموم البريطاني، وفي بث مباشر على جميع القنوات الإخبارية البريطانية، في شهر يونيو الماضي(2010م) اعترافه أن تلك الأحداث كانت (مأساوية وصادمة)، واعتذر علنياً لأهالي الضحايا، مقرّاً أن المتظاهرين الذين قتلوا في ذلك اليوم كانوا جميعاً مدنيين، ولم يكونوا إرهابيين، كما كانوا يوصمون بذلك طيلة العقود الماضية، ومع ذلك فإن اعتذار كاميرون قد جر إلى فتح باب الملاسنات والاتهامات المتضادّة، وعدّ بعض البروتستانت هذا الملف مطوياً، وفتحه اليوم يعيد إنكاء الجراح، على حين عدّ بعض الكاثوليك الاعتذار والاعتراف بالخطأ غير كاف، مطالبين بمحاكمة أولئك القتلة، خاصة وأن بعضهم لايزال حيّاً (راجع تقرير : راغدة بهنام: صحيفة الشرق الأوسط، 5 رجـب 1431 هـ الموافق 17 يونيو 2010 العدد، 11524). ومما يؤكّد صعوبة تجاوز ذلك ما حدث يومي8، 10/ 2009م من أحداث عنف وتفجير ومحاولات اغتيال استهدفت مركزا للشرطة البريطانية في أيرلندا الشمالية وأحد أفرادها، إذ تجددت المخاوف من تجدد العنف، ورغم تبرؤ الطرفين الرئيسين هناك من ذلك، وهما البروتستانت عبر ’’حزب الوحدويين’’ (أي مع بريطانيا) والكاثوليك عبر حزب ’’شين فين’’ الذراع السياسي لما عُرف بالجيش الإيرلندي السري؛ إلا أن مراقبين يرون في ذلك شاهداً على احتمال عودة أعمال العنف، لاسيما وأن اتفاقية الجمعة الحزينة لم تكن محل رضى جميع قيادات الجيش الجمهوري الإيرلندي وأفراده، بل عملت على شقه، وخروج تنظيم عنه يُعرف بـ(الجيش الإيرلندي الحقيقي)، لرفضه بنود الاتفاقية، وما يزال يعمل سرا، ولا يستبعد أن يكون قد جمع من الأسلحة ما يكفي لإثارة الصراع من جديد، لا سيما إذا تحولت ردود الفعل الداعية إلى التهدئة من جانب أحزاب البروتستانت إلى ردود فعل عنيفة أو إلى موقف سياسي يؤدي إلى سقوط الحكومة الائتلافية( راحع تقريراً بعنوان: الخلفية التاريخية لقضية أيرلندا الشمالية: صراع طائفي لأكثر من أربعة قرون في : http://www.midadulqalam.info/midad/modules.php?name=News&file=article&sid=1162)
ذلك كلّه إنما يؤكِّد حقيقة أن العلمانية ليست حلّاً سحرياً مطلقاً حتى للمجتمعات غير الإسلامية، فما بالك بالإسلامية، بل إن الحديث عن نجاح مقدّر للتجربة العلمانية هناك بحيث ارتبطت بالحداثة والديمقراطية والعقلانية في بعض مساراتها لايعني سلامتها من أمراض الاستبداد والفاشية والتخلّف، وهي الحقيقة التي أكّد عليها الدكتور المسيري بقوله: ’’ورغم اعترافنا بوجود هذا الترابط بين التحديث والديموقراطية والعقلانية من جهة، والعلمانية من جهة أخرى، إلا أننا لا نرى أن هذه الرابطة عضوية أو ضرورية (وكما سنبين فيما بعد، يمكن أن ترتبط العلمانية باللاعقلانية والاستبداد والفاشية)، ولكن عملية الربط والتداخل تؤدّي إلى اختلاط المجال الدلالي لمصطلح (العلمانية)، وتربطه بمنظومات قيمية ونماذج معرفية ليست بالضرورة كامنة فيه، وإنما تضاف إليه ’’( المسيري، في حواره مع العظمة، مرجع سابق، ص 50).
فلنبحث في الجذور:
* إننا حين نأخذ نموذج الإسلام من خلال بعض ممارسات المسلمين السلبية أمس واليوم، أو كما يصوره الآخر البعيد، بل الخصم الحضاري العنيد تاريخيا وحاضرا؛ نظلم الإسلام الذي يدعو إلى البحث والعدل والإنصاف مع الذات كما مع الآخر، كما نظلم أنفسنا التي لم تكلف نفسها عناء الالتزام بمقتضيات البحث العلمي، من حيث البحث