د/ فــؤاد البنــا
عندما تظهر عاهة في الجسد دون أن تجد اليد الحانية التي تمتد إليها، فإنها تتطور مع الزمن حتى تصبح مرضاً مزمناً، ويمكن أن يستفحل هذا المرض ويستبد بالجسم ويصيبه بالعجز عندما يتحول مع طول المدى إلى ’’سرطان’’. ومهما كانت بداية هذا المرض، في الرأس أم في الجسد، فإنه ينتقل إلى سائر الأعضاء.
الاستبداد السياسي
هو الاسم القديم للسرطان، غير أنه لا يصيب جسم الفرد فقط كالسرطان، وإنما يصيب جسد المجتمع بكامله، بعقله وقلبه وروحه وجسده، برأسه وأعضائه وحواسه، بخلاياه وعروقه، وعندما يصل الجسد إلى هذه الحالة فإنه يفقده المناعة الذاتية، ويسلب كل إمكانات المقاومة، وهذا هو الإيدز السياسي الذي أضفى على كل ممارسات الطغاة والمستبدين مسحة من الإنسانية الظاهرة والديمقراطية المصطنعة.
أعراض (الإيدز السياسي)
مثل كل مرض فإن الاستبداد يفرز أعراضاً مرضية كثيرة وخطيرة، وإن ظهرت أحياناً كأنها ظواهر صحية زيادة في المكر وأعمق، وإيغالاً في الختل والمخادعة، وتربصاً ببقايا الخلايا الحية في جسد المجتمع.
ملوك وملائكة:
في ظل الاستبداد السياسي يتربى (ملوك) يرون أنفسهم مالكين لكل شيء من البيضة حتى البقرة، ومن الإبرة حتى الطائرة، ومن الكتاب حتى الجامعة، ومن بيت الشعر حتى مقر التلفزيون. وفي الجانب الآخر يعتبر هؤلاء أنفسهم (ملائكة) لا يخطئون ولا يعتذرون ومن ثم لا يستقيلون، ويتصفون بصفات الملائكة حيث يفعلون ما يؤمرون، ولكن ليس من قبل الله ولا من قبل شعوبهم، وإنما من قبل السادة القابعين خلف الكواليس، والآتين من وراء البحار ومن خلف الأفكار.
كل الزعماء سواءً كانوا ملوكاً أو رؤساء أو أمراء أو سلاطين، عندما يعلوهم الاستبداد أو يعتلونه -لا فرق- وعندما تأخذهم العزة بالطغيان يصير ديدنهم إذا دخلوا قرية أفسدوها، وإذا دخلوا مدينة دمروها، وخروجهم مثل دخولهم، فترتيبهم للأمور يمكنهم من تدمير بلدانهم، وسواء كانوا على كرسي الحكم أو على كرسي الفرار أو على كرسي الموت، والنموذج الذي يستقيم بالقرب منا زمناً ومكاناً هو الجنرال محمد زياد بري، فقد دمر الصومال مائة مرة وهو يحكم، ودمرها ألف مرة بعد فراره من قصر الحكم، ومثله فعل ويفعل كل الطغاة والمستبدين في هذا العصر وكل عصر، حيث يربطون بقايا الخير في بلدانهم ببقائهم، فإذا ذهبوا أمسكوا بحجرة سنمار وخربوا الدار على من فيها!
المجرة السلطوية:
من طبيعة السلطة المستبدة أنها تصطنع ما يمكن تسميته بـ(المجرة السلطوية) -إذا سمحت العرب- حيث يصبح الحاكم مركز هذه المجرة السلطوية، فالكل يدور حوله ممجداً ومسبحاً، مباركاً ومؤيداً ومن خلال ذلك يصبح أي حاكم محور المجرة الوطنية، فالكل يدور في فلكه، وهو الذي لا يتحرك إلا حول ذاته الطاغية، وأهوائه المستكبرة، ويصبح مطلوباً من الجميع أن يتحركوا لحركة الزعيم وأن يسكنوا لسكونه، يضحكون إذا ما تبسم، ويقهقهون إذا ضحك، يحزنون إذا تجهم، ويبكون إذا تألم، إذا لف داروا، وإذا ارتفع طاروا، وإذا تحرك ساروا، وإذا جلس خاروا، وما دام أنه مركز المجرة فهو قبلة الوجوه وملتقى الأقطار، الكل يرغبه ويرهبه، يرجون ذهبه ويخافون لهبه، يقصده الجميع وينشدونه كأنه الكعبة، ويتزاحمون بالمناكب للوصول إليه وتقبيل الأرض بين يديه، وربما تقبيل تراب نعاله كأنه الحجر الأسود.
تنتهي الحبال عند قدميه، ويضم كل الخيوط في يديه، يحرك الجميع بإشارة من إصبعه كأنه يمتلك خاتم سليمان، ويوقفهم بزر من أزراره. وإذا غضب على أحد حجب عنه الشمس، ومنع عنه الضوء، ولم يسمح له من الطعام إلا بما يقيم أوده، ومن الأوكسجين إلا ما يبقي على أنفاسه حتى حين، ويحكم عليه الحصار كأنه يضعه في قمقم سليمان.
بين يديه تختفي مؤسسات الدولة وتذوب سلطاتها حياء منه، وتحت قدميه تضموإذا غابت السلطة انبجست العصبيات من كل نوع ودرجة، حيث يبحث كل فرد عن ركن يأوي إليه، وعن وراء شجرة يستظل تحتها.
تكفين الحرية بأثواب الديمقراطية
في ظل الحكم الاستبدادي لا يتغير جوهر الحقائق، وإن تغير الشكل، ولا يتبدل المخبر وإن اختلف المظهر، ولا يتغير المذيع وإن اختلفت الإذاعة، ويصبح الثابت الأساسي في هذا النمط من الحكم أن المغني لا يتغير، حتى لو انتقل البلد من الملكية إلى الجمهورية، ولو عدل الدستور وتطورت القوانين، فحكام الاستبداد الذين يتعاملون مع الوطن كعزبة في كل الحالات، قد يسمحون بتغيير الأغنية، أما المغني فهو خط أحمر، وقد يسمحون بتغيير الباب، أما الديمة فهي خط بني. وبهذا يذهب الناس ويجيئون، وتظل الجمعة هي الجمعة، وتصبح بضاعة المقهورين كلها (صابون) لكنه ليس الذي ينظف الجسد، بل الذي يزيل الكرامة ويمسح الآدمية، ثم هو الذي يعمي البصر ويطمس البصيرة.
وعندما تدخل هذه الأنظمة إصلاحات ديمقراطية على بنيتها، تسمح بإنشاء حرية من عيار (أنت حر في أن تقول ما أريد) أي ما تريده هي، وإذا تحررت أكثر سمحت بديمقراطية (أنت حر في أن نقول ما نشاء وأفعل ما أشاء) فهي لم تعد تهتم بوحدة الطرق، ما دامت محطة المغادرة واحدة، ولا بتعدد وسائل الركوب والحركة ما دامت محطة الوصول موحدة، وهي التي تحدد بنفسها حدودها وطعمها ولونها وشكلها!
وفي ذات السياق تستخدم أنظمة الاستبداد شعارات الديمقراطية لتأصيل لب الديكتاتورية، وتحول أثواب الحرية إلى أكفان لـ(الأحرار) ومراسم الانتخابات إلى مواسم انتخابات، وصناديق الاقتراع إلى توابيت لدفن الإرادة الشعبية، وقنوات (الحرية) إلى قنوات لتعزيز (العبودية) وآليات الديمقراطية إلى آلات لحفر قبور لقيم الديمقراطية. وتقلب أعراس الديمقراطية إلى مآتم ومآسي، وتلطخ أيام الحرية البيضاء بسواد استبداد ممارساتها وعبثها بحرمات الناس وحقوقهم، كمن كان يعصي الله في فيافي الأرض، فضغط عليه الناس لكي يتوب ويدخل المسجد، فدخل المسجد ولكنه ارتكب خطاياه فيه!! أو كمن كان مريضاً فدعاه الناس للتداوي، لكنه رأى دواءه في تغيير ثوبه!
وبالجملة فالديمقراطية عند هذه الأنظمة مجرد ديكور لتجميل وجهها القبيح، وعملية لشد عضلاته المهترئة، وأداة لتطويل أعمارها، وتطوير أعماقها، وتبصير عميانها، وهي ليست سوى وصفة سحرية للضحك على الذقون، وإعلان لتسويق الفساد، بل مجرد وسيلة من أجل تنفير الناس من الديمقراطية، حيث يرونها في المحصلة النهائية لا تزيدهم إلا أثقالاً على أثقال، من أجل دفعهم لليأس من التغيير، والقنوط من الديمقراطية، ومن ثم عودة الحنين إلى أيام الحكم الاستبدادي السافر التي لا تعرف مواسم لبيع الزيف والمخاتلة، وتوزيع سراب الوهم ووهم السراب!
عندما يطول حبل الكذب
في ظل الاستبداد السياسي يمكن لحبل الكذب أن يفوق سور الصين في الطول، وليس في القوة والصنعة، عندما يترك الشعب للمفسدين (الحبل على الغارب) ليفسدوا في الأرض، ويهلكوا الحرث والنسل، حيث يلجأون لتكميم الأفواه، والربط على العيون، حتى يصاب الناس بعمى الألوان، ويفقدون القدرة على التمييز بين الحابل والنابل. ولأن الجزاء من جنس العمل فإن مثل هذا الأمر لا يحدث في العادة إلا عندما لا يعتصم الشعب -وخاصة قطاعاته الصفوية- (بحبل الله) المتين، ويندفع للتردي في (حبائل) الشيطان، الذي يصبح سجاناً للإنسان، حيث يقيد يديه (إرادته) بحباله، ويغل قدميه (حركته) بحبائله، ويخوفه حتى يصبح جباناً يخاف من كل شيء، ويصل الأمر إلى أن يرى (الحبل) فيهتز رعباً ظاناً أنه ثعبان. ومما يساعد السلطة في تطويل حبل كذبها، تقصير المعارضة في أداء دورها، وخاصة القضايا التي تهوى تسلق السلطة بـ(الحبال الصوتية) و(الحبائل السوطية) حيث أن هذا الصنيع يطيل العمر الحاكم الذي يريد أن يدمر حريات أي شعب، يستطيع أن يفعل ذلك بسهولة، عندما ينثر بين أفراد الشعب الهبات والمنح والعطايا. وهكذا من لم يأت بسيف المعز جاء بذهبه، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره.. تعددت الأسباب والموت واحد!
والموت الذي نعنيه هنا هو الاسترقاق، ودخول حظيرة الحاكم و(اصطبلاته) والتحول إلى فرد في القطيع الذي يضم أكثر بطانات المستبدين، وحواشي الطغاة، وتضم هذه البطانات كل ذي ناب وذي ظفر وكل ذي مخلب من البشر، وهم من مختلف الألوان والأطياف. إذ لا يهم المستبد أن يكون الذئب أبيضاً أم أسوداً، المهم أن يصطاد فرائسه، وفرائسه في هذه الحالة هم أبناء الشعب ممن لم يدخلوا (بيت الطاعة) أو ينضموا إلى (القطيع)!
رأس بوجهين
من خصائص الأنظمة المستبدة امتلاكها لمادة (الديناميت) الاجتماعي، الذي يفجر أهرامات المجتمعات، فيقلب الحقائق ويزيف الوقائع، ويقلب السنن ذات الارتباط بالعلاقات بين الناس، حيث تقرب البعيد وتبعد القريب، تكبر الصغير وتصغر الكبير، تقدم من حقه التأخير، وتؤخر من حقه التقديم، تقدم (الخُبَرة) وتبعد أهل (الخِبرة) ترفع (العملاء) وتضع (العلماء) تدني الأكفَّاء وتقصي الأكفاء، تقف مع الأغنياء ضد الفقراء، ومع الأقوياء ضد الضعفاء، ومع الفاسدين ضد الشرفاء، وتنحاز إلى صفوف الملأ ضد الجماهير، وإلى (لوبيات) الظالمين ضد الصالحين، وإلى جماعات الأقلية ضد تيارات الأغلبية، وتبتكر كل يوم المزيد من الأوضاع والآليات والقوانين واللوائح التي تكرس الفوارق بين تخمة الفاسدين الأرقاء وإذلال الشرفاء الأحرار.
ويتضح من هذا أن السلطة تقسم الشعب إلى فئتين، بناء على القرب أو البعد من النظام:
الفئة الأولى: وهي تضم معظم الشعب وهي بقرة حلوب للفئة الأخرى حيث تتحمل واجبات الجميع. إذ تدفع رسوماً باهظة مقابل خدمات رديئة إذا وجدت أصلاً، من أجل تعويض النقص الحاصل جراء حصول الفاسدين على الكثير من الامتيازات والخدمات المجانية.
الفئة الأخرى، وتضم قلة من الشعب تمتاز بوفرة في الامتيازات من الدراسة إلى الوظيفة، إلى وسائل الحياة المرفهة، من سكن ومواصلات وغذاء ودواء، والمسافات هنا متباعدة بين الطرفين، ولا يمكن قياسها إلا بالسنوات الضوئية، وإذا افترضنا أن الدولة رأس ذو وجهين، فإن للأغنياء الوجه الأبيض وللفقراء الوجه الأسود، للأغنياء الغنْم وعلى الفقراء الغرْم، للأغنياء المنح وللفقراء المحن، للأغنياء النعم وللفقراء النقم.
أسد في الداخل .. ونعامة في الخارج
وتصل تداعيات الاستبداد السياسي إلى العلاقات السياسية مع الداخل والخارج حيث يعمد الفساد إلى تبديل المواقع، حيث تقوم علاقة المستبد مع شعبه على الشدة، بينما تلين قناته مع الآخرين، يستخدم القوة مع الشعب والضعف مع الغرب، يعتبر الأولياء غرماء والغرباء أولياء، يستخدم مع أبناء جنسه السلاح لأتفه الأمور، ومع الآخرين فلسفة السلام في أعقد القضايا، يتعامل مع أبناء شعبه كرعية يمتلكهم، ومع قيادات الآخر كرعاة يمتلكونه، يسعى لإرضاء الغرب كأنه ممثله، ويستفز المواطن لأنه ما وجد إلا ليمثل به، وفي أحسن الأحوال ليمثل عليه!
لقد أنزل الله تعالى الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وفي ظل هذه الأنظمة المستبدة تكون المنافع للحكام ومن يقفون خلفهم وأمامهم، ومن يسوقونهم ويقودونهم، بينما يصبح البأس من نصيب المحكومين، وعلى وجه الخصوص الشرفاء منهم. وهي قسمة ضيزى يزيد من وقعها الدامي على حس الشرفاء رؤية الشعب يموت بآلات الحديد السلطوية، بينما أزلام الإتجار السياسي يصوغون بألسنة حداد بيانات النعي والشجب والاستنكار نهارا، ثم يذهبون في الليل ليخطبوا ود الحكومة ويعرضوا على قادتها الزواج ولو بخاتم من حديد!!
(الحرية) بكل اللغات هي (الحياة)
وقبل أن أختم مقالتي هذه أعرج على بعض الأعلام لنقل بعض أقوالهم ومواقفهم حول الحرية -وهي ضد الاستبداد- حتى لا يظن أحد أنني قد بالغت فيما كتبت، ويعرف الجميع أن المسألة هي حياة أو موت، حرية أو عبودية:
قيل أن الحكيم الصيني كونفوشيوش كان سائراً ذات يوم في نفر من تلاميذه عند سفح جبل ’’تاي’’، فشاهد عن بعد امرأة تنوح على قبر، فحث السير إليها، وعندما أقبل عليها بعث بتلميذه (تزي لو) يسألها ما مصيبتها. فدنا منها وقال: إنك تنوحين نواح من نكب مرة بعد أخرى، فقالت: والصواب ما قلت، إن وحشاً افترس أبي هنا، ونزلت المصيبة نفسها بزوجي، وها هو ذا ابني يسقى الردى من كأس واحدة، فقال الحكيم: ولماذا لا تبرحين هذا المكان وتلجأين إلى آخر فقالت: لأنه لا توجد حكومة مستبدة هنا، فقال الحكيم: تذكروا يا أبنائي هذا واحفظوه، إن الحكومات المستبدة شر من الوحوش المفترسة.
وربما كان هذا الشعور هو الذي حدا بالعرب إلى المكوث في الصحاري وعدم إقامة المدن والحضارات، فقد عرفوا بعشقهم للحرية إلى درجة الفوضى، وإلى حد أشعرهم بالغرور والكبر، رغم فقرهم المادي والثقافي. واتضح انحياز العرب الكامل إلى الحرية في شعرهم ونثرهم وأمثالهم، حيث يقول عنترة العبسي مثلاً:
لا تسقني ماء الحياة بذلة *** بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ويقول المثل العربي: ’’تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها’’.
ونقل عن كسرى قوله: لا تنزل ببلد ليس فيه خمسة أشياء سلطان قاهر أي حازم وقاض عادل وسوق قائمة أي فيها تجارة رابحة وطبيب عالم ونهر جار.
ويقول (دوق جو) من خطبة ألقاها أمام الملك (لي وانج) الصيني عام 845م: (يعرف الإمبراطور كيف يحكم إذا كان الشعراء أحراراً في قرض الشعر، والناس أحراراً في تمثيل المسرحيات، والمؤرخون أحراراً في قول الحق، والوزراء أحراراً في إسداء النصح، والفقراء أحراراً في التذمر من الضرائب، والطلبة أحراراً في تعلم العلم جهرة، والعمار أحراراً في إطراء مهاراتهم وفي السعي إلى العمل، والشعب حراً في أن يتحدث عن كل شيء، والشيوخ أحراراً في تخطئة كل شيء). فالحياة إذن هي الحرية أما في المجتمعات المستبدة فالحياة عندها مرادفة للعبودية.
وقد رأى القاضي أبو يوسف أن يحلِّف الرشيد في قضية، وشهد عنده الفضل بن الربيع فرد شهادته، فعاتبه أمير المؤمنين: ولم رددت شهادته؟ فقال القاضي: سمعته يقول لك: أنا عبدك، فإن كان صادقاً فلا شهادة للعبد، وإن كان كاذباً إنه لكذلك. وهكذا كان يقف العلماء للسلاطين ولبطاناتهم بالمرصاد، وهكذا كانت رؤيتهم للحرية فهي عكس العبودية.
وكان شعار الفلاسفة والعلماء دوماً (حيث توجد الحرية يوجد وطننا) فجاء الفيلسوف (توم بين) ليكون شعار: (حيث لا حرية فثم وطني) فحيث تضار الحرية تكون معركته المقدسة، وكان يقول عن الحكومة التي يمكن الفخر بها: (حيث أمكن أن يقال في أي من بلاد العالم: إن الفقراء سعداء، وإنه لا فاقة بهم ولا تعاسة، وإن السجون خالية من المسجونين، والشوارع خالية من المتسولين، والشيوخ لا يعانون ضنكاً، والضرائب غير باهظة.. حيث أمكن أن يقال هذا في بلد ما فإن لهذا البلد الحق في أن يتباهى بحكومته وبدستوره) والعجيب أن أكثر بلداننا لا تمتلك من هذه الأمور إلا النزر اليسير ثم نجد المفاخرة والإدعاء في أعلى درجاتهما.
ومثل قصة القاضي أبو يوسف مع الخليفة الرشيد، نجد قصة لابنه الخليفة المأمون مع عبد الله بن طاهر، عندما سأله: أيهما أطيب مجلسي أو منزلك؟ قال: منزلي يا أمير المؤمنين، قال: ولم ذلك؟ قال: لأني فيه مالك وأنا هنا مملوك. وعندما أتخيل لو أن المأمون سأل هذا السؤال لواحد من أفراد بطانات حكام اليوم وأتخيل إجاباته بناء على المعطيات الحاضرة والمشاهدة أشعر بالدوار من شدة الفارق. بل لو سئل أحدهم أيهما أفضل قصر زعيمه أم جنة الله؟ لأجاب بدون تفكير أو تردد: قصر الزعيم، وربما أضاف المجيب ثناءً على قصر الزعيم بما لم يخطر على قلب بشر!!
وينسب إلى الكاتب الأمريكي ’’فولكز’’ رأي في القلق ذو ارتباط بموضوع الحرية، حيث يقول: (مرحباً بالقلق، إنه الشعور الوحيد الذي يجعلني أحس بحريتي، فالمرء لا يقلق إذا لم يكن حراً، وأكثر ما يقلقه خوفه من أن ينتزع منه أحدهم هذه الحرية، إن الحيوان المتأنس والرجل المستعبد هما اللذان يستطيعان أن يعيشا حياة لا تعرف القلق. ولولا هذا الشعور الذي ينتاب المرء في مرحلة أو في أخرى من مراحل حياته، لما عرفت البشرية معنى التطور والتقدم). أما في مجتمعاتنا المتخلفة فالبعض يقلق على نفسه خوفاً من أن يطلق من عقال عبوديته، مثل أصحاب حظائر السلطان! وعندما نطالع تأملات الفيلسوف والشاعر الهندي طاغور فسنجد أن تضييق دائرة الحركة على الكائنات يؤدي إلى موتها، بمعنى أن الحرية هي الحياة. فهو يقول في تأملاته:
لماذا خبا المصباح؟
لقد أحطته بردائي لأقيه من الريح، لهذا خبا!
لماذا ذبلت الزهرة؟
لقد ضممتها إلى قلبي، ولهذا ذبلت!
لماذا جف الغدير؟
لقد اعترضت مجراه بالسدود ليكون لي وحدي، لهذا جف!
لماذا انقطع وتر القيثارة؟
لقد حاولت أن أوقع عليه لحناً يفوق طاقته، لهذا انقطع!
أما الأديب العربي الكبير مصطفى المنفلوطي فيشير إلى أن الحرية هي الحياة، في رثائه للزعيم المصري مصطفى كامل، حيث قال عنه: (مات مصطفى كامل فعرفنا الموت، وما كنا نعرفه قبل ذلك لأننا ما كنا نرى إلا أمواتاً ينقلون من ظهر الأرض إلى بطنها، أما مصطفى كامل فكان حياً حياة حقيقية، فكان موته كذلك). وهو بهذا يشير إلى أن تحرر وثورية مصطفى كامل ضد الإنجليز، ونضاله من أجل استقلال وحرية شعبه، هي التي جعلته حراً، أما من سواه ممن لم يتصدوا لهذا الأمر فقد كانوا عبيداً، بمعنى أنهم أموات على ظهر الأرض ينقلون إلى بطنها عند الوفاة!!
المصدر: مجلة الفقه السياسي
عندما تظهر عاهة في الجسد دون أن تجد اليد الحانية التي تمتد إليها، فإنها تتطور مع الزمن حتى تصبح مرضاً مزمناً، ويمكن أن يستفحل هذا المرض ويستبد بالجسم ويصيبه بالعجز عندما يتحول مع طول المدى إلى ’’سرطان’’. ومهما كانت بداية هذا المرض، في الرأس أم في الجسد، فإنه ينتقل إلى سائر الأعضاء.
الاستبداد السياسي
هو الاسم القديم للسرطان، غير أنه لا يصيب جسم الفرد فقط كالسرطان، وإنما يصيب جسد المجتمع بكامله، بعقله وقلبه وروحه وجسده، برأسه وأعضائه وحواسه، بخلاياه وعروقه، وعندما يصل الجسد إلى هذه الحالة فإنه يفقده المناعة الذاتية، ويسلب كل إمكانات المقاومة، وهذا هو الإيدز السياسي الذي أضفى على كل ممارسات الطغاة والمستبدين مسحة من الإنسانية الظاهرة والديمقراطية المصطنعة.
أعراض (الإيدز السياسي)
مثل كل مرض فإن الاستبداد يفرز أعراضاً مرضية كثيرة وخطيرة، وإن ظهرت أحياناً كأنها ظواهر صحية زيادة في المكر وأعمق، وإيغالاً في الختل والمخادعة، وتربصاً ببقايا الخلايا الحية في جسد المجتمع.
ملوك وملائكة:
في ظل الاستبداد السياسي يتربى (ملوك) يرون أنفسهم مالكين لكل شيء من البيضة حتى البقرة، ومن الإبرة حتى الطائرة، ومن الكتاب حتى الجامعة، ومن بيت الشعر حتى مقر التلفزيون. وفي الجانب الآخر يعتبر هؤلاء أنفسهم (ملائكة) لا يخطئون ولا يعتذرون ومن ثم لا يستقيلون، ويتصفون بصفات الملائكة حيث يفعلون ما يؤمرون، ولكن ليس من قبل الله ولا من قبل شعوبهم، وإنما من قبل السادة القابعين خلف الكواليس، والآتين من وراء البحار ومن خلف الأفكار.
كل الزعماء سواءً كانوا ملوكاً أو رؤساء أو أمراء أو سلاطين، عندما يعلوهم الاستبداد أو يعتلونه -لا فرق- وعندما تأخذهم العزة بالطغيان يصير ديدنهم إذا دخلوا قرية أفسدوها، وإذا دخلوا مدينة دمروها، وخروجهم مثل دخولهم، فترتيبهم للأمور يمكنهم من تدمير بلدانهم، وسواء كانوا على كرسي الحكم أو على كرسي الفرار أو على كرسي الموت، والنموذج الذي يستقيم بالقرب منا زمناً ومكاناً هو الجنرال محمد زياد بري، فقد دمر الصومال مائة مرة وهو يحكم، ودمرها ألف مرة بعد فراره من قصر الحكم، ومثله فعل ويفعل كل الطغاة والمستبدين في هذا العصر وكل عصر، حيث يربطون بقايا الخير في بلدانهم ببقائهم، فإذا ذهبوا أمسكوا بحجرة سنمار وخربوا الدار على من فيها!
المجرة السلطوية:
من طبيعة السلطة المستبدة أنها تصطنع ما يمكن تسميته بـ(المجرة السلطوية) -إذا سمحت العرب- حيث يصبح الحاكم مركز هذه المجرة السلطوية، فالكل يدور حوله ممجداً ومسبحاً، مباركاً ومؤيداً ومن خلال ذلك يصبح أي حاكم محور المجرة الوطنية، فالكل يدور في فلكه، وهو الذي لا يتحرك إلا حول ذاته الطاغية، وأهوائه المستكبرة، ويصبح مطلوباً من الجميع أن يتحركوا لحركة الزعيم وأن يسكنوا لسكونه، يضحكون إذا ما تبسم، ويقهقهون إذا ضحك، يحزنون إذا تجهم، ويبكون إذا تألم، إذا لف داروا، وإذا ارتفع طاروا، وإذا تحرك ساروا، وإذا جلس خاروا، وما دام أنه مركز المجرة فهو قبلة الوجوه وملتقى الأقطار، الكل يرغبه ويرهبه، يرجون ذهبه ويخافون لهبه، يقصده الجميع وينشدونه كأنه الكعبة، ويتزاحمون بالمناكب للوصول إليه وتقبيل الأرض بين يديه، وربما تقبيل تراب نعاله كأنه الحجر الأسود.
تنتهي الحبال عند قدميه، ويضم كل الخيوط في يديه، يحرك الجميع بإشارة من إصبعه كأنه يمتلك خاتم سليمان، ويوقفهم بزر من أزراره. وإذا غضب على أحد حجب عنه الشمس، ومنع عنه الضوء، ولم يسمح له من الطعام إلا بما يقيم أوده، ومن الأوكسجين إلا ما يبقي على أنفاسه حتى حين، ويحكم عليه الحصار كأنه يضعه في قمقم سليمان.
بين يديه تختفي مؤسسات الدولة وتذوب سلطاتها حياء منه، وتحت قدميه تضموإذا غابت السلطة انبجست العصبيات من كل نوع ودرجة، حيث يبحث كل فرد عن ركن يأوي إليه، وعن وراء شجرة يستظل تحتها.
تكفين الحرية بأثواب الديمقراطية
في ظل الحكم الاستبدادي لا يتغير جوهر الحقائق، وإن تغير الشكل، ولا يتبدل المخبر وإن اختلف المظهر، ولا يتغير المذيع وإن اختلفت الإذاعة، ويصبح الثابت الأساسي في هذا النمط من الحكم أن المغني لا يتغير، حتى لو انتقل البلد من الملكية إلى الجمهورية، ولو عدل الدستور وتطورت القوانين، فحكام الاستبداد الذين يتعاملون مع الوطن كعزبة في كل الحالات، قد يسمحون بتغيير الأغنية، أما المغني فهو خط أحمر، وقد يسمحون بتغيير الباب، أما الديمة فهي خط بني. وبهذا يذهب الناس ويجيئون، وتظل الجمعة هي الجمعة، وتصبح بضاعة المقهورين كلها (صابون) لكنه ليس الذي ينظف الجسد، بل الذي يزيل الكرامة ويمسح الآدمية، ثم هو الذي يعمي البصر ويطمس البصيرة.
وعندما تدخل هذه الأنظمة إصلاحات ديمقراطية على بنيتها، تسمح بإنشاء حرية من عيار (أنت حر في أن تقول ما أريد) أي ما تريده هي، وإذا تحررت أكثر سمحت بديمقراطية (أنت حر في أن نقول ما نشاء وأفعل ما أشاء) فهي لم تعد تهتم بوحدة الطرق، ما دامت محطة المغادرة واحدة، ولا بتعدد وسائل الركوب والحركة ما دامت محطة الوصول موحدة، وهي التي تحدد بنفسها حدودها وطعمها ولونها وشكلها!
وفي ذات السياق تستخدم أنظمة الاستبداد شعارات الديمقراطية لتأصيل لب الديكتاتورية، وتحول أثواب الحرية إلى أكفان لـ(الأحرار) ومراسم الانتخابات إلى مواسم انتخابات، وصناديق الاقتراع إلى توابيت لدفن الإرادة الشعبية، وقنوات (الحرية) إلى قنوات لتعزيز (العبودية) وآليات الديمقراطية إلى آلات لحفر قبور لقيم الديمقراطية. وتقلب أعراس الديمقراطية إلى مآتم ومآسي، وتلطخ أيام الحرية البيضاء بسواد استبداد ممارساتها وعبثها بحرمات الناس وحقوقهم، كمن كان يعصي الله في فيافي الأرض، فضغط عليه الناس لكي يتوب ويدخل المسجد، فدخل المسجد ولكنه ارتكب خطاياه فيه!! أو كمن كان مريضاً فدعاه الناس للتداوي، لكنه رأى دواءه في تغيير ثوبه!
وبالجملة فالديمقراطية عند هذه الأنظمة مجرد ديكور لتجميل وجهها القبيح، وعملية لشد عضلاته المهترئة، وأداة لتطويل أعمارها، وتطوير أعماقها، وتبصير عميانها، وهي ليست سوى وصفة سحرية للضحك على الذقون، وإعلان لتسويق الفساد، بل مجرد وسيلة من أجل تنفير الناس من الديمقراطية، حيث يرونها في المحصلة النهائية لا تزيدهم إلا أثقالاً على أثقال، من أجل دفعهم لليأس من التغيير، والقنوط من الديمقراطية، ومن ثم عودة الحنين إلى أيام الحكم الاستبدادي السافر التي لا تعرف مواسم لبيع الزيف والمخاتلة، وتوزيع سراب الوهم ووهم السراب!
عندما يطول حبل الكذب
في ظل الاستبداد السياسي يمكن لحبل الكذب أن يفوق سور الصين في الطول، وليس في القوة والصنعة، عندما يترك الشعب للمفسدين (الحبل على الغارب) ليفسدوا في الأرض، ويهلكوا الحرث والنسل، حيث يلجأون لتكميم الأفواه، والربط على العيون، حتى يصاب الناس بعمى الألوان، ويفقدون القدرة على التمييز بين الحابل والنابل. ولأن الجزاء من جنس العمل فإن مثل هذا الأمر لا يحدث في العادة إلا عندما لا يعتصم الشعب -وخاصة قطاعاته الصفوية- (بحبل الله) المتين، ويندفع للتردي في (حبائل) الشيطان، الذي يصبح سجاناً للإنسان، حيث يقيد يديه (إرادته) بحباله، ويغل قدميه (حركته) بحبائله، ويخوفه حتى يصبح جباناً يخاف من كل شيء، ويصل الأمر إلى أن يرى (الحبل) فيهتز رعباً ظاناً أنه ثعبان. ومما يساعد السلطة في تطويل حبل كذبها، تقصير المعارضة في أداء دورها، وخاصة القضايا التي تهوى تسلق السلطة بـ(الحبال الصوتية) و(الحبائل السوطية) حيث أن هذا الصنيع يطيل العمر الحاكم الذي يريد أن يدمر حريات أي شعب، يستطيع أن يفعل ذلك بسهولة، عندما ينثر بين أفراد الشعب الهبات والمنح والعطايا. وهكذا من لم يأت بسيف المعز جاء بذهبه، ومن لم يمت بالسيف مات بغيره.. تعددت الأسباب والموت واحد!
والموت الذي نعنيه هنا هو الاسترقاق، ودخول حظيرة الحاكم و(اصطبلاته) والتحول إلى فرد في القطيع الذي يضم أكثر بطانات المستبدين، وحواشي الطغاة، وتضم هذه البطانات كل ذي ناب وذي ظفر وكل ذي مخلب من البشر، وهم من مختلف الألوان والأطياف. إذ لا يهم المستبد أن يكون الذئب أبيضاً أم أسوداً، المهم أن يصطاد فرائسه، وفرائسه في هذه الحالة هم أبناء الشعب ممن لم يدخلوا (بيت الطاعة) أو ينضموا إلى (القطيع)!
رأس بوجهين
من خصائص الأنظمة المستبدة امتلاكها لمادة (الديناميت) الاجتماعي، الذي يفجر أهرامات المجتمعات، فيقلب الحقائق ويزيف الوقائع، ويقلب السنن ذات الارتباط بالعلاقات بين الناس، حيث تقرب البعيد وتبعد القريب، تكبر الصغير وتصغر الكبير، تقدم من حقه التأخير، وتؤخر من حقه التقديم، تقدم (الخُبَرة) وتبعد أهل (الخِبرة) ترفع (العملاء) وتضع (العلماء) تدني الأكفَّاء وتقصي الأكفاء، تقف مع الأغنياء ضد الفقراء، ومع الأقوياء ضد الضعفاء، ومع الفاسدين ضد الشرفاء، وتنحاز إلى صفوف الملأ ضد الجماهير، وإلى (لوبيات) الظالمين ضد الصالحين، وإلى جماعات الأقلية ضد تيارات الأغلبية، وتبتكر كل يوم المزيد من الأوضاع والآليات والقوانين واللوائح التي تكرس الفوارق بين تخمة الفاسدين الأرقاء وإذلال الشرفاء الأحرار.
ويتضح من هذا أن السلطة تقسم الشعب إلى فئتين، بناء على القرب أو البعد من النظام:
الفئة الأولى: وهي تضم معظم الشعب وهي بقرة حلوب للفئة الأخرى حيث تتحمل واجبات الجميع. إذ تدفع رسوماً باهظة مقابل خدمات رديئة إذا وجدت أصلاً، من أجل تعويض النقص الحاصل جراء حصول الفاسدين على الكثير من الامتيازات والخدمات المجانية.
الفئة الأخرى، وتضم قلة من الشعب تمتاز بوفرة في الامتيازات من الدراسة إلى الوظيفة، إلى وسائل الحياة المرفهة، من سكن ومواصلات وغذاء ودواء، والمسافات هنا متباعدة بين الطرفين، ولا يمكن قياسها إلا بالسنوات الضوئية، وإذا افترضنا أن الدولة رأس ذو وجهين، فإن للأغنياء الوجه الأبيض وللفقراء الوجه الأسود، للأغنياء الغنْم وعلى الفقراء الغرْم، للأغنياء المنح وللفقراء المحن، للأغنياء النعم وللفقراء النقم.
أسد في الداخل .. ونعامة في الخارج
وتصل تداعيات الاستبداد السياسي إلى العلاقات السياسية مع الداخل والخارج حيث يعمد الفساد إلى تبديل المواقع، حيث تقوم علاقة المستبد مع شعبه على الشدة، بينما تلين قناته مع الآخرين، يستخدم القوة مع الشعب والضعف مع الغرب، يعتبر الأولياء غرماء والغرباء أولياء، يستخدم مع أبناء جنسه السلاح لأتفه الأمور، ومع الآخرين فلسفة السلام في أعقد القضايا، يتعامل مع أبناء شعبه كرعية يمتلكهم، ومع قيادات الآخر كرعاة يمتلكونه، يسعى لإرضاء الغرب كأنه ممثله، ويستفز المواطن لأنه ما وجد إلا ليمثل به، وفي أحسن الأحوال ليمثل عليه!
لقد أنزل الله تعالى الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وفي ظل هذه الأنظمة المستبدة تكون المنافع للحكام ومن يقفون خلفهم وأمامهم، ومن يسوقونهم ويقودونهم، بينما يصبح البأس من نصيب المحكومين، وعلى وجه الخصوص الشرفاء منهم. وهي قسمة ضيزى يزيد من وقعها الدامي على حس الشرفاء رؤية الشعب يموت بآلات الحديد السلطوية، بينما أزلام الإتجار السياسي يصوغون بألسنة حداد بيانات النعي والشجب والاستنكار نهارا، ثم يذهبون في الليل ليخطبوا ود الحكومة ويعرضوا على قادتها الزواج ولو بخاتم من حديد!!
(الحرية) بكل اللغات هي (الحياة)
وقبل أن أختم مقالتي هذه أعرج على بعض الأعلام لنقل بعض أقوالهم ومواقفهم حول الحرية -وهي ضد الاستبداد- حتى لا يظن أحد أنني قد بالغت فيما كتبت، ويعرف الجميع أن المسألة هي حياة أو موت، حرية أو عبودية:
قيل أن الحكيم الصيني كونفوشيوش كان سائراً ذات يوم في نفر من تلاميذه عند سفح جبل ’’تاي’’، فشاهد عن بعد امرأة تنوح على قبر، فحث السير إليها، وعندما أقبل عليها بعث بتلميذه (تزي لو) يسألها ما مصيبتها. فدنا منها وقال: إنك تنوحين نواح من نكب مرة بعد أخرى، فقالت: والصواب ما قلت، إن وحشاً افترس أبي هنا، ونزلت المصيبة نفسها بزوجي، وها هو ذا ابني يسقى الردى من كأس واحدة، فقال الحكيم: ولماذا لا تبرحين هذا المكان وتلجأين إلى آخر فقالت: لأنه لا توجد حكومة مستبدة هنا، فقال الحكيم: تذكروا يا أبنائي هذا واحفظوه، إن الحكومات المستبدة شر من الوحوش المفترسة.
وربما كان هذا الشعور هو الذي حدا بالعرب إلى المكوث في الصحاري وعدم إقامة المدن والحضارات، فقد عرفوا بعشقهم للحرية إلى درجة الفوضى، وإلى حد أشعرهم بالغرور والكبر، رغم فقرهم المادي والثقافي. واتضح انحياز العرب الكامل إلى الحرية في شعرهم ونثرهم وأمثالهم، حيث يقول عنترة العبسي مثلاً:
لا تسقني ماء الحياة بذلة *** بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ويقول المثل العربي: ’’تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها’’.
ونقل عن كسرى قوله: لا تنزل ببلد ليس فيه خمسة أشياء سلطان قاهر أي حازم وقاض عادل وسوق قائمة أي فيها تجارة رابحة وطبيب عالم ونهر جار.
ويقول (دوق جو) من خطبة ألقاها أمام الملك (لي وانج) الصيني عام 845م: (يعرف الإمبراطور كيف يحكم إذا كان الشعراء أحراراً في قرض الشعر، والناس أحراراً في تمثيل المسرحيات، والمؤرخون أحراراً في قول الحق، والوزراء أحراراً في إسداء النصح، والفقراء أحراراً في التذمر من الضرائب، والطلبة أحراراً في تعلم العلم جهرة، والعمار أحراراً في إطراء مهاراتهم وفي السعي إلى العمل، والشعب حراً في أن يتحدث عن كل شيء، والشيوخ أحراراً في تخطئة كل شيء). فالحياة إذن هي الحرية أما في المجتمعات المستبدة فالحياة عندها مرادفة للعبودية.
وقد رأى القاضي أبو يوسف أن يحلِّف الرشيد في قضية، وشهد عنده الفضل بن الربيع فرد شهادته، فعاتبه أمير المؤمنين: ولم رددت شهادته؟ فقال القاضي: سمعته يقول لك: أنا عبدك، فإن كان صادقاً فلا شهادة للعبد، وإن كان كاذباً إنه لكذلك. وهكذا كان يقف العلماء للسلاطين ولبطاناتهم بالمرصاد، وهكذا كانت رؤيتهم للحرية فهي عكس العبودية.
وكان شعار الفلاسفة والعلماء دوماً (حيث توجد الحرية يوجد وطننا) فجاء الفيلسوف (توم بين) ليكون شعار: (حيث لا حرية فثم وطني) فحيث تضار الحرية تكون معركته المقدسة، وكان يقول عن الحكومة التي يمكن الفخر بها: (حيث أمكن أن يقال في أي من بلاد العالم: إن الفقراء سعداء، وإنه لا فاقة بهم ولا تعاسة، وإن السجون خالية من المسجونين، والشوارع خالية من المتسولين، والشيوخ لا يعانون ضنكاً، والضرائب غير باهظة.. حيث أمكن أن يقال هذا في بلد ما فإن لهذا البلد الحق في أن يتباهى بحكومته وبدستوره) والعجيب أن أكثر بلداننا لا تمتلك من هذه الأمور إلا النزر اليسير ثم نجد المفاخرة والإدعاء في أعلى درجاتهما.
ومثل قصة القاضي أبو يوسف مع الخليفة الرشيد، نجد قصة لابنه الخليفة المأمون مع عبد الله بن طاهر، عندما سأله: أيهما أطيب مجلسي أو منزلك؟ قال: منزلي يا أمير المؤمنين، قال: ولم ذلك؟ قال: لأني فيه مالك وأنا هنا مملوك. وعندما أتخيل لو أن المأمون سأل هذا السؤال لواحد من أفراد بطانات حكام اليوم وأتخيل إجاباته بناء على المعطيات الحاضرة والمشاهدة أشعر بالدوار من شدة الفارق. بل لو سئل أحدهم أيهما أفضل قصر زعيمه أم جنة الله؟ لأجاب بدون تفكير أو تردد: قصر الزعيم، وربما أضاف المجيب ثناءً على قصر الزعيم بما لم يخطر على قلب بشر!!
وينسب إلى الكاتب الأمريكي ’’فولكز’’ رأي في القلق ذو ارتباط بموضوع الحرية، حيث يقول: (مرحباً بالقلق، إنه الشعور الوحيد الذي يجعلني أحس بحريتي، فالمرء لا يقلق إذا لم يكن حراً، وأكثر ما يقلقه خوفه من أن ينتزع منه أحدهم هذه الحرية، إن الحيوان المتأنس والرجل المستعبد هما اللذان يستطيعان أن يعيشا حياة لا تعرف القلق. ولولا هذا الشعور الذي ينتاب المرء في مرحلة أو في أخرى من مراحل حياته، لما عرفت البشرية معنى التطور والتقدم). أما في مجتمعاتنا المتخلفة فالبعض يقلق على نفسه خوفاً من أن يطلق من عقال عبوديته، مثل أصحاب حظائر السلطان! وعندما نطالع تأملات الفيلسوف والشاعر الهندي طاغور فسنجد أن تضييق دائرة الحركة على الكائنات يؤدي إلى موتها، بمعنى أن الحرية هي الحياة. فهو يقول في تأملاته:
لماذا خبا المصباح؟
لقد أحطته بردائي لأقيه من الريح، لهذا خبا!
لماذا ذبلت الزهرة؟
لقد ضممتها إلى قلبي، ولهذا ذبلت!
لماذا جف الغدير؟
لقد اعترضت مجراه بالسدود ليكون لي وحدي، لهذا جف!
لماذا انقطع وتر القيثارة؟
لقد حاولت أن أوقع عليه لحناً يفوق طاقته، لهذا انقطع!
أما الأديب العربي الكبير مصطفى المنفلوطي فيشير إلى أن الحرية هي الحياة، في رثائه للزعيم المصري مصطفى كامل، حيث قال عنه: (مات مصطفى كامل فعرفنا الموت، وما كنا نعرفه قبل ذلك لأننا ما كنا نرى إلا أمواتاً ينقلون من ظهر الأرض إلى بطنها، أما مصطفى كامل فكان حياً حياة حقيقية، فكان موته كذلك). وهو بهذا يشير إلى أن تحرر وثورية مصطفى كامل ضد الإنجليز، ونضاله من أجل استقلال وحرية شعبه، هي التي جعلته حراً، أما من سواه ممن لم يتصدوا لهذا الأمر فقد كانوا عبيداً، بمعنى أنهم أموات على ظهر الأرض ينقلون إلى بطنها عند الوفاة!!
المصدر: مجلة الفقه السياسي