د.محمد الأحمري
20-1-2011
شجاعة المواطن التونسي وجه من المجد والعزة قل مثيله، وشجاعة وأمانة الرجال من الجيش ومن الأمن الذين لم يقتلوا إخوانهم وأهلهم، كانت سمة من المروءة والعزة والوفاء للوطن يفتخر بها كل عربي ومسلم، فهم حماة الأمة لا خدم للمحتل المحلي ولا الخارجي، وهذا درس يجب نشره وتعليمه.. ولكن الانتقال من الحرية إلى الديمقراطية عملية ستكون صعبة، ونرجو ألا تكون طويلة ولا تسرق هذه الثورة العظيمة،
بقلم د. محمد الأحمري
قرأت منذ بضع سنين لأحد مفكري تونس من السياسيين البارزين ’’منصف المرزوقي’’ نظرية مشهورة نشرها في كتاب بهذا العنوان: ’’الاستقلال الثاني’’ عن التمييز بين الاحتلال الأجنبي الأول ثم الاستقلال الأول منه، وما أعقبه من سقوط البلاد العربية في قبضة ’’الاحتلال الداخلي’’، وهو الاحتلال الثاني الذي يقوم على الفساد والفشل السياسي والجهل وادعاء الاستقلال، مع أنها حكومات إما أن تكون مكاتب تمثيل محلية للمحتل السابق مع زيادة فسادها، فجمعت سوأة احتلالين، أو ديكتاتور محتل وعائلته وإرهابييه ولصوصه، ونفاق في تلبس بشرعيات كاذبة قومية و وطنية وإسلامية وتقدمية، واقعها مضاد لكل دعاواه.
وهذا الذي تئن منه شعوب عربية كثيرة، تحت نظم مستبدة عسكرية أو ظاهرها مدنية وهي بوليسية، تستبيح الأرض والثروة والإنسان والكرامة والثقافة، وتنهب المال وترسله للخارج، نادى المؤلف بأن على الشعوب أن تحقق الاستقلال الثاني، لأنها لم تزل تحت احتلال أسوأ من الأجنبي، ولأن الاحتلال الأجنبي متميز ومعروف ومواجهته أوضح وأسهل، أما الثاني فداء في القلب أقسى وأمر ظاهره منا وهو معاد لنا، ونفوذ الغرب عليه كاسح لم يترك له إلا صلاحية سرقة الشعب وسجنه.
ومنذ ذاك، فكثيرا ما يخطر بالبال أن الاحتلال الثاني تعزز في تونس يوم تولى بن علي، وكأنه اليوم حين صدرت مجلة ’’المجلة’’ اللندنية تبشر بأن الوزير بن علي سيكون حاكما لتونس وأن سوف يخلع بورقيبة، وبعد فترة امتنت علينا المجلة نفسها المقربة من مصادر نافذة، إن ما وعدت به قد وقع كما نقلت.
حينها، قال عنه كثيرون بأنه عندما كان سفيرا في أوربا كان مقربا من الأمريكيين، وقد حكم تونس بمشروعية واحدة، وهي خدمة الغرب، وأهم شروط مشروعية أي حكم واستمراره في المستعمرات الأمريكية ومناطق النفوذ منذ استقلال إيران عام 1979م ووقوعها بأيدي إسلاميين ووطنيين، أن يلتزم النظام الجديد بالحرب على الإسلام وأهله، وعلى كرامة البلاد واستقلالها ومنع حرية سكانها، وإقصاء كل ذي توجه وطني أو قومي أو إسلامي، وتقديم الأفراد ذوي الأنانية الفردية، المأمونون من قبل الغرب، المنخلعون من أي انتماء.
فهذا هو الشرط الأهم أو الثمن لنيل قبول وقلوب الصليبيين، لتكون بذلك وثيقة تأمين من الخلع الخارجي، وبالتالي تدمير المعارضة الداخلية، فلا قيمة لحاكم أو متنفذ في المستعمرات إلا إذا أمّن نفسه بضمان عبوديته للأجانب، ومن بعدها يلد الصنم عابد الذات في الداخل بالطغيان وتحريم النقد والمحاسبة، وتدمير الحياة السياسية، وهو مع الخارج في عبودية تامة للمستعمر وتزلف وتسخير البلاد لهم. حتى إذا طرد أو هلك خلفه من يهجوه أو يدعو لإصلاح ما أفسده.
كتاب ’’الاستقلال الثاني’’، يكاد يردد قول سيد قطب الذي يشير إلى أنه قد خرج الانجليز الحمر ليحكم الانجليز السمر، فالمستعمرون المحليون الورثة للاحتلال الأجنبي كانوا أكثر بربرية ووحشية من الاحتلال المباشر، فلم يصل الحال أيام المحتل الفرنسي أن يصلي التونسي صلاة الفجر في الظلام، فلا يضيء النور خوفا من إرهاب الحاكم وتهمة أن يكون مسلما ملتزما.
وقد زرت تونس في النصف الأول من التسعينيات في أوج الرعب الهمجي الذي نشره بن علي وشاهدت بؤس الناس وصمتهم الرهيب وكنا نسافر مسافات في تونس، ولا يكاد ينبس أحد بكلمة فكل يخاف جليسه.
المحتل الداخلي يلتزم بشروط المحتل الخارجي ويزيد على ذلك عقد نقصه الكبرى تجاه المحتل الخارجي، وهو أعرف بأساليب الضرر القريب بالأمة، فيسرق البلاد له ولعائلته وخدمه وللمحتل الخارجي، ويرعب السكان ليخرجهم من ذاتهم وهويتهم وكرامتهم ويذلهم له ليكونوا أتباعا أسهل قيادا لسيادتين، فإذا تعدد الأسياد في الداخل والخارج: ’’فإن تعدد الأسياد تعدد البؤس الذي ما بعده بؤس بقدر ما نملك منهم’’ فنهب الأسياد كل شيء وتولوا وكالات الشركات الأجنبية، ويوم هرب كان عدد من أفراد عائلته قد هربوا بما استطاعوا، فهم فعلا محتلون لصوص كأي محتل يفسد وينهب ويهرب.
وكان ابن علي إلى جانب عداوته للبلاد وأهلها وما تمثل إرهابيا محتلا قتل أخيرا حوالي مائة تونسي بريء، ولما أعلن التونسيون نهاية الإرهابي السروق وحرّم الشعب أخلاق الجبناء، ارتفعت العزة واستعادوا بلادهم، ولكن بسبب الحماية الغربية له والخوف على أشباهه ممن يقومون بدور ضروري للمحتلين، فقد لا يحاكم ولا يعامل كإرهابي لص، على الأقل إلى الآن، وقد تضطر أطراف إلى تعويض تونس سياسيا وماليا عن سرقاته (قيل سرق خمسة مليارات دولار).
*إغواء المفسرين:
تسابق المفسرون على هذا الحدث العظيم ليسخره كل منهم لغايته، وكل مفسر يخبرك عن مهاده الثقافي وولائه السياسي المسبق، ويكشف رغبته في تحويل النظر، وهذه طبيعة التعامل مع كل حدث، ولكن نحن أمام مفصل تاريخي أشهى للمفسرين وللمغتنمين، فيخفي عليك الخبر الذي لا يسره، فإن تجاوز الخبر قدرته على كبته سارع ليسوقك إلى تفسير ينفعه حقا أو باطلا، ودلل أو وجّه بما يدعو لقبول روايته، وأن تتبع طريقته فتستسلم لسلطته.
قدح نار الثورة في تونس بوعزيزي انتقاما لكرامته لا للقمته ـ أو لهما معا ـ في وجه شرطي النظام الممثل لظلم الحاكم ونفسيته وخلقه، ولا مبرر لصرف الأمر عن أصله، لجعل الإنسان معدة فقط بلا كرامة، ومن الحقائق الإنسانية أن القيم والطموحات والعقيدة والعرض والمال والمجد قد يبذل الإنسان روحه لها. ولا مبرر لقبول تفسيرات أتباع المحافظين الجدد الذين تقوم ثقافتهم على تناقض إلحادي، فمن جهة يعللون كل شيء ماديا أو ماركسيا طبقيا، ثم يوجهون التفسير لمصلحة المحتل الرأسمالي.
كان أنصار الاحتلال الغربي حريصين على إخفاء حقائق كالشمس على طريقة إعلام الاحتلال الممجوج المكرر، ومن هذه الحقائق التي يلتزمون بإخفائها: حقيقة أن ابن علي وجه من وجوه الاحتلال الغربي لتونس، حتى لا يثور الناس على المحتلين في بقاع آخر، وليقولوا إنه تصرف بمفرده لا بتأييد منهم، وقد لمس الاحتلال الغربي أن فساد حكامهم ’’المحليين’’ محرج لهم، فنصحوا بعضهم بالتقليل من الفساد، بل صرخت هيلاري بذلك في وجوه العرب في الدوحة أثناء ثورة تونس، ولكنهم يستثنون الكثير من الفساد مثل عقود شراء السلاح وما أشبه، فهذه الجزية لا يسمونها فسادا. وقد اعترف البريطانيون أنهم سكتوا عن فساد الشاه واستبداده وانتشار مزاج الثورة في إيران حتى يتم صفقته لشراء سلاح من بريطانيا وكانت تعاني من انكماش اقتصادي آنذاك.
فالغرب يتغاضى عن حكومات فاشلة لأنه يبتزها ماليا، وسياسيا وثقافيا، وقد يجعل بعضها محطات للدعاية له وحماية ظهره بمالها ودعايتها في المستعمرات، وضد خصوم المحتل الغربي، ومع هذا فإنهم يقدمون استشارات وينصحون بتنفس يسير يقلل الاحتقان ولا يخفف حقائق الواقع، ويبقي التوتر الاجتماعي الدائم في اليد المشرفة وهي عادة تتم بواسطة لجان مشتركة من المحتل الغربي المحلي.
وحاول إعلام الاحتلال الغربي أن يخفي فساده المالي ونهب أسرته واستبداده حتى لا يعامل الناس أشباهه بمثل معاملته، فماطلوا في نقل أخبار اعتقال وقتل وهرب عصابة الفساد والجرائم المحيطة به من أقاربه وأنسابه، فكانت تلك الوسائل كثيرا ما تتستر على هذه الأخبار، أو تهوّن من وجودها في الخبر، ومن أراد فليقارن بين الخطابين خطاب إعلام الاحتلال والإعلام الأكثر حرية واستقلالا.
حاول إعلام الاحتلال الغربي الصمت عن حرب بن على الإسلام، حتى لا يقول الناس إن هناك مروجون للكفر وللخلاعة والمجون محاربون للدين آخرون يستحقون مصيره أو خوفا أن تثور أسئلة كهذه في رؤوس المستمعين والمشاهدين.
وحاولوا أن يخفوا أنه حارب كرامة الناس وحريتهم وملأ السجون والمنافي بالسياسيين، وحارب وسائل الإعلام الحرة واتبع حجب الحقائق و وسائل الإعلام الجديدة، حتى لا تغضب الأمة لحريتها وكرامتها، فزعم المفترون بأن السبب مجرد ’’ثورة خبز’’، وقد فشل هذا التفسير وتبين خداعه.
ثم اضطر الغرب أن ينافق ويبتلع خسارته وحزنه على سقوط عميل مقرب له، فزعموا أنهم يحترمون اختيار التونسيين، وهذا نفاق بليد مكرور فلم يحترم الاحتلال مرة رأي الشعوب المغلوبة، فقد تعاونت فرنسا وأمريكا جهارا نهارا من قبل على سرقة الديمقراطية في الجزائر، واتفقوا مع عساكر كالعماري ونزار، واعترفوا بذلك في مذكرات بعضهم المطبوعة، فولّوهم البلاد ليبقوها لهم مستعمرة وليحرسوا لهم نفطهم، فأهانوا الجزائريين وقتلوا ربع مليون جزائري على يد عساكر المحتل الثاني، واستعاد الغرب احتلال البلاد عبر محتل وسيط، يتظاهر للغزاة وللعالم بأنه في حرب مع الإرهاب وقد ثبت عكس ذلك، وتنكروا الغرب لاختيار الناس يوم وجدوا ممثلين محليين لاحتلالهم، ونافقوا حين لم يملكوا التزوير في تونس، ولعلهم يعدّون لتونس لصا في ’’الرباط’’.
وتخضع بلدان عربية لاحتلال عساكرهم المعادين للحرية ولكرامة الشعوب، ويرتع فيها الفساد الرهيب، ولكن المستعمر يتبجح بلوم ’’الفساد المحلي’’ وهو كبير، ويعلن براءته منه، آملا ربما في وكيل جديد مع أنه هو من صنع وأمن الموجود، أو جاء به ويحميه ومن يحارب الأمة به ومعه.
ويفسر المستعمرون الثورة التونسية بأنها فقط ’’ثورة على الفساد والبطالة’’، ويحب المستعمرون الغربيون أن يقولوا إن هذا فقط هو السبب، وكأنهم هم من ينتج الحكومات الراشدة الصالحة، والحقيقة أن الفساد شرط وجود الحكومات التابعة لهم، فالعراق وأفغانستان وإرسال ’’المحلي’’ المسيحي الإثيوبي لقتال الصوماليين، أنتج أفسد ثلاثة نماذج في العالم بسبب احتلالهم ونفوذ جيوشهم وعبيدهم فيها، فيوظفون من الشعب صحفيين ومخابرات وعملاء ووكلاء محليين، فمشروعهم الأكبر كيف يستطيعون تكوين حكومة كرزائية وشعب كرزائي في كل بلد عربي ومسلم.
ويعملون على صناعة كرزاي في باكستان، أو أن تلقى مصير البلدان الثلاثة السابقة، وكذا بلدان أخرى تعاني من إفسادهم لحياتها من أجل مصالحهم. وخاف إعلام الاحتلال أن يظهر حقيقة أن عمالة بن علي وخيانته للبلاد وهويتها وولائه لليهود وللغرب هو سر من أهم أسرار سقوطه وهربه، ولما سقط تظاهروا بالقبول، ولم يجرؤوا على إعلان حزنهم كما فعل الصهاينة الذين فقدوا حليفا، ويعلمون أن شعبا عربيا أو مسلما حرا لا يقبل بالخيانة وولاء الإرهاب الصهيوني. فتظاهر المحتل بالتبرؤ منه، وأبت مصلحة فرنسا دخوله إليها وكانت سنده وهو خادمها وحربتها في قلوب التونسيين، ولكنها تطمع في صناعة وكيل محلي جديد، ولا تستفز شعبا تود أن تمد هيمنتها عليه في عهد جديد، والمحتلون ناضجون سياسيا لا يقبلون إرهابيين خاسرين يمكن أن يضروا مستقبل مصالحهم.
وقد كان مشهدا غريبا أن تحذر هيلاري كلينتون من الدوحة ـ أثناء الثورة التونسية ـ الحكام العرب من الفساد، وتهددهم بأن الإسلاميين قادمون إن لم يخفف الحكام من فسادهم، وكأن الإسلاميين غزاة وافدين من أمريكا، وكأن الاحتلال الأمريكي البديل ابن البلدة الأمين!
وهذه فضيحة كبرى حين يستعمل الاستعمار الأمريكي مكونا وطنيا ليجعل منه سوطا تجلد بذكره الحكومات، ويطوع به كل آبق أو محدث نفسه أن يكون حرا، وبعبعا يبرر استعباد الحكومات وتذليل الشعوب، لمزيد امتلاك للثروة والقرار والتوجه والسياسة فيها، كما يذلون فتح بحماس، فيدللونها وينعمون عليها، ويملكون قلوبها وشبابها ويبنون جيشا مرتزقا من المحتل، بحجة أن إسلاميين في الجوار، وكذا ترويع الشعوب من ذاتها ودينها.
فمن فضائح ويكي ليكس، أن حاكما عربي يفتخر أمام كل موظف أمريكي يستقبله ـ وما أكثرهم ـ بأنه أذل أئمة المساجد والمسلمين في بلده، ويكتب لهم خطب محددة تقرأ عليهم، ثم يفتخر بأنه غير المناهج وفق رغبة سادته، وأنه حسن العلاقة بالإرهاب الصهيوني ويدعم فتح ضد حماس، ويسهم في حربهم على الإسلام ’’الذي سموها الحرب على الإرهاب’’. ولو لم يكن هناك إسلام ولا أحزاب، سيجد المحتل سوطا يجلد به عبيده، ويستمتعون بهوانهم له وتعاليهم على الأمة، وسيحتال لمزيد استسلام وخضوع ’’المحتل المحلي’’ للخارجي، ولصناعة شرعية موهومة لاستمرار هيمنته وجوده.
ويفسر إسلاميون الثورة بأنها ثورة الإسلام على الكفر، ويدللون بأشياء عديدة، منها انطلاق الآذان بعد تحريمه في الإعلام، وعودة القيادات الإسلامية للظهور وخروجهم من السجون، وليست تماما كذلك، وإن كانوا أشد من ضحى وغالبا سيكسبون، وإن وعوا الدور قللوا من فرحهم بل ومن مكاسبهم، فهذه غنيمة الأمة كلها بعد حرب خاضتها كلها، ويجب أن توزع غنائم الحرب بعدل للجميع، بل وبحذر، ولو قل نصيب النهضة وأمثالها، فكل مكسب له قد تحاسب به البلاد وتتضرر، لأن الهيمنة الفرنسية والأمريكية عمياء في حقدها على كل ما يمثل الإسلام ولو كان خرقة على رأس طفلة، فكيف بما هو أبعد، وتجنب الاستفزاز والمزايدات الإعلامية والتفسير المنفرد المشتهى.
وقد كان للإعلام الحر كالجزيرة والإعلام الجديد ولشخصيات كالإمام القرضاوي، أثر عظيم على حث الناس على مواصلة مظاهرات التحرر، وهو من نادى بأولوية الحرية على تطبيق الشريعة، فالمجتمع المسلم هو من يتحاكم لشريعته، لا للشرائع التي تقدم عضين على رغبة المستعمرين، وقد كانت خطبته يوم الجمعة عملا إعلاميا وثوريا رائعا ندر وجوده في هذا الزمان، ولم يجد إعلام الاحتلال محيصا من اللحاق ببعض الحقيقة.
وقد لوحظ أن لسان المحافظين الجدد في المنطقة أظهر الهدوء والتفهم، ولم يبدأ بشنشنته المعروفة ضد الأمة والتخويف من الإسلام بالطريقة الفجة المتبعة، فهل عرف أنهم ظلموا أكثر من غيرهم عندما جعلهم الإرهابي المبتز قربة لسادته، أم يحاولون تخفيف فجاجتهم المعتادة أم أشفقوا على توتير الأمر ضدهم، أم يخافون تأكيد تواطئهم المعروف مع الإرهاب الحكومي، أم نقدم حسن الظن ونفترض أنها لحظة من بقية ضمير عليل طالما اتهم بالموت.
*حقوق الإنسان:
قد كنت أحضر لقاءا عن حقوق الإنسان في شمال إفريقيا عقد في مطلع التسعينيات في ’’تشاتم هاوس’’ في لندن، نسقته حركات حقوقية، وجاء مندوب حكومة تونس مفاخرا باستقبال بريطانيا له، سعيدا بوجوده فيها، ليقدم طقوس الولاء كمندوبي المستعمرات القدماء، ويتنفج بما حققه سيده، وكان المسكين يتملق للبريطانيين بأنهم في تونس قد حاربوا التشدد والتطرف والأيديولوجيا، وكلها تعني مسألة واحدة أنه استكمل عبوديته للصليبيين المستعمرين، وأنه دمر التوجه الإسلامي في تونس كما يشتهون، وقمع حرية الإنسان وكرامته، ونسي أن القاعة مليئة بدعاة حقوق الإنسان وأحرار من العالم، وبتونسيين من ضحايا إرهاب بن علي، ولما سكت تحدث تونسيون عن الحقيقة في بلادهم، وكان منهم صحفي تحدث عن الإرهاب والإهانة في السجون التونسية، ثم كشف عن جرح هائل في رأسه، ولما كشفه اقشعرت الأبدان في القاعة لما رأوا، وتعجب الناس من أنه بقي حيا بعد ذلك الجرح، ثم أكمل أنه شفي ولكن إخوانه ماتوا أو يموتون في سجون بن علي أو يصابون بإعاقات هائلة، كل هذا ليثبت الحاكم الجبان تمام عبوديته لسادته وليستمر محتلا للأمة.
ثار مبعوث تونس قائلا هذا اللقاء خدعة دبرت أو مؤامرة ضد تونس! ـ الطريف أن كل مستبد يرى نفسه هو الأرض والناس وكذا ممثلوه، يتخيلون أنهم الشعب ـ سمع الناس في القاعة بعض الواقع، الذي أحسنت المعارضة التونسية كشفه، إن خطاب حقوق الإنسان الجاد المستمر هدم الهالة حول المستبد ودمر سمعته، ولما تحرك الناس مطالبين بحرياتهم وكرامتهم وإنسانيتهم، وإنهاء ظاهرة جريمة السجون السياسية بأي حجة وأكذوبة، أجمع العالم بشتى توجهاته أنها قضية عادلة وأنه مجرم لم ينل جزاءه.
*تجريم المعارضة:
سلك بن علي وصية الاحتلال الغربي وسنة المستبدين في تجريم المعارضة، التي هي دائما سر إصلاح البلاد واستقلالها وتقويم حكامها وإقامة الرقابة والمحاسبة، فمن المعروف أنه لا حكومة رشيدة يمكن أن توجد ما لم تضمن للمعارضة الوجود وحق القول والانتقاد والمشاركة الكاملة في قيادة البلاد، والذين يجّرمون المعارضة يثبتون للشعب أنهم مستبدون قبل تجريم من يتحدث عن فسادهم، فلو كانوا صالحين لتركوا للناس أن يقولوا كلمة الحق، وحرية المعلومات لمعرفة إن كان هذا المعارض قال حقا أو زورا.
فالحكومات الوطنية آمنة مستقرة في العالم لا تخاف من الشعب، ولديها معارضة منظمة محترمة مثلها متساوية الحقوق والواجبات، تتمثل في أحزاب أو حزب وحكومة ظل، وليس من خلق حاكم ديمقراطي أن يجرم معارضا لمعارضته، ولكن نجد أن كل حاكم إرهابي أو فاسد يشنع بالمعارضة فتشنع به وتذيقه ما أذاقها عاجلا أو آجلا.
وأحيانا تفسد المعارضة بسبب فساد حكومتها، فهي أحيانا مرآته يرى صورته فيها فشلا أو كسلا أو عمالة أو تبعية، فهي وجه العملة الآخر الملازم، ولكن بحكم بعدها عن فساد الحكم الظاهر وما يقع لها من ظلم واضطهاد، فإنها تبقى أملا للشعوب الحائرة بين الاحتلال ووكيله المحلي الأقسى، ولو كان أمينا صالحا لقبل وجود المعارضة وأحرجهم باستقامته، وحتى لو حكموا مكانه لعاد لداره عزيزا مكرما ولم يهرب إرهابيا سارقا يحمل عار التاريخ، ولما كان ابن علي إرهابيا يقتل الشعب في الشوارع وتذوي أعمارهم في السجون، ويأكل الحزن والبغض عائلاتهم المحرومة منهم، وتمتلئ المنافي بزعماء البلاد وبالمصلحين وكبار المثقفين والعقول، هاربين في كل أرض ولم يترك من له شأن ورأي وشجاعة وأبقى حوله منافقيه ومرتزقته ولصوصه ممن يعيثون في البلاد فسادا بلا مستقبل ولا حماية من الشعب، ولذا كانت جريمته عظمى عند محازبيه وطارديه.
* من وجوه الشجاعة في القول والعمل:
شجاعة المواطن التونسي وجه من المجد والعزة قل مثيله، وشجاعة وأمانة الرجال من الجيش ومن الأمن الذين لم يقتلوا إخوانهم وأهلهم، كانت سمة من المروءة والعزة والوفاء للوطن يفتخر بها كل عربي ومسلم، فهم حماة الأمة لا خدم للمحتل المحلي ولا الخارجي، وهذا درس يجب نشره وتعليمه.
إن أمن الأمة مقدم على شخص الحاكم، ومصلحة الأمة هي المصلحة العامة، ويخونها من يسخرها لسجن وقتل قادتها ومصلحيها وحرب مصادر عزتها عروبتها ودينها، فالأمن لخدمة الأمة لا للعبودية للمحتلين من الداخل أو الخارج ولا للإرهابي المستبد الذي زعم أنه يحكم مضللا ولم يسمع الأمة لربع قرن، خرج يتملق الشعب بهوان وذل ’’سمعتكم سمعتكم فهمتكم’’، وقال عن عبيده ’’ضللوني’’! ووعد يائسا خاسرا بالحرية التامة للإعلام والانترنت، وكان يتوقع أن يعيد استعباده للأحرار وهيهات نهضت الأمة على الخائن وهبت هبة إنسان واحد من الرجال والنساء ومن كل الأعمار وكل التوجهات وطردوه.
* ضرورة التنمية السياسية:
حرص المستبد الإرهابي بن علي أن يدمر كل بنية سياسية في البلاد، ولكن تونس كان قد وجد فيها من قبله بنية مدنية وسياسية أولية ساعدتها في الاحتجاج وفي حال الفراغ، فجندت الناس لتلافي التمزق والفتن إلى الآن، ولكل مجتمع بنية، ومن الضروري وجود هذه البنى وإلا غرقت البلاد في أزمة إرهاب واضطراب دائم يتمناه أعداء الشعوب، ومن كان وطنيا مخلصا أسس وساعد على وجود البنية المدنية، من أحزاب أو جماعات أو مؤسسات، ترعى محتاجيه، وترقى بمدنيته، وترفع وعيه، وتنقذه حال الفتن، أما الاحتلال الأمريكي والصهيوني الآن في البلدان العربية، فإنه يحرص على تدمير البنى المدنية والجمعيات والمؤسسات الشعبية، والإبقاء فقط على خضوع المجتمع لسلطة جاسوسية تعرف فقط السجن والقتل والترغيب والترهيب للإلتزام برؤية المحتل المحلي، وصناعة مجتمع خاضع بالقوة لا بالقناعة مجتمع الكراهية المتبادلة والخوف والعملاء والمرتزقة والجواسيس، تماما كما تفعل إسرائيل في فلسطين، هدم كل المؤسسات المدنية والسياسية والخيرية والإبقاء فقط على من تدرب ومول من قبلها ومن قبل أنصارها.
وهذا النموذج هو الذي يعمل له الاحتلال في المنطقة، ويلزم به ليتمكن من غرس عملائه في المواقع المطلوبة، وحمايتهم وسلب البلدان ماليا وسياسيا من كل قوتها وكرامتها، وهذا الاحتلال للحكومات السائبة هو سبب الفراغ السياسي الرهيب في المنطقة، ومن أسرار هزال هذه الحكومات واستمرار الإرهاب الحكومي ومنع وجود مؤسسات مدنية وتهميشها، فاحتل العملاء البلدان وسخروا الحكام وخوفهم وبلادهم وثروات الشعوب موردا رخيصا لكل للحروب الصليبية المعاصرة ولكل شهوات ومغامرات المحتلين، وسيجدون دائما عنصرا محليا أو خارجيا يعلقون به سبب استبدادهم وفشلهم.
التنمية السياسية أساس قيام حكومات موثوقة ومستقلة، ورجال حكم يتميزون بالأمانة والوعي وإدراك مصالح البلاد، وسلوك طريق التحرر الذي ليس أوله بالضرورة مصادمة مع الإمبراطورية الغالبة، ولكن هناك هوامش واسعة يجدها الأحرار والمخلصون تقيهم الاضطراب وجلب العداوة.
إن غياب أحزب فاعلة ومنظمة وهروب القيادات التونسية، أحد أهم أسباب المخاوف لقادة لتونس ولغيرها وأحد أسباب الرعب الذي شاع، والخوف القادم على بلدان عربية أخرى يسود فيها فساد أفظع وفشل حكومي أكبر، وانعدام للثقة وتراخي للقيادات عن الفاعلية والشجاعة، ومن غيب شجاعة أمة فلن يستطيع أن يديم مدى الخوف، ولن يستمر على حلبها له ولسادته، وسوف يتخلون عنه بحثا عن بديل مناسب حين تهبّ في بلده فتنة أو تنافس.
* من الحرية إلى الديمقراطية:
سبق مفكرو تونس وعلماؤه أكثر مفكري وعلماء العالم العربي في وضع الحرية في مكان عظيم من ثقافة وقناعة الأمة، فقد جعلها بن عاشور من مقاصد الشريعة، وألف فيها ودعا إليها الخضر حسين التونسي شيخ الأزهر، وكانت من أهم ما كتب الغنوشي. أما مثقفو القومية واليسار فقد كانت من أهم أركان نضالهم، إن الشاب التونسي الذي أبكت فرحته الجموع وهو يكرر: ’’يا توانسة راكم أحرار.. يا توانسة هرب المجرم.. تونس حرة تونس عظيمة’’، كان يهتف بتحرر تونس من الإرهابي، كان انفعالا رائعا ومؤثرا، ويتحدث بصوت الملايين بشكل عفوي.
ولكن الانتقال من الحرية إلى الديمقراطية عملية ستكون صعبة، ونرجو ألا تكون طويلة ولا تسرق هذه الثورة العظيمة، وهذه المبادرة الشعبية، وإن خلود التوجه الديمقراطي أهم عقبة يجب على التونسيين أن يجتازوا امتحانها الهائل، ولعل وجود وعي وتعلم ونضج في تونس ونبذ للعبودية لأنهم مؤهلون، وبسبب أن الأحزاب والقيادات العامة، إسلامية وقومية ويسارية، تعد بوعي وثقافة مبكرة مقتنعة بالحل الديمقراطي، ومن أمثلة ذلك الشيخ راشد الغنوشي الذي سبق للإقناع بالحل الديمقراطي، والزعيم اليساري منصف المرزوقي من الموجهين لهذا الحل، وكذا أغلب الأحزاب المعروفة والاتحادات هناك.
وقد تحاول القوى الاستعمارية خطف الثورة لصالح أحد الضباط بحجة إيقاف الاضطراب لمن تهيئه بديلا، وعسى أن تكون الثورة أوعى وأنضج وتعرف محاسن النظام الديمقراطي، النظام الذي أثبت جدواه حول العالم. آملين كل خير لتونس وللأمة وألا تقع مرة أخرى تحت يد عميل أو مخادع وأن تساهم تونس في صنع مستقبل للعدل والحرية في العالم العربي.
قد لا تصح الرؤية الجزئية للحدث، بل الثورة نتاج محلي لحالة عامة في العالم العربي، وتفسير متخيل لمجتمع مأزوم بمحتل محلي داخلي يؤمن نفسه عند محتل خارجي، وكانت قسوة المحلي وتجاوزه للحدود المرعية لثقافة المحتل قد أسرعت بنهايته، ونحرق المراحل لا الأبدان في التوجه لحل يخفف عن مأزومينا أزماتهم وتغلق السجون سياسية، ولا حاكم أصم لربع قرن، ولا اعتذار بتضليل ولا جهل، وأن التنمية السياسية ستبدأ والحريات تحترم، والمعارضة تقوم بدورها في تصويب الأخطاء، ومنع بقاء حاكم يؤلّه ذاته.
*العصر
20-1-2011
شجاعة المواطن التونسي وجه من المجد والعزة قل مثيله، وشجاعة وأمانة الرجال من الجيش ومن الأمن الذين لم يقتلوا إخوانهم وأهلهم، كانت سمة من المروءة والعزة والوفاء للوطن يفتخر بها كل عربي ومسلم، فهم حماة الأمة لا خدم للمحتل المحلي ولا الخارجي، وهذا درس يجب نشره وتعليمه.. ولكن الانتقال من الحرية إلى الديمقراطية عملية ستكون صعبة، ونرجو ألا تكون طويلة ولا تسرق هذه الثورة العظيمة،
بقلم د. محمد الأحمري
قرأت منذ بضع سنين لأحد مفكري تونس من السياسيين البارزين ’’منصف المرزوقي’’ نظرية مشهورة نشرها في كتاب بهذا العنوان: ’’الاستقلال الثاني’’ عن التمييز بين الاحتلال الأجنبي الأول ثم الاستقلال الأول منه، وما أعقبه من سقوط البلاد العربية في قبضة ’’الاحتلال الداخلي’’، وهو الاحتلال الثاني الذي يقوم على الفساد والفشل السياسي والجهل وادعاء الاستقلال، مع أنها حكومات إما أن تكون مكاتب تمثيل محلية للمحتل السابق مع زيادة فسادها، فجمعت سوأة احتلالين، أو ديكتاتور محتل وعائلته وإرهابييه ولصوصه، ونفاق في تلبس بشرعيات كاذبة قومية و وطنية وإسلامية وتقدمية، واقعها مضاد لكل دعاواه.
وهذا الذي تئن منه شعوب عربية كثيرة، تحت نظم مستبدة عسكرية أو ظاهرها مدنية وهي بوليسية، تستبيح الأرض والثروة والإنسان والكرامة والثقافة، وتنهب المال وترسله للخارج، نادى المؤلف بأن على الشعوب أن تحقق الاستقلال الثاني، لأنها لم تزل تحت احتلال أسوأ من الأجنبي، ولأن الاحتلال الأجنبي متميز ومعروف ومواجهته أوضح وأسهل، أما الثاني فداء في القلب أقسى وأمر ظاهره منا وهو معاد لنا، ونفوذ الغرب عليه كاسح لم يترك له إلا صلاحية سرقة الشعب وسجنه.
ومنذ ذاك، فكثيرا ما يخطر بالبال أن الاحتلال الثاني تعزز في تونس يوم تولى بن علي، وكأنه اليوم حين صدرت مجلة ’’المجلة’’ اللندنية تبشر بأن الوزير بن علي سيكون حاكما لتونس وأن سوف يخلع بورقيبة، وبعد فترة امتنت علينا المجلة نفسها المقربة من مصادر نافذة، إن ما وعدت به قد وقع كما نقلت.
حينها، قال عنه كثيرون بأنه عندما كان سفيرا في أوربا كان مقربا من الأمريكيين، وقد حكم تونس بمشروعية واحدة، وهي خدمة الغرب، وأهم شروط مشروعية أي حكم واستمراره في المستعمرات الأمريكية ومناطق النفوذ منذ استقلال إيران عام 1979م ووقوعها بأيدي إسلاميين ووطنيين، أن يلتزم النظام الجديد بالحرب على الإسلام وأهله، وعلى كرامة البلاد واستقلالها ومنع حرية سكانها، وإقصاء كل ذي توجه وطني أو قومي أو إسلامي، وتقديم الأفراد ذوي الأنانية الفردية، المأمونون من قبل الغرب، المنخلعون من أي انتماء.
فهذا هو الشرط الأهم أو الثمن لنيل قبول وقلوب الصليبيين، لتكون بذلك وثيقة تأمين من الخلع الخارجي، وبالتالي تدمير المعارضة الداخلية، فلا قيمة لحاكم أو متنفذ في المستعمرات إلا إذا أمّن نفسه بضمان عبوديته للأجانب، ومن بعدها يلد الصنم عابد الذات في الداخل بالطغيان وتحريم النقد والمحاسبة، وتدمير الحياة السياسية، وهو مع الخارج في عبودية تامة للمستعمر وتزلف وتسخير البلاد لهم. حتى إذا طرد أو هلك خلفه من يهجوه أو يدعو لإصلاح ما أفسده.
كتاب ’’الاستقلال الثاني’’، يكاد يردد قول سيد قطب الذي يشير إلى أنه قد خرج الانجليز الحمر ليحكم الانجليز السمر، فالمستعمرون المحليون الورثة للاحتلال الأجنبي كانوا أكثر بربرية ووحشية من الاحتلال المباشر، فلم يصل الحال أيام المحتل الفرنسي أن يصلي التونسي صلاة الفجر في الظلام، فلا يضيء النور خوفا من إرهاب الحاكم وتهمة أن يكون مسلما ملتزما.
وقد زرت تونس في النصف الأول من التسعينيات في أوج الرعب الهمجي الذي نشره بن علي وشاهدت بؤس الناس وصمتهم الرهيب وكنا نسافر مسافات في تونس، ولا يكاد ينبس أحد بكلمة فكل يخاف جليسه.
المحتل الداخلي يلتزم بشروط المحتل الخارجي ويزيد على ذلك عقد نقصه الكبرى تجاه المحتل الخارجي، وهو أعرف بأساليب الضرر القريب بالأمة، فيسرق البلاد له ولعائلته وخدمه وللمحتل الخارجي، ويرعب السكان ليخرجهم من ذاتهم وهويتهم وكرامتهم ويذلهم له ليكونوا أتباعا أسهل قيادا لسيادتين، فإذا تعدد الأسياد في الداخل والخارج: ’’فإن تعدد الأسياد تعدد البؤس الذي ما بعده بؤس بقدر ما نملك منهم’’ فنهب الأسياد كل شيء وتولوا وكالات الشركات الأجنبية، ويوم هرب كان عدد من أفراد عائلته قد هربوا بما استطاعوا، فهم فعلا محتلون لصوص كأي محتل يفسد وينهب ويهرب.
وكان ابن علي إلى جانب عداوته للبلاد وأهلها وما تمثل إرهابيا محتلا قتل أخيرا حوالي مائة تونسي بريء، ولما أعلن التونسيون نهاية الإرهابي السروق وحرّم الشعب أخلاق الجبناء، ارتفعت العزة واستعادوا بلادهم، ولكن بسبب الحماية الغربية له والخوف على أشباهه ممن يقومون بدور ضروري للمحتلين، فقد لا يحاكم ولا يعامل كإرهابي لص، على الأقل إلى الآن، وقد تضطر أطراف إلى تعويض تونس سياسيا وماليا عن سرقاته (قيل سرق خمسة مليارات دولار).
*إغواء المفسرين:
تسابق المفسرون على هذا الحدث العظيم ليسخره كل منهم لغايته، وكل مفسر يخبرك عن مهاده الثقافي وولائه السياسي المسبق، ويكشف رغبته في تحويل النظر، وهذه طبيعة التعامل مع كل حدث، ولكن نحن أمام مفصل تاريخي أشهى للمفسرين وللمغتنمين، فيخفي عليك الخبر الذي لا يسره، فإن تجاوز الخبر قدرته على كبته سارع ليسوقك إلى تفسير ينفعه حقا أو باطلا، ودلل أو وجّه بما يدعو لقبول روايته، وأن تتبع طريقته فتستسلم لسلطته.
قدح نار الثورة في تونس بوعزيزي انتقاما لكرامته لا للقمته ـ أو لهما معا ـ في وجه شرطي النظام الممثل لظلم الحاكم ونفسيته وخلقه، ولا مبرر لصرف الأمر عن أصله، لجعل الإنسان معدة فقط بلا كرامة، ومن الحقائق الإنسانية أن القيم والطموحات والعقيدة والعرض والمال والمجد قد يبذل الإنسان روحه لها. ولا مبرر لقبول تفسيرات أتباع المحافظين الجدد الذين تقوم ثقافتهم على تناقض إلحادي، فمن جهة يعللون كل شيء ماديا أو ماركسيا طبقيا، ثم يوجهون التفسير لمصلحة المحتل الرأسمالي.
كان أنصار الاحتلال الغربي حريصين على إخفاء حقائق كالشمس على طريقة إعلام الاحتلال الممجوج المكرر، ومن هذه الحقائق التي يلتزمون بإخفائها: حقيقة أن ابن علي وجه من وجوه الاحتلال الغربي لتونس، حتى لا يثور الناس على المحتلين في بقاع آخر، وليقولوا إنه تصرف بمفرده لا بتأييد منهم، وقد لمس الاحتلال الغربي أن فساد حكامهم ’’المحليين’’ محرج لهم، فنصحوا بعضهم بالتقليل من الفساد، بل صرخت هيلاري بذلك في وجوه العرب في الدوحة أثناء ثورة تونس، ولكنهم يستثنون الكثير من الفساد مثل عقود شراء السلاح وما أشبه، فهذه الجزية لا يسمونها فسادا. وقد اعترف البريطانيون أنهم سكتوا عن فساد الشاه واستبداده وانتشار مزاج الثورة في إيران حتى يتم صفقته لشراء سلاح من بريطانيا وكانت تعاني من انكماش اقتصادي آنذاك.
فالغرب يتغاضى عن حكومات فاشلة لأنه يبتزها ماليا، وسياسيا وثقافيا، وقد يجعل بعضها محطات للدعاية له وحماية ظهره بمالها ودعايتها في المستعمرات، وضد خصوم المحتل الغربي، ومع هذا فإنهم يقدمون استشارات وينصحون بتنفس يسير يقلل الاحتقان ولا يخفف حقائق الواقع، ويبقي التوتر الاجتماعي الدائم في اليد المشرفة وهي عادة تتم بواسطة لجان مشتركة من المحتل الغربي المحلي.
وحاول إعلام الاحتلال الغربي أن يخفي فساده المالي ونهب أسرته واستبداده حتى لا يعامل الناس أشباهه بمثل معاملته، فماطلوا في نقل أخبار اعتقال وقتل وهرب عصابة الفساد والجرائم المحيطة به من أقاربه وأنسابه، فكانت تلك الوسائل كثيرا ما تتستر على هذه الأخبار، أو تهوّن من وجودها في الخبر، ومن أراد فليقارن بين الخطابين خطاب إعلام الاحتلال والإعلام الأكثر حرية واستقلالا.
حاول إعلام الاحتلال الغربي الصمت عن حرب بن على الإسلام، حتى لا يقول الناس إن هناك مروجون للكفر وللخلاعة والمجون محاربون للدين آخرون يستحقون مصيره أو خوفا أن تثور أسئلة كهذه في رؤوس المستمعين والمشاهدين.
وحاولوا أن يخفوا أنه حارب كرامة الناس وحريتهم وملأ السجون والمنافي بالسياسيين، وحارب وسائل الإعلام الحرة واتبع حجب الحقائق و وسائل الإعلام الجديدة، حتى لا تغضب الأمة لحريتها وكرامتها، فزعم المفترون بأن السبب مجرد ’’ثورة خبز’’، وقد فشل هذا التفسير وتبين خداعه.
ثم اضطر الغرب أن ينافق ويبتلع خسارته وحزنه على سقوط عميل مقرب له، فزعموا أنهم يحترمون اختيار التونسيين، وهذا نفاق بليد مكرور فلم يحترم الاحتلال مرة رأي الشعوب المغلوبة، فقد تعاونت فرنسا وأمريكا جهارا نهارا من قبل على سرقة الديمقراطية في الجزائر، واتفقوا مع عساكر كالعماري ونزار، واعترفوا بذلك في مذكرات بعضهم المطبوعة، فولّوهم البلاد ليبقوها لهم مستعمرة وليحرسوا لهم نفطهم، فأهانوا الجزائريين وقتلوا ربع مليون جزائري على يد عساكر المحتل الثاني، واستعاد الغرب احتلال البلاد عبر محتل وسيط، يتظاهر للغزاة وللعالم بأنه في حرب مع الإرهاب وقد ثبت عكس ذلك، وتنكروا الغرب لاختيار الناس يوم وجدوا ممثلين محليين لاحتلالهم، ونافقوا حين لم يملكوا التزوير في تونس، ولعلهم يعدّون لتونس لصا في ’’الرباط’’.
وتخضع بلدان عربية لاحتلال عساكرهم المعادين للحرية ولكرامة الشعوب، ويرتع فيها الفساد الرهيب، ولكن المستعمر يتبجح بلوم ’’الفساد المحلي’’ وهو كبير، ويعلن براءته منه، آملا ربما في وكيل جديد مع أنه هو من صنع وأمن الموجود، أو جاء به ويحميه ومن يحارب الأمة به ومعه.
ويفسر المستعمرون الثورة التونسية بأنها فقط ’’ثورة على الفساد والبطالة’’، ويحب المستعمرون الغربيون أن يقولوا إن هذا فقط هو السبب، وكأنهم هم من ينتج الحكومات الراشدة الصالحة، والحقيقة أن الفساد شرط وجود الحكومات التابعة لهم، فالعراق وأفغانستان وإرسال ’’المحلي’’ المسيحي الإثيوبي لقتال الصوماليين، أنتج أفسد ثلاثة نماذج في العالم بسبب احتلالهم ونفوذ جيوشهم وعبيدهم فيها، فيوظفون من الشعب صحفيين ومخابرات وعملاء ووكلاء محليين، فمشروعهم الأكبر كيف يستطيعون تكوين حكومة كرزائية وشعب كرزائي في كل بلد عربي ومسلم.
ويعملون على صناعة كرزاي في باكستان، أو أن تلقى مصير البلدان الثلاثة السابقة، وكذا بلدان أخرى تعاني من إفسادهم لحياتها من أجل مصالحهم. وخاف إعلام الاحتلال أن يظهر حقيقة أن عمالة بن علي وخيانته للبلاد وهويتها وولائه لليهود وللغرب هو سر من أهم أسرار سقوطه وهربه، ولما سقط تظاهروا بالقبول، ولم يجرؤوا على إعلان حزنهم كما فعل الصهاينة الذين فقدوا حليفا، ويعلمون أن شعبا عربيا أو مسلما حرا لا يقبل بالخيانة وولاء الإرهاب الصهيوني. فتظاهر المحتل بالتبرؤ منه، وأبت مصلحة فرنسا دخوله إليها وكانت سنده وهو خادمها وحربتها في قلوب التونسيين، ولكنها تطمع في صناعة وكيل محلي جديد، ولا تستفز شعبا تود أن تمد هيمنتها عليه في عهد جديد، والمحتلون ناضجون سياسيا لا يقبلون إرهابيين خاسرين يمكن أن يضروا مستقبل مصالحهم.
وقد كان مشهدا غريبا أن تحذر هيلاري كلينتون من الدوحة ـ أثناء الثورة التونسية ـ الحكام العرب من الفساد، وتهددهم بأن الإسلاميين قادمون إن لم يخفف الحكام من فسادهم، وكأن الإسلاميين غزاة وافدين من أمريكا، وكأن الاحتلال الأمريكي البديل ابن البلدة الأمين!
وهذه فضيحة كبرى حين يستعمل الاستعمار الأمريكي مكونا وطنيا ليجعل منه سوطا تجلد بذكره الحكومات، ويطوع به كل آبق أو محدث نفسه أن يكون حرا، وبعبعا يبرر استعباد الحكومات وتذليل الشعوب، لمزيد امتلاك للثروة والقرار والتوجه والسياسة فيها، كما يذلون فتح بحماس، فيدللونها وينعمون عليها، ويملكون قلوبها وشبابها ويبنون جيشا مرتزقا من المحتل، بحجة أن إسلاميين في الجوار، وكذا ترويع الشعوب من ذاتها ودينها.
فمن فضائح ويكي ليكس، أن حاكما عربي يفتخر أمام كل موظف أمريكي يستقبله ـ وما أكثرهم ـ بأنه أذل أئمة المساجد والمسلمين في بلده، ويكتب لهم خطب محددة تقرأ عليهم، ثم يفتخر بأنه غير المناهج وفق رغبة سادته، وأنه حسن العلاقة بالإرهاب الصهيوني ويدعم فتح ضد حماس، ويسهم في حربهم على الإسلام ’’الذي سموها الحرب على الإرهاب’’. ولو لم يكن هناك إسلام ولا أحزاب، سيجد المحتل سوطا يجلد به عبيده، ويستمتعون بهوانهم له وتعاليهم على الأمة، وسيحتال لمزيد استسلام وخضوع ’’المحتل المحلي’’ للخارجي، ولصناعة شرعية موهومة لاستمرار هيمنته وجوده.
ويفسر إسلاميون الثورة بأنها ثورة الإسلام على الكفر، ويدللون بأشياء عديدة، منها انطلاق الآذان بعد تحريمه في الإعلام، وعودة القيادات الإسلامية للظهور وخروجهم من السجون، وليست تماما كذلك، وإن كانوا أشد من ضحى وغالبا سيكسبون، وإن وعوا الدور قللوا من فرحهم بل ومن مكاسبهم، فهذه غنيمة الأمة كلها بعد حرب خاضتها كلها، ويجب أن توزع غنائم الحرب بعدل للجميع، بل وبحذر، ولو قل نصيب النهضة وأمثالها، فكل مكسب له قد تحاسب به البلاد وتتضرر، لأن الهيمنة الفرنسية والأمريكية عمياء في حقدها على كل ما يمثل الإسلام ولو كان خرقة على رأس طفلة، فكيف بما هو أبعد، وتجنب الاستفزاز والمزايدات الإعلامية والتفسير المنفرد المشتهى.
وقد كان للإعلام الحر كالجزيرة والإعلام الجديد ولشخصيات كالإمام القرضاوي، أثر عظيم على حث الناس على مواصلة مظاهرات التحرر، وهو من نادى بأولوية الحرية على تطبيق الشريعة، فالمجتمع المسلم هو من يتحاكم لشريعته، لا للشرائع التي تقدم عضين على رغبة المستعمرين، وقد كانت خطبته يوم الجمعة عملا إعلاميا وثوريا رائعا ندر وجوده في هذا الزمان، ولم يجد إعلام الاحتلال محيصا من اللحاق ببعض الحقيقة.
وقد لوحظ أن لسان المحافظين الجدد في المنطقة أظهر الهدوء والتفهم، ولم يبدأ بشنشنته المعروفة ضد الأمة والتخويف من الإسلام بالطريقة الفجة المتبعة، فهل عرف أنهم ظلموا أكثر من غيرهم عندما جعلهم الإرهابي المبتز قربة لسادته، أم يحاولون تخفيف فجاجتهم المعتادة أم أشفقوا على توتير الأمر ضدهم، أم يخافون تأكيد تواطئهم المعروف مع الإرهاب الحكومي، أم نقدم حسن الظن ونفترض أنها لحظة من بقية ضمير عليل طالما اتهم بالموت.
*حقوق الإنسان:
قد كنت أحضر لقاءا عن حقوق الإنسان في شمال إفريقيا عقد في مطلع التسعينيات في ’’تشاتم هاوس’’ في لندن، نسقته حركات حقوقية، وجاء مندوب حكومة تونس مفاخرا باستقبال بريطانيا له، سعيدا بوجوده فيها، ليقدم طقوس الولاء كمندوبي المستعمرات القدماء، ويتنفج بما حققه سيده، وكان المسكين يتملق للبريطانيين بأنهم في تونس قد حاربوا التشدد والتطرف والأيديولوجيا، وكلها تعني مسألة واحدة أنه استكمل عبوديته للصليبيين المستعمرين، وأنه دمر التوجه الإسلامي في تونس كما يشتهون، وقمع حرية الإنسان وكرامته، ونسي أن القاعة مليئة بدعاة حقوق الإنسان وأحرار من العالم، وبتونسيين من ضحايا إرهاب بن علي، ولما سكت تحدث تونسيون عن الحقيقة في بلادهم، وكان منهم صحفي تحدث عن الإرهاب والإهانة في السجون التونسية، ثم كشف عن جرح هائل في رأسه، ولما كشفه اقشعرت الأبدان في القاعة لما رأوا، وتعجب الناس من أنه بقي حيا بعد ذلك الجرح، ثم أكمل أنه شفي ولكن إخوانه ماتوا أو يموتون في سجون بن علي أو يصابون بإعاقات هائلة، كل هذا ليثبت الحاكم الجبان تمام عبوديته لسادته وليستمر محتلا للأمة.
ثار مبعوث تونس قائلا هذا اللقاء خدعة دبرت أو مؤامرة ضد تونس! ـ الطريف أن كل مستبد يرى نفسه هو الأرض والناس وكذا ممثلوه، يتخيلون أنهم الشعب ـ سمع الناس في القاعة بعض الواقع، الذي أحسنت المعارضة التونسية كشفه، إن خطاب حقوق الإنسان الجاد المستمر هدم الهالة حول المستبد ودمر سمعته، ولما تحرك الناس مطالبين بحرياتهم وكرامتهم وإنسانيتهم، وإنهاء ظاهرة جريمة السجون السياسية بأي حجة وأكذوبة، أجمع العالم بشتى توجهاته أنها قضية عادلة وأنه مجرم لم ينل جزاءه.
*تجريم المعارضة:
سلك بن علي وصية الاحتلال الغربي وسنة المستبدين في تجريم المعارضة، التي هي دائما سر إصلاح البلاد واستقلالها وتقويم حكامها وإقامة الرقابة والمحاسبة، فمن المعروف أنه لا حكومة رشيدة يمكن أن توجد ما لم تضمن للمعارضة الوجود وحق القول والانتقاد والمشاركة الكاملة في قيادة البلاد، والذين يجّرمون المعارضة يثبتون للشعب أنهم مستبدون قبل تجريم من يتحدث عن فسادهم، فلو كانوا صالحين لتركوا للناس أن يقولوا كلمة الحق، وحرية المعلومات لمعرفة إن كان هذا المعارض قال حقا أو زورا.
فالحكومات الوطنية آمنة مستقرة في العالم لا تخاف من الشعب، ولديها معارضة منظمة محترمة مثلها متساوية الحقوق والواجبات، تتمثل في أحزاب أو حزب وحكومة ظل، وليس من خلق حاكم ديمقراطي أن يجرم معارضا لمعارضته، ولكن نجد أن كل حاكم إرهابي أو فاسد يشنع بالمعارضة فتشنع به وتذيقه ما أذاقها عاجلا أو آجلا.
وأحيانا تفسد المعارضة بسبب فساد حكومتها، فهي أحيانا مرآته يرى صورته فيها فشلا أو كسلا أو عمالة أو تبعية، فهي وجه العملة الآخر الملازم، ولكن بحكم بعدها عن فساد الحكم الظاهر وما يقع لها من ظلم واضطهاد، فإنها تبقى أملا للشعوب الحائرة بين الاحتلال ووكيله المحلي الأقسى، ولو كان أمينا صالحا لقبل وجود المعارضة وأحرجهم باستقامته، وحتى لو حكموا مكانه لعاد لداره عزيزا مكرما ولم يهرب إرهابيا سارقا يحمل عار التاريخ، ولما كان ابن علي إرهابيا يقتل الشعب في الشوارع وتذوي أعمارهم في السجون، ويأكل الحزن والبغض عائلاتهم المحرومة منهم، وتمتلئ المنافي بزعماء البلاد وبالمصلحين وكبار المثقفين والعقول، هاربين في كل أرض ولم يترك من له شأن ورأي وشجاعة وأبقى حوله منافقيه ومرتزقته ولصوصه ممن يعيثون في البلاد فسادا بلا مستقبل ولا حماية من الشعب، ولذا كانت جريمته عظمى عند محازبيه وطارديه.
* من وجوه الشجاعة في القول والعمل:
شجاعة المواطن التونسي وجه من المجد والعزة قل مثيله، وشجاعة وأمانة الرجال من الجيش ومن الأمن الذين لم يقتلوا إخوانهم وأهلهم، كانت سمة من المروءة والعزة والوفاء للوطن يفتخر بها كل عربي ومسلم، فهم حماة الأمة لا خدم للمحتل المحلي ولا الخارجي، وهذا درس يجب نشره وتعليمه.
إن أمن الأمة مقدم على شخص الحاكم، ومصلحة الأمة هي المصلحة العامة، ويخونها من يسخرها لسجن وقتل قادتها ومصلحيها وحرب مصادر عزتها عروبتها ودينها، فالأمن لخدمة الأمة لا للعبودية للمحتلين من الداخل أو الخارج ولا للإرهابي المستبد الذي زعم أنه يحكم مضللا ولم يسمع الأمة لربع قرن، خرج يتملق الشعب بهوان وذل ’’سمعتكم سمعتكم فهمتكم’’، وقال عن عبيده ’’ضللوني’’! ووعد يائسا خاسرا بالحرية التامة للإعلام والانترنت، وكان يتوقع أن يعيد استعباده للأحرار وهيهات نهضت الأمة على الخائن وهبت هبة إنسان واحد من الرجال والنساء ومن كل الأعمار وكل التوجهات وطردوه.
* ضرورة التنمية السياسية:
حرص المستبد الإرهابي بن علي أن يدمر كل بنية سياسية في البلاد، ولكن تونس كان قد وجد فيها من قبله بنية مدنية وسياسية أولية ساعدتها في الاحتجاج وفي حال الفراغ، فجندت الناس لتلافي التمزق والفتن إلى الآن، ولكل مجتمع بنية، ومن الضروري وجود هذه البنى وإلا غرقت البلاد في أزمة إرهاب واضطراب دائم يتمناه أعداء الشعوب، ومن كان وطنيا مخلصا أسس وساعد على وجود البنية المدنية، من أحزاب أو جماعات أو مؤسسات، ترعى محتاجيه، وترقى بمدنيته، وترفع وعيه، وتنقذه حال الفتن، أما الاحتلال الأمريكي والصهيوني الآن في البلدان العربية، فإنه يحرص على تدمير البنى المدنية والجمعيات والمؤسسات الشعبية، والإبقاء فقط على خضوع المجتمع لسلطة جاسوسية تعرف فقط السجن والقتل والترغيب والترهيب للإلتزام برؤية المحتل المحلي، وصناعة مجتمع خاضع بالقوة لا بالقناعة مجتمع الكراهية المتبادلة والخوف والعملاء والمرتزقة والجواسيس، تماما كما تفعل إسرائيل في فلسطين، هدم كل المؤسسات المدنية والسياسية والخيرية والإبقاء فقط على من تدرب ومول من قبلها ومن قبل أنصارها.
وهذا النموذج هو الذي يعمل له الاحتلال في المنطقة، ويلزم به ليتمكن من غرس عملائه في المواقع المطلوبة، وحمايتهم وسلب البلدان ماليا وسياسيا من كل قوتها وكرامتها، وهذا الاحتلال للحكومات السائبة هو سبب الفراغ السياسي الرهيب في المنطقة، ومن أسرار هزال هذه الحكومات واستمرار الإرهاب الحكومي ومنع وجود مؤسسات مدنية وتهميشها، فاحتل العملاء البلدان وسخروا الحكام وخوفهم وبلادهم وثروات الشعوب موردا رخيصا لكل للحروب الصليبية المعاصرة ولكل شهوات ومغامرات المحتلين، وسيجدون دائما عنصرا محليا أو خارجيا يعلقون به سبب استبدادهم وفشلهم.
التنمية السياسية أساس قيام حكومات موثوقة ومستقلة، ورجال حكم يتميزون بالأمانة والوعي وإدراك مصالح البلاد، وسلوك طريق التحرر الذي ليس أوله بالضرورة مصادمة مع الإمبراطورية الغالبة، ولكن هناك هوامش واسعة يجدها الأحرار والمخلصون تقيهم الاضطراب وجلب العداوة.
إن غياب أحزب فاعلة ومنظمة وهروب القيادات التونسية، أحد أهم أسباب المخاوف لقادة لتونس ولغيرها وأحد أسباب الرعب الذي شاع، والخوف القادم على بلدان عربية أخرى يسود فيها فساد أفظع وفشل حكومي أكبر، وانعدام للثقة وتراخي للقيادات عن الفاعلية والشجاعة، ومن غيب شجاعة أمة فلن يستطيع أن يديم مدى الخوف، ولن يستمر على حلبها له ولسادته، وسوف يتخلون عنه بحثا عن بديل مناسب حين تهبّ في بلده فتنة أو تنافس.
* من الحرية إلى الديمقراطية:
سبق مفكرو تونس وعلماؤه أكثر مفكري وعلماء العالم العربي في وضع الحرية في مكان عظيم من ثقافة وقناعة الأمة، فقد جعلها بن عاشور من مقاصد الشريعة، وألف فيها ودعا إليها الخضر حسين التونسي شيخ الأزهر، وكانت من أهم ما كتب الغنوشي. أما مثقفو القومية واليسار فقد كانت من أهم أركان نضالهم، إن الشاب التونسي الذي أبكت فرحته الجموع وهو يكرر: ’’يا توانسة راكم أحرار.. يا توانسة هرب المجرم.. تونس حرة تونس عظيمة’’، كان يهتف بتحرر تونس من الإرهابي، كان انفعالا رائعا ومؤثرا، ويتحدث بصوت الملايين بشكل عفوي.
ولكن الانتقال من الحرية إلى الديمقراطية عملية ستكون صعبة، ونرجو ألا تكون طويلة ولا تسرق هذه الثورة العظيمة، وهذه المبادرة الشعبية، وإن خلود التوجه الديمقراطي أهم عقبة يجب على التونسيين أن يجتازوا امتحانها الهائل، ولعل وجود وعي وتعلم ونضج في تونس ونبذ للعبودية لأنهم مؤهلون، وبسبب أن الأحزاب والقيادات العامة، إسلامية وقومية ويسارية، تعد بوعي وثقافة مبكرة مقتنعة بالحل الديمقراطي، ومن أمثلة ذلك الشيخ راشد الغنوشي الذي سبق للإقناع بالحل الديمقراطي، والزعيم اليساري منصف المرزوقي من الموجهين لهذا الحل، وكذا أغلب الأحزاب المعروفة والاتحادات هناك.
وقد تحاول القوى الاستعمارية خطف الثورة لصالح أحد الضباط بحجة إيقاف الاضطراب لمن تهيئه بديلا، وعسى أن تكون الثورة أوعى وأنضج وتعرف محاسن النظام الديمقراطي، النظام الذي أثبت جدواه حول العالم. آملين كل خير لتونس وللأمة وألا تقع مرة أخرى تحت يد عميل أو مخادع وأن تساهم تونس في صنع مستقبل للعدل والحرية في العالم العربي.
قد لا تصح الرؤية الجزئية للحدث، بل الثورة نتاج محلي لحالة عامة في العالم العربي، وتفسير متخيل لمجتمع مأزوم بمحتل محلي داخلي يؤمن نفسه عند محتل خارجي، وكانت قسوة المحلي وتجاوزه للحدود المرعية لثقافة المحتل قد أسرعت بنهايته، ونحرق المراحل لا الأبدان في التوجه لحل يخفف عن مأزومينا أزماتهم وتغلق السجون سياسية، ولا حاكم أصم لربع قرن، ولا اعتذار بتضليل ولا جهل، وأن التنمية السياسية ستبدأ والحريات تحترم، والمعارضة تقوم بدورها في تصويب الأخطاء، ومنع بقاء حاكم يؤلّه ذاته.
*العصر