بقلم د. محمد الأحمري
واليوم تستقبل ليبيا تحدياتها الكبرى، مع أن ما حدث -بالرغم من دَمَويته- اختصر الكثير من مشكلات الثورات العربية السلمية، فكانت ثورتهم حاسمة وأقرب للتنظيف الشامل للخلاص التام من أذى النظام القديم، ومسح الليبيون الطاولة من فساد الماضي المظلم، وأنهَوا مراكز القوة، فلا عساكر، بل هم العسكر، ولا حزب فهم الحزب، ولا يُدلّ عليهم إلا من يريد ويتمنى ويضغط من الخارج، فالثورة الليبية تعيد لليبيا تفردها المتوالي على القرون؛
إزالة القذافي من طريق الشعب أحد أهم التحديات التي تجاوزتها ليبيا، فبعد ما يقارب نصف قرن من الجنون يأتي زمن التحرر بعد لأْي، فهل تتحقق الأماني التي أُهرقت في سبيلها كل تلك الدماء؟
لقد تبين لنا أنه كلما كان الحاكم مستبدا ومتخلفا هَمَجيا ترك الدرب بعده مليئا بالجثث والأحزان، فهو أذى في طريق أمته، لا يغادرها بعمليات تنظيف يسيرة ولا سريعة كتونس ومصر، وهذا ما أراده وتوعد به لما سمع نداء الحرية فحذرهم ’’ليبيا تكون دم ونار’’، تحقق تماما كما قال؛ لأنه يعرف أنه سيقتل أو يحرق، فأراد أن يكون هذا مصير الجميع أو مصير عدد كبير منهم قبل أن يصلوا إليه.
واليوم تستقبل ليبيا تحدياتها الكبرى، مع أن ما حدث -بالرغم من دَمَويته- اختصر الكثير من مشكلات الثورات العربية السلمية، فكانت ثورتهم حاسمة وأقرب للتنظيف الشامل للخلاص التام من أذى النظام القديم، ومسح الليبيون الطاولة من فساد الماضي المظلم، وأنهَوا مراكز القوة، فلا عساكر، بل هم العسكر، ولا حزب فهم الحزب، ولا يُدلّ عليهم إلا من يريد ويتمنى ويضغط من الخارج، فالثورة الليبية تعيد لليبيا تفردها المتوالي على القرون؛ ففيها تأسست ديمقراطية شحات ’’قورينة أو سيرين’’ ( 555-550 قبل الميلاد)، والتي هي من أوائل الديمقراطيات في تاريخ العالم اليوناني القديم، وفيها تأسست أول جمهورية قامت في العالم العربي ’’الجمهورية الطرابلسية’’ عام 1918م التي قامت في مسلاتة، وترأَّسها الزعيم الإباضي سليمان الباروني.
ولعل أهم التحديات التي تواجه ليبيا الحرة هي:
1- تحدي وجود مؤسسات في بلد حُرم منها كل هذا الزمن، فالديمقراطية المنشودة مؤسسة تُبنى على مؤسسات، ولهذا فإن الوصول للديمقراطية من أصعب الطرق، لكونها تحتاج ثقافة مدنية لم توجد فيها من قبل، فكان القذافي يحكم بطريقة بدوية وثنية قديمة، وكان هو الصنم يملك كل شيء ويحكمه، ومن بعده لا شيء، فلم يترك للبلد تقليدا مَرْعيا، ومع هذا فإن فكرة ’’اللجان الشعبية’’ على سوئها قد تكون صورة في المخيلة تعين على إنشاء البناء الجديد كما تحمل خطر عدوى سلوكياته للمستقبل.
2- هناك عظمة الانتصار وما يسبب من إشعال مشاعر المنتصر المتعدية، فقد تصبح عظمته أحيانا مشكلة لنفسه ما لم يجد متنَفسا لقوته في خارجه، ولهذا كانت الثورات معدية، وكانت متعديّة، ولذا فالثائر كما يبدو مضحيا مجاهدا، لأن الثورة توقد عزيمة واندفاعا وقوة ونشوة عند المحاربين المنتصرين، فقد يتّسمون بالغرور ويستهترون بالمخالف وبالدماء وبالقوانين والأعراف، ويروقهم الخروج على النظم والمؤسسات والأشخاص والموروث، فهم غارقون في تغيير رأوه يتحقق بأنفسهم، ويخرج من تحت أيديهم بسلاحهم.
والخطر هنا أن الانتصار والتغيير قد يكون أحد ضحايا المنتصر في حال انتشاء المنتصر وخلافه مع غيره أو تفاقُمه بين الثوار -لا قدر الله-، ولهذا فهم بأمس الحاجة لسيادة ثقافة التسامح من أي فترة سابقة، وما على الثوار الذين انتصروا على المجرم إلا أن يتعلموا الانتصار على الخلاف مع رفيق السلاح، أو مع رفيق التحرر، وأن يؤمنوا بأن النصر للجميع والماضي مات، فليُميتوا سلوكه وثقافته.
3- تواجه البلاد مخلفات النظام القديم، سواء كانت منظمة أو فوضوية، عرقية أو مناطقية أو كوادر وظيفية عسكرية ومدنية، وما تركه القذافي من حلفاء، أو قبائل وجهات استفادت منه، لن تمر خسائرها ولا دماء بعضهم بسهولة.
يقابل هؤلاء شخصيات حولت مواقفها من ولاء أو تعصب للقذافي ولمنافعها معه إلى الثورة،فهؤلاء منهم مخلصون صادقون متوجهون للثورة، ومنهم طامعون، وخاسرون، ومجموعات أخرى تحمل السلاح ويمكنها تغيير اتجاه بنادقها باتجاه خصوم مصالحها، وهؤلاء قد لا يصبرون على تأخر أدوارهم ولا على سلبهم ما كانوا أصابوا من قبل، ويحتاجون زمنا طويلا لترسخ الثورة وثقافتها بينهم، ولذا فإنهم يحتاجون لخطة اجتماعية وسياسية واقتصادية لدمجهم في حياة بديلة.
4- التكوين الثقافي للمنتصرين إذ غلب عليهم التوجه الإسلامي، والإسلاميون كانوا الوقود والقيادة والقادح للتحرير، والشعب الليبي مسلم متدين بدأ توجهه الحاسم ينمو ويجتاح التوجهات الحكومية الأخرى الفاشلة في ليبيا، وصنّف الشعبُ القذافي على أنه أي شيء مخالف للإسلام، ومنذ قرابة عقدين حسم الشعب أمره سياسيا ودينيا، علما أن قيادات جبهة الإنقاذ في الثمانينات كانت ذات توجهات إسلامية وعروبية، وغلبت عليها المجموعات المتدينة، ثم كانت المجموعات المجاهدة في منتصف التسعينات فزادت الأمر وضوحا وصرامة وحصل منها أخطاء، غير أنها تلافتها بجهد فكري مشكور وعادت للحق، وعليها واجب الصياغة المدنية الجديدة لتفكيرها المدني السياسي والفقهي.
وهناك المجموعات العائدة من الغرب وهي مجموعات كبيرة من مختلف المدارس، وكانوا ضحايا النظام الخبيث، خرجوا كمعارضة أو طلاب، وتشبع كثير منهم بمواقف واضحة في مسائل التحرر من المستبد والديمقراطية والتدين المعتدل، ومنها مجموعات عاشت على ولاءٍ لحكومات غربية والتزمت له مبكرا، ولكن هذه المجموعات تغيرت والغرب تغيّرت كثير من آرائه، ومع هذا فسيكون بعضها مربط خيل الغرب ومأواه في التوتر القادم، وكان الغرب صريحا في ضرورة استتباع ليبيا الجديدة وطلب المكافأة على المعونة، وربما رغبة في الهيمنة على مستقبل البلاد، كما أشار وزير خارجية فرنسا، ويبقى المغتربون القادمون من الغرب عنصرا مهما جدا في التحول المدني والسياسي والتعليمي وهم نخبة كبيرة وفاعلة جدا من قبل ومن بعد.
5- غالب الليبيين عرب سُنة مالكية، مع أقلية بربرية وإباضية، وكان الجميع مشاركين في البلاء والحرب والانتصار، وإن عانت مدينة أكثر من الأخرى، وهناك سكان المدن القدماء من الحضر من أعراق عربية وبربرية وتركية وإفريقية، وهناك القبائل بتكوينها المتعدد ولها صراعها مع الحكومة المركزية.
فالتكوين القبلي أكثر حضورا وتنافسا منه في العراق، وهو خطر جدا ومفيد أيضا بحسب طريقة تناوله، والقبائل ترى في نفسها تكوينا مجتمعيا مشاركا في الحسم، ويستحق المكافأة باسمه وبقياداته وبنفوذه، فحيث لا حكومة مدنية فستسود القبلية والعنصرية، لأن الحكومات المعاصرة في العالم العربي كانت تعبث كثيرا بهذا المكوّن وتبقيه مشدودا ومرتشيا وفاسدا بحيث يكون مسمار جحا تستعمله وتبرر به فشلها وإفسادها الدائم لقوى المجتمع.
وقبائل ليبيا ربما أكثر قبائل المجتمع العربي شعورا بهذا التحيز والتباين، ولأنهم لم يجدوا حكومة منذ الاستعمار مستقرة ومستمرة، فبقي هذا المكون يؤثر حاضرا وسيؤثر مستقبليا، ثم إن أدبيات معركة التحرر لم تخل من استعمال شعارات القبائل والجهات، وهو ما يلزم الخلاص من سلبياته من أجل البناء.
6- ومن مشكلة القبيلة هناك إشكالية الأقاليم الثلاثة، فقد كان الشرق ممثلا في برقة ومدنها، كبنغازي والبيضاء وشحات وطبرق ودرنة، والغرب في طرابلس ومصراتة، ثم الجنوب فزان وحاضرتها سبها، هذا التوحيد لليبيا المعاصرة لم يكن تاريخيا موجودا، فليبيا كانت بداية إفريقيا عند العرب المسلمين، وكانت شواطئها امتدادا عند اليونان والرومان لشواطئهم ومستعمراتهم الجنوبية، وهكذا رآها الإيطاليون فيما بعد، ولم تكن هذه المقاطعات الثلاث متقاربة، فالشرق أقرب لمصر والغرب أقرب لتونس، والجنوب قليل السكان، غير أن الهجرات العربية البدوية كانت قوية وحاسمة في التعريب والكثرة والغلبة خارج المدن ثم غشوها فأنهوا بعض صور الماضي.
وكان الصراع بين الشرق والغرب قويا، فقد غلب على الشرق المقاومة والجهاد ضد المحتلين، وغلبت التجارة والهدوء على طرابلس، علما بأن مصراتة مدينة منجبة للقيادات والمحاربين على مر تاريخه الحديث،وحرمت ليبيا من بعض قياداتها الفذة والأنجب بسبب الجغرافيا وسيطرتها على العقل المتحيز، وهذه عقدة تتضح عند بعض العرب والشعوب الأكثر بدائية وقبلية.
ويبدو أن تحرير ليبيا بمقدار ما أشع من ورائه نور الحرية والاستقلال من احتلال عائلة القذافي، فإنه يستعد لظروف صعبة، ولا تنجو ليبيا إلا إن وجدت مواقف شجاعة تواجه العنصرية الإقليمية والقبلية والأيديولوجية وإلا لسقطت ليبيا في ظلمات حرب أهلية، أو بأيد مستبدة ضعيفة تحكم بسبب الجغرافيا والعنصر لا بسبب الكفاءة.
7- وهناك تحدي القوى العسكرية الجديدة، فقد تكونت أثناء الثورة قوى ميدانية وسياسية ومناطقية ربما تحول بعضها إلى ميليشيات والبعض في طريقه ليكون كذلك، ومع وجود حكومة المجلس الضعيفة والمتنافرة فإن المستقبل ينذر ما لم يبادر الجميع لتلافي المستقبل المتوتر، بإسكات الأصوات الساذجة التي تكسبها الحرية صوتا فوق إمكاناتها،وكذا التفاهم مع الأطراف الحادة التي تثير ولا تبني.
8- وهناك المال السياسي المتدفق من الشرق والغرب لبناء الولاءات، واستخدام بنى المجتمع وعلاقات القادمين من الخارج، وشركاء التجارة، وهذه القوى الوافدة من الخارج أو القديمة المنتفعة ستساهم في صناعة فوضى في حال ديمقراطية ضعيفة أو غيرها لأن المجتمع قد سلب من القوى المدنية المنظمة فيسهل إفساده باستخدام مكوناته الاجتماعية الجهوية والقبلية والفكرية والعسكرية الجديدة.
9- مشكلة موقع الدين في الحكومة القادمة، فمعظم المنتصرين من تيار إسلامي قوي وأكسبه الحرمان والبعد عن المشاركة في حكم بلاده قسوة وبعدا عن المرونة، وقسوة التيار الإسلامي وجذريته يعود في كثير منه إلى كون المستبدين يحرمونه بسبب فكرته من حقه في أرضه وماله وثقافته، ولكون الطبقات الحاكمة المستغربة اكتفت بالسمسرة والوساطة السياسية مع الخارج، ومرتبطة بالمحتل وهو المسيحي الغازي في رأي الإسلاميين، أو الحاكم المتخفي خلف مستبد محلي، فإنه يبالغ في ترهيب الناس من هذه المجموعات ذات المبادئ الإسلامية والقومية.
أما الآن، فالإسلاميون حققوا وشاركوا في الانتصار الحاسم، فكيف ستدار العلاقات معهم حيث لا يجبرهم الغرب ولا عملاؤه على الخروج والمواجهة، وهنا يتجلى واجب الإسلاميين والوطنيين والقوميين في تجنب المصادمات، وواجب القوى العالمية ألا تعبث بمكونات المجتمع الليبي في سبيل تنصيب عملاء مستقبليين كما حدث في الماضي، فقد تغيرت الأرضية السياسية والفكرية تماما، كما أن التوتر بين الأحزاب والتوجهات هو من أخطر التحديات التي تهدد ليبيا الحرة.
10- مشكلة الديون السياسية التي يُدلّ بها غربيون في الحلف الأطلسي على الشعب الليبي، فقد خرجت تركيا خاسرة في ليبيا وتركت المنبر لغيرها، وكانت مشغولة بمطامعها وبإخراج عمالها ومقاوليها من تحت يد القذافي، فأقامت أهم عملية نقل لسكانها منذ الحرب العالمية الثانية، حيث نقلت 25 ألف تركي من ليبيا، ولكنها لم تنتج مبادرة ذات قيمة من بعد ذلك، ثم كانت علاقاتها المتوترة مع فرنسا مما أضعف دورها بعد أن رأت اندفاع فرنسا في مواجهة القذافي، فحاولت بطريقة فاشلة مواجهة الفرنسيين، ولم تستطع ممارسة الانتقال السريع من النظام القديم إلى الجديد. وسياسة تركيا بقطع النظر عن التلميع الإسلامي الكبير، تفتقد للحس العالمي، فإلى الآن تركيا محلية.
أما الحكومات العربية، فمصر مقيدة بالعسكر المباركيين أو بقية الناصريين، وتونس استقبلت الليبيين بكل حذر، وقطر ساهمت بدور مصيري عسكري وإعلامي ولكن لا يبدو أن له مطالب ولا ضغوط، وبهذا يقل الدور العربي في صناعة المستقبل الليبي، كما أن الاستقلال المالي لليبيا يزيد من تمكن الليبيين من سيادة قرارهم على أرضهم، ولهذا حسناته العظيمة ومخاطره المحلية.
وقد اقتصر القول على جانب التحديات، ولكن كما استطاع الليبيون أن يؤسسوا لأول ديمقراطية في إفريقيا منذ 2565عاما، وأول جمهورية عربية، وتجاوزوا النمطية، وجاهدوا وتخلصوا من أقسى الديكتاتوريات، فهم يقدرون اليوم -بإذن الله- على الانتقال إلى الديمقراطية والاستقرار والتنمية وتجاوز التحديات العظمى.
*العصر
واليوم تستقبل ليبيا تحدياتها الكبرى، مع أن ما حدث -بالرغم من دَمَويته- اختصر الكثير من مشكلات الثورات العربية السلمية، فكانت ثورتهم حاسمة وأقرب للتنظيف الشامل للخلاص التام من أذى النظام القديم، ومسح الليبيون الطاولة من فساد الماضي المظلم، وأنهَوا مراكز القوة، فلا عساكر، بل هم العسكر، ولا حزب فهم الحزب، ولا يُدلّ عليهم إلا من يريد ويتمنى ويضغط من الخارج، فالثورة الليبية تعيد لليبيا تفردها المتوالي على القرون؛
إزالة القذافي من طريق الشعب أحد أهم التحديات التي تجاوزتها ليبيا، فبعد ما يقارب نصف قرن من الجنون يأتي زمن التحرر بعد لأْي، فهل تتحقق الأماني التي أُهرقت في سبيلها كل تلك الدماء؟
لقد تبين لنا أنه كلما كان الحاكم مستبدا ومتخلفا هَمَجيا ترك الدرب بعده مليئا بالجثث والأحزان، فهو أذى في طريق أمته، لا يغادرها بعمليات تنظيف يسيرة ولا سريعة كتونس ومصر، وهذا ما أراده وتوعد به لما سمع نداء الحرية فحذرهم ’’ليبيا تكون دم ونار’’، تحقق تماما كما قال؛ لأنه يعرف أنه سيقتل أو يحرق، فأراد أن يكون هذا مصير الجميع أو مصير عدد كبير منهم قبل أن يصلوا إليه.
واليوم تستقبل ليبيا تحدياتها الكبرى، مع أن ما حدث -بالرغم من دَمَويته- اختصر الكثير من مشكلات الثورات العربية السلمية، فكانت ثورتهم حاسمة وأقرب للتنظيف الشامل للخلاص التام من أذى النظام القديم، ومسح الليبيون الطاولة من فساد الماضي المظلم، وأنهَوا مراكز القوة، فلا عساكر، بل هم العسكر، ولا حزب فهم الحزب، ولا يُدلّ عليهم إلا من يريد ويتمنى ويضغط من الخارج، فالثورة الليبية تعيد لليبيا تفردها المتوالي على القرون؛ ففيها تأسست ديمقراطية شحات ’’قورينة أو سيرين’’ ( 555-550 قبل الميلاد)، والتي هي من أوائل الديمقراطيات في تاريخ العالم اليوناني القديم، وفيها تأسست أول جمهورية قامت في العالم العربي ’’الجمهورية الطرابلسية’’ عام 1918م التي قامت في مسلاتة، وترأَّسها الزعيم الإباضي سليمان الباروني.
ولعل أهم التحديات التي تواجه ليبيا الحرة هي:
1- تحدي وجود مؤسسات في بلد حُرم منها كل هذا الزمن، فالديمقراطية المنشودة مؤسسة تُبنى على مؤسسات، ولهذا فإن الوصول للديمقراطية من أصعب الطرق، لكونها تحتاج ثقافة مدنية لم توجد فيها من قبل، فكان القذافي يحكم بطريقة بدوية وثنية قديمة، وكان هو الصنم يملك كل شيء ويحكمه، ومن بعده لا شيء، فلم يترك للبلد تقليدا مَرْعيا، ومع هذا فإن فكرة ’’اللجان الشعبية’’ على سوئها قد تكون صورة في المخيلة تعين على إنشاء البناء الجديد كما تحمل خطر عدوى سلوكياته للمستقبل.
2- هناك عظمة الانتصار وما يسبب من إشعال مشاعر المنتصر المتعدية، فقد تصبح عظمته أحيانا مشكلة لنفسه ما لم يجد متنَفسا لقوته في خارجه، ولهذا كانت الثورات معدية، وكانت متعديّة، ولذا فالثائر كما يبدو مضحيا مجاهدا، لأن الثورة توقد عزيمة واندفاعا وقوة ونشوة عند المحاربين المنتصرين، فقد يتّسمون بالغرور ويستهترون بالمخالف وبالدماء وبالقوانين والأعراف، ويروقهم الخروج على النظم والمؤسسات والأشخاص والموروث، فهم غارقون في تغيير رأوه يتحقق بأنفسهم، ويخرج من تحت أيديهم بسلاحهم.
والخطر هنا أن الانتصار والتغيير قد يكون أحد ضحايا المنتصر في حال انتشاء المنتصر وخلافه مع غيره أو تفاقُمه بين الثوار -لا قدر الله-، ولهذا فهم بأمس الحاجة لسيادة ثقافة التسامح من أي فترة سابقة، وما على الثوار الذين انتصروا على المجرم إلا أن يتعلموا الانتصار على الخلاف مع رفيق السلاح، أو مع رفيق التحرر، وأن يؤمنوا بأن النصر للجميع والماضي مات، فليُميتوا سلوكه وثقافته.
3- تواجه البلاد مخلفات النظام القديم، سواء كانت منظمة أو فوضوية، عرقية أو مناطقية أو كوادر وظيفية عسكرية ومدنية، وما تركه القذافي من حلفاء، أو قبائل وجهات استفادت منه، لن تمر خسائرها ولا دماء بعضهم بسهولة.
يقابل هؤلاء شخصيات حولت مواقفها من ولاء أو تعصب للقذافي ولمنافعها معه إلى الثورة،فهؤلاء منهم مخلصون صادقون متوجهون للثورة، ومنهم طامعون، وخاسرون، ومجموعات أخرى تحمل السلاح ويمكنها تغيير اتجاه بنادقها باتجاه خصوم مصالحها، وهؤلاء قد لا يصبرون على تأخر أدوارهم ولا على سلبهم ما كانوا أصابوا من قبل، ويحتاجون زمنا طويلا لترسخ الثورة وثقافتها بينهم، ولذا فإنهم يحتاجون لخطة اجتماعية وسياسية واقتصادية لدمجهم في حياة بديلة.
4- التكوين الثقافي للمنتصرين إذ غلب عليهم التوجه الإسلامي، والإسلاميون كانوا الوقود والقيادة والقادح للتحرير، والشعب الليبي مسلم متدين بدأ توجهه الحاسم ينمو ويجتاح التوجهات الحكومية الأخرى الفاشلة في ليبيا، وصنّف الشعبُ القذافي على أنه أي شيء مخالف للإسلام، ومنذ قرابة عقدين حسم الشعب أمره سياسيا ودينيا، علما أن قيادات جبهة الإنقاذ في الثمانينات كانت ذات توجهات إسلامية وعروبية، وغلبت عليها المجموعات المتدينة، ثم كانت المجموعات المجاهدة في منتصف التسعينات فزادت الأمر وضوحا وصرامة وحصل منها أخطاء، غير أنها تلافتها بجهد فكري مشكور وعادت للحق، وعليها واجب الصياغة المدنية الجديدة لتفكيرها المدني السياسي والفقهي.
وهناك المجموعات العائدة من الغرب وهي مجموعات كبيرة من مختلف المدارس، وكانوا ضحايا النظام الخبيث، خرجوا كمعارضة أو طلاب، وتشبع كثير منهم بمواقف واضحة في مسائل التحرر من المستبد والديمقراطية والتدين المعتدل، ومنها مجموعات عاشت على ولاءٍ لحكومات غربية والتزمت له مبكرا، ولكن هذه المجموعات تغيرت والغرب تغيّرت كثير من آرائه، ومع هذا فسيكون بعضها مربط خيل الغرب ومأواه في التوتر القادم، وكان الغرب صريحا في ضرورة استتباع ليبيا الجديدة وطلب المكافأة على المعونة، وربما رغبة في الهيمنة على مستقبل البلاد، كما أشار وزير خارجية فرنسا، ويبقى المغتربون القادمون من الغرب عنصرا مهما جدا في التحول المدني والسياسي والتعليمي وهم نخبة كبيرة وفاعلة جدا من قبل ومن بعد.
5- غالب الليبيين عرب سُنة مالكية، مع أقلية بربرية وإباضية، وكان الجميع مشاركين في البلاء والحرب والانتصار، وإن عانت مدينة أكثر من الأخرى، وهناك سكان المدن القدماء من الحضر من أعراق عربية وبربرية وتركية وإفريقية، وهناك القبائل بتكوينها المتعدد ولها صراعها مع الحكومة المركزية.
فالتكوين القبلي أكثر حضورا وتنافسا منه في العراق، وهو خطر جدا ومفيد أيضا بحسب طريقة تناوله، والقبائل ترى في نفسها تكوينا مجتمعيا مشاركا في الحسم، ويستحق المكافأة باسمه وبقياداته وبنفوذه، فحيث لا حكومة مدنية فستسود القبلية والعنصرية، لأن الحكومات المعاصرة في العالم العربي كانت تعبث كثيرا بهذا المكوّن وتبقيه مشدودا ومرتشيا وفاسدا بحيث يكون مسمار جحا تستعمله وتبرر به فشلها وإفسادها الدائم لقوى المجتمع.
وقبائل ليبيا ربما أكثر قبائل المجتمع العربي شعورا بهذا التحيز والتباين، ولأنهم لم يجدوا حكومة منذ الاستعمار مستقرة ومستمرة، فبقي هذا المكون يؤثر حاضرا وسيؤثر مستقبليا، ثم إن أدبيات معركة التحرر لم تخل من استعمال شعارات القبائل والجهات، وهو ما يلزم الخلاص من سلبياته من أجل البناء.
6- ومن مشكلة القبيلة هناك إشكالية الأقاليم الثلاثة، فقد كان الشرق ممثلا في برقة ومدنها، كبنغازي والبيضاء وشحات وطبرق ودرنة، والغرب في طرابلس ومصراتة، ثم الجنوب فزان وحاضرتها سبها، هذا التوحيد لليبيا المعاصرة لم يكن تاريخيا موجودا، فليبيا كانت بداية إفريقيا عند العرب المسلمين، وكانت شواطئها امتدادا عند اليونان والرومان لشواطئهم ومستعمراتهم الجنوبية، وهكذا رآها الإيطاليون فيما بعد، ولم تكن هذه المقاطعات الثلاث متقاربة، فالشرق أقرب لمصر والغرب أقرب لتونس، والجنوب قليل السكان، غير أن الهجرات العربية البدوية كانت قوية وحاسمة في التعريب والكثرة والغلبة خارج المدن ثم غشوها فأنهوا بعض صور الماضي.
وكان الصراع بين الشرق والغرب قويا، فقد غلب على الشرق المقاومة والجهاد ضد المحتلين، وغلبت التجارة والهدوء على طرابلس، علما بأن مصراتة مدينة منجبة للقيادات والمحاربين على مر تاريخه الحديث،وحرمت ليبيا من بعض قياداتها الفذة والأنجب بسبب الجغرافيا وسيطرتها على العقل المتحيز، وهذه عقدة تتضح عند بعض العرب والشعوب الأكثر بدائية وقبلية.
ويبدو أن تحرير ليبيا بمقدار ما أشع من ورائه نور الحرية والاستقلال من احتلال عائلة القذافي، فإنه يستعد لظروف صعبة، ولا تنجو ليبيا إلا إن وجدت مواقف شجاعة تواجه العنصرية الإقليمية والقبلية والأيديولوجية وإلا لسقطت ليبيا في ظلمات حرب أهلية، أو بأيد مستبدة ضعيفة تحكم بسبب الجغرافيا والعنصر لا بسبب الكفاءة.
7- وهناك تحدي القوى العسكرية الجديدة، فقد تكونت أثناء الثورة قوى ميدانية وسياسية ومناطقية ربما تحول بعضها إلى ميليشيات والبعض في طريقه ليكون كذلك، ومع وجود حكومة المجلس الضعيفة والمتنافرة فإن المستقبل ينذر ما لم يبادر الجميع لتلافي المستقبل المتوتر، بإسكات الأصوات الساذجة التي تكسبها الحرية صوتا فوق إمكاناتها،وكذا التفاهم مع الأطراف الحادة التي تثير ولا تبني.
8- وهناك المال السياسي المتدفق من الشرق والغرب لبناء الولاءات، واستخدام بنى المجتمع وعلاقات القادمين من الخارج، وشركاء التجارة، وهذه القوى الوافدة من الخارج أو القديمة المنتفعة ستساهم في صناعة فوضى في حال ديمقراطية ضعيفة أو غيرها لأن المجتمع قد سلب من القوى المدنية المنظمة فيسهل إفساده باستخدام مكوناته الاجتماعية الجهوية والقبلية والفكرية والعسكرية الجديدة.
9- مشكلة موقع الدين في الحكومة القادمة، فمعظم المنتصرين من تيار إسلامي قوي وأكسبه الحرمان والبعد عن المشاركة في حكم بلاده قسوة وبعدا عن المرونة، وقسوة التيار الإسلامي وجذريته يعود في كثير منه إلى كون المستبدين يحرمونه بسبب فكرته من حقه في أرضه وماله وثقافته، ولكون الطبقات الحاكمة المستغربة اكتفت بالسمسرة والوساطة السياسية مع الخارج، ومرتبطة بالمحتل وهو المسيحي الغازي في رأي الإسلاميين، أو الحاكم المتخفي خلف مستبد محلي، فإنه يبالغ في ترهيب الناس من هذه المجموعات ذات المبادئ الإسلامية والقومية.
أما الآن، فالإسلاميون حققوا وشاركوا في الانتصار الحاسم، فكيف ستدار العلاقات معهم حيث لا يجبرهم الغرب ولا عملاؤه على الخروج والمواجهة، وهنا يتجلى واجب الإسلاميين والوطنيين والقوميين في تجنب المصادمات، وواجب القوى العالمية ألا تعبث بمكونات المجتمع الليبي في سبيل تنصيب عملاء مستقبليين كما حدث في الماضي، فقد تغيرت الأرضية السياسية والفكرية تماما، كما أن التوتر بين الأحزاب والتوجهات هو من أخطر التحديات التي تهدد ليبيا الحرة.
10- مشكلة الديون السياسية التي يُدلّ بها غربيون في الحلف الأطلسي على الشعب الليبي، فقد خرجت تركيا خاسرة في ليبيا وتركت المنبر لغيرها، وكانت مشغولة بمطامعها وبإخراج عمالها ومقاوليها من تحت يد القذافي، فأقامت أهم عملية نقل لسكانها منذ الحرب العالمية الثانية، حيث نقلت 25 ألف تركي من ليبيا، ولكنها لم تنتج مبادرة ذات قيمة من بعد ذلك، ثم كانت علاقاتها المتوترة مع فرنسا مما أضعف دورها بعد أن رأت اندفاع فرنسا في مواجهة القذافي، فحاولت بطريقة فاشلة مواجهة الفرنسيين، ولم تستطع ممارسة الانتقال السريع من النظام القديم إلى الجديد. وسياسة تركيا بقطع النظر عن التلميع الإسلامي الكبير، تفتقد للحس العالمي، فإلى الآن تركيا محلية.
أما الحكومات العربية، فمصر مقيدة بالعسكر المباركيين أو بقية الناصريين، وتونس استقبلت الليبيين بكل حذر، وقطر ساهمت بدور مصيري عسكري وإعلامي ولكن لا يبدو أن له مطالب ولا ضغوط، وبهذا يقل الدور العربي في صناعة المستقبل الليبي، كما أن الاستقلال المالي لليبيا يزيد من تمكن الليبيين من سيادة قرارهم على أرضهم، ولهذا حسناته العظيمة ومخاطره المحلية.
وقد اقتصر القول على جانب التحديات، ولكن كما استطاع الليبيون أن يؤسسوا لأول ديمقراطية في إفريقيا منذ 2565عاما، وأول جمهورية عربية، وتجاوزوا النمطية، وجاهدوا وتخلصوا من أقسى الديكتاتوريات، فهم يقدرون اليوم -بإذن الله- على الانتقال إلى الديمقراطية والاستقرار والتنمية وتجاوز التحديات العظمى.
*العصر