مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
هوامش على وثائق العراق وأفغانستان 1/2
د.محمد الأحمري
إننا في زمن تحاول الإمبراطورية التي بنتها الحرية ـ ذات يوم ـ أن تحرم العالم من الحرية ومن المواقف الإنسانية، فيوم تصبح مصالح البشر ضد مصالحها، فإن قيم الحرية والديمقراطية والإنسانية تصبح العدو الأول في العالم لها، ويوصم الأحرار بكل الأسماء المروّعة والإقصائية، فإما مع الإمبراطور راضخا له، وإلا فإنك مع الشيطان ومع العدو، ومع الإرهاب ومع التمرد..
1
* المعرفة شرط التحرر:

’’من الضروريات الكبرى.. الحؤول ضد اجتماع البرابرة’’ بريجنسكي.

’’إن المدافعين عن أي قوة إمبريالية يقولون الشيء نفسه: إنما نقوم به هو في صالح السكان المحليين البرابرة!’’ [1].

المحتلون تجرح مشاعرهم عندما تكشف فظائعهم، وقد لا تؤثر كثيرا عليهم، وخسائرهم لا تقارن بأكثر من مليون روح مزهقة، ومع هذا فإنهم يرون في نشر جرائمهم جرائم عظمى وخيانة، لأنهم درجوا على تسمية جرائمهم في إبادة العراقيين والأفغان، أنها أعمال ضد الشر والإرهاب والتمرد، وأنهم يقومون بعمل خيّر مقدس وتطوير وتمدين وتحضير وديمقراطية للبرابرة!

فالمعرفة والتعريف بما يفعلون أصبحت جريمة لأنها تفتح أعين وعقول العالم على ضحاياهم، وعلى حقائق الإبادة والإرهاب التي تقع على الأطفال والنساء والشيوخ والأبرياء يوميا منذ نحو عقد من الزمان.

ويخشى المحتلون نشر المعلومات التي كتبوها هم بأنفسهم، ولهذا فإن كشف وثائق العراق جريمة ضد الغزاة المستعمرين لا يغفرونها ولا يأذنون بنقاشها، ويلزمون العالم بالصمت تجاهها ونشر الشك فيها ووصم من نشرها بكل عيب، مع أن الوثائق المنشورة تم تجريدها من أسماء الفاعلين، لأن الصمت العالمي على جرائم المحتل شرط استمرار سطوته وسرقته، ولأن المعرفة مساهمة في تحرير العراق والعراقيين والأفغان ونشر لثقافة وسلوك الخلاص وتلك جريمة لا يحتملها المحتل.

إن رد كثير من المثقفين والمعلقين العراقيين بأن ما يحدث أفظع مما وصل خبره للعالم، قول لا ينوب عن التوثيق، بل يبقى من حقوق الضحايا والمعاصرين والأجيال القادمة تسجيل كل جريمة وبيانها للعالم، فقد يأتي يوم يحاسب فيه المجرمون كما حوسب النازيون، وإن لم ترفع المظالم اليوم ولا غدا، فليعرف العالم وجه الاحتلال الحقيقي دون هذه الأقنعة المزيفة، وليعرفوا دوافعه الانتقامية والاستعمارية والعنصرية والدينية، وعسى أن تستفيد البشرية من معرفة هذه الشرور والأحقاد المصبوبة على العرب والمسلمين في العراق وفلسطين وأفغانستان. ومن الواجب توجيه الشكر لهؤلاء الأحرار الشجعان من ذوي القلوب الحية الذين يضحون بالكثير من أمنهم وحريتهم ـ فبعضهم في السجون الآن ـ لرفع الشرور عن البشرية.

* عن الموقع والمؤسسين:

نشر موقع ويكي ليكس الذي أسسه الاسترالي جوليان أسانج فيلم فيديو عن مروحية أمريكية تقتل المدنيين في العراق ثم سرب آلاف الوثائق عن الممارسات والجرائم الأمريكية وغير الإنسانية في أفغانستان، وبعدها أصبح موقع ويكي ليكس في مرمى النار الأمريكية والبريطانية وبقية حكومات التحالف الغازية في العراق وأفغانستان، ولم يكن الموقع قبلها مهما إلا لنشره فضائح لحكومات العالم الثالث، وهنا وضعت أستراليا وأمريكا الموقع على قائمة الأعداء، واستنكرت بريطانيا نشر الوثائق، وحذر الأمين العام لحلف الناتو من نشرها، وأكدت وزيرة الخارجية الأمريكية أن لا علاقة لوزارتها بالوثائق، وقد قال الميجور كريس بيرن، المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، عن التسريب من قبل: ’’نحن ندين ويكيليكس، لأنه يحث الأفراد على خرق القانون وتسريب وثائق سرية، ثم نقل هذه المعلومات السرية بلا مبالاة إلى العالم بما في ذلك أعداؤنا’’.

هدد الأمريكان بالمحاكمة والتجريم مؤسس الموقع ومن يساعده، ومنعوا وصول التبرعات إليهم، وأغلقوا الشركة التي كانت تجمع لهم التبرعات، وادعوا بأن المعلومات والأشخاص القائمين على الموقع يتصرفون تصرفات غير مسؤولة، وبدأت الهجائيات تصب النقد عليه وتهدده ومعاونيه بالملاحقات، وطلبوا إعادة الوثائق ’’المسروقة’’، وزادت المطاردة وسرقة الأجهزة، ومحاولة قلب بعض أعضاء المجموعة على بعض، إضافة لما يعانيه هؤلاء الأفراد أصحاب الموقع من مشكلات شخصية وداخلية في تنظيم علاقاتهم وإرسال معلوماتهم والخوف المحيط بهم الحقيقي والمصطنع.

وجدت الدول العسكرية العظمى نفسها في وجه مجموعة جادة ومصرة على فضح الممارسات اللا أخلاقية في العالم، هذه المجموعة تلقت حربا إعلامية وشخصية ووُصموا بأنهم ’’هكّارة’’ أي لصوص معلومات وأنهم عصابة من هواة الاختراقات والمجرمين المتهمين بالقرصنة وخارجين على القانون وعشاق الغرائب، فرئيسهم جوليان أسانج سبق أن أتهم بالقرصنة في أستراليا وجروه إلى المحكمة عام 1995م، ولعله تخلص ولم يتغير. وهو من مواليد عام 71 ابن لموظف اقتضى عمله التنقل الكثير فدرس في سبع وثلاثين مدرسة، وقد استمرت عقدة الأب إلى الابن في التنقل والتشرد حاملا معه عددا من الكومبيوترات ذات مستويات تشفير متوالية.

رفضت السويد أن يقيم فيها، وكان اختارها بسبب قوانين تحمي حرية الصحفيين والمعلومات، وفكّر في الإقامة في آيسلندا للسبب نفسه، ولكنه خاف من ضعف حكومتها أمام أمريكا فتسلمه لهم، وهو يتنقل بين دول عدة ويستخدم هواتف مختلفة، ويتجنب الفنادق ويسكن عند أصدقاء ومؤيدين، ويصبغ شعره بألوان تساعد في تنكّره.

وكعادة الحكومة الأمريكية مع من تكرههم، فتصطنع لهم مشكلات وتبدأ غالبا بتلفيق قضايا جنسية لهم، إذ اتهموه بقضيتين في وقت قصير، إحداها اغتصاب والأخرى تحرش في السويد. وقد ساعده جهده ونبوغه ونوع اهتمامه، فتكونت حوله مجموعة من المهتمين والمتطوعين، أشار مرة بأنهم بلغوا: 30، يساندهم على مراقبة الموقع ودعمه 800 آخرون. وأيده عدد من الحقوقيين والمحامين ودعاة حقوق الإنسان، وهي مجموعة تؤيد المشروع والفكرة وتجمع التبرعات وتبيع المعلومات لصالح الموقع، ويشاركون في بيع اللقاءات والمقابلات.

أما المعلومات المتوفرة عنه، فتبالغ في ذمه مرة وفي مدحه أخرى، فيوصف بالغرور والمركزية والديكتاتورية والاستفزاز والإلحاح، ونقلوا عنه قوله عن نفسه: ’’أنا قلب هذه المنظمة وروحها، ومؤسسها وفيلسوفها والمتحدث باسمها ورمزها الأصلي، ومنظمها وممولها، وكل الباقي’’ [2]، وهو لا يتحمل اختلاف الرأي، ويصر على الولاء التام من قبل مساعديه ومناصريه. أما على الطرف الآخر، فوصف بأنه بالغ الذكاء إلى درجة تتجاوز الذكاء المعتاد، وأنه حركي ونشط ويحفظ الرموز والأرقام، ويبدو حذقا ورزينا في لقاءاته لوسائل الإعلام. أما براعته في الاختراق والمعلوماتية، فهي مكان إجماع أعدائه ومؤيديه. ولعل بعض هذا الهوس والتصرفات الأخيرة مصدرها الخوف مما ينتظره، وخوف فريقه من ذلك أيضا، مما سبب لهم الكثير من التوتر والتخلي ففريقه يقل عدده كلما نشر جديدا.

* المصدر والسبب وسلطة المعلومات:

لعل مصدر المعلومات هو الشاب الأمريكي ’’برادلي ماننج’’، البالغ من العمر إثنين وعشرين عاما، وكان يعمل في وحدة معلومات في الجيش الأمريكي، وقد قبض عليه أولا في الكويت بعد تسريب الفيديو، ثم حول إلى سجن في ولاية فرجينيا في أمريكا، ويواجه تهما قد يسجن بسببها إلى اثنين وخمسين عاما، ويبالغ الصحفي الأمريكي ’’دانيال السبرج’’، الذي سرب ’’أوراق البنتاجون’’ عام 1971م عن حرب فيتنام، والتي بلغت آنذاك سبعة آلاف صفحة، والذي يسمي أفغانستان ’’فيتنامستان’’، بسبب ما يتوقعه من مستقبل هناك كالمستقبل الفيتنامي، فقد مدح الشاب برادلي ووصفه بالوطنية والشجاعة، وزعم أنه قد يواجه الإعدام بالاتهام بالخيانة وتعريض الجنود الأمريكيين للخطر. فالشاب ’’ماننج’’ قد يكون مصدر جميع هذه المعلومات الأفغانية والعراقية.

عندما كنت أكتب هذا المقال أرسل لي صديق يسأل عن الدوافع السياسية والتوقيت وراء هذه التسريبات، فهناك الانتخابات النصفية الأمريكية وأزمة الحكومة العراقية، وغيرها، ولأن عملا إعلاميا هائلا كهذا لا يكاد يصدق الكثير من المهتمين والمتابعين من المثقفين، فضلا عن قليلي الاهتمام، بمجرد عفوية النشر حين توفر المعلومة، وقد وصفت قناة السي إم بي سي الأمريكية الحدث ـ وهي القناة الأولى مشاهدة في أمريكا هذا العام ـ بأنه ’’أكبر اختراق في التاريخ’’، وكان هذا عنوان حلقة النقاش المخصص لها [3]، وهو أكبر تسريب إعلامي عن معلومات الحرب. وهنا لا يناسب أن نبحث عن عوامل خفية، بل عندما توفرت المعلومات كان يجب أن تنشر إلا أنهم واجهوا مشكلة في طريقة النشر، فلا يستطيع المسربون نشرها كما هي قبل حذف الأسماء والمعلومات ذات الحساسية.

فمسحوا أسماء الأشخاص من الوثائق، بما فيها أسماء ثلاثمائة عراقي ممن مارسوا التعذيب والقتل وأسماء الأمريكان أيضا حتى لا ينالهم شيء من عواقب جرائمهم أو يحدث لهم مطاردة أو قتل، فيصبح الموقع والأشخاص مسؤولين عما يقع لهم. وكذا أبعدت أسماء حكومات عن الوثائق المنشورة، لأن نشرها سوف يعرض المسربين لعقوبات أكبر، فقضت المجموعة وقتا طويلا تحذف الكثير من المعلومات المضرة بالقتلة من هذا الركام الهائل.

وكان عندهم مشكلة أخرى وهي وجود أكثر من ألف رمز بحاجة لحلها، مما ساهم في التأخير، وهذا ما جعلهم ينجمونها بحسب ما ينجزون. ولعل الضغوط والمخاوف التي تحيط بهم والحاجة للسرعة مما جعلهم يعجلون أحيانا بنشر بعض ما لم تتم مراجعته كما حدث في وثائق أفغانستان، فسبب ذلك إشكالات ومخاطر على أشخاص مشاركين في تلك الجرائم، ثم إن أصحاب الموقع يرون الأهمية في المعلومات، وأن نشرها هو الحدث الأهم وهو التوقيت.

أما زعم المالكي بأن ذلك له علاقة بوصوله أو عدم وصوله لمنصب الرئاسة، فهذه محاولة التفاف على محتوى الوثائق، بل إن التوقيت وبخاصة في أمريكا سيء لأنه قبل الانتخابات النصفية الوقت ينصرف فيه الناس عن سواها.

ولماذا فعل هؤلاء؟ أولا هناك معلومات تهم أطرافا عديدة، في ظروف عسكرية، ومعلومات مسربة من الجبهة، والجريمة هنا حربية لا سياسية، فوجود عسكري في الجيش ـ حدد واتهم تقريبا بالتسريب ـ قد تفسر تصرفاته بأنها خيانة حربية، فهذا ما عقّد الموقف مع من سرب المعلومة، ومن تصرف بها.

وهناك مسألة غاية في الأهمية للمجتمعات الحرة، وهي حرية الإعلام، فإلى جانب الضمير الإنساني الذي تحلى به الجندي تجاه الضحايا، رأى مسؤوليته الأخلاقية تفرض عليه حماية بلده من التردي الأخلاقي الذي يمارسه جيش بلاده، وغامر مع ما في ذلك من مخاطر، ولأن حرية الناس واستقلالهم واستقرار مجتمعاتهم الديمقراطية مرتبط بحرية المعلومة، فلا حرية لمجتمع دون حرية المعلومات

غير أن هذه الأزمة بنشر المعلومات حصلت في حالة حرب، وفي جبهة خارجية، ومن قبل مجند وليس صحفيا، وليست من أجل خدمة معلوماتية أو سياسية محلية، فكما يقول مثلهم السياسي: ’’السياسة تقف عند الماء’’، أي أن الخلافات السياسية في الداخل فقط، وتقف عند حدود البلاد، أما في الخارج فلا فرق بين الأمريكان ولا خلاف، [هذا بعكس الحكومات المستبدة، فلا تبدأ السياسة إلا في الخارج، ولا تصاغ إلا وراء الحدود، أو هكذا يبدو للسكان، وهناك في الخارج يتحدث الجميع ويعارض الأكثر ويوالي الأقل، ويفكر الآخرون لها في صياغة سياستها، وهذا دلالة على موت السياسة في الداخل، مما أدى إلى قتل النبوغ وضعف الوعي الداخلي وهروب السياسة قسرا للخارج، إذ يدار كثير من أمورها من خارجها]، وإلا فلو كانت المعلومة تتعلق بحزب جمهوري أو ديمقراطي أو بالرئيس أو جريمة أو خطأ له، فستكون المعلومات مرحبا بها من قبل الجميع ويكون الناس سعداء بها، حتى وإن شاهدوا الرئيس يخرج مطرودا من البيت الأبيض ـ بسبب تجسسه عليهم أو بسبب مخالفة لعهده معهم ـ كما حصل عندما كتب بوب وودورد عن تجسس نيكسون على مكتب الحزب الديمقراطي، فاضطر للاستقالة وفقد بقية مدة الرئاسة، وحمل الصحفي مجد سبقه للخبر، وهو إلى اليوم أهم صحفي يتابع البيت الأبيض، ويضطر كل رئيس أن يجلس معه ويبوح له بما لا يبوح لغيره.

أما ما حدث الآن، فيراه كثيرون جريمة ضد الجيش وضد الموقف العام للأمة، وغدرا بقواتهم وهي ترابط وتحارب على الجبهة في بلاد غريبة. وقد سبب لهم حرجا عظيما، فإن الاهتمام بالوثائق يغري العالم بالاهتمام بها، والصمت صعب على أمر كهذا، مع أن مشكلاتهم اليوم الانتخابية والمالية فوق الحديث عن أي تقرير.

ثم إن حرية المعلومات وضرورة الكشف عن كل شيء من وسائل تنقية السياسة من الخَبَث، وفي حال الغمغمة والتعمية، كما في حكومات العالم المتخلف، فإن الداء يكمن في ظلمات دوائر القرار، ويتمركز الفساد ويحكم مختفيا في ظلامه من كل نور للحقيقة، فمن أبشع الكذب في المجتمعات المستبدة تسمية إعلامها بـ’’السلطة الرابعة’’ على طريقة التقليد الفج للدول الديمقراطية، فليس في الحكومات المستبدة سلطة أولى ’’سلطة الشعب من خلال المؤسسة التشريعية أي البرلمان’’، ولا ثانية ’’قضائية’’، ولا ثالثة ’’تنفيذية’’، ولا رابعة ’’صحافة’’، فالدول المتخلفة موحدة في شخص الحاكم فهو واحد لا شريك له في سلطته، لا الله يشاركه ولا الأمة ولا القضاء ولا البرلمان ولا الصحافة، بل هو وحده الحاكم بأمره بلا شريك. أما الضعفاء من المستبدين، فقد يشرك زوجه أو ولده، و أما إن كان ممثلا لمحتل، فيقضي أموره بليل مع سفير دولة الاحتلال.

ولهذا، ففي المجتمعات المغلوبة وإن اهتمت بالإعلام، فإنها تعيش على هامشه، تنظر إليه يحرك من الخارج في حال الحكومات الخاضعة للاحتلال المباشر أو المقنع، ولا دور لها فيما يحدث إلا الاستهلاك، عيون ينضب ماؤها في استماع توجيه عدوها وتزيينه لعبيده، أو تضعف أسماعها وهي تسمع خطب الاستعباد وتوحيد المستبد لا شريك له والتسبيح بقداسة حكمته وتوفيقه. وقد أذن الله للمستضعفين بمن خرق عليهم جدار الجهل وحجبه، بما توفر لهم من إعلام جديد ولكنه لم يغير إلى الآن كثيرا.

هناك ظواهر جديدة، منها قدرة الفرد أو المجموعة المتماسكة القليلة والغير مدعومة مالياً على أن يهزوا الإعلام العالمي القديم بمؤسساته الضخمة وتقف أمامهم صحف العالم وتلفازاته ترجو أن يمنوا عليها باعتبار ومشاركة، فالوسائل الجديدة غيرت المنظار المستبد القديم للإعلام، وقد تنبأت جريدة ’’نيويورك ديلي نيوز’’، أن هذا الموقع ’’ويكي ليكس’’ سيكون أهم المواقع التي ستغير طبيعة الأخبار، فعندما أنشئ الموقع بلغت الوثائق التي نشرها في عامه الأول أكثر من مليون ومئتي وثيقة وكانت كينيا من أوائل الحكومات التي سرب عنها وثائق الفساد. ولذا نال صاحب موقع ويكيليكس جوائز على عمله من منظمة العفو الدولي ’’آمنستي إنترناشونال’’، ورشحته مجلة الايكونومست لجوائز إعلامية. أما بعد كشف جرائم الإمبراطورية، فلن يمنحه أحد جائزة، وقد يدخل قوائم الإرهابيين أو المتعاونين مع الإرهاب.

إننا في زمن تحاول الإمبراطورية التي بنتها الحرية ـ ذات يوم ـ أن تحرم العالم من الحرية ومن المواقف الإنسانية، فيوم تصبح مصالح البشر ضد مصالحها، فإن قيم الحرية والديمقراطية والإنسانية تصبح العدو الأول في العالم لها، ويوصم الأحرار بكل الأسماء المروّعة والإقصائية، فإما مع الإمبراطور راضخا له، وإلا فإنك مع الشيطان ومع العدو، ومع الإرهاب ومع التمرد. إن هذه الإمبراطورية تفقد مكانتها وقيمتها ومستقبلها يوم تقف ضد عقائدها المؤسسة.

إن هذه المجموعة الإعلامية المتمردة، أعمالها الإعلامية جريمة كبرى، لأنهم أفراد في وجه إعلام إمبراطوري، وهذا يشبه إلى حد كبير الفرق بين جرائم القلة من الأفراد، فيوصف عملهم بأنه إرهاب، ولكن عندما تقوم إمبراطورية بإبادة الملايين، فهذا في عرف المعتدي وأتبعه الضعفاء: حروب مشروعة وتحرير وتطوير للإنسانية، تماما كما تكون مخالفة صاحب القارب الواحد، فعندما يضاد مصلحة الأسطول الغازي، فيصبح صاحب القارب إرهابيا، وصاحب الأسطول المعتدي فاتحا شجاعا يريد خير الإنسانية، وكذا حال اللص الفرد أمام العصابة، فالضعيف ربما يوصم بالشر ويصنّف مجرما لأنه ضعيف، وما جريمة المدنيين المساكين في جبال أفغانستان وشوارع بغداد وقرى فلسطين إلا الضعف، فلو كانوا أقوياء منظمين وراءهم أسلحة وألسنة، لكانوا محترمين وأصحاب حق منتصرين.

إن هذه العصبة الإعلامية في ويكيليكس، بما تملك من مهارات وتقنية، كان وراءها موقف سياسي وربما أخلاقي وهو معارضة القوة الأمريكية المستبدة والمعتدية على شعوب وحكومات العالم، وتستهتر بدماء الناس في سبيل النفط والاحتلال والانتقام أو لأسباب دينية وخرافات توراتية.

فبوش المتطرف دينيا لم يحاكمه أحد ولا يستطيع أحد ذلك، مع أنه أباد مئات أضعاف ما أباد ابن لادن والقاعدة، والفرق أن بوش أقوى، فجرائم الإمبراطوريات حسنات، وهذا أجبر العالم المغلوب على أن يصف جرائم بوش ـ ولو مؤقتا ـ وكأنها دوافع خير وتحرير، بينما كانت في الواقع وكما اعترف أنصاره دوافع انتقامية، فقد عقب بعدها أحد الصحفيين الصهاينة ’’توماس فريدمان’’ على سبب غزو العراق، بأن غزو أمريكا لأفغانستان كان انتصارا سريعا ويسيرا ولا يشفي من الغل والمرارة ولا تكفي للانتقام لما وقع في سبتمبر، فلا بد من ضربة في عمق العالم العربي، فكان لا بد للتنفيس عن هذا الغضب بغزو بلد أو بلدان أخرى [4]، وتجاهل الكاتب ثبوت تبييت وإصرار مسبق على احتلال العراق قبل أحداث سبتمبر.

ومع ما في قوله من اختزال وجزئية بتحديد الدوافع فقط بالانتقام من المسلمين والعرب، فإن من الدوافع الأساسية النفط وحماية الإرهاب الصهيوني، ومحاصرة إيران ومنع أي صعود إسلامي أو قومي في المنطقة. هذه الدوافع الاستعمارية والعنصرية الواضحة، ومعها أثقال بوش من الدوافع الدينية الخرافية، كانت حاسمة. وكان بوش يزعم أن الله أوحى إليه بغزو العراق.

وهذه الجرائم الهائلة في تاريخ البشرية لم يعاقبهم أحد جراءها، ولن يعاقبهم ما داموا أقوياء، وتراهم يؤسسون محاكم دولية للعدالة والتحقيق في الجرائم ضد البشرية، أو يساعدون في تنفيذ أعمالها إذا كانت تضر بخصومهم وتحقق مصالحهم، كالرئيس السوداني والصربي، ولكنهم يحرّمون على أي إنسان أو مؤسسة أو حكومة أن تحاكم أي مجرم أمريكي ينفذ جرائم عظمى ضد الإنسانية ويمنعون حتى محاكمة شركائهم في الجريمة، مثل بلير، فضلا عن الأفراد الأصغر شأنا مهما كبرت جرائمهم.

* طبيعة المعلومات:

هذه المعلومات في غاية الأهمية حاضرا ومستقبلا، وقد فرغت وزارة الدفاع الأمريكية مائة وعشرين باحثا قبل صدورها لدراسة وثائق الوزارة وما سرب منها، لتجنب أضرارها، فكمية المعلومات المنشورة إلى الآن عن العراق: 391000 وثيقة، وعدد كلمات المنشور منها: 38 مليون كلمة، وبقي لديهم المزيد مما سينشر. وفيها إلى الآن أن عدد الذين قتلوا بعد تمام الاحتلال ونهاية المعارك: 109032 قتيل منهم: 66081 مدني، و:23984 من المقاومة، و: 15196 من الأمن العراقي، عدد من قتل في بغداد بأيدي الأمريكان بعد الاستقرار: 45497 وفي المناطق التي شمال بغداد إلى كردستان: 32210، وفي الشمال: 328. كان أسوأ الشهور شهر 12 من عام 2006، وفي العام نفسه قتلوا: 16870، وفي مكان آخر تقول إن السجناء عند الجيش بلغوا: مئة وثمانين ألف سجين أغلبهم من السنة.

أما نوع المعلومات المسربة، فهي برقيات وتقارير ميدانية ترسل لمركز المعلومات، وقليل منها مذكرات ومراسلات بين الجنود وقيادتهم، وقد اعترض الجيش الأمريكي على هذه المعلومات للتهوين من أهميتها، وقال بأنها مجرد مذكرات، فردّ أصحاب الموقع بأن ما يمكن أن يندرج تحت مسمى ’’مذكرات’’ أقل عن سدس هذه المادة.

وهذه المعلومات لا تغطي الحوادث التي لم يكتب عنها تقارير، ولا المعلومات في بقية التقارير ولا ما قبل تاريخ: 2004 ولا ما بعد: 2009، ولا تغطي المعلومات تقارير السي آي آيه، كما أنها لا تغطي القتل الذي تم على أيدي البريطانيين والقوات الأخرى إلا في حوادث قليلة فيها تداخل حوادث بين الجيشين، ولا بقية القوى المتحالفة في العراق فالذي تسرب كان المعلومات التي وصلت لمكتب معلومات في الجيش الأمريكي فقط.

ولهذا فهذه الأرقام الهائلة لم تزل ناقصة ولا تغطي المقتولين في الحرب كما يتوقع البعض، فليس منها ضحايا الحرب نفسها والمعارك التي سقط إثرها العراق بأيدي المحتلين.

كما أن المعلومات لا تشمل قتلى شركات مرتزقة القتل الأمريكية ’’الأمنية’’، ومنها بلاك ووتر، التي كان شعارها ’’اقتل أولا ثم اسأل’’، ولا تخضع لأي مساءلة، والعجيب كما ذكر مؤلف كتاب ’’بلاك ووتر’’ في مقابلة مع قناة الجزيرة الانجليزية يوم السبت 23 أكتوبر، أن الشركة حذرت الحكومة الأمريكية أنه في حال ألغي عقدها المقدر بقرابة نصف مليار دولار سنويا، فإنها سوف تنتقم بنشر فضائح ومخالفات الحكومة. و’’بلاك ووتر’’ أصبح اسمها في العراق شركة ’’زي: Xe’’ [5]، وهي واحدة فقط من شركات القتل الأمنية وهي متعاقدة مع وزارة الخارجية بحجة حماية الدبلوماسيين، ولهذا نفت وزيرة الخارجية أن تكون تسرب شيء عن وزارتها.

* مواقف من هذه المعلومات:

حصلت الجزيرة على حق النشر وكذا قناة ال بي بي سي الرابعة البريطانية ومجلة دير شبيجل وجريدتا لوموند والجارديان، وقد نشرت الجارديان سابقا ملخصات وثائق أفغانستان في 12 صفحة، ثم اعتذرت عن نشر تفاصيل الوثائق العراقية، خوفا من أن يكون بعضها قد احتوى معلومات تضر بأشخاص، وربما خوفا من ملاحقات قانونية.

يقول ’’أسانج’’ إن الحكومة الأمريكية حاولت الضغط على وسائل الإعلام حتى لا تهتم بما نشر عنهم، وحاول المحافظون ’’جماعة بوش’’ تجاهل القصة والخبر كله، ومنهم من اعترض على صحة وأهمية المعلومات، فتجاهلت قناة فوكس نيوز الإشارة للخبر، رغم خطورته وعلاقته، ولم تعطه جريدة الواشنطن بوست إلا زاوية داخلية صغيرة، واضطرت قنوات كالجزيرة في نشرتها الانجليزية أن تعطي وقتا طويلا للناطق باسم وزارة الدفاع الأمريكية (جوفي موريل)، أن يسوّق ما شاء من تهوين من قيمة المعلومات أو رد أو تجاهل ذلك، على طريقة في الرأي والرأي الآخر. وقد حاول أن يلتوي ويؤول كل شيء، وزعم أن العراقيين الموالين لهم قد تغيروا وتغير التعامل، وقال إن الأمريكيين إنما كانوا يقتلون بسبب خوفهم، وإنهم ليسوا كاملين.

وبما أن هذه المعلومات وما سينشر لاحقا ـ إن استطاعوا نشره ـ تمثل كنزا معرفيا، فسوف يستخدمه كل بحسب رغبته، فقد بدأ استخدام هذه المعلومات من قبل أطراف ضد إيران ومخبريها ودعمها للقاعدة، واستخدمها آخرون ضد سوريا، وكذا ضد المالكي الذي تقول الوثائق إنه كان طائفيا وله عصابة للاعتقال وللقتل، وسوف تستخدم ضد المقاومة، ويحاول كل طرف أن يستخدم منها ما يؤيد وجهته، ولكن المتضرر الأكبر من نشرها هو الجيش الأمريكي، فقد كانت فاضحة لتصرفاتهم المريعة، فمثلا اعترفوا بأنهم قتلوا بالمروحيات مئة وثلاثة أشخاص، بينما تقول وثائقهم إلى الآن بأنهم قتلوا بها ثلاثة آلاف وثمانمائة، وأن المقتولين منهم: 75% من السنة، وعدد القتلى على نقاط التفتيش بلغ 681 قتيلا، منهم شيخ في الخامسة والسبعين، ونساء حوامل وأطفال بينما اعترفوا من قبل بثلاثة عشر فقط! وهذه مجرد مقارنة بين الأرقام التي أعلنت من قبل وبين هذه التقارير الحقيقية.

يتبع

[1] تشومسكي: طموحاتى إمبريالية، ص 49-54

[2] أغلب معلومات هذا المقال مما نشر في ملف جريدة النيويورك تايمز:

WikiLeaks Founder on the Run، Chased by Turmoil، By JOHN F. BURNS and RAVI SOMAIYA

New York Times، October 23، 2010.

http://www.nytimes.com/2010/10/24/world/24assange.html?_r=1

وملف جريدة الجارديان:

Wikileaks Iraq: data journalism maps every death، وفي الرابط التالي للجريدة قوائم بالأرقام:

http://www.guardian.co.uk/news/datablog/2010/oct/23/wikileaks-iraq-data-journalism

ومؤتمر المجموعة الإعلامي يوم السبت 23 في لندن.

[3] أذيعت على أوربت يوم 25102010

[4] نيو يورك تايمز 4 يونيو/حزيران 2003

[5] لعل من أسباب تغيير الاسم القديم الخلاص من التبعات القانونية بعدما كشفت بعض جرائم الشركة.
*العصر
أضافة تعليق