الهند وأوروبا الشرقية والغربية
تتلخص فكرة هذه الحوارية في تعقيب أحد الأصدقاء ويرمز له باسم ناصر على كاتب هذه السطور بعد ذات حوار صحافي تناول جملة من قضايا الفكر والتربية و بعض إشكالات العمل الإسلامي، فكانت هذه المحاورة للصديق ناصر في سلسلة حلقات، متمركزة حول العلمانية وما إذا كانت مخرجاً لمجتمعاتنا أم كارثة جديدة؟!
مع أن ما سبق في الحلقة السابقة من تدليل على زيف الفصل الحقيقي بين الدّين والدّولة في الولايات المتحدة يعدّ كافياً -في اعتقادي- على عدم دّقة الزعم بمثالية الحلّ العلماني لمجتمعاتنا؛ بيد أنّه لا بأس من الإشارة هنا إلى نماذج أخرى تسهم في المزيد من تفكيك (أسطورة) الخيال العلماني في حل مشكلة المجتمعات الإسلامية بـ( العلمانية المعلّبة)، إذا كانت العلمانية غير قادرة على أن تقدّم حلاًّ حاسما وحقيقياً لمجتمعات غير إسلامية. ويمكن الإشارة العجلى هنا إلى تجارب الهند والمجتمعات الشيوعية، وتجربة المملكة المتحدة وإيرلندا في الغرب، وذلك على النحو التالي:
أولاً: العلمانية في الهند:
لم تتمكّن العلمانية في المجتمع الهندي المتعدّد الأديان والمعتقدات من التغلّب على الصراعات الدينية، بل يحزننا التأكيد على أن ضحايا تلك الصراعات في الغالب مسلمون، إذ الحزبان الحاكمان الرئيسان: المؤتمر (الهندي) و حزب (بهارتيا جاناتا) -وكلاهما علمانيان- لم يمنعا المجازر ضد أكبر أقلية في العالم وهم المسلمون الهنود الذين يفوق عددهم المائة وسبعين مليوناً، وأبرزها مذابح آسام، في الثمانينات من القرن المنصرم، وكذا هدم المسجد البابري عام 1992، ومحاولة بناء المعبد المزعوم على أنقاضه. وتقدّر عدد المجازر التي ارتكبت ضدّ المسلمين منذ استقلال الهند عام 1947م حتى مطلع التسعينات من القرن الماضي بـ (40 ألف مجزرة) ( راجع: فؤاد البنا، حاضر العالم الإسلامي ومعضلاته، ص 116، 1426هـ -2005م، الطبعة الثانية، تعز: مؤسسة الجمهورية للصحافة والنشر)، بل لم تحل العلمانية هناك دون الصراع الدامي بين السيخ والهندوس الذي ذهبت ضحيّته رئيسة الوزراء السابقة (انديرا غاندي).
ثانياً: الأنظمة الشيوعية:
كذلك كان الحال في الأنظمة الأوروبية الشيوعية. ورغم المنطق الظاهري لتبنيها العلمانية، لكن علمانيتها لم تقض على الصراعات الدينية هناك، كما لم تقدّم حلاً ناجعاً وشاملاً، كما كان الشعار المجلجل يٌرع، بل غدت مسألة عدم ديمقراطية الأنظمة الشيوعية من المسلّمات، حتى من قِبل كثير من أبنائها وأنصارها، وهذا دليل إضافي يعدّ من أبرز أدلّة خرافة الحلّ العلماني. ولقد كان منطق أنظمة تلك المجتمعات الشيوعية التي اشتهرت بمعاداة جميع الأديان أن أساسها تخلّف ورجعية وأفيون للشعوب، ولا سيما الإسلام -لكونه ديناً ودولة- فتبنت العلمانية الكليةّ الحادّة عملياً، وعرف عنها التمييز ضد المسلمين بوجه خاص، فأبادت الملايين منهم، سواء في الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، التي غدت محتلة من قبل ما كان يُعرف بـ(الاتحاد السوفيتي)، أم في تلك الجمهوريات التي حكمت فيها الشيوعية في أوروبا الشرقية أم في سواها، (راجع في ذلك ما أورده الدكتور يوسف القرضاوي في كتابيه بيّنات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، ص 224-225، د.ت، د.ط، د.م:د.ن و الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه : ردّ علمي على د. فؤاد زكريا وجماعة العلمانيين: ،ص 193-197، 1407هـ- 1987م، الطبعة الأولى، القاهرة: دار الصحوة).
ثالثا: المملكة المتحدة وأيرلندا:
أما العلمانية في المجتمعات الغربية الرأسمالية فإنها لم تقض على الصراعات الطائفية بالمطلق، وعلى سبيل المثال؛ فلا تزال مظاهرات الكاثوليك في أيرلندا واحتجاجاتهم المتكرّرة ضد البروتستنانت، تشهد بين الحين والآخر ثورات عارمة، لايميّزها عن أيّ صراع طائفي متخلّف أعمى يذهب ضحيته الألوف، ويستمر لعقود وربما قرون، على خلفية ما يُعرف هنالك بالأحد الدامي في 30 يناير (كانون الثاني) 1972م، على أيدي القوات البريطانية، حيث فتحت النار على المتظاهرين في ذلك اليوم وقتلت 14 شخصاً منهم، بينهم 7 مراهقين، وكلّهم من الكاثوليك، لكنّه تطوّر بعد ذلك عبر العقود الماضية، ذلك فبلغ 3500 قتيل، وفي عام واحد فقط بلغ عدد القتلى عام 1972م 472 فرداً، ناهيك عن المعوّقين والمصابين، ثم الاحتقانات التي تتناقلها الأجيال، بغية الثأر والانتقام، حيث إن (العلمانية) الحاكمة هنالك منذ أمد غير قصير لم تعامل جميع مواطنيها بروتستنانت وكاثوليك على قدم المساواة، بل كان يشعر المواطنون الكاثوليك بأن الحكومة تعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية، بخلاف أقرانهم من الأيرلنديين البروتستنانت، وهو ما مثّل الشرارة الأولى لتكوين الجيش الجمهوري الإيرلندي، واندلاع المواجهات العنيفة، بين البروتستانت والكاثوليك، طيلة العقود الماضية، مما دفع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير عام 1998 لتشكيل لجنة (سيفيل)، بناء على ’’اتفاقية الجمعة الحزينة’’ لإحلال السلام يوم 10/4/1998م، ولم تعلن نتائج تلك اللجنة إلا مؤخراً على لسان رئيس الوزراء الحالي (ديفيد كاميرون)، الذي أعلن أمام النواب في مجلس العموم البريطاني، وفي بث مباشر على جميع القنوات الإخبارية البريطانية، في شهر يونيو الماضي(2010م) اعترافه أن تلك الأحداث كانت (مأساوية وصادمة)، واعتذر علنياً لأهالي الضحايا، مقرّاً أن المتظاهرين الذين قتلوا في ذلك اليوم كانوا جميعاً مدنيين، ولم يكونوا إرهابيين، كما كانوا يوصمون بذلك طيلة العقود الماضية، ومع ذلك فإن اعتذار كاميرون قد جر إلى فتح باب الملاسنات والاتهامات المتضادّة، وعدّ بعض البروتستانت هذا الملف مطوياً، وفتحه اليوم يعيد إنكاء الجراح، على حين عدّ بعض الكاثوليك الاعتذار والاعتراف بالخطأ غير كاف، مطالبين بمحاكمة أولئك القتلة، خاصة وأن بعضهم لايزال حيّاً (راجع تقرير : راغدة بهنام: صحيفة الشرق الأوسط، 5 رجـب 1431 هـ الموافق 17 يونيو 2010 العدد، 11524). ومما يؤكّد صعوبة تجاوز ذلك ما حدث يومي8، 10/ 2009م من أحداث عنف وتفجير ومحاولات اغتيال استهدفت مركزا للشرطة البريطانية في أيرلندا الشمالية وأحد أفرادها، إذ تجددت المخاوف من تجدد العنف، ورغم تبرؤ الطرفين الرئيسين هناك من ذلك، وهما البروتستانت عبر ’’حزب الوحدويين’’ (أي مع بريطانيا) والكاثوليك عبر حزب ’’شين فين’’ الذراع السياسي لما عُرف بالجيش الإيرلندي السري؛ إلا أن مراقبين يرون في ذلك شاهداً على احتمال عودة أعمال العنف، لاسيما وأن اتفاقية الجمعة الحزينة لم تكن محل رضى جميع قيادات الجيش الجمهوري الإيرلندي وأفراده، بل عملت على شقه، وخروج تنظيم عنه يُعرف بـ(الجيش الإيرلندي الحقيقي)، لرفضه بنود الاتفاقية، وما يزال يعمل سرا، ولا يستبعد أن يكون قد جمع من الأسلحة ما يكفي لإثارة الصراع من جديد، لا سيما إذا تحولت ردود الفعل الداعية إلى التهدئة من جانب أحزاب البروتستانت إلى ردود فعل عنيفة أو إلى موقف سياسي يؤدي إلى سقوط الحكومة الائتلافية( راحع تقريراً بعنوان: الخلفية التاريخية لقضية أيرلندا الشمالية: صراع طائفي لأكثر من أربعة قرون في : http://www.midadulqalam.info/midad/modules.php?name=News&file=article&sid=1162 )
ذلك كلّه إنما يؤكِّد حقيقة أن العلمانية ليست حلّاً سحرياً مطلقاً حتى للمجتمعات غير الإسلامية، فما بالك بالإسلامية، بل إن الحديث عن نجاح مقدّر للتجربة العلمانية هناك بحيث ارتبطت بالحداثة والديمقراطية والعقلانية في بعض مساراتها لايعني سلامتها من أمراض الاستبداد والفاشية والتخلّف، وهي الحقيقة التي أكّد عليها الدكتور المسيري بقوله: ’’ورغم اعترافنا بوجود هذا الترابط بين التحديث والديموقراطية والعقلانية من جهة، والعلمانية من جهة أخرى، إلا أننا لا نرى أن هذه الرابطة عضوية أو ضرورية (وكما سنبين فيما بعد، يمكن أن ترتبط العلمانية باللاعقلانية والاستبداد والفاشية)، ولكن عملية الربط والتداخل تؤدّي إلى اختلاط المجال الدلالي لمصطلح (العلمانية)، وتربطه بمنظومات قيمية ونماذج معرفية ليست بالضرورة كامنة فيه، وإنما تضاف إليه ’’( المسيري، في حواره مع العظمة، مرجع سابق، ص 50).
فلنبحث في الجذور:
* إننا حين نأخذ نموذج الإسلام من خلال بعض ممارسات المسلمين السلبية أمس واليوم، أو كما يصوره الآخر البعيد، بل الخصم الحضاري العنيد تاريخياً وحاضراً؛ نظلم الإسلام الذي يدعو إلى البحث والعدل والإنصاف مع الذات كما مع الآخر، كما نظلم أنفسنا التي لم تعمل على الالتزام بمقتضيات منهجية البحث العلمي، من حيث البحث عن الحقيقة من مصادرها الأصلية ، وليس من خلال مصادر وسيطة لا تسلم من ذاتية - إن لم يكن أكبر من ذلك بكثير-.
عزيزي ناصر لدي الكثير مما أقوله حول ما يطرحه بعض الأعزاء - وأنت أعزهم- من أن المخرج من كل هذا الإشكال يكمن في استيراد النموذج (العلماني). ومع أنني آمل في إتاحة فرصة للقاء وتبادل الفكرة حول هذه المسألة وجها لوجه؛ فإنني- علاوة على ما سبق- أوجز القول هنا بأن أكبر مأخذ جوهري على هذا الطرح الآني (المنفعل) هو أنه يتجاهل الأسباب الموضوعية الدافعة لتبني مثل ذلك الحل في أوروبا، ومحوره الصراع بين العلم والدين، أو الفكر الحرّ والدين؛ وهو ما لا يوجد له أساس على ذلك النحو في تاريخنا أو في حاضرنا. وغاية ما في الأمر كيد سياسي، وتوظيف رخيص لورقة الدين، لكن ليس معنى ذلك -لدى كل المدارس السنيّة على الأقل- بأن ثمة متحدثا باسم السماء، ومن كان هذا منهجه، فإنه ملفوظ من أغلبية المدار س الإسلامية، أو ما يسميه الفقهاء برأي الجمهور! ودائما سيظل الشذوذ في كل المدارس والأفكار أمراً لا يمكن السيطرة عليه لكن العبرة بمدى تأثيره وفعله.
وقد أحسن المفكّر المغربي محمّد عابد الجابري- وهو مصنّف في جملته على الاتجاه الوضعي- حين وقف منذ وقت مبكّر نسبياً ضدّ كل دعوات إحلال العلمانية في المجتمعات الإسلامية، نظراً لعدم قيام أسباب موضوعية تشابه تلك الأسباب التي ظهرت في الغرب المسيحي، مشدّداً على أن الدِّين والدولة في الإسلام لا ينفصلان، وأنّه لابدّ من إدراك حقيقة الفرق بين الإسلام والكنيسة ليكّف ذوو التقليد الأعمى الداعي إلى فصل الدين عن الدولة والحياة، بل عليهم إدراك دواعي ذلك في أوروبا، وضرورة فض الاشتباك بين تاريخ أوروبا الذي شهد صراعاً لا يخفى بين الكنيسة والسياسة من جهة، وبين العلم من الجهة الأخرى، وبين تاريخ الإسلام. ( انظر على سبيل المثال: حوار المشرق والمغرب بين حسن حنفي ومحمّد عابد الجابري، 1990م، ص 45- 49 ( تحرير: فيصل جلّول)، الطبعة الأولى، القاهرة: مكتبة مدبولي).
لانريد -أيها العزيز- أن نكرر مأساة ملحد القرن التاسع عشر حين أحرق الدار بدلا من ترميمها، حيث رمى بجميع الأسئلة وإجاباتها معاً، وأدار ظهره لكل مقررات الدين نتيجة الإجابات غير المقنعة لرجال الدين حينذاك، وبحسب عبارة عالم النفس الأمريكي الشهير إبراهام ماسلو صاحب نظرية القوة الثالثة في علم النفس فإن علماء النفس الطبيعيين والإنسانيين سوف يعدّون كل شخص لا يهتم بالدّين وموضوعاته وقضاياه إنساناً شاذاً مريضاً (راجع: إبراهام ماسلو، خطر الانشقاق بين العلم والِّدين، ( ترجمة: ماجد الكيلاني) العدد 3، ص 17-19، السنة الأولى ، مجلة الأمّة، 1401هـ- 1981م،الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية) .
إن مجتمعاتنا -كما تفضلت - مجتمعات محافظة متدينة، لكن لست معك في أن المسألة مسألة ظرف موضوعي مناسب أو غير مناسب، فالدين بمفهومه الحضاري الكامل الشامل المتضمن جميع نواحي الحياة في خطوطها العامة وكليّاتها - في اعتقادي- قَدَر المجتمعات الإسلامية وحتميتها، سواء حين تأتي دورة التقدم، أو يقع التراجع، ومن ثم الانحدار نحو درك التخلف، والدعوة إلى العلمانية تعني الاصطدام المباشر بالضمير الجمعي لكل أبناء المجتمع- كما أسلفت- وبدلا من أننا نبحث عن حل ناجع للمشكلة السياسية؛ فإننا سنفجر قنبلة هائلة مدويّة لاتبقي ولا تذر، إذ ستصادم حق المجتمع كله في أن تحكمه الشريعة، وذلك يجافي مفهوم (الديمقراطية) بل يناقضها تماماً، وبدلاً من البحث عن حل يُظن أن فيه إنقاذاً لحالة من الصراع (المحدود)؛ إذا به يغدو تهديداً شاملاً، وتحدّياً سافراً للضمير الجمعي العام للمجتمع كآفة. ومن ثم فالتفكير الجدّي في مثل هذا الحل يمثّل كارثة مجتمعية محققة، وليس علاجاً سليم التوصيف، أو بديلاً مضمون العواقب!
[email protected]
*مأرب برس
تتلخص فكرة هذه الحوارية في تعقيب أحد الأصدقاء ويرمز له باسم ناصر على كاتب هذه السطور بعد ذات حوار صحافي تناول جملة من قضايا الفكر والتربية و بعض إشكالات العمل الإسلامي، فكانت هذه المحاورة للصديق ناصر في سلسلة حلقات، متمركزة حول العلمانية وما إذا كانت مخرجاً لمجتمعاتنا أم كارثة جديدة؟!
مع أن ما سبق في الحلقة السابقة من تدليل على زيف الفصل الحقيقي بين الدّين والدّولة في الولايات المتحدة يعدّ كافياً -في اعتقادي- على عدم دّقة الزعم بمثالية الحلّ العلماني لمجتمعاتنا؛ بيد أنّه لا بأس من الإشارة هنا إلى نماذج أخرى تسهم في المزيد من تفكيك (أسطورة) الخيال العلماني في حل مشكلة المجتمعات الإسلامية بـ( العلمانية المعلّبة)، إذا كانت العلمانية غير قادرة على أن تقدّم حلاًّ حاسما وحقيقياً لمجتمعات غير إسلامية. ويمكن الإشارة العجلى هنا إلى تجارب الهند والمجتمعات الشيوعية، وتجربة المملكة المتحدة وإيرلندا في الغرب، وذلك على النحو التالي:
أولاً: العلمانية في الهند:
لم تتمكّن العلمانية في المجتمع الهندي المتعدّد الأديان والمعتقدات من التغلّب على الصراعات الدينية، بل يحزننا التأكيد على أن ضحايا تلك الصراعات في الغالب مسلمون، إذ الحزبان الحاكمان الرئيسان: المؤتمر (الهندي) و حزب (بهارتيا جاناتا) -وكلاهما علمانيان- لم يمنعا المجازر ضد أكبر أقلية في العالم وهم المسلمون الهنود الذين يفوق عددهم المائة وسبعين مليوناً، وأبرزها مذابح آسام، في الثمانينات من القرن المنصرم، وكذا هدم المسجد البابري عام 1992، ومحاولة بناء المعبد المزعوم على أنقاضه. وتقدّر عدد المجازر التي ارتكبت ضدّ المسلمين منذ استقلال الهند عام 1947م حتى مطلع التسعينات من القرن الماضي بـ (40 ألف مجزرة) ( راجع: فؤاد البنا، حاضر العالم الإسلامي ومعضلاته، ص 116، 1426هـ -2005م، الطبعة الثانية، تعز: مؤسسة الجمهورية للصحافة والنشر)، بل لم تحل العلمانية هناك دون الصراع الدامي بين السيخ والهندوس الذي ذهبت ضحيّته رئيسة الوزراء السابقة (انديرا غاندي).
ثانياً: الأنظمة الشيوعية:
كذلك كان الحال في الأنظمة الأوروبية الشيوعية. ورغم المنطق الظاهري لتبنيها العلمانية، لكن علمانيتها لم تقض على الصراعات الدينية هناك، كما لم تقدّم حلاً ناجعاً وشاملاً، كما كان الشعار المجلجل يٌرع، بل غدت مسألة عدم ديمقراطية الأنظمة الشيوعية من المسلّمات، حتى من قِبل كثير من أبنائها وأنصارها، وهذا دليل إضافي يعدّ من أبرز أدلّة خرافة الحلّ العلماني. ولقد كان منطق أنظمة تلك المجتمعات الشيوعية التي اشتهرت بمعاداة جميع الأديان أن أساسها تخلّف ورجعية وأفيون للشعوب، ولا سيما الإسلام -لكونه ديناً ودولة- فتبنت العلمانية الكليةّ الحادّة عملياً، وعرف عنها التمييز ضد المسلمين بوجه خاص، فأبادت الملايين منهم، سواء في الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، التي غدت محتلة من قبل ما كان يُعرف بـ(الاتحاد السوفيتي)، أم في تلك الجمهوريات التي حكمت فيها الشيوعية في أوروبا الشرقية أم في سواها، (راجع في ذلك ما أورده الدكتور يوسف القرضاوي في كتابيه بيّنات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، ص 224-225، د.ت، د.ط، د.م:د.ن و الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه : ردّ علمي على د. فؤاد زكريا وجماعة العلمانيين: ،ص 193-197، 1407هـ- 1987م، الطبعة الأولى، القاهرة: دار الصحوة).
ثالثا: المملكة المتحدة وأيرلندا:
أما العلمانية في المجتمعات الغربية الرأسمالية فإنها لم تقض على الصراعات الطائفية بالمطلق، وعلى سبيل المثال؛ فلا تزال مظاهرات الكاثوليك في أيرلندا واحتجاجاتهم المتكرّرة ضد البروتستنانت، تشهد بين الحين والآخر ثورات عارمة، لايميّزها عن أيّ صراع طائفي متخلّف أعمى يذهب ضحيته الألوف، ويستمر لعقود وربما قرون، على خلفية ما يُعرف هنالك بالأحد الدامي في 30 يناير (كانون الثاني) 1972م، على أيدي القوات البريطانية، حيث فتحت النار على المتظاهرين في ذلك اليوم وقتلت 14 شخصاً منهم، بينهم 7 مراهقين، وكلّهم من الكاثوليك، لكنّه تطوّر بعد ذلك عبر العقود الماضية، ذلك فبلغ 3500 قتيل، وفي عام واحد فقط بلغ عدد القتلى عام 1972م 472 فرداً، ناهيك عن المعوّقين والمصابين، ثم الاحتقانات التي تتناقلها الأجيال، بغية الثأر والانتقام، حيث إن (العلمانية) الحاكمة هنالك منذ أمد غير قصير لم تعامل جميع مواطنيها بروتستنانت وكاثوليك على قدم المساواة، بل كان يشعر المواطنون الكاثوليك بأن الحكومة تعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية، بخلاف أقرانهم من الأيرلنديين البروتستنانت، وهو ما مثّل الشرارة الأولى لتكوين الجيش الجمهوري الإيرلندي، واندلاع المواجهات العنيفة، بين البروتستانت والكاثوليك، طيلة العقود الماضية، مما دفع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير عام 1998 لتشكيل لجنة (سيفيل)، بناء على ’’اتفاقية الجمعة الحزينة’’ لإحلال السلام يوم 10/4/1998م، ولم تعلن نتائج تلك اللجنة إلا مؤخراً على لسان رئيس الوزراء الحالي (ديفيد كاميرون)، الذي أعلن أمام النواب في مجلس العموم البريطاني، وفي بث مباشر على جميع القنوات الإخبارية البريطانية، في شهر يونيو الماضي(2010م) اعترافه أن تلك الأحداث كانت (مأساوية وصادمة)، واعتذر علنياً لأهالي الضحايا، مقرّاً أن المتظاهرين الذين قتلوا في ذلك اليوم كانوا جميعاً مدنيين، ولم يكونوا إرهابيين، كما كانوا يوصمون بذلك طيلة العقود الماضية، ومع ذلك فإن اعتذار كاميرون قد جر إلى فتح باب الملاسنات والاتهامات المتضادّة، وعدّ بعض البروتستانت هذا الملف مطوياً، وفتحه اليوم يعيد إنكاء الجراح، على حين عدّ بعض الكاثوليك الاعتذار والاعتراف بالخطأ غير كاف، مطالبين بمحاكمة أولئك القتلة، خاصة وأن بعضهم لايزال حيّاً (راجع تقرير : راغدة بهنام: صحيفة الشرق الأوسط، 5 رجـب 1431 هـ الموافق 17 يونيو 2010 العدد، 11524). ومما يؤكّد صعوبة تجاوز ذلك ما حدث يومي8، 10/ 2009م من أحداث عنف وتفجير ومحاولات اغتيال استهدفت مركزا للشرطة البريطانية في أيرلندا الشمالية وأحد أفرادها، إذ تجددت المخاوف من تجدد العنف، ورغم تبرؤ الطرفين الرئيسين هناك من ذلك، وهما البروتستانت عبر ’’حزب الوحدويين’’ (أي مع بريطانيا) والكاثوليك عبر حزب ’’شين فين’’ الذراع السياسي لما عُرف بالجيش الإيرلندي السري؛ إلا أن مراقبين يرون في ذلك شاهداً على احتمال عودة أعمال العنف، لاسيما وأن اتفاقية الجمعة الحزينة لم تكن محل رضى جميع قيادات الجيش الجمهوري الإيرلندي وأفراده، بل عملت على شقه، وخروج تنظيم عنه يُعرف بـ(الجيش الإيرلندي الحقيقي)، لرفضه بنود الاتفاقية، وما يزال يعمل سرا، ولا يستبعد أن يكون قد جمع من الأسلحة ما يكفي لإثارة الصراع من جديد، لا سيما إذا تحولت ردود الفعل الداعية إلى التهدئة من جانب أحزاب البروتستانت إلى ردود فعل عنيفة أو إلى موقف سياسي يؤدي إلى سقوط الحكومة الائتلافية( راحع تقريراً بعنوان: الخلفية التاريخية لقضية أيرلندا الشمالية: صراع طائفي لأكثر من أربعة قرون في : http://www.midadulqalam.info/midad/modules.php?name=News&file=article&sid=1162 )
ذلك كلّه إنما يؤكِّد حقيقة أن العلمانية ليست حلّاً سحرياً مطلقاً حتى للمجتمعات غير الإسلامية، فما بالك بالإسلامية، بل إن الحديث عن نجاح مقدّر للتجربة العلمانية هناك بحيث ارتبطت بالحداثة والديمقراطية والعقلانية في بعض مساراتها لايعني سلامتها من أمراض الاستبداد والفاشية والتخلّف، وهي الحقيقة التي أكّد عليها الدكتور المسيري بقوله: ’’ورغم اعترافنا بوجود هذا الترابط بين التحديث والديموقراطية والعقلانية من جهة، والعلمانية من جهة أخرى، إلا أننا لا نرى أن هذه الرابطة عضوية أو ضرورية (وكما سنبين فيما بعد، يمكن أن ترتبط العلمانية باللاعقلانية والاستبداد والفاشية)، ولكن عملية الربط والتداخل تؤدّي إلى اختلاط المجال الدلالي لمصطلح (العلمانية)، وتربطه بمنظومات قيمية ونماذج معرفية ليست بالضرورة كامنة فيه، وإنما تضاف إليه ’’( المسيري، في حواره مع العظمة، مرجع سابق، ص 50).
فلنبحث في الجذور:
* إننا حين نأخذ نموذج الإسلام من خلال بعض ممارسات المسلمين السلبية أمس واليوم، أو كما يصوره الآخر البعيد، بل الخصم الحضاري العنيد تاريخياً وحاضراً؛ نظلم الإسلام الذي يدعو إلى البحث والعدل والإنصاف مع الذات كما مع الآخر، كما نظلم أنفسنا التي لم تعمل على الالتزام بمقتضيات منهجية البحث العلمي، من حيث البحث عن الحقيقة من مصادرها الأصلية ، وليس من خلال مصادر وسيطة لا تسلم من ذاتية - إن لم يكن أكبر من ذلك بكثير-.
عزيزي ناصر لدي الكثير مما أقوله حول ما يطرحه بعض الأعزاء - وأنت أعزهم- من أن المخرج من كل هذا الإشكال يكمن في استيراد النموذج (العلماني). ومع أنني آمل في إتاحة فرصة للقاء وتبادل الفكرة حول هذه المسألة وجها لوجه؛ فإنني- علاوة على ما سبق- أوجز القول هنا بأن أكبر مأخذ جوهري على هذا الطرح الآني (المنفعل) هو أنه يتجاهل الأسباب الموضوعية الدافعة لتبني مثل ذلك الحل في أوروبا، ومحوره الصراع بين العلم والدين، أو الفكر الحرّ والدين؛ وهو ما لا يوجد له أساس على ذلك النحو في تاريخنا أو في حاضرنا. وغاية ما في الأمر كيد سياسي، وتوظيف رخيص لورقة الدين، لكن ليس معنى ذلك -لدى كل المدارس السنيّة على الأقل- بأن ثمة متحدثا باسم السماء، ومن كان هذا منهجه، فإنه ملفوظ من أغلبية المدار س الإسلامية، أو ما يسميه الفقهاء برأي الجمهور! ودائما سيظل الشذوذ في كل المدارس والأفكار أمراً لا يمكن السيطرة عليه لكن العبرة بمدى تأثيره وفعله.
وقد أحسن المفكّر المغربي محمّد عابد الجابري- وهو مصنّف في جملته على الاتجاه الوضعي- حين وقف منذ وقت مبكّر نسبياً ضدّ كل دعوات إحلال العلمانية في المجتمعات الإسلامية، نظراً لعدم قيام أسباب موضوعية تشابه تلك الأسباب التي ظهرت في الغرب المسيحي، مشدّداً على أن الدِّين والدولة في الإسلام لا ينفصلان، وأنّه لابدّ من إدراك حقيقة الفرق بين الإسلام والكنيسة ليكّف ذوو التقليد الأعمى الداعي إلى فصل الدين عن الدولة والحياة، بل عليهم إدراك دواعي ذلك في أوروبا، وضرورة فض الاشتباك بين تاريخ أوروبا الذي شهد صراعاً لا يخفى بين الكنيسة والسياسة من جهة، وبين العلم من الجهة الأخرى، وبين تاريخ الإسلام. ( انظر على سبيل المثال: حوار المشرق والمغرب بين حسن حنفي ومحمّد عابد الجابري، 1990م، ص 45- 49 ( تحرير: فيصل جلّول)، الطبعة الأولى، القاهرة: مكتبة مدبولي).
لانريد -أيها العزيز- أن نكرر مأساة ملحد القرن التاسع عشر حين أحرق الدار بدلا من ترميمها، حيث رمى بجميع الأسئلة وإجاباتها معاً، وأدار ظهره لكل مقررات الدين نتيجة الإجابات غير المقنعة لرجال الدين حينذاك، وبحسب عبارة عالم النفس الأمريكي الشهير إبراهام ماسلو صاحب نظرية القوة الثالثة في علم النفس فإن علماء النفس الطبيعيين والإنسانيين سوف يعدّون كل شخص لا يهتم بالدّين وموضوعاته وقضاياه إنساناً شاذاً مريضاً (راجع: إبراهام ماسلو، خطر الانشقاق بين العلم والِّدين، ( ترجمة: ماجد الكيلاني) العدد 3، ص 17-19، السنة الأولى ، مجلة الأمّة، 1401هـ- 1981م،الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية) .
إن مجتمعاتنا -كما تفضلت - مجتمعات محافظة متدينة، لكن لست معك في أن المسألة مسألة ظرف موضوعي مناسب أو غير مناسب، فالدين بمفهومه الحضاري الكامل الشامل المتضمن جميع نواحي الحياة في خطوطها العامة وكليّاتها - في اعتقادي- قَدَر المجتمعات الإسلامية وحتميتها، سواء حين تأتي دورة التقدم، أو يقع التراجع، ومن ثم الانحدار نحو درك التخلف، والدعوة إلى العلمانية تعني الاصطدام المباشر بالضمير الجمعي لكل أبناء المجتمع- كما أسلفت- وبدلا من أننا نبحث عن حل ناجع للمشكلة السياسية؛ فإننا سنفجر قنبلة هائلة مدويّة لاتبقي ولا تذر، إذ ستصادم حق المجتمع كله في أن تحكمه الشريعة، وذلك يجافي مفهوم (الديمقراطية) بل يناقضها تماماً، وبدلاً من البحث عن حل يُظن أن فيه إنقاذاً لحالة من الصراع (المحدود)؛ إذا به يغدو تهديداً شاملاً، وتحدّياً سافراً للضمير الجمعي العام للمجتمع كآفة. ومن ثم فالتفكير الجدّي في مثل هذا الحل يمثّل كارثة مجتمعية محققة، وليس علاجاً سليم التوصيف، أو بديلاً مضمون العواقب!
[email protected]
*مأرب برس