الترويح بالسماع بين الحلال والحرام
د.عدنان حسن باحارث
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للناس أجمعين، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على هديه إلى يوم الدين ، أما بعد فإن المقصود بالترويح : النشاط الذي يقوم به الإنسان بهدف حصول الاسترخاء والراحة ، ودفع السآمة عن النفس، فالإنسان يحتاج إلى شيء من اللهو البريء المريح للنفس، والمجدد للنشاط ، والباعث على الخير؛ وهذا مبدأ مقبول في المفهوم الإسلامي ، حيث يجد الإنسان هذا النوع من الترويح في مجال السَّماع المعتدل ، ففيه ساحة رحبة للترويح النفسي، والتجديد الروحي، بما يتضمنه من المعاني الحسنة، والصفات الحميدة ، ضمن كلمات وعبارات موزونة، وصوت حسن، بعيداً عن آلات العزف، وفاحش القول .
وهنا يمكن القول : إن هذا الوصف لهذا النوع من الترويح لا خلاف في جوازه بين أهل العلم قديماً وحديثاً ؛ فقد أقرَّ رسول الله r إنشاد الشعر الحسن، وسماع الحُداء المعتــــدل لعمــــوم الأمة، وزاد النســـاء – مع هذا – الدفَّ؛ لحاجتهن الفطرية إلى مزيد من اللهو، وميل طباعهن إلى شيء من التعمُّق والاستغراق ، وفي هذا يقول ابن عبد السلام : ’’ تمكين الشباب من اللعب، ومن النظر إليه : ضرب من الإحسان ؛ لأنهم يستروحون إلى ذلك . . . وكذلك التمكين من سماع الدف والغناء ’’.
وقد كان بعض السلف في أسفارهم يتعاطون مثل هذا النوع من الترويح دون نكير، لما فيه من النشاط ودفع الملل ؛ ولهذا يترنم المتعب في عمله ليستجلب النشاط، ومن المعلوم أن سماع ما يُستحسن ويُستطاب من الأصوات الجميلة له تأثير إيجابي في زيادة النشاط، ودفع السَّآمة عن النفس، وفي هذا يقول ابن عبد السلام:
’’ وعلى الجملة فالسماع بالحداء، ونشيد الأشعار بدعة لا بأس بسماع بعضها ’’ . ويقول الإمام عياض: ’’وقد استجاز الصحابة وغيرهم غناء العرب المسمى بالنصب، وهو إنشاد بصوت رقيق فيه تمطيط، وأجازوا الحداء، وفعلوه بحضرة النبي r ، وفي هذا كله إباحة مثل هذا ’’ .
وقد نقل عن عمر بن الخطاب المشهور بشدته وصلابته في الحق إقراره أيام خلافته الترنم والتغني بالشعر في السفر حيث قال : ’’الغناء من زاد الراكب’’ ، وقال عطاء رحمه الله في الغناء بالشعر: ’’لا أرى به بأساً ما لم يكن فحشاً ’’ ، وقال العز بن عبد السلام: ’’أما استماع الإنشاد المحرك للأحوال السنية وذكر أمور الآخرة فلا بأس به، بل يندب عند الفتور وسآمة القلب’’ .
وقد أثبت هذا النوع من الغناء المشروع نجاحه في نقل مشاعر الشباب المعاصر وعواطفهم من الذوق الجاهلي الهابط إلى مستوى الذوق الإسلامي الرفيع، في الوقت الذي وقف فيه الغناء الماجن، بمضامينه الساقطة، وآلاته المطربة وراء انحراف كثير من الشباب المعاصر وضياعهم، فكما أن للغناء تأثيره الإيجابي في الإصلاح والتوجيه إذا استثمر في الخير، وانضبط بالشرع : فإن له تأثيره السلبي العنيف إذا استغل في الشر، وخالف الشرع .
وأبلغ ما يكون تأثيره إذا وُجِّه إلى الإناث؛ فإن عمله فيهن أكبر وأعظم، خاصة في هذا العصر الذي سيطر فيه المبطلون على غالب أجهزة البث الإعلامي بأنواعها، ولا سيما الإذاعية منها، حيث انهمكت في بثِّ المضامين المنحرفة عقدياً وخلقياً، ضمن المنظومات الغنائية، والألحان الموسيقية للصد عن سبيل الله ؛ وهو من نوع الغناء القبيح الذي كان يستخدمه المبطلون في الزمن الأول للصد عن الإسلام، وهو أيضاً الغناء المذموم الذي تعاطاه بعض المفتونين في العصور الإسلامية السابقة، حتى راج خبر الفنانين والفنانات، فأشغلوا الناس بما لا خير فيه، حتى قال فيهم الإمام ابن عبد السلام : ’’ وأما سماع المطربات المحرمات فغلط من الجهلة المتشبعين، المتشبهين، المتجرئين على رب العالمين ’’ ؛ ولهذا نصَّ بعض الفقهاء على معاقبة المغنيين، وحبسهم حتى يتوبوا.
وفي العصر الحديث أفتى كثير من العلماء المعاصرين بحرمة الاستماع إلى مفاسد وسائل الإعلام ، وما تبثُّه من الغناء الماجن، والعبث الخلقي، وقد صحَّ عن النبي r أنه قال في شأن المغنيات من الجواري : ’’ لا يحل بيع المغنيات، ولا شراؤهن، ولا تجارة فيهن ، وثمنهن حرام ’’ ( الطبراني في الكبير ، وحسنه الألباني )، وما يُذكر من المسامحة في ذكر الغزل، فإنما هو مما يُنقل من أشعار الجاهلية، وليس هو ما ينظمه أهل المجون والميوعة بغرض الفساد .
وفي الجانب الآخر يجد الشاب المسلم في مجال الإنشاد المعتدل بمضامينه الحسنة، ونغماته الخالية من العزف الموسيقي : ساحة واسعة للترويح النفسي، والترقي العاطفي، فيستغني بذلك عن الغناء المنحرف الصاخب .
ولعل مما يُعين على الكفِّ عن الغناء الماجن أنه باب من أبواب المرض النفسي، فقد أثبتت العديد من الدراسات المعاصرة أن الاكتئاب والهوس سائد بين الفنَّانين ، فلو كان مفيداً لنفع أصحابه ، وأراح نفوسهم ، والواقع يشهد بأنهم أرذل طبقات المجتمع، حتى في نظر الشباب المفتونين بهم ؛ ففي دراسة عربية لاستطلاع آراء الشباب حول المكانة الاجتماعية لأنواع المهن المختلفة ، جاءت مهنة : مطرب، وممثل، وموسيقار في آخر القائمة، ضمن عشر مهن هي أخس المهن وأقبحها في نظر الشباب، بل وحتى في السابق ؛ فإنه لم يكن يشتغل بهذا النوع من الفن الهابط إلا الإماء والنساء غير العربيات، ممن ضعف ضبطهن الخلقي، أما المرأة الحرة، فإنها كانت – في الغالب - تترفع عن هذه المنزلة الوضيعة، ولهذا يقول ابن القطان :
’’ والغناء الذي يتغنى به الفساق، وهو الغناء المنهي عنه : مذموم عند الجميع ’’، فنهي عنه لكونه علامة على الفساق يترفع عنه الفضلاء، بل وحتى الذين قالوا بإباحة الغناء والموسيقى، فإنهم مع ذلك يمنعون منهما إذا كان فيهما ذريعة إلى الفساد والفتنة، كما هو واقع الفن في هذا العصر .
وكلمة ’’غناء’’ يمكن أن تطلق على المحرم منه والمباح ، إنما الذي يفرق بينهما هو المضمون، والغناء عند العرب معناه: رفع الصوت وموالاته فلا يقصد به اشتماله على محرم ، كما أن الحداء الذي أجمع على إباحته يقصد به الغناء للإبل ، واليوم إذا أطلق الغناء قصد به الفاحش منه والمحرم لغلبة هذا النوع على غيره ، وتستعمل لفظة : ’’الأناشيد الإسلامية’’ على ما يقصد به الحداء.
والمقصود هو المضمون والمدلول، وليس مجرد الأسماء، فأي لهو اشتمل على المعازف، أو فاحش القول فهو محرم وإن سُمِّي بأي اسم كالغناء ، أو الحداء، أو الإنشاد ، أو الفن أو غير ذلك من المسميات، وكل لهو خلا من المعازف وفاحش القول، وتضمن المعاني الطيبة، المشجعة على الخير والفضائل، فهو مباح وإن تسمى بالغناء، أو الحداء، أو الإنشاد.
وأما الموسيقى فكل آلات العزف واللهو المختلفة ممنوعة شرعاً، ولا يستثنى من ذلك إلا الدف، فقد نقل غير واحد الإجماع على ذلك ، وما حكاه ابن حزم في إباحة آلات الملاهي : فقد رُدَّ عليه ، وحجته مبنية على انقطاع سند حديث البخاري في ذم المعازف، فقد أورد الحديث، وأحاديث أخرى في الموضوع في كتابه المحلى، وأخذ – رحمه الله – يطعن في أسانيدها، وينتصر لمذهبه في إباحة آلات الطرب، حيث يقول : ’’ ولا يصح في هذا الباب شيء أبداً، وكل ما فيه موضوع، ووالله لو أسند جميعُهُ، أو أحد منه فأكثر من طريق الثقات إلى رسول الله لما ترددنا في الأخذ به ’’، بمعنى أن مطعنه في سند الحديث وليس في دلالته على المسألة ، وفي ذلك يقول ابن حجر في إبطال هذه الحجة : ’’ وهذا حديث صحيح، لا علِّة له، ولا مطعن له، وقد أعلَّه أبو محمد بن حزم بالانقطاع بين البخاري وصدقة بن خالد، وبالاختلاف في اسم أبي مالك، وهذا كما تراه قد سقته من رواية تسعة عن هشام متصلاً فيهم’’ . ومن هنا يُعلم أن الحجة التي بنى عليها ابن حزم رأيه بطلت باتصال السند، وثبوت صحة الحديث .
ومع هذا فإن قول أحد الأئمة – مهما كانت مرتبته – ليس بحجة إذا خالفه غيره، فكيف إذا خالفه الأكثرون؟ ومن المعلوم أن الخلاف الضعيف أو الشاذ أو المهجور في المسائل الفقهية لا يُراعى ولا يُلتفت إليه، والأصل في اجتماع الحظر والإباحة تغليب الحظر إلا عند ضرورة ملجئة، فالمسألة التي يختلف فيها الناس يُؤخذ فيها بالإجماع إن وُجد ، وإلا أُخذ بالأحوط ، ثم بالأوثق دليلاً، ثم يُؤخذ بقول من يُظن أنه أفضل وأعلم، ومع ذلك فإن تتبُّع رخص المذاهب لا يصح إلا بشروط وضوابط ، وفي أضيق الحدود .
ومن المعروف أن إطلاق غالب الأئمة المتقدمين لفظ’’ الكراهة’’ على بعض المسائل: يُفيد عندهم التحريم؛ وإنما يمنعهم من التصريح بذلك أدبهم مع الله تعالى .
إضافة إلى كل هذا فإن للموسيقى أثراً بالغاً في التهييج الجنسي، والإثارة النفسية، والخروج عن المألوف، والعبث العقلي: أبلغ من كل أنواع المهارات والفنون الأخرى، حتى ضجَّت من آثارها السيئة المجتمعات المعاصرة . ولهذا حرص المبطلون من الكفار والمنافقين على بثِّها بين شباب المسلمين كأوسع ما يكون، فانشغل بها الشباب المسلم، حتى بلغت ببعضهم درجة الهوس الموسيقي المفرط ، وضعف في نفوسهم الشعور بالمذمة من تعاطيها ، حتى أقيمت لها الكليات والمعاهد الخاصة، والمؤتمرات ، والمنظمات الأكاديمية الدولية الرفيعة المستوى، وحتى أصبحت الجرأة في الإيصاء بتعليمها وتعميمها على المراحل التعليمية أمراً شائعاً مستساغاً لا يُستنكر.
إن هذا الوضع الاجتماعي المنحرف لا يُبيح تعاطي آلات اللهو مهما كانت المبررات، فقد مرت فترات على الأمة المسلمة انتشرت فيها الملاهي والمزامير بين بعض السَّاسة والوجهاء ، وبرز فيها نفوذ الفنَّانين والفنَّانات كأقوى ما يكون، حتى أشغلوا الناس بلهوهم ، وهذا أمر واقع في القديم والحديث، إلا أن كل هذا لم يخرج الموسيقى عن كونها ممنوعة شرعاً ، ولم يمنع العلماء– عبر التاريخ الإسلامي في القديم والحديث – من الزجر عنها، واعتبارها من المهارات المحرَّمة شرعاً، وقد كتب سليمان بن عبد الملك إلى عامله بالمدينة بسجن المغنين ، وكتب أيضاً عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد في مسائل يعاتبه عليها، ومنها أن قال له : ’’… وإظهارك المعازف والمزامير بدعة في الإسلام، ولقد هممت أن أبعث إليك من يجرُّ جمتك جمة السوء’’ .
ثم إن الذين مالوا لإباحة آلات اللهو: قيَّدوه بألا يُصاحبه الغناء الفاحش المثير للخنا والفساد، وإلا كان ممنوعاً شرعاً ، ولا شك أن طرب هذا العصر لا يكاد يخلو من المحظور الشرعي، الذي ينقُلُه عند جميع العلماء إلى التحريم.
د/ عدنان حسن با حارث
www.bahareth.org
د.عدنان حسن باحارث
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للناس أجمعين، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على هديه إلى يوم الدين ، أما بعد فإن المقصود بالترويح : النشاط الذي يقوم به الإنسان بهدف حصول الاسترخاء والراحة ، ودفع السآمة عن النفس، فالإنسان يحتاج إلى شيء من اللهو البريء المريح للنفس، والمجدد للنشاط ، والباعث على الخير؛ وهذا مبدأ مقبول في المفهوم الإسلامي ، حيث يجد الإنسان هذا النوع من الترويح في مجال السَّماع المعتدل ، ففيه ساحة رحبة للترويح النفسي، والتجديد الروحي، بما يتضمنه من المعاني الحسنة، والصفات الحميدة ، ضمن كلمات وعبارات موزونة، وصوت حسن، بعيداً عن آلات العزف، وفاحش القول .
وهنا يمكن القول : إن هذا الوصف لهذا النوع من الترويح لا خلاف في جوازه بين أهل العلم قديماً وحديثاً ؛ فقد أقرَّ رسول الله r إنشاد الشعر الحسن، وسماع الحُداء المعتــــدل لعمــــوم الأمة، وزاد النســـاء – مع هذا – الدفَّ؛ لحاجتهن الفطرية إلى مزيد من اللهو، وميل طباعهن إلى شيء من التعمُّق والاستغراق ، وفي هذا يقول ابن عبد السلام : ’’ تمكين الشباب من اللعب، ومن النظر إليه : ضرب من الإحسان ؛ لأنهم يستروحون إلى ذلك . . . وكذلك التمكين من سماع الدف والغناء ’’.
وقد كان بعض السلف في أسفارهم يتعاطون مثل هذا النوع من الترويح دون نكير، لما فيه من النشاط ودفع الملل ؛ ولهذا يترنم المتعب في عمله ليستجلب النشاط، ومن المعلوم أن سماع ما يُستحسن ويُستطاب من الأصوات الجميلة له تأثير إيجابي في زيادة النشاط، ودفع السَّآمة عن النفس، وفي هذا يقول ابن عبد السلام:
’’ وعلى الجملة فالسماع بالحداء، ونشيد الأشعار بدعة لا بأس بسماع بعضها ’’ . ويقول الإمام عياض: ’’وقد استجاز الصحابة وغيرهم غناء العرب المسمى بالنصب، وهو إنشاد بصوت رقيق فيه تمطيط، وأجازوا الحداء، وفعلوه بحضرة النبي r ، وفي هذا كله إباحة مثل هذا ’’ .
وقد نقل عن عمر بن الخطاب المشهور بشدته وصلابته في الحق إقراره أيام خلافته الترنم والتغني بالشعر في السفر حيث قال : ’’الغناء من زاد الراكب’’ ، وقال عطاء رحمه الله في الغناء بالشعر: ’’لا أرى به بأساً ما لم يكن فحشاً ’’ ، وقال العز بن عبد السلام: ’’أما استماع الإنشاد المحرك للأحوال السنية وذكر أمور الآخرة فلا بأس به، بل يندب عند الفتور وسآمة القلب’’ .
وقد أثبت هذا النوع من الغناء المشروع نجاحه في نقل مشاعر الشباب المعاصر وعواطفهم من الذوق الجاهلي الهابط إلى مستوى الذوق الإسلامي الرفيع، في الوقت الذي وقف فيه الغناء الماجن، بمضامينه الساقطة، وآلاته المطربة وراء انحراف كثير من الشباب المعاصر وضياعهم، فكما أن للغناء تأثيره الإيجابي في الإصلاح والتوجيه إذا استثمر في الخير، وانضبط بالشرع : فإن له تأثيره السلبي العنيف إذا استغل في الشر، وخالف الشرع .
وأبلغ ما يكون تأثيره إذا وُجِّه إلى الإناث؛ فإن عمله فيهن أكبر وأعظم، خاصة في هذا العصر الذي سيطر فيه المبطلون على غالب أجهزة البث الإعلامي بأنواعها، ولا سيما الإذاعية منها، حيث انهمكت في بثِّ المضامين المنحرفة عقدياً وخلقياً، ضمن المنظومات الغنائية، والألحان الموسيقية للصد عن سبيل الله ؛ وهو من نوع الغناء القبيح الذي كان يستخدمه المبطلون في الزمن الأول للصد عن الإسلام، وهو أيضاً الغناء المذموم الذي تعاطاه بعض المفتونين في العصور الإسلامية السابقة، حتى راج خبر الفنانين والفنانات، فأشغلوا الناس بما لا خير فيه، حتى قال فيهم الإمام ابن عبد السلام : ’’ وأما سماع المطربات المحرمات فغلط من الجهلة المتشبعين، المتشبهين، المتجرئين على رب العالمين ’’ ؛ ولهذا نصَّ بعض الفقهاء على معاقبة المغنيين، وحبسهم حتى يتوبوا.
وفي العصر الحديث أفتى كثير من العلماء المعاصرين بحرمة الاستماع إلى مفاسد وسائل الإعلام ، وما تبثُّه من الغناء الماجن، والعبث الخلقي، وقد صحَّ عن النبي r أنه قال في شأن المغنيات من الجواري : ’’ لا يحل بيع المغنيات، ولا شراؤهن، ولا تجارة فيهن ، وثمنهن حرام ’’ ( الطبراني في الكبير ، وحسنه الألباني )، وما يُذكر من المسامحة في ذكر الغزل، فإنما هو مما يُنقل من أشعار الجاهلية، وليس هو ما ينظمه أهل المجون والميوعة بغرض الفساد .
وفي الجانب الآخر يجد الشاب المسلم في مجال الإنشاد المعتدل بمضامينه الحسنة، ونغماته الخالية من العزف الموسيقي : ساحة واسعة للترويح النفسي، والترقي العاطفي، فيستغني بذلك عن الغناء المنحرف الصاخب .
ولعل مما يُعين على الكفِّ عن الغناء الماجن أنه باب من أبواب المرض النفسي، فقد أثبتت العديد من الدراسات المعاصرة أن الاكتئاب والهوس سائد بين الفنَّانين ، فلو كان مفيداً لنفع أصحابه ، وأراح نفوسهم ، والواقع يشهد بأنهم أرذل طبقات المجتمع، حتى في نظر الشباب المفتونين بهم ؛ ففي دراسة عربية لاستطلاع آراء الشباب حول المكانة الاجتماعية لأنواع المهن المختلفة ، جاءت مهنة : مطرب، وممثل، وموسيقار في آخر القائمة، ضمن عشر مهن هي أخس المهن وأقبحها في نظر الشباب، بل وحتى في السابق ؛ فإنه لم يكن يشتغل بهذا النوع من الفن الهابط إلا الإماء والنساء غير العربيات، ممن ضعف ضبطهن الخلقي، أما المرأة الحرة، فإنها كانت – في الغالب - تترفع عن هذه المنزلة الوضيعة، ولهذا يقول ابن القطان :
’’ والغناء الذي يتغنى به الفساق، وهو الغناء المنهي عنه : مذموم عند الجميع ’’، فنهي عنه لكونه علامة على الفساق يترفع عنه الفضلاء، بل وحتى الذين قالوا بإباحة الغناء والموسيقى، فإنهم مع ذلك يمنعون منهما إذا كان فيهما ذريعة إلى الفساد والفتنة، كما هو واقع الفن في هذا العصر .
وكلمة ’’غناء’’ يمكن أن تطلق على المحرم منه والمباح ، إنما الذي يفرق بينهما هو المضمون، والغناء عند العرب معناه: رفع الصوت وموالاته فلا يقصد به اشتماله على محرم ، كما أن الحداء الذي أجمع على إباحته يقصد به الغناء للإبل ، واليوم إذا أطلق الغناء قصد به الفاحش منه والمحرم لغلبة هذا النوع على غيره ، وتستعمل لفظة : ’’الأناشيد الإسلامية’’ على ما يقصد به الحداء.
والمقصود هو المضمون والمدلول، وليس مجرد الأسماء، فأي لهو اشتمل على المعازف، أو فاحش القول فهو محرم وإن سُمِّي بأي اسم كالغناء ، أو الحداء، أو الإنشاد ، أو الفن أو غير ذلك من المسميات، وكل لهو خلا من المعازف وفاحش القول، وتضمن المعاني الطيبة، المشجعة على الخير والفضائل، فهو مباح وإن تسمى بالغناء، أو الحداء، أو الإنشاد.
وأما الموسيقى فكل آلات العزف واللهو المختلفة ممنوعة شرعاً، ولا يستثنى من ذلك إلا الدف، فقد نقل غير واحد الإجماع على ذلك ، وما حكاه ابن حزم في إباحة آلات الملاهي : فقد رُدَّ عليه ، وحجته مبنية على انقطاع سند حديث البخاري في ذم المعازف، فقد أورد الحديث، وأحاديث أخرى في الموضوع في كتابه المحلى، وأخذ – رحمه الله – يطعن في أسانيدها، وينتصر لمذهبه في إباحة آلات الطرب، حيث يقول : ’’ ولا يصح في هذا الباب شيء أبداً، وكل ما فيه موضوع، ووالله لو أسند جميعُهُ، أو أحد منه فأكثر من طريق الثقات إلى رسول الله لما ترددنا في الأخذ به ’’، بمعنى أن مطعنه في سند الحديث وليس في دلالته على المسألة ، وفي ذلك يقول ابن حجر في إبطال هذه الحجة : ’’ وهذا حديث صحيح، لا علِّة له، ولا مطعن له، وقد أعلَّه أبو محمد بن حزم بالانقطاع بين البخاري وصدقة بن خالد، وبالاختلاف في اسم أبي مالك، وهذا كما تراه قد سقته من رواية تسعة عن هشام متصلاً فيهم’’ . ومن هنا يُعلم أن الحجة التي بنى عليها ابن حزم رأيه بطلت باتصال السند، وثبوت صحة الحديث .
ومع هذا فإن قول أحد الأئمة – مهما كانت مرتبته – ليس بحجة إذا خالفه غيره، فكيف إذا خالفه الأكثرون؟ ومن المعلوم أن الخلاف الضعيف أو الشاذ أو المهجور في المسائل الفقهية لا يُراعى ولا يُلتفت إليه، والأصل في اجتماع الحظر والإباحة تغليب الحظر إلا عند ضرورة ملجئة، فالمسألة التي يختلف فيها الناس يُؤخذ فيها بالإجماع إن وُجد ، وإلا أُخذ بالأحوط ، ثم بالأوثق دليلاً، ثم يُؤخذ بقول من يُظن أنه أفضل وأعلم، ومع ذلك فإن تتبُّع رخص المذاهب لا يصح إلا بشروط وضوابط ، وفي أضيق الحدود .
ومن المعروف أن إطلاق غالب الأئمة المتقدمين لفظ’’ الكراهة’’ على بعض المسائل: يُفيد عندهم التحريم؛ وإنما يمنعهم من التصريح بذلك أدبهم مع الله تعالى .
إضافة إلى كل هذا فإن للموسيقى أثراً بالغاً في التهييج الجنسي، والإثارة النفسية، والخروج عن المألوف، والعبث العقلي: أبلغ من كل أنواع المهارات والفنون الأخرى، حتى ضجَّت من آثارها السيئة المجتمعات المعاصرة . ولهذا حرص المبطلون من الكفار والمنافقين على بثِّها بين شباب المسلمين كأوسع ما يكون، فانشغل بها الشباب المسلم، حتى بلغت ببعضهم درجة الهوس الموسيقي المفرط ، وضعف في نفوسهم الشعور بالمذمة من تعاطيها ، حتى أقيمت لها الكليات والمعاهد الخاصة، والمؤتمرات ، والمنظمات الأكاديمية الدولية الرفيعة المستوى، وحتى أصبحت الجرأة في الإيصاء بتعليمها وتعميمها على المراحل التعليمية أمراً شائعاً مستساغاً لا يُستنكر.
إن هذا الوضع الاجتماعي المنحرف لا يُبيح تعاطي آلات اللهو مهما كانت المبررات، فقد مرت فترات على الأمة المسلمة انتشرت فيها الملاهي والمزامير بين بعض السَّاسة والوجهاء ، وبرز فيها نفوذ الفنَّانين والفنَّانات كأقوى ما يكون، حتى أشغلوا الناس بلهوهم ، وهذا أمر واقع في القديم والحديث، إلا أن كل هذا لم يخرج الموسيقى عن كونها ممنوعة شرعاً ، ولم يمنع العلماء– عبر التاريخ الإسلامي في القديم والحديث – من الزجر عنها، واعتبارها من المهارات المحرَّمة شرعاً، وقد كتب سليمان بن عبد الملك إلى عامله بالمدينة بسجن المغنين ، وكتب أيضاً عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد في مسائل يعاتبه عليها، ومنها أن قال له : ’’… وإظهارك المعازف والمزامير بدعة في الإسلام، ولقد هممت أن أبعث إليك من يجرُّ جمتك جمة السوء’’ .
ثم إن الذين مالوا لإباحة آلات اللهو: قيَّدوه بألا يُصاحبه الغناء الفاحش المثير للخنا والفساد، وإلا كان ممنوعاً شرعاً ، ولا شك أن طرب هذا العصر لا يكاد يخلو من المحظور الشرعي، الذي ينقُلُه عند جميع العلماء إلى التحريم.
د/ عدنان حسن با حارث
www.bahareth.org