آداب المفتي والمستفتي
الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي
في مجالسهم ومن خلال تعليقاتهم في المواقع الإلكترونية يتحدث الناس كثيرا عن فوضى الفتوى في أيامنا هذه ، يقول البعض :لم نعد نعرف الصواب ، كل شئ اليوم بدأنا نشك في حكمه ، ما كان واجبا قبل أيام أصبح البعض يقولون بتحريمه ، وما كان حراما أمس ، أصبحنا نسمع من يقول بإباحته ، والكل يتحدث بالكتاب والسنة ، والحقيقة أننا لم نعد نعرف أين الحقيقة ، وهل الكتاب والسنة مع هؤلاء أم مع هؤلاء .
هذا الكلام يدور اليوم كثيرا بين الناس ، ولا أحد يلومهم ، إذ إن الوضع في هذه الأيام أصبح خطيرا جدا ، ولا بد من السعي الحثيث لتداركه وإلا حدث ما لا تحمد عقباه .
كانت هناك أخلاقيات وضوابط يعرفها علماء الشريعة وطلبة العلم الشرعي تحكم ما يمكن أن يذاع على الملأ ، وما يجب أن تختص به مجالس أهل العلم من حوارات في الفقه والحديث وأصول الدين ، أما اليوم فقد خرج الأمر من يد علماء الدين ، فلم يعد المؤهل للحديث في جزئيات الشريعة وكلياتها هم العلماء العارفون وحسب ، بل أصبح المؤهل الذي يتيح لك إمكانية الحديث فيما تشاء من أحكام الدين هو أن تكون حاصلا على جهاز كمبيوتر في بيتك ، ويفضل من يكون كمبيوتره محمولا ، حتى يستطيع أن يتحدث عن الشريعة في أي مكان يحلو له ، وكلما كان الجهاز أصغر كانت الكفاءة للحديث في هذا الأمر أكبر .
هناك مؤهل آخر يمكن أن يجعلك قادرا على الحديث في جزئيات الفقه ، وهو أن تكون على علاقة بصحفي يحب الإثارة فتختار معه جزئية فقهية تمس خصوصية المجتمع ومألوفه وما تواطأ عليه أفراده ،فتنشر عن طريقه ما يخالف معهود الناس لتصبح مفتيا يشار إليه بالبنان .
لم تعد الفوضى الفكرية وتشكيك الناس في أمر دينهم وعواقب تزهيدهم في علمائهم مما يحسب له هؤلاء المتطفلون على الفتوى حسابا ، المهم لديهم أن يتحدثوا ، ولا يهمهم أبدا عواقب ما يتحدثون عنه .
ولست الآن بصدد أن أسبر هذه الظاهرة الخطيرة ، والتي هي بحق مؤهلة لأن تعني بسبرها والجد في حلها العديد من مراكز البحث الفقهية والتربوية والإعلامية ، ولعلي أن أكون بصددها في سلسة من المقالات قادمة ، أما اليوم وفي هذه العجالة فأنا معني بانتخاب إحدى القواعد التي ذكرها علماء أصول الفقه في كتبهم عند البحث في آداب المفتي والمستفتي ، أو شروط المفتي وآداب المستفتي ، وهي مباحث لا يكاد يخلوا منها كتاب من كتب أصول الفقه العامة قديمها وحديثها ، وحين نتأمل مشهدنا الفقهي اليوم وما فيه من فوضى في مجال الإفتاء والاستفتاء ، ندرك سر اهتمام علماء أصول الفقه بهذه المباحث ، فتطبيق المجتمعات الإسلامية لما في كتب الأصول من تعاليم تتعلق بهذا الشأن ، كان له أعظم الأثر في التماسك الفقهي الذي ساد العالم الإسلامي طيلة تاريخ التشريع الإسلامي رغم كل ما يعرفه ذلك التاريخ من اختلاف كبير بين المذاهب الفقهية الأربعة ، واختلاف أيضا بين علماء المذهب الواحد فيما يسمونه الوجوه والروايات والتخريجات ، لكن كل هذا الخلاف بين المذاهب وفي داخل المذهب الواحد لم يؤد إلى ما نحن فيه اليوم من فوضى متبادلة في الإفتاء والاستفتاء ، وما ذاك إلا لأن ما قعده الأصوليون كان في غالبه موضع التنفيذ بين العامة والخاصة .
وسأتحدث هنا عن إحدى القواعد التي كان لها الفضل في عصمة تلك الأجيال المتوالية مما نحن فيه اليوم من بلاء لا يخفى على أحد .
هي قاعدة الخوف من الفتوى واستشعار كونها توقيعا عن الله تعالى كما عبر عن ذلك ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى ، وهذا الاستشعار يجعل المرء على وجل من أن يتقدم بين يدي الله تعالى بالحكم على الأشياء بالإباحة أو التحريم وجلا من أن يخطئ في التبليغ عن الله تعالى ، وهذا الوجل هو في حقيقته ثمرة من ثمار تعظيم الله تعالى إذ إن الإنسان كلما كان أكثر تعظيما لخالقه كان أشد تحريا في التبليغ عنه ، كما أن الطالب أو العامل تزداد شدة تحريه في النقل عن شيخه أو معلمه ، على قدر ازدياد حبه له أو خوفه منه ، ولله المثل الأعلى .
وكذلك يكون الوجل من الفتوى ، خوفا من أن يستأسر المفتي لهوى نفسه وما تشتهيه من أقوال ، فينساق دون شعور منه إلى لي أعناق الأدلة كي توافق ما تميل إليه نفسه طلبا لفسحة في عبادة أو طمعا في عرض من الدنيا ، فيدخل المفتي حينذاك تحت الوعيد المنصوص عليه في قوله تعالى : {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ }النحل116 {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }الأعراف175 -176 ، ومن شدة تعظيمهم لله تعالى وخوفهم من هوى النفس ونزغات الشيطان ، لم تكن أنفسهم العظيمة تسكن إلى ثناء الناس وتقريضهم وتقديمهم ، بل كانوا يخشون من رواج الثناء عليهم كما يخشون من رواج القدح فيهم ،والقدح لم يكن يخيفهم لذاته ، بل يخيفهم لما قد ينبني عليه النذارة بسوء العاقبة عند الله تعالى مستفيدين من الحديث المشهور (أنتم شهداء الله في أرضه ) .
أما الثناء فكانوا يعدونه مفتاحا للكبر ومجالا فسيحا لاستدراج النفوس نحو طواعية الهوى ، ولا يأمنون أن يكون ابتلاء من الله تعالى : {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }الأعراف99.
لقد بلغ الورع بهؤلاء الأسلاف ان استصغروا أنفسهم عن الاجتهاد المطلق فظلوا أتباعا لأئمة المذاهب ، مع أن منهم من ساوى أولئك الأئمة في العلم أو قاربهم ، لكن الخوف من التقدم إلى الاستقلال بالفتوى جعلهم يؤثرون الصفوف التوالي في قيادة الفقه الإسلامي على أن يكونوا مسؤولين أمام الله عن القول في دم أو مال أو عرض بما لا يرضي الله سبحانه وتعالى .
د. محمد السعيدي
*لجينيات