مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
ماذا يحفظ التاريخ :
د محمد بن إبراهيم السعيدي
ذاكرة التاريخ ليست صلبة بالقدر الذي يتصوره الكثيرون ، فكم نسيت من أمم عظيمة وأحداث جسيمة ، وهي أيضا ليست عادلة بالقدر الذي يتمناه آخرون ، فكم وضعت من رفعاء ورفعت من وضعاء ، وربما صح القول إنها كذاكرة أحدنا ، التي تحتفظ بما يؤثر في نفوسنا ، و تحكم على الأشخاص من خلال رؤيتنا لهم لا من خلال حقائقهم التي قد تختلف كليا عما نصورهم عليه .

فإذا أردت من التاريخ حفظ شئء فتمثله أمامك تلميذا خاملا قابعا في إحدى جنبات الفصل ،وتحتاج ليبقى درسك في مخيلته إلى اجتهاد كبير في استخدام مؤثرات الصوت والبدن ووسائل الإيضاح ، وتنميق العرض وغير ذلك من المهارات التي يعرفها المدرسون الأكفاء ، تمثل التاريخ أمامك هذا التلميذ ، وعلى قدر مهارتك في لفت انتباهه والاحتفاظ بتركيزه سيعطيك حتما شيئا من ذاكرته .

واستصحب دائما أنه ليس تلميذا نجيبا يميز بين حقك وباطلك ، بل هو من السذاجة بحيث ينقل كل شيء ، ومن الغفلة بحيث يتحدث عن كل شيء .

وليس هذا الساذج البليد هو من يخدع الناس ويزور الماضي ويخفي الإنجازات ، بل المخادع الظالم حقا هم أصحاب الأقلام ممن نسميهم بالمؤرخين ، والذين يروون كل شيء ، فلا يَعدُون أن يكونوا كتبة لهذا التلميذ المغفل ، أو أصحاب أهواء يأخذون عنه ما يوافق ميلهم ، يعلمون أو يجهلون أنهم الجناة الأوائل على مستقبل الأمم وعلى هذا التلميذ البسيط والذي يسمونه التاريخ .

وفئة ثالثة قليلة في الأولين والآخرين تقف أمام ما حفظه التاريخ ومعها موازين النقد ومكاييل البصيرة ، فينثرون الزَبَد ليذهب جُفاء ، ويقبضون على ما ينفع الناس ليمكث في الأرض .

خلد التاريخ كلاما كثيرا منه الحق ومنه الباطل ، وضيع أيضا الكثير من الحق ومن الباطل ، فليس الحق وليس الباطل معيارا لما يحفظه التاريخ وما ينساه .

ولنتجاوز ضرب الأمثال بالكتب المقدسة وما أضاع منها من حق وما أبقى باسمها من باطل ، ولنُجِل القرآن والسنة عن اتخاذهما مثالاً إذ مِنََة المولى بالتكفل بحفظهما تسموا بهما عمن صنع التاريخ ومن كتب التاريخ ومن قرأ التاريخ .

ولنقتصر بالمثال على أقوال الرجال :

فمما حفظ التاريخ من الحق قولة عمر رضي الله عنه : نحن قوم أعزنا الله بالقرآن ومتى ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله .

وليس مِشهد الحق من هذه العبارة تجليتها لقدر كوني يلازم هذه الأمة خاصة ، بل هي قاعدة من فقه التاريخ صدََقها من جاءوا بعد عمر: إن الأمة حين يرتبط مجدُها بأمرٍ وجودًا ،فإنه يرتبط بذلك الأمر لاشك عدما ، وهو ما عبر عنه ابن خلدون بالعصبية ، وبسطه الدكتور عبد الحليم عويس في كتابه النفيس : دراسة ثلاثين دولة إسلامية .

وحين تقرأ تواريخ أمم الشرق والغرب لا تزداد إلا يقينا أن حفاظ أمة ما على عزها مرهون بقدرتها على الحفاظ على منشئه ، ومن تتبع التاريخ يدرك كم هي مهمة صعبة أن تحافظ الأمة على الفكرة التي نشأت عليها ، ذلك لأن مر العصور يُوَلِد أجيالاً لا تقدر فكرة النشأة حق قدرها ، ولديها من الأنانية الثقافية ما تؤثر معه إظهار أفكارها الجديدة وإن كان في ذلك تهديد أمتها في أسباب عزها وعناصر قوتها .

كانت الدولة الأموية عربية نزارية جهادية سلفية ، وبالرغم من أن منهجها النزاري كان خاطئاً إلا أن محاولة انتقالها عنه إلى التعصب للقحطانية كان أحد عوامل ضعفها منضافا إلى محاولتها التحول عن المنهج السلفي إلى مذهب الجهمية والقدرية .

والدولة العباسية أيضا نشأت شعوبية فارسية سلفية ، والقول في خطئها في سلوك الشعوبية كالقول في خطأ الأمويين في مع التعصب للنزارية ، وكذلك كان الأمر حين حاولوا الانتقال من التعصب للفرس إلى التعصب للترك كان من عوامل تدهورهم ، وقد صاحب هذا العامل بداية زهدهم السلفية كمنطلق فكري لدولتهم .

أما ما حفظه التاريخ من الباطل فلعل أقرب أمثلته إلى ذاكرتي بيت زهير بن أبي سُلمى :

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم

*لجينيات
أضافة تعليق