التراجع عن نهج المدينة وعن الضروريات المدنية
الصورة التي يريد المجددون ليست تسليم الشيخ ولا المتغرّب مقاليد الحكم، ولكن وصول الناس إلى الحق في صياغة حياتهم كما يشاءون عبر نواب عنهم، دون هيمنة الحكومات الغربية ولا سفاراتها ولا غلبة وكلائها على الناس، فهذا الانتخاب يحرج المعارضة التي تدعي عمالة الحكام، ويرفع عن الحكام تهمة الوكالة للمصالح الأجنبية، ويرد على تهمة إدارة السفارات للحكومات والشعوب العربية المغلوبة على أمرها، ويثبت للناس أن القرار إنما اتخذ برغبة من الشعب لا بقسر أجنبي..
هناك مظاهر نكوص عن السعي لتحقيق المكاسب المدنية، تتضمن نكوصا عن النهج الذي تحقق في مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة. فما نشر في الآونة الأخيرة من خطابات عدة تحمل روح نكوص حقيقي عن نهج المدينة المتحقق في بدء الإسلام، وتخليا عن المكاسب المدنية المعاصرة.
بعضها ممن هرب موليا وجهه للغرب ليتشبع بمعايشة المدنية الغربية أو ليهرب من البداوة السياسية، ثم يستغرق في هجاء ما ذهب له، فالتمدن اليوم هم الجميع، على خلاف في نوعه، فحتى الحكومات المتخلفة ترسل المبتعثين راجية أن يرجعوا ببعض التغرب أو التمدين، وما غاية التمدين إن لم تكن حرية وديمقراطية وعلما!
والذين رجعوا بالمقتطفات العلمية دون ثقافتها، بارت بضاعتهم الجزئية حين يصرون على قطع من العلم دون حرية ولا ديمقراطية، وإن استمر نهجهم هذا ما زادوا بلادهم إلا خبالا وتبعية وحاجة، فإذا كان المبتعث ينفق ويسعى للتمدن ثم يأباه، والحكومات ترسل الآلاف للتمدين ثم تكفر به، لأنه يعود بالنقض لما استقر من استبداد لها مفيد، فينتج تنافر الولاء وتضارب الأهداف، وشقاء الروح والعقل، وهذا يذكرني بمواقف لبعض الشباب في أمريكا، فقد ثاروا مرة في أحد المؤتمرات، لأن أحد المحاضرين كان حليقا، فانتحيت بالثائر وصحبه، وبينت لهم أنهم في بلد يطلبون فيه العلم يوميا عند مدرّسة شبه عارية وبين زميلات من كل شكل ولون وبجانب أحدكم ـ أو يدرسكم ـ ملحد وآخر شاذ، ثم تستغربون أن يقدم إليكم مثقف مسلم على أحسن المواصفات الممكنة في هذه البلاد؟ فقال أصفاهم: نريد أن يكون لقاؤنا هنا نقيا أو نظيفا من تلك الحياة، قدرّت صدقهم ووجهة نظرهم وعرفت معاناتهم الروحية والنفسية العميقة، فهو ينشد لحظات صفاء وروحانية صافية بديلة، وهذه أزمة المتدينين جميعا مع هذه المدنية.
* صراع الروح والمدنية:
ليس المسلمون وحدهم من يعانون من صراع الروح والمدنية، ففي ضواحي نيويورك مدارس لليهود المتمسكين يغادرون المراهقة ولم يروا وجه امرأة غريبة، وخاصة في مدارسهم، أما عن المسيحيين، فمذكرات الكاتبة ’’كارين أرمسترونج’’ مثال لهذه المعاناة، وقد مرّت علي أمثلة لا تحصر من حالات الأصفياء المبتعثين والمقيمين المصدومين الذين لا يستطيعون عسف أنفسهم على التغرب وتأبى أرواحهم وعقولهم أن تقبل تلك المجتمعات وما فيها فتجعل من أحوالها الخاصة أفكارا عامة، ورغبة في الاختلاف والتميز، وتبرير الحياة مع التناقض بين القول والعمل، أذكر أن أحد المهاجرين المتدينين بدأ يرسل أوراقا بالأطعمة التي يرى تحريمها، كنا نأخذ بعضها بجد وبعضها بغير ذلك، فلما زاد الطلب على القائمة زاد هوسه بضرورة عمله، وتحولت القائمة إلى كتاب سنوي ملون أصبح يكبر كل عام ويدر أرباحا، ويزيد من قائمة المحرمات حتى كاد يحرم كل شيء ويجعل من حياة المسلمين هناك ضيقة عسيرة، وحتى شككت في تطبيق صاحب القاموس لمحتواه.
عندما يمر كاتب بحالة من الهياج النفسي المرحلي، فالأولى أن يبقيه على شكل مذكرات شخصية أو معاناة فردية، ولا يجعل من الصدمة أو الحال النفسي فكرا وثقافة وسلفية، فضلا عن أن يعتبره بعض الحائرين إستراتيجية!
فما كتب عنه من مآلات مدنية، قرأته وعلقت عليه ولم أنشر ذلك أملا أن يكون مجرد حالة عابرة، ولكن الصواب شيء يختلف عن مسألة الجهد، ولكن تتالت الفكرة نفسها بطرق عديدة، والحقيقة أن الشبكة أوصلُ للقارئ اليوم من الكتاب المطبوع، وخاصة حين لا يتراجع الكاتب عن رأيه إلا التراجع الداخلي الذي يملأ النص، ويتتبع معظم الفقرات، فيلغي الفكرة بكثرة الاحتياطات بسبب عدم الثقة منها، ولكن التهويش الكبير للتحذير من المدنية يكون قد وصل، وما الاحتياطات تلك إلا بقصد قطع الجدل، آمل أن يأتي يوم يقل فيه تنازع الروح مع العقل.
* الإسلام روحاني وسياسي:
جملة ما يكتب في الموضوع مضادة صريحة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم ولفعل أصحابه، بل وإنكار لشمول منهجهم مشينة، وعما ينشده المؤمن السوي من انسجام روحي وعقلي، مدني وديني، وحين قرأت بعض الأوراق التي تنشر هنا وهناك، وكانت الخلاصة مؤسفة فهي هروب من جفاف الروح الذي يعانيه المغترب في مجتمع غير مسلم، وغربة الروح تبعث على التصوف والاقتراب من هجرة ’’التبليغي’’ من حياة سوية إلى تفسير روحاني محض للحظة وللمستقبل، حيث التعلق الروحاني هو كل شيء، ويجيب على أشواق الروح الممزقة، وفي الأمر هدم لكل أسس الجهود المدنية والإصلاحية التي تقدم بها كثير من الإسلاميين في العصور الأخيرة، فضلا عن غيرهم، وابتعاد عن الأمل في اعتماد فكرة صالحة أو مصلحة تتجه إليها المجتمعات المدنية الإسلامية.
فما يُسطَر هو التسلية بالانتصارات العقدية في العقدين الماضيين، وبحث في المستقبل عن أمل تكرارها، وشوق إلى الإغراق في التجربة السياسية للعصور الوسطى الإسلامية ما بعد العهد الراشد، وما يقترح من إتباع المستقبل للماضي المريض، لا لمرحلة الرشد والخير والروح والسياسة الواعية، وما هو الماضي المريض هنا؟ إنه الماضي الذي يجد الكاتب نفسه مسؤولا عن حفظ أفكار الفرق وخصوماتها، وإعادة عرضها منتخبا منها موروثا، محييا لخصومه، مغلقا للعقل عن نقاش جديد، مدبرا عن تأمل روح الرسالة، وحقيقة ما تم في الدعوة والدولة الراشدة.
فالإسلام دين روحاني وسياسي في الآن ذاته، أما مشروع البعض في عصور الانهيار، فمشروع تبرير وإتباع للسلطة، وتقديس للاستبداد والفساد، ومشروع وساطة بين الحاكم وضحاياه ممن اضطهدهم وابتز حقوقهم، فغاية الشيخ قبوله وسيطا، لا مشاركا في بناء وقيادة ومصير مجتمع بل فقط يدخل على الحاكم؛ ’’إذا دخل انتصب له قائما وانفرد به، وقضى حوائجه وقبل شفاعته واعتبر كلامه’’. [العلماء والفرنسيس في تاريخ الجبرتي، ص 75].
و دورهم أيضا وساطة بين المقلدين من المعاصرين وبين السالفين، وقد أحسن وصفهم الإمام شاه ولي الله الدهلوي بقوله: ’’أصبحوا مثل السفيه المحجور عليه بعد ما تفلت زمام الاختيار من أيديهم في الكليات والجزئيات’’ [ص 8 إتحاف النبيه]. أما حركات الإصلاح الإسلامي، فكانت حركات تنادي بحلول سياسية وعقدية، اهتداء بمشروع الدولة الإسلامية في المدينة المنورة التي هيأ لها وأقامها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم واتّبعهم الفقهاء في العصر الأموي، فالمشروعات التي تلت من المرابطين والموحدين، ومشروع الوهابية والسنوسية والمهدية إلى حكومة غزة اليوم، مع اختلاف وجوه الحكم ورجاله ومهاد أصحابه، لا ينفي عنهم جميعا استقرار فكرة دولة الرسالة الشاملة في المدينة، سواء أصابوا أم أخطأوا، فقد كانت السياسة ركنا ركينا في إصلاحهم. وكان أساس الإصلاح إحياء سمات وأخلاق دولة المدينة في العهد النبوي والراشدي، وقد بعدت عنهم سنة الانتخاب حتى نسوا طرقها واستغربوا نصوصها، ومركزية السياسة هو ما يميز مسيرة الإسلام عن مسيرة النصرانية وعن فكرة الحداثة الأوربية المصدرة لمجتمعاتنا المليئة بعقيدة الفصل بين الدنيا والآخرة.
دولة الإسلام متكاملة حرة ديمقراطية، ديمقراطية وأعني منها ’’حرية المجتمع في انتخاب الأكفأ لقيادته’’، وكانت الفتنة هي الخروج على ديمقراطية دولة الرشد، ولم تزل هذه الفتنة قائمة حتى تعود الحكومة في المجتمع الإسلامي حكومة ديمقراطية حرة، أي عادلة. حكومة فيها رقابة الشعب على الحاكم كما على الشيخ، وتترفع عن العنصرية الوثنية، فليس فيها وثنية أوروبا التي أعطت ’’حق الملوك المقدس’’، وليس فيها وثنية الشيخ المنحدرة من البابوية، وتترفع عن التخلف، أي التقليد هنا بشتى أشكاله الذي أوهى روح الحياة الإسلامية.
ولعل مما أوجب التركيز والمبالغة في الحركة الوهابية على العقيدة والقبور ـ حتى بعد أن اختفت أو خفّت تلك المشكلات التي كانت حقيقية في البداية ـ هو تراجع دور المشايخ إلى دور ثانوي و’’ديكوري’’، فلما أبعدهم ذووا الطموحات التنفيذية والمالية، تأخروا عبر الزمن من كونهم قيادات سياسية وحربية وإدارية إلى مدرسين صغار في المساجد، وبالتالي اضطروا إلى تهويل دورهم الرعوي ومكانة ما يحفظون من ثقافة الفرق وعظموا من أهمية محفوظاتهم من المجادلات المدرسية الباردة الموروثة عن العصر العباسي والمملوكي، وتمتعوا بالثقافة الباردة البعيدة عن الدور الرسالي وعن حرارة المطبخ السياسي، فانعزلوا يعيدون اجترار ما حصل للكثير من القدماء، وتمنوا أن يتبرك بهم المعاصرون، وليتقربوا بالعامة والطلاب إلى الحاشية لعلها تعطيهم اعتبارا وتلتمس بهم قوة في مكان أو مكانه وللأسف غاب حتى من يتعلل في صيده بالوساطة للضعفاء.
* السعي للتطور المدني:
وددت لو أن أي كاتب قبل تسطير تلك الاستطرادات خارج العقل والمعقول، يتنبه إلى حرص دولة الرسول صلى الله عليه وسلم على امتلاك كل ما يمكن من سنن المدنية الراقية في عصره، من فكرة الخندق إلى خاتم الرسائل، ومن مراعاة نظم قريش المدنية إلى تقليد الحكام في تحديد لبس خاص لاستقبال لوفود، ونقاش كل ما في المدنيات الأخرى أخذا أو رفضا دون تسليم أعمى ولا تقليد للأجداد، حتى الأنبياء فكّر صلى الله عليه وسلم فيما يتبع من هديهم وما لا يلزم منه، وحتى شرع من قبلنا وما كان من مواقف الأنبياء والصالحين من السابقين، كان يعرضها صلى الله عليه وسلم في موقف الأخذ والرد، مثلا ’’تمنيه على موسى أن صبر على الخضر’’، لاستكمال حكمته، ولما جاء علماء الأصول ألزموا بأن الاقتداء في الهدي هو: ’’التوحيد’’، ولم يلزموا بشرع من قبلنا [انظر ترجيحات الغزالي في المستصفى عند مسألة شرع من قبلنا ج1 ص 391، تحقيق الأشقر ولم يوافقه].
أما إن جئت إلى عهد الراشدين، فإن البحث عن التطور المدني بلغ أعلاه في عهد عمر بن الخطاب، وكان المنتصر الغالب ولكنه اتجه ليتتلمذ على المدنيات ويستنجد بنظمها الإدارية في الدواوين لإدارة الخلافة الواسعة، وفي التخطيط. وانظر ما درسه المحدثون عن خطط البصرة والكوفة، وقد وردت أخبار عديدة عن حرصه على جلب وفهم منجزات العلم في زمنه، بعضها لم يكشف عنه إلا منذ بضع سنين. ثم تجد خلاصة هدي عمر ونجابته في ملاحظة بذور القيصرية في موكب معاوية، ثم عبقرية التطوير الديمقراطي الانتخابي لطريقة اختيار من بعده.
نعم قد يشق على البعض استخدام المصطلح ’’ديمقراطية’’، ولكن ما يسميه بعضهم بـ’’شورى’’ اليوم هو ليس الذي حدث هناك، بل تستخدم الشورى في زماننا لمجرد رفع العتب والتبرك باللفظ، [وقد عدلنا من اللفظ الأصح إلى المعرّب جريا على قاعدة ’’لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا’’، ولأنهم لما شوهوا الشورى بفكرة أنها ’’معلمة’’، وجب اللجوء للفظ أقل لبسا]، والحجة هنا أن ما حدث للصحابة في السقيفة وفي استخلاف عثمان، أشبه بالنظم الديمقراطية المعاصرة من أي أنموذج في تاريخ المسلمين بعد الفتنة المستمرة، والديمقراطية هي: ’’حق الناس في اختيار من يتولى إدارة مصالحهم’’.
فهذا أمر حسمه أغلب علماء الإسلام ـ كما سبقت الكتابة في هذا ـ في العصر الحديث من الذين شغلهم همَ الخروج من الفساد السياسي المحيط بالأمة، ولم يعد يناكف فيه إلا قلة من الغائبين في التاريخ، أو من استولت عليهم أيديولوجية مغلقة، يقول الفقيه الريسوني: ’’فالديمقراطية اليوم، من حيث هي مبادئ وقواعد ونظم، تحظى بقبول وتوافق واسعين في العالم كله، وفي عموم العالم الإسلامي أيضا، وبخاصة لدى عامة العلماء والحركات الإسلامية، فكل الحركات الإسلامية ذات الاهتمام السياسي هي إما مشاركة في النظم والعمليات الديمقراطية، وإما ساعية لذلك في انتظار أن يفتح لها الباب أو النافذة، وكلها على تفاوت تمارس الديمقراطية في نظامها الداخلي. ولم يبق لأحد ما يزيد عليها به في هذا الباب. [الفكر الإسلامي وقضايا السياسة المعاصرة، ص 9].
ومعلوم أن الحركات الإصلاحية السلفية تحتكم للديمقراطية في نظمها أيضا. ثم تناول تشويه المحتلين لمفاهيم وتطبيقات الديمقراطية، كما في العراق وأفغانستان، إلى أن يقول: ’’فحتى لو قيل حكم الديمقراطية فوق حكم الدين، فهذا يمكن أن يتصور إذا تعلق الأمر بدين تدين به الأقلية، أما ما تؤمن به وتتمسك به الأغلبية الساحقة من الشعب، أو الشعب كله، فإن الالتزام به هو عين الديمقراطية.’’ ص 96. والديمقراطية حكم الغالبية من المسلمين بانتخاب مباشر أو عبر نواب، والأخذ بالأغلبية له اعتباره في حياة وفقه المسلمين، أنظر قوله عن العمل بالأغلبية، الريسوني، [المصدر نفسه، ص97]، وإذا لم تكن غالبية المسلمين قادرة على اختيار شريعتها لتحكمها، وتصر بدلا من ذلك أن تبحث لها عن وصي عليها يفرض شريعة الفرد أو شريعة المحتل، فلعل الديمقراطية تسلك بها طريقا تستعيد به كرامتها وذاتها.
* ثقافة عصور الانحطاط:
إن مما ندعو إليه هو قطيعة مع ثقافة عصور الانحطاط، ولا يحجر على نفسه فيها من عرف مقاصد الشرع واستبصر الواقع واتجه إلى عهد الرسالة والتزم بما ألزمه الله به وما هداه إليه رسوله، ويهتم بما يملي عليه زمانه من مصالح، ويحل ما يواجه من مشكلات بقدرته لا بقدرة سلفه الوسيط، وما عدا الرسالة وعهد الرشد، فتراث وتاريخ. أفكار، من أحب أن يستغرق فيها فليفعل، ومن هجرها فهو خير له، وهو أقرب أن يتبع هدي النبوة وسنة الراشدين، ذلك أن الخضوع لتراث المسلمين أصبح عند البعض بديلا لهدي رسول الله وهدي الراشدين وبديلا لما تمليه ضرورات الزمان، واستسلاما لثقافة عصور الفتن، وجلبا لها قسرا إلى زماننا لما تملأه من فراغ وما تبثه من تسلية وأوهام، أي حمق يدور اليوم للمشغولين بمشكلات الصوفية والأشعرية والمعتزلة والشيعة والسلفية، وكأن أهوال العراق وفلسطين وأفغانستان السودان والديكتاتورية في فلك آخر.
إن القطيعة التي حدثت في تركيا مؤلمة، ولكن سيتبين المسلمون أنه كان فيها خير للاحقين، فلم يعد على الأتراك حمل أوزار السلف والسلطان، ولا طريقة ’’المولوية’’ ولا غيرها، بل بحث جديد ومغامرة جديدة، بروح جديدة وعقل يتفتق عن حل بلا وصاية واستفادة من مكاسب العصر لا تحد.
ذكر الدكتور جاسم سلطان، أنه دعاه الأتراك ليقدم لهم محاضرات هناك، فقال اذهبوا لما تبنونه من خير في بلادكم ولا تستقدموا محاضرين منا فسيصدرون لكم ما لا يفيدكم. ترى لو كانت عينه على عقيدة أو لحية أردوغان، لشعر بمهمة عظمى ناقصة يحتاجونها هناك!
بعض ثقافة المتسلفة تصنع بوعي ومن دونه إهمالا لمصالح المسلمين ولمستقبلهم، وتهرب لعصور بعيدة، إن عليهم أن يعلموا أن ظروف انتصار السلفية التقليدية السابق لا يعني أنه سيصنع لها مستقبلا، فللمستقبل شروط نجاح أخرى، ويقف على رأسها الدعوة المخلصة الجادة للديمقراطية وللحرية التي من أهم معانيها العدل. ولنتجه إلى حياة مدنية هي قلب النجاح العقدي، والخلاص من الوثنيات السياسية التي تجعلنا نغض الطرف، لأننا جئنا من مجتمعات متوحشة سياسيا وهي دون مستويات المجتمعات المتمدنة في السياسة.
إنها مجرد أوهام أن تملك عقيدة لامعة صافية وسياسة خانعة للخارج ومتنمرة في الداخل، إن المجددين يسألون الإصلاح والتكامل، ويقولون لصاحب العباءة المذهبة لتكن هذه على ثوب نظيف وجسد نظيف وروح عادلة راقية متحضرة لا على نفسية الأمي المتخلف النهاب الوهاب، الذي اضطره الغزاة أن ينهب بلاده ويهبها لهم ويذل عشيرته لهم.
ألا تعلم أنك وأنت الطالب الغريب أن بإمكانك أن تنادي الشعب البريطاني، وأن تقول غيروا جوردون الخائن الذي تآمر مع بلير لغزو العرب وضعوا مكانه فلان، ثم ترجع وتعيش حياتك إنسانا سويا بلا مطاردة، بل سيصفق لك الحاضرون، وقد تجد من يشكرونك أن شاركت في صلاح مجتمعهم أو نضوج ديمقراطيتهم، تشك في هذا؟ خذ القطار إلى براد فورد (حيث الأغلبية مسلمة)، تجد المسلمين في صخب، وتجد السياسيين منهم ومن كل لون ينشدون أصواتهم، ويتسابقون على خدمتهم، تلك حرية ومدنية وديمقراطية، ثم اذهب لاسطنبول لتسمع خطب تجريم الحزب الحاكم، ثم لترى الرجال والنساء يفرضون أرشدهم حاكما عليهم، تلك هي عاقبة الخطاب المدني، وذلك بعض التجديد الذي نريد.
إن برامج المجددين المسلمين في المنطقة في الأيام القادمة تنطلق من تقدير نجاح المصلحين السابقين في نشر التدين وفي إعادة الثقة بالإسلام وفي النجاح في صفاء عقدي في بعض الجوانب إلى السعي إلى بعث الحرية والمدنية في الإسلام، وتجديد هذه الدعامة المدنية المهجورة في حياتنا، ، يقول المجددون لا نهرب إلى المدنية بل نحييها هنا ونعيشها هنا ونستكمل بها النقص الفاضح في استكمال إنسانية المجتمع مسلم الذي يعاني مشكلة غياب المدنية والحضارة، بدلا من الهروب إلى المدنية بلا دين أو البقاء في العبودية الموحشة لأهل المدنية البعداء.
* فصل المقال:
الصورة التي يريد المجددون ليست تسليم الشيخ ولا المتغرّب مقاليد الحكم، ولكن وصول الناس إلى الحق في صياغة حياتهم كما يشاءون عبر نواب عنهم، دون هيمنة الحكومات الغربية ولا سفاراتها ولا غلبة وكلائها على الناس، فهذا الانتخاب يحرج المعارضة التي تدعي عمالة الحكام، ويرفع عن الحكام تهمة الوكالة للمصالح الأجنبية، ويرد على تهمة إدارة السفارات للحكومات والشعوب العربية المغلوبة على أمرها، ويثبت للناس أن القرار إنما اتخذ برغبة من الشعب لا بقسر أجنبي.
وغياب الخطاب السياسي الرشيد امتهان للدين وتبعيض له ومخالفة لهدي رب العالمين وعناد لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الراشدين، في إقامة المجتمع الحر الأمين، وتفريط في مصالح الناس وحقوقهم الدنيوية والأخروية، التي لا يرد على عقل المسلم الواعي تفريق بينهما إلا من أصابته لوثة عصور الانحطاط الإسلامية أو خرافات الكنيسة.
الخطاب السياسي التجديدي رعاية لحقوق الناس كل الناس، حاكما ومحكوما، من التشهير والتكفير والتفجير، ومن تهم الخيانة والخداع، نريد صيانة جناب الحكام والمحكومين من إهانة المتمدنين الغربيين ومن نهبهم، ومن احتقار القريبين، ومن بقاء الحكومات العربية خائفة من الداخل ومستعبدة للخارج، حتى لم يبق لبعض حكامها إلا دور السجان للسكان والتقرب بهم للأمريكان.
ألا ترى كيف تصنع حكومة مبارك كلما خافت على نفسها سخط اليهود أو الأمريكان أو لتثبت عبوديتها، فتتقرب لهم بسجن دفعة من الإخوان المسلمين فترد عليها الحكومات الغربية بأن تمدحها بتحسن حقوق لإنسان! وقد تستخدم السبب نفسه لزيادة استعباد الحاكم وحاشيته، فتخرج بلاد عظيمة من التاريخ ومن الجغرافيا؛ فمصر العظيمة أصبحت اليوم مجرد شرطي لحراسة الإرهاب الصهيوني من الخارجين على طاعته. ألا يكفي أن يجمع مثقفو مصر أمثال: هيكل والفقي وهويدي عن أن من سيحكم مصر لا بد له من رضى أمريكا وألا يكون عليه فيتو [رفض] إسرائيلي! تلك غاية المهانة والذل، ويبقى أشراف مصر في السجون!
إن ما يراه المسلم من صرف وجوه العبادة للمحتل القاهر، و(العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) أصبحت عبادة صريحة للمحتلين، أو على الأقل إشراك لهم، فالحب والنفقة والطاعة تصرف كاملة تقريبا للإله المحتل، من بيده إعطاء المنصب وسحبه، وإذلال الحاكم وإعزازه، وتنصيبه وطرده، والتهييج عليه أو جمع الناس له وتفريقهم. فأي توحيد يتحدث عنه ويفخر به المفتخرون لمن هذا حاله! إنه حال وثني خالص، واستعادة المسلمين لأمرهم وصرف توحيد الألوهية له هو ما يجب أن ينادي به.
إن تحرير الإنسان من العبودية للأوثان ركن الدين الأول، وهذه المهانة والعبودية لليهود وأنصارهم، أساسها غياب عقيدة الحرية والديمقراطية ـ إذ لا تتم الحرية بلا ديمقراطية ـ وغياب الشجاعة في الإلزام بها، وتحقيقها للناس. فلا بد من نشر عقيدة سياسية تنقذ من ظلمات الاستبداد والفساد وتساهم في حل هذه الأزمات التي مبعثها هذه الوثنية السياسية. وأسمو بالقارئ أن يخلط ما بين حيلة تسمية الاحتلال بالديمقراطية وبين ما نقصده هنا.
*العصر
الصورة التي يريد المجددون ليست تسليم الشيخ ولا المتغرّب مقاليد الحكم، ولكن وصول الناس إلى الحق في صياغة حياتهم كما يشاءون عبر نواب عنهم، دون هيمنة الحكومات الغربية ولا سفاراتها ولا غلبة وكلائها على الناس، فهذا الانتخاب يحرج المعارضة التي تدعي عمالة الحكام، ويرفع عن الحكام تهمة الوكالة للمصالح الأجنبية، ويرد على تهمة إدارة السفارات للحكومات والشعوب العربية المغلوبة على أمرها، ويثبت للناس أن القرار إنما اتخذ برغبة من الشعب لا بقسر أجنبي..
هناك مظاهر نكوص عن السعي لتحقيق المكاسب المدنية، تتضمن نكوصا عن النهج الذي تحقق في مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة. فما نشر في الآونة الأخيرة من خطابات عدة تحمل روح نكوص حقيقي عن نهج المدينة المتحقق في بدء الإسلام، وتخليا عن المكاسب المدنية المعاصرة.
بعضها ممن هرب موليا وجهه للغرب ليتشبع بمعايشة المدنية الغربية أو ليهرب من البداوة السياسية، ثم يستغرق في هجاء ما ذهب له، فالتمدن اليوم هم الجميع، على خلاف في نوعه، فحتى الحكومات المتخلفة ترسل المبتعثين راجية أن يرجعوا ببعض التغرب أو التمدين، وما غاية التمدين إن لم تكن حرية وديمقراطية وعلما!
والذين رجعوا بالمقتطفات العلمية دون ثقافتها، بارت بضاعتهم الجزئية حين يصرون على قطع من العلم دون حرية ولا ديمقراطية، وإن استمر نهجهم هذا ما زادوا بلادهم إلا خبالا وتبعية وحاجة، فإذا كان المبتعث ينفق ويسعى للتمدن ثم يأباه، والحكومات ترسل الآلاف للتمدين ثم تكفر به، لأنه يعود بالنقض لما استقر من استبداد لها مفيد، فينتج تنافر الولاء وتضارب الأهداف، وشقاء الروح والعقل، وهذا يذكرني بمواقف لبعض الشباب في أمريكا، فقد ثاروا مرة في أحد المؤتمرات، لأن أحد المحاضرين كان حليقا، فانتحيت بالثائر وصحبه، وبينت لهم أنهم في بلد يطلبون فيه العلم يوميا عند مدرّسة شبه عارية وبين زميلات من كل شكل ولون وبجانب أحدكم ـ أو يدرسكم ـ ملحد وآخر شاذ، ثم تستغربون أن يقدم إليكم مثقف مسلم على أحسن المواصفات الممكنة في هذه البلاد؟ فقال أصفاهم: نريد أن يكون لقاؤنا هنا نقيا أو نظيفا من تلك الحياة، قدرّت صدقهم ووجهة نظرهم وعرفت معاناتهم الروحية والنفسية العميقة، فهو ينشد لحظات صفاء وروحانية صافية بديلة، وهذه أزمة المتدينين جميعا مع هذه المدنية.
* صراع الروح والمدنية:
ليس المسلمون وحدهم من يعانون من صراع الروح والمدنية، ففي ضواحي نيويورك مدارس لليهود المتمسكين يغادرون المراهقة ولم يروا وجه امرأة غريبة، وخاصة في مدارسهم، أما عن المسيحيين، فمذكرات الكاتبة ’’كارين أرمسترونج’’ مثال لهذه المعاناة، وقد مرّت علي أمثلة لا تحصر من حالات الأصفياء المبتعثين والمقيمين المصدومين الذين لا يستطيعون عسف أنفسهم على التغرب وتأبى أرواحهم وعقولهم أن تقبل تلك المجتمعات وما فيها فتجعل من أحوالها الخاصة أفكارا عامة، ورغبة في الاختلاف والتميز، وتبرير الحياة مع التناقض بين القول والعمل، أذكر أن أحد المهاجرين المتدينين بدأ يرسل أوراقا بالأطعمة التي يرى تحريمها، كنا نأخذ بعضها بجد وبعضها بغير ذلك، فلما زاد الطلب على القائمة زاد هوسه بضرورة عمله، وتحولت القائمة إلى كتاب سنوي ملون أصبح يكبر كل عام ويدر أرباحا، ويزيد من قائمة المحرمات حتى كاد يحرم كل شيء ويجعل من حياة المسلمين هناك ضيقة عسيرة، وحتى شككت في تطبيق صاحب القاموس لمحتواه.
عندما يمر كاتب بحالة من الهياج النفسي المرحلي، فالأولى أن يبقيه على شكل مذكرات شخصية أو معاناة فردية، ولا يجعل من الصدمة أو الحال النفسي فكرا وثقافة وسلفية، فضلا عن أن يعتبره بعض الحائرين إستراتيجية!
فما كتب عنه من مآلات مدنية، قرأته وعلقت عليه ولم أنشر ذلك أملا أن يكون مجرد حالة عابرة، ولكن الصواب شيء يختلف عن مسألة الجهد، ولكن تتالت الفكرة نفسها بطرق عديدة، والحقيقة أن الشبكة أوصلُ للقارئ اليوم من الكتاب المطبوع، وخاصة حين لا يتراجع الكاتب عن رأيه إلا التراجع الداخلي الذي يملأ النص، ويتتبع معظم الفقرات، فيلغي الفكرة بكثرة الاحتياطات بسبب عدم الثقة منها، ولكن التهويش الكبير للتحذير من المدنية يكون قد وصل، وما الاحتياطات تلك إلا بقصد قطع الجدل، آمل أن يأتي يوم يقل فيه تنازع الروح مع العقل.
* الإسلام روحاني وسياسي:
جملة ما يكتب في الموضوع مضادة صريحة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم ولفعل أصحابه، بل وإنكار لشمول منهجهم مشينة، وعما ينشده المؤمن السوي من انسجام روحي وعقلي، مدني وديني، وحين قرأت بعض الأوراق التي تنشر هنا وهناك، وكانت الخلاصة مؤسفة فهي هروب من جفاف الروح الذي يعانيه المغترب في مجتمع غير مسلم، وغربة الروح تبعث على التصوف والاقتراب من هجرة ’’التبليغي’’ من حياة سوية إلى تفسير روحاني محض للحظة وللمستقبل، حيث التعلق الروحاني هو كل شيء، ويجيب على أشواق الروح الممزقة، وفي الأمر هدم لكل أسس الجهود المدنية والإصلاحية التي تقدم بها كثير من الإسلاميين في العصور الأخيرة، فضلا عن غيرهم، وابتعاد عن الأمل في اعتماد فكرة صالحة أو مصلحة تتجه إليها المجتمعات المدنية الإسلامية.
فما يُسطَر هو التسلية بالانتصارات العقدية في العقدين الماضيين، وبحث في المستقبل عن أمل تكرارها، وشوق إلى الإغراق في التجربة السياسية للعصور الوسطى الإسلامية ما بعد العهد الراشد، وما يقترح من إتباع المستقبل للماضي المريض، لا لمرحلة الرشد والخير والروح والسياسة الواعية، وما هو الماضي المريض هنا؟ إنه الماضي الذي يجد الكاتب نفسه مسؤولا عن حفظ أفكار الفرق وخصوماتها، وإعادة عرضها منتخبا منها موروثا، محييا لخصومه، مغلقا للعقل عن نقاش جديد، مدبرا عن تأمل روح الرسالة، وحقيقة ما تم في الدعوة والدولة الراشدة.
فالإسلام دين روحاني وسياسي في الآن ذاته، أما مشروع البعض في عصور الانهيار، فمشروع تبرير وإتباع للسلطة، وتقديس للاستبداد والفساد، ومشروع وساطة بين الحاكم وضحاياه ممن اضطهدهم وابتز حقوقهم، فغاية الشيخ قبوله وسيطا، لا مشاركا في بناء وقيادة ومصير مجتمع بل فقط يدخل على الحاكم؛ ’’إذا دخل انتصب له قائما وانفرد به، وقضى حوائجه وقبل شفاعته واعتبر كلامه’’. [العلماء والفرنسيس في تاريخ الجبرتي، ص 75].
و دورهم أيضا وساطة بين المقلدين من المعاصرين وبين السالفين، وقد أحسن وصفهم الإمام شاه ولي الله الدهلوي بقوله: ’’أصبحوا مثل السفيه المحجور عليه بعد ما تفلت زمام الاختيار من أيديهم في الكليات والجزئيات’’ [ص 8 إتحاف النبيه]. أما حركات الإصلاح الإسلامي، فكانت حركات تنادي بحلول سياسية وعقدية، اهتداء بمشروع الدولة الإسلامية في المدينة المنورة التي هيأ لها وأقامها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم واتّبعهم الفقهاء في العصر الأموي، فالمشروعات التي تلت من المرابطين والموحدين، ومشروع الوهابية والسنوسية والمهدية إلى حكومة غزة اليوم، مع اختلاف وجوه الحكم ورجاله ومهاد أصحابه، لا ينفي عنهم جميعا استقرار فكرة دولة الرسالة الشاملة في المدينة، سواء أصابوا أم أخطأوا، فقد كانت السياسة ركنا ركينا في إصلاحهم. وكان أساس الإصلاح إحياء سمات وأخلاق دولة المدينة في العهد النبوي والراشدي، وقد بعدت عنهم سنة الانتخاب حتى نسوا طرقها واستغربوا نصوصها، ومركزية السياسة هو ما يميز مسيرة الإسلام عن مسيرة النصرانية وعن فكرة الحداثة الأوربية المصدرة لمجتمعاتنا المليئة بعقيدة الفصل بين الدنيا والآخرة.
دولة الإسلام متكاملة حرة ديمقراطية، ديمقراطية وأعني منها ’’حرية المجتمع في انتخاب الأكفأ لقيادته’’، وكانت الفتنة هي الخروج على ديمقراطية دولة الرشد، ولم تزل هذه الفتنة قائمة حتى تعود الحكومة في المجتمع الإسلامي حكومة ديمقراطية حرة، أي عادلة. حكومة فيها رقابة الشعب على الحاكم كما على الشيخ، وتترفع عن العنصرية الوثنية، فليس فيها وثنية أوروبا التي أعطت ’’حق الملوك المقدس’’، وليس فيها وثنية الشيخ المنحدرة من البابوية، وتترفع عن التخلف، أي التقليد هنا بشتى أشكاله الذي أوهى روح الحياة الإسلامية.
ولعل مما أوجب التركيز والمبالغة في الحركة الوهابية على العقيدة والقبور ـ حتى بعد أن اختفت أو خفّت تلك المشكلات التي كانت حقيقية في البداية ـ هو تراجع دور المشايخ إلى دور ثانوي و’’ديكوري’’، فلما أبعدهم ذووا الطموحات التنفيذية والمالية، تأخروا عبر الزمن من كونهم قيادات سياسية وحربية وإدارية إلى مدرسين صغار في المساجد، وبالتالي اضطروا إلى تهويل دورهم الرعوي ومكانة ما يحفظون من ثقافة الفرق وعظموا من أهمية محفوظاتهم من المجادلات المدرسية الباردة الموروثة عن العصر العباسي والمملوكي، وتمتعوا بالثقافة الباردة البعيدة عن الدور الرسالي وعن حرارة المطبخ السياسي، فانعزلوا يعيدون اجترار ما حصل للكثير من القدماء، وتمنوا أن يتبرك بهم المعاصرون، وليتقربوا بالعامة والطلاب إلى الحاشية لعلها تعطيهم اعتبارا وتلتمس بهم قوة في مكان أو مكانه وللأسف غاب حتى من يتعلل في صيده بالوساطة للضعفاء.
* السعي للتطور المدني:
وددت لو أن أي كاتب قبل تسطير تلك الاستطرادات خارج العقل والمعقول، يتنبه إلى حرص دولة الرسول صلى الله عليه وسلم على امتلاك كل ما يمكن من سنن المدنية الراقية في عصره، من فكرة الخندق إلى خاتم الرسائل، ومن مراعاة نظم قريش المدنية إلى تقليد الحكام في تحديد لبس خاص لاستقبال لوفود، ونقاش كل ما في المدنيات الأخرى أخذا أو رفضا دون تسليم أعمى ولا تقليد للأجداد، حتى الأنبياء فكّر صلى الله عليه وسلم فيما يتبع من هديهم وما لا يلزم منه، وحتى شرع من قبلنا وما كان من مواقف الأنبياء والصالحين من السابقين، كان يعرضها صلى الله عليه وسلم في موقف الأخذ والرد، مثلا ’’تمنيه على موسى أن صبر على الخضر’’، لاستكمال حكمته، ولما جاء علماء الأصول ألزموا بأن الاقتداء في الهدي هو: ’’التوحيد’’، ولم يلزموا بشرع من قبلنا [انظر ترجيحات الغزالي في المستصفى عند مسألة شرع من قبلنا ج1 ص 391، تحقيق الأشقر ولم يوافقه].
أما إن جئت إلى عهد الراشدين، فإن البحث عن التطور المدني بلغ أعلاه في عهد عمر بن الخطاب، وكان المنتصر الغالب ولكنه اتجه ليتتلمذ على المدنيات ويستنجد بنظمها الإدارية في الدواوين لإدارة الخلافة الواسعة، وفي التخطيط. وانظر ما درسه المحدثون عن خطط البصرة والكوفة، وقد وردت أخبار عديدة عن حرصه على جلب وفهم منجزات العلم في زمنه، بعضها لم يكشف عنه إلا منذ بضع سنين. ثم تجد خلاصة هدي عمر ونجابته في ملاحظة بذور القيصرية في موكب معاوية، ثم عبقرية التطوير الديمقراطي الانتخابي لطريقة اختيار من بعده.
نعم قد يشق على البعض استخدام المصطلح ’’ديمقراطية’’، ولكن ما يسميه بعضهم بـ’’شورى’’ اليوم هو ليس الذي حدث هناك، بل تستخدم الشورى في زماننا لمجرد رفع العتب والتبرك باللفظ، [وقد عدلنا من اللفظ الأصح إلى المعرّب جريا على قاعدة ’’لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا’’، ولأنهم لما شوهوا الشورى بفكرة أنها ’’معلمة’’، وجب اللجوء للفظ أقل لبسا]، والحجة هنا أن ما حدث للصحابة في السقيفة وفي استخلاف عثمان، أشبه بالنظم الديمقراطية المعاصرة من أي أنموذج في تاريخ المسلمين بعد الفتنة المستمرة، والديمقراطية هي: ’’حق الناس في اختيار من يتولى إدارة مصالحهم’’.
فهذا أمر حسمه أغلب علماء الإسلام ـ كما سبقت الكتابة في هذا ـ في العصر الحديث من الذين شغلهم همَ الخروج من الفساد السياسي المحيط بالأمة، ولم يعد يناكف فيه إلا قلة من الغائبين في التاريخ، أو من استولت عليهم أيديولوجية مغلقة، يقول الفقيه الريسوني: ’’فالديمقراطية اليوم، من حيث هي مبادئ وقواعد ونظم، تحظى بقبول وتوافق واسعين في العالم كله، وفي عموم العالم الإسلامي أيضا، وبخاصة لدى عامة العلماء والحركات الإسلامية، فكل الحركات الإسلامية ذات الاهتمام السياسي هي إما مشاركة في النظم والعمليات الديمقراطية، وإما ساعية لذلك في انتظار أن يفتح لها الباب أو النافذة، وكلها على تفاوت تمارس الديمقراطية في نظامها الداخلي. ولم يبق لأحد ما يزيد عليها به في هذا الباب. [الفكر الإسلامي وقضايا السياسة المعاصرة، ص 9].
ومعلوم أن الحركات الإصلاحية السلفية تحتكم للديمقراطية في نظمها أيضا. ثم تناول تشويه المحتلين لمفاهيم وتطبيقات الديمقراطية، كما في العراق وأفغانستان، إلى أن يقول: ’’فحتى لو قيل حكم الديمقراطية فوق حكم الدين، فهذا يمكن أن يتصور إذا تعلق الأمر بدين تدين به الأقلية، أما ما تؤمن به وتتمسك به الأغلبية الساحقة من الشعب، أو الشعب كله، فإن الالتزام به هو عين الديمقراطية.’’ ص 96. والديمقراطية حكم الغالبية من المسلمين بانتخاب مباشر أو عبر نواب، والأخذ بالأغلبية له اعتباره في حياة وفقه المسلمين، أنظر قوله عن العمل بالأغلبية، الريسوني، [المصدر نفسه، ص97]، وإذا لم تكن غالبية المسلمين قادرة على اختيار شريعتها لتحكمها، وتصر بدلا من ذلك أن تبحث لها عن وصي عليها يفرض شريعة الفرد أو شريعة المحتل، فلعل الديمقراطية تسلك بها طريقا تستعيد به كرامتها وذاتها.
* ثقافة عصور الانحطاط:
إن مما ندعو إليه هو قطيعة مع ثقافة عصور الانحطاط، ولا يحجر على نفسه فيها من عرف مقاصد الشرع واستبصر الواقع واتجه إلى عهد الرسالة والتزم بما ألزمه الله به وما هداه إليه رسوله، ويهتم بما يملي عليه زمانه من مصالح، ويحل ما يواجه من مشكلات بقدرته لا بقدرة سلفه الوسيط، وما عدا الرسالة وعهد الرشد، فتراث وتاريخ. أفكار، من أحب أن يستغرق فيها فليفعل، ومن هجرها فهو خير له، وهو أقرب أن يتبع هدي النبوة وسنة الراشدين، ذلك أن الخضوع لتراث المسلمين أصبح عند البعض بديلا لهدي رسول الله وهدي الراشدين وبديلا لما تمليه ضرورات الزمان، واستسلاما لثقافة عصور الفتن، وجلبا لها قسرا إلى زماننا لما تملأه من فراغ وما تبثه من تسلية وأوهام، أي حمق يدور اليوم للمشغولين بمشكلات الصوفية والأشعرية والمعتزلة والشيعة والسلفية، وكأن أهوال العراق وفلسطين وأفغانستان السودان والديكتاتورية في فلك آخر.
إن القطيعة التي حدثت في تركيا مؤلمة، ولكن سيتبين المسلمون أنه كان فيها خير للاحقين، فلم يعد على الأتراك حمل أوزار السلف والسلطان، ولا طريقة ’’المولوية’’ ولا غيرها، بل بحث جديد ومغامرة جديدة، بروح جديدة وعقل يتفتق عن حل بلا وصاية واستفادة من مكاسب العصر لا تحد.
ذكر الدكتور جاسم سلطان، أنه دعاه الأتراك ليقدم لهم محاضرات هناك، فقال اذهبوا لما تبنونه من خير في بلادكم ولا تستقدموا محاضرين منا فسيصدرون لكم ما لا يفيدكم. ترى لو كانت عينه على عقيدة أو لحية أردوغان، لشعر بمهمة عظمى ناقصة يحتاجونها هناك!
بعض ثقافة المتسلفة تصنع بوعي ومن دونه إهمالا لمصالح المسلمين ولمستقبلهم، وتهرب لعصور بعيدة، إن عليهم أن يعلموا أن ظروف انتصار السلفية التقليدية السابق لا يعني أنه سيصنع لها مستقبلا، فللمستقبل شروط نجاح أخرى، ويقف على رأسها الدعوة المخلصة الجادة للديمقراطية وللحرية التي من أهم معانيها العدل. ولنتجه إلى حياة مدنية هي قلب النجاح العقدي، والخلاص من الوثنيات السياسية التي تجعلنا نغض الطرف، لأننا جئنا من مجتمعات متوحشة سياسيا وهي دون مستويات المجتمعات المتمدنة في السياسة.
إنها مجرد أوهام أن تملك عقيدة لامعة صافية وسياسة خانعة للخارج ومتنمرة في الداخل، إن المجددين يسألون الإصلاح والتكامل، ويقولون لصاحب العباءة المذهبة لتكن هذه على ثوب نظيف وجسد نظيف وروح عادلة راقية متحضرة لا على نفسية الأمي المتخلف النهاب الوهاب، الذي اضطره الغزاة أن ينهب بلاده ويهبها لهم ويذل عشيرته لهم.
ألا تعلم أنك وأنت الطالب الغريب أن بإمكانك أن تنادي الشعب البريطاني، وأن تقول غيروا جوردون الخائن الذي تآمر مع بلير لغزو العرب وضعوا مكانه فلان، ثم ترجع وتعيش حياتك إنسانا سويا بلا مطاردة، بل سيصفق لك الحاضرون، وقد تجد من يشكرونك أن شاركت في صلاح مجتمعهم أو نضوج ديمقراطيتهم، تشك في هذا؟ خذ القطار إلى براد فورد (حيث الأغلبية مسلمة)، تجد المسلمين في صخب، وتجد السياسيين منهم ومن كل لون ينشدون أصواتهم، ويتسابقون على خدمتهم، تلك حرية ومدنية وديمقراطية، ثم اذهب لاسطنبول لتسمع خطب تجريم الحزب الحاكم، ثم لترى الرجال والنساء يفرضون أرشدهم حاكما عليهم، تلك هي عاقبة الخطاب المدني، وذلك بعض التجديد الذي نريد.
إن برامج المجددين المسلمين في المنطقة في الأيام القادمة تنطلق من تقدير نجاح المصلحين السابقين في نشر التدين وفي إعادة الثقة بالإسلام وفي النجاح في صفاء عقدي في بعض الجوانب إلى السعي إلى بعث الحرية والمدنية في الإسلام، وتجديد هذه الدعامة المدنية المهجورة في حياتنا، ، يقول المجددون لا نهرب إلى المدنية بل نحييها هنا ونعيشها هنا ونستكمل بها النقص الفاضح في استكمال إنسانية المجتمع مسلم الذي يعاني مشكلة غياب المدنية والحضارة، بدلا من الهروب إلى المدنية بلا دين أو البقاء في العبودية الموحشة لأهل المدنية البعداء.
* فصل المقال:
الصورة التي يريد المجددون ليست تسليم الشيخ ولا المتغرّب مقاليد الحكم، ولكن وصول الناس إلى الحق في صياغة حياتهم كما يشاءون عبر نواب عنهم، دون هيمنة الحكومات الغربية ولا سفاراتها ولا غلبة وكلائها على الناس، فهذا الانتخاب يحرج المعارضة التي تدعي عمالة الحكام، ويرفع عن الحكام تهمة الوكالة للمصالح الأجنبية، ويرد على تهمة إدارة السفارات للحكومات والشعوب العربية المغلوبة على أمرها، ويثبت للناس أن القرار إنما اتخذ برغبة من الشعب لا بقسر أجنبي.
وغياب الخطاب السياسي الرشيد امتهان للدين وتبعيض له ومخالفة لهدي رب العالمين وعناد لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الراشدين، في إقامة المجتمع الحر الأمين، وتفريط في مصالح الناس وحقوقهم الدنيوية والأخروية، التي لا يرد على عقل المسلم الواعي تفريق بينهما إلا من أصابته لوثة عصور الانحطاط الإسلامية أو خرافات الكنيسة.
الخطاب السياسي التجديدي رعاية لحقوق الناس كل الناس، حاكما ومحكوما، من التشهير والتكفير والتفجير، ومن تهم الخيانة والخداع، نريد صيانة جناب الحكام والمحكومين من إهانة المتمدنين الغربيين ومن نهبهم، ومن احتقار القريبين، ومن بقاء الحكومات العربية خائفة من الداخل ومستعبدة للخارج، حتى لم يبق لبعض حكامها إلا دور السجان للسكان والتقرب بهم للأمريكان.
ألا ترى كيف تصنع حكومة مبارك كلما خافت على نفسها سخط اليهود أو الأمريكان أو لتثبت عبوديتها، فتتقرب لهم بسجن دفعة من الإخوان المسلمين فترد عليها الحكومات الغربية بأن تمدحها بتحسن حقوق لإنسان! وقد تستخدم السبب نفسه لزيادة استعباد الحاكم وحاشيته، فتخرج بلاد عظيمة من التاريخ ومن الجغرافيا؛ فمصر العظيمة أصبحت اليوم مجرد شرطي لحراسة الإرهاب الصهيوني من الخارجين على طاعته. ألا يكفي أن يجمع مثقفو مصر أمثال: هيكل والفقي وهويدي عن أن من سيحكم مصر لا بد له من رضى أمريكا وألا يكون عليه فيتو [رفض] إسرائيلي! تلك غاية المهانة والذل، ويبقى أشراف مصر في السجون!
إن ما يراه المسلم من صرف وجوه العبادة للمحتل القاهر، و(العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) أصبحت عبادة صريحة للمحتلين، أو على الأقل إشراك لهم، فالحب والنفقة والطاعة تصرف كاملة تقريبا للإله المحتل، من بيده إعطاء المنصب وسحبه، وإذلال الحاكم وإعزازه، وتنصيبه وطرده، والتهييج عليه أو جمع الناس له وتفريقهم. فأي توحيد يتحدث عنه ويفخر به المفتخرون لمن هذا حاله! إنه حال وثني خالص، واستعادة المسلمين لأمرهم وصرف توحيد الألوهية له هو ما يجب أن ينادي به.
إن تحرير الإنسان من العبودية للأوثان ركن الدين الأول، وهذه المهانة والعبودية لليهود وأنصارهم، أساسها غياب عقيدة الحرية والديمقراطية ـ إذ لا تتم الحرية بلا ديمقراطية ـ وغياب الشجاعة في الإلزام بها، وتحقيقها للناس. فلا بد من نشر عقيدة سياسية تنقذ من ظلمات الاستبداد والفساد وتساهم في حل هذه الأزمات التي مبعثها هذه الوثنية السياسية. وأسمو بالقارئ أن يخلط ما بين حيلة تسمية الاحتلال بالديمقراطية وبين ما نقصده هنا.
*العصر