بين مكابرات الوجد الصوفي وتناقضات اللدد السلفي..الاحتفاء بالمولد النبوي
مجيب الحميدي
في مواجهة التحريض السلفي ضد الفعاليات الاحتفائية بمولد النبي صلى الله عليه وسلم والتأكيد على أن هذه الاحتفائيات من البدع المنكرة، والرفض القاطع لتقسيم البدع إلى بدع حسنة وبدع سيئة؛ يضطر الصوفيون للرد على هذه الادعاءات السلفية التي تنطلق من قاعدة الحزبية المذهبية المذمومة،إلى الوقوع في نفس خطأ السلفيين في تضليل خصومهم،والذهاب إلى أبعد من ذلك حين يفسر مشايخ الصوفية محاربة الموالد تفسيراً حزبياً تعصبياً فيؤكدون أن محاربة الموالد خصومة بين أحباب الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أعدائه وخلاف بين من يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم ويقدرونه وينتصرون له، وبين من لا يحبونه، وتصل بهم المكابرة الحزبية إلى حد الادعاء أن السلفيين يكنون الكراهية لصاحب الذكرى صلى الله عليه وسلم،و هكذا نجد أن مكابرة الردود المتشنجة لبعض مشايخ الصوفية لا تختلف عن لدد بعض مشايخ السلفية.
يعتمد السلفيون في رفض بدعة المولد ورفض تقسيم البدع إلى بدع حسنة وبدع مذمومة على حديث’’كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار’’، ومن الواجب احترام أصحاب هذا الرأي، طالما أقروا بحق غيرهم من علماء الصوفية وعلماء المذاهب الأخرى،بمخالفة ما ذهبوا إليه والقول بشرعية هذا الاحتفال.
والمحذور الذي يجب أن يتنبه له الجميع، ادعاء البعض عصمة اجتهاده،وتسفيه اجتهادات الآخرين المتأولين،وعدم الاكتفاء ببيان صوابية مذهبه،ونقد مذهب غيره نقداً منهجياً دون تحريض ،أو مسارعة إلى اتهام النوايا.
وقد حاولنا تتبع الجدل الصوفي السلفي حول شرعية الاحتفاء بالمولد النبوي في منتديات الشبكة العنكبوتية، وراعتني الحدة في أسلوب التخاطب بين التيارين وتفاجأت من تشنج مواقف بعض مشايخ السلفية الإصلاحية المشهورين بالاعتدال في قضية المولد،كالشيخ السلفي الكويتي عبد الرحمن عبد الخالق فقد بالغ الشيخ في الشنيع على من يحتفلون بمولد النبي صلى الله عليه وسلم يقول عبد الرحمن عبد الخالق:’’’’وأما أولئك الدعاة إلي الاحتفال بالمولد فدعوتهم هذه نفسها هي أول الحرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول الكذب عليه، والاستهانة بحقه لأنها مزاحمةٌ له في التشريع واتهام له أنه ما بيّن الدين كما ينبغي، وترك منه ما يستحسن، وأهمل ما كان ينبغي ألا يغفل عنه من شعائر محبته وتعظيمه وتوقيره، وهذا أبلغ الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم’’’’ ومن الغريب أن يتورط أحد مشايخ السلفية الإصلاحية بهذه الحدية في مخاطبة مخالفيه،متجاوزاً سائر أسلافه السابقين الذين تعاملوا مع الاحتفاء بذكرى المولد النبوي بفقه مقاصدي تربوي وسطي، وكان يسعه ما وسع الإمام السيوطي في رسالته حسن المقصد في عمل المولد، وغيره من أئمة السلف الذي برروا بدعة المولد بالمقاصد الحسنة وبكونها بدعة إضافية، لا تخالف أصلاً مشروعاً، فضلاً عن اتفاقها مع أصول مشروعة،كالنصوص القرآنية التي حثتنا على تذكر نعمة الله علينا في كثير من المحطات التاريخية الهامة«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ «وأمّا بنعمة ربك فحدث» ولهذا يقول الإمام السيوطي في رسالته (حسن المقصد)’’عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه، وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيها من تعظيم قدر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف’’.وهذا شيخ السلفية ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول في اقتضاء الصراط (فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ، ويكون له فيه أجر عظيم ، لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قدمت لك أنه يحسن من بعض الناس ، ما يستقبح من المؤمن المسدد ، ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء : إنه أنفق على مصحف ألف دينار ، ونحو ذلك فقال دعه ، فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب ).
وقد صح في السنة أن نبينا الكريم كان يتقرب إلى الله ببعض القربات في بعض المناسبات كصيامه يوم الاثنين وتعليل هذه الصيام بقوله ’’ذلك يوم فيه ولدت’’ وكاحتفائه في يوم نجاة موسى بصيام عاشوراء،فكيف يتورط بعض المشايخ الأفاضل في التيار السلفي الإصلاحي في القول إن الاحتفال بالمولد حرب على صاحب الرسالة،ألا يدرك هؤلاء أن هذه العبارة تتضمن تكفيراً مبطناً؟.وهل يدرك هؤلاء من المستفيد من تضخيم الصراع بين التيارين السلفي والصوفي؟.لقد أدرك ذلك الشيخ الراحل عبد العزيز بن باز رحمه الله،حين أفتى أن إقامة الموالد بدع محدثة، ونشرت ذلك بعض الصحف السعودية،ويبدو أن الفتوى لم تنل إعجاب القائمين على إذاعة لندن،فحرفوا الفتوى وقالوا إن ابن باز يؤكد أن الاحتفال بالموالد كفر، واضطر ابن باز لأن يؤكد أن ما ذكرته هيئة الإذاعة البريطانية لندن عنه أنه يقول بإن الاحتفال بالموالد كفر، كذب لا أساس له من الصحة.
ويبدو لي أن تضافر أقوال مشايخ المدرسة السلفية المعاصرة،على التشديد في تبديع المولد، ومخالفتهم مشايخ السلفية المتقدمين، ناتج من نواتج تطور الصراع بين الحزبية السلفية والحزبية الصوفية ،وأحد إفرازات الصراع العنيف بين التيارين الذي صاحب ظهور الدعوة الوهابية قبل قرنين من الزمان، ولأن الموقف الحزبي للمذهبيين الحزبيين يتناقض غالباً مع المنهجية المذهبية للمتحزبين،فقد رأينا كثيراً من تناقضات مشايخ السلفية،المتصلبين تجاه التشريع للاحتفال بالمولد النبوي،فبعضهم أجاز الاحتفال بالأعياد الوطنية،ولا يزال يرفض رفضاً قاطعاً الاحتفاء بالمولد النبوي،كالشيخ صالح الفوزان على سبيل المثال،وأغلبيتهم- ما لم يكن جميعهم- يدافعون عن بدعة زيادة الأذان الثاني الحسنة،الذي أضافه الخليفة الثالث عثمان بن عفان، قبل الأذان المشروع يوم الجمعة ويبررون هذه البدعة بالقول إن عثمان فعل ذلك لمصلحة، وهو أن الناس عندما كثروا؛ وتباعدت منازلهم عن المسجد؛ رأى هذا الأذان نافعاً لاتساع المدينة وكثرة أهلها، فيدعوهم ذلك إلى الاستعداد’’وقد نقل القرطبي في ’’تفسيره’’عن الماوردي قوله:(فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها).
يؤكد السلفيون أن فعل عثمان يعتبر من المصلحة المرسلة و’’المصلحة المرسَلة’’ في تعريف الأصوليين هي ما يحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحةٍ أو دفع مفسدةٍ عن الناس’’.وسميت ’’مرسلة’’ لعدم وجود ما يوافقها أو يخالفها في الشرع أي: أرسلت إرسالاً وأطلقت إطلاقاً.
ويتفق أغلب السلفيين مع الأصوليين في كون الضابط الذي تتميز به المصلحة المرسلة من البدع المحدثة هو ما قاله ابن تيمية في ’’اقتضاء الصراط المستقيم(والضابط في هذا- والله أعلم - أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئاً إلا لأنهم يرونه مصلحةً، إذ لو اعتقدوه مفسدةً؛ لم يحدثوه؛ فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين فما رآه الناس مصلحةً؛ نظر في السبب المحوج إليه فإن كان السبب المحوج إليه أمراً حدث بعد النبي لكن من غير تفريط منه؛ فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله، لكن تركه النبي لمعارضٍ زال بموته وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث فكل أمرٍ يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله موجوداً، لو كان مصلحةٍ ولم يُفْعَل: يُعْلم أنه ليس بمصلحة وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق؛ فقد يكون مصلحةً..الخ).ولو أنصفوا لتبين لهم أن ما يسوقونه من مبررات للبدعة المحدثة،التي تقتضيها المصلحة المرسلة،يصح اعتمادها لتبرير الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم،فقد أفضى نبينا إلى ما قدم وتقادم عهدنا به،فما المانع من اتخاذ ذكرى مولده أو حتى شهر مولده مناسبة لتذكير الناس بسيرة وسنة وأخلاق صاحب الرسالة،وفضل رسالته علينا،وخصوصاً بعد تعقيدات الحياة المعاصرة وكثرة مشاغلها،والعبرة في الأخير بالمقاصد الحسنة وحدوث المقتضي -تقادم العهد وكثرة مشاغل الناس- كما أكد ذلك الإمام ابن تيمية.
ومن تناقضات المدرسة السلفية المعاصرة في تعاملها مع المولد،أن هذه المدرسة أجازت بعض البدع المحدثة التي تتصادم مع وجود أصل مشروع، كالبدع المستحدثة في التعامل مع قضايا المرأة ومنها :استحداث جوامع خاصة بالنساء معزولة عن جوامع الرجال،واستحداث أحكام خاصة بالفصل الكامل بين الرجال والنساء في سائر مناحي الحياة،تحت دعوى تحريم الاختلاط، وهم يدركون أن من يقول بوجود البدعة الحسنة لا يدرج هذا النوع من البدع في البدع الحسنة،لأن هذه المبتدعات تخالف أصلاً مشروعاً وهذا ما قصده الشافعي عندما قال (المحدثات من الأمور ضربان:ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا ، فهذه البدعة ضلالة ، وما أحدث لا خلاف فيه لواحد من هذا ، فهذه محدثة غير مذمومة ـ قد قال عمر رضي الله عنه في قيام رمضان نعمت البدعة هذه ، يعني أنها محدثة لم تكن ، وإن كانت فليس فيها رد لما مضى)
وإذا نظرنا في البدع المتعلقة بقضايا المرأة لوجدنا أنها من النوع الأول وهي بدع الضلالة التي تخالف أصلاً مشروعاً في القرآن والسنة وإجماع المسلمين،والكثير من خطباء المساجد ينزعجون من كثرة كتابتنا عن بدعة تحريم مشاركة النساء للرجال في مناحي الحياة العامة رغم أنها قد تصل إلى مرتبة البدعة المكفرة لتضمنها تحريماً لما أحله الله «أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله» مع أن الأصل أن يكون السلفيون أكثر الناس انزعاجاً من هذا الابتداع في الدين، والخلط الحاصل بين أحكام الخلوة بالأجنبية،وأحكام المزاحمة التي تفضي إلى تلاصق الأجساد وبين مشاركة النساء للرجال في الأماكن العامة ولأن الكثير من القراء يستغرب من الحديث عن شرعية ما يسمى بالاختلاط، سنضطر في هذه التناولة إلى سرد عناوين بعض الأبواب فقط في صحيح البخاري التي تؤكد شرعية مشاركة النساء للرجال في كثير من مناحي الحياة،سنكتفي بأسماء بعض الأبواب فقط،لأنها أكثر من ثلاثمائة باب تتضمن مئات الأحاديث ولا مجال لذكرها جميعاً،سأترك القارئ أمام أسماء بعض هذه الأبواب ليقرر بعد ذلك حكم ابتداع ما يخالف مئات الأحاديث في صحيح البخاري فقط وهذه بعض الأبواب في البخاري:
باب: طواف النساء مع الرجال - باب: البيع والشراء مع النساء - باب: غزو النساء وقتالهن مع الرجال-باب:حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو- باب: مداوة النساء الجرحى في الغزو.-باب:رد النساء الجرحى والقتلى.-باب:ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس -باب:خروج النساء لحوائجهن-باب:عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح - باب: النظر إلى المرأة قبل التزويج-باب: قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس- باب: نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة- باب: عيادة النساء الرجال- باب: تسليم الرجال على النساء، والنساء على الرجال- باب: هل يداوي الرجل المرأة أو المرأة الرجل- باب: في المرأة ترقي الرجل. - - باب: نوم المرأة في المسجد. باب: غزو المرأة في البحر باب: صلاة النساء مع الرجال في الكسوف باب: القضاء واللعان في المسجد، بين الرجال والنساء - باب: خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس -باب: صلاة النساء خلف الرجال - باب:إرداف المرأة خلف الرجل وجاء عنوان الباب الأخير في صحيح مسلم كما يلي - باب: إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق.
ولم نفرغ من سرد عناوين الأبواب ولكن المقام لا يتسع وفيما ذكرناه كفاية،لردع المخلصين من أصحاب الضمائر الحية من خطباء المساجد عن التهكم على كاتب هذه السطور والادعاء بأنه جاء بمنكر من القول و زوراً في رفضه لبدعة تحريم مشاركة النساء للرجال في مناحي الحياة، نتمنى بعد هذا السرد أن يدرك الخطباء حرمة منابر المساجد التي يجب أن تكون لله ولا يجوز أن يشرك فيها خطباء المساجد حظوظ أنفسهم، والانتصار لمواقفهم المرجوحة المناقضة للإجماع،استسلاماً لتقليد فقهاء سد الذرائع، ولو أن هؤلاء اكتفوا بضلالهم لهان الأمر ولكنهم ما يبرحون يشهرون بمخالفيهم،ويحرضون عليهم وما أشبههم بالخوارج الذين وصفهم ابن تيمية بأنهم يكفرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله ويعلق ابن تيمية على هذا المذهب الخوارجي ومنهجيته في الأمر بالمعروف بالقول ’’’’وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم في بدعتهم. وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق’’’’
ومن آخر غرائب هوس هذه الخوارجية السلفية الفتوى التي صدرت مؤخراً من الشيخ السلفي عبدالرحمن البراك باعتبار من يقول بجواز الاختلاط مرتداً يجب قتله !!!
وإذا كان البعض يرى أن فصل الرجال عن النساء من المباحات،لعدم ورود الدليل في النهي عنه،وإعمالاً لقواعد سد الذرائع،فإننا نطلب منهم فقط لتبرئة ذمتهم عدم اعتبار ذلك حكم الله والكف عن تخطئة الموافقين للشرع،ومع ذلك فإن لابن تيمية موقفاً متشدداً لا نوافقه عليه في تحريم اتخاذ المباحات قربات وطاعات،ولكننا ننقله هنا للذين يتقربون إلى الله بمحاربة كثير من المباحات.يقول ابن تيمية :-
’’’’ بإِهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء إذا لم يكن محرماً لا ينهى عنه بل يقال إنه جائز لا يفرقون بين اتخاذه ديناً وطاعة وبراً وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة ، ومعلوم أن اتخاذه ديناً بالاعتقاد أو الاقتصاد أو بهما أو بالقول أو بالعمل أو بهما من أعظم المحرمات وأكبر السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يعلم أنها معاصي سيئات’’’’.
[email protected]
*نيوزيمن
مجيب الحميدي
في مواجهة التحريض السلفي ضد الفعاليات الاحتفائية بمولد النبي صلى الله عليه وسلم والتأكيد على أن هذه الاحتفائيات من البدع المنكرة، والرفض القاطع لتقسيم البدع إلى بدع حسنة وبدع سيئة؛ يضطر الصوفيون للرد على هذه الادعاءات السلفية التي تنطلق من قاعدة الحزبية المذهبية المذمومة،إلى الوقوع في نفس خطأ السلفيين في تضليل خصومهم،والذهاب إلى أبعد من ذلك حين يفسر مشايخ الصوفية محاربة الموالد تفسيراً حزبياً تعصبياً فيؤكدون أن محاربة الموالد خصومة بين أحباب الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أعدائه وخلاف بين من يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم ويقدرونه وينتصرون له، وبين من لا يحبونه، وتصل بهم المكابرة الحزبية إلى حد الادعاء أن السلفيين يكنون الكراهية لصاحب الذكرى صلى الله عليه وسلم،و هكذا نجد أن مكابرة الردود المتشنجة لبعض مشايخ الصوفية لا تختلف عن لدد بعض مشايخ السلفية.
يعتمد السلفيون في رفض بدعة المولد ورفض تقسيم البدع إلى بدع حسنة وبدع مذمومة على حديث’’كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار’’، ومن الواجب احترام أصحاب هذا الرأي، طالما أقروا بحق غيرهم من علماء الصوفية وعلماء المذاهب الأخرى،بمخالفة ما ذهبوا إليه والقول بشرعية هذا الاحتفال.
والمحذور الذي يجب أن يتنبه له الجميع، ادعاء البعض عصمة اجتهاده،وتسفيه اجتهادات الآخرين المتأولين،وعدم الاكتفاء ببيان صوابية مذهبه،ونقد مذهب غيره نقداً منهجياً دون تحريض ،أو مسارعة إلى اتهام النوايا.
وقد حاولنا تتبع الجدل الصوفي السلفي حول شرعية الاحتفاء بالمولد النبوي في منتديات الشبكة العنكبوتية، وراعتني الحدة في أسلوب التخاطب بين التيارين وتفاجأت من تشنج مواقف بعض مشايخ السلفية الإصلاحية المشهورين بالاعتدال في قضية المولد،كالشيخ السلفي الكويتي عبد الرحمن عبد الخالق فقد بالغ الشيخ في الشنيع على من يحتفلون بمولد النبي صلى الله عليه وسلم يقول عبد الرحمن عبد الخالق:’’’’وأما أولئك الدعاة إلي الاحتفال بالمولد فدعوتهم هذه نفسها هي أول الحرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول الكذب عليه، والاستهانة بحقه لأنها مزاحمةٌ له في التشريع واتهام له أنه ما بيّن الدين كما ينبغي، وترك منه ما يستحسن، وأهمل ما كان ينبغي ألا يغفل عنه من شعائر محبته وتعظيمه وتوقيره، وهذا أبلغ الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم’’’’ ومن الغريب أن يتورط أحد مشايخ السلفية الإصلاحية بهذه الحدية في مخاطبة مخالفيه،متجاوزاً سائر أسلافه السابقين الذين تعاملوا مع الاحتفاء بذكرى المولد النبوي بفقه مقاصدي تربوي وسطي، وكان يسعه ما وسع الإمام السيوطي في رسالته حسن المقصد في عمل المولد، وغيره من أئمة السلف الذي برروا بدعة المولد بالمقاصد الحسنة وبكونها بدعة إضافية، لا تخالف أصلاً مشروعاً، فضلاً عن اتفاقها مع أصول مشروعة،كالنصوص القرآنية التي حثتنا على تذكر نعمة الله علينا في كثير من المحطات التاريخية الهامة«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ «وأمّا بنعمة ربك فحدث» ولهذا يقول الإمام السيوطي في رسالته (حسن المقصد)’’عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه، وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيها من تعظيم قدر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف’’.وهذا شيخ السلفية ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول في اقتضاء الصراط (فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ، ويكون له فيه أجر عظيم ، لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قدمت لك أنه يحسن من بعض الناس ، ما يستقبح من المؤمن المسدد ، ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء : إنه أنفق على مصحف ألف دينار ، ونحو ذلك فقال دعه ، فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب ).
وقد صح في السنة أن نبينا الكريم كان يتقرب إلى الله ببعض القربات في بعض المناسبات كصيامه يوم الاثنين وتعليل هذه الصيام بقوله ’’ذلك يوم فيه ولدت’’ وكاحتفائه في يوم نجاة موسى بصيام عاشوراء،فكيف يتورط بعض المشايخ الأفاضل في التيار السلفي الإصلاحي في القول إن الاحتفال بالمولد حرب على صاحب الرسالة،ألا يدرك هؤلاء أن هذه العبارة تتضمن تكفيراً مبطناً؟.وهل يدرك هؤلاء من المستفيد من تضخيم الصراع بين التيارين السلفي والصوفي؟.لقد أدرك ذلك الشيخ الراحل عبد العزيز بن باز رحمه الله،حين أفتى أن إقامة الموالد بدع محدثة، ونشرت ذلك بعض الصحف السعودية،ويبدو أن الفتوى لم تنل إعجاب القائمين على إذاعة لندن،فحرفوا الفتوى وقالوا إن ابن باز يؤكد أن الاحتفال بالموالد كفر، واضطر ابن باز لأن يؤكد أن ما ذكرته هيئة الإذاعة البريطانية لندن عنه أنه يقول بإن الاحتفال بالموالد كفر، كذب لا أساس له من الصحة.
ويبدو لي أن تضافر أقوال مشايخ المدرسة السلفية المعاصرة،على التشديد في تبديع المولد، ومخالفتهم مشايخ السلفية المتقدمين، ناتج من نواتج تطور الصراع بين الحزبية السلفية والحزبية الصوفية ،وأحد إفرازات الصراع العنيف بين التيارين الذي صاحب ظهور الدعوة الوهابية قبل قرنين من الزمان، ولأن الموقف الحزبي للمذهبيين الحزبيين يتناقض غالباً مع المنهجية المذهبية للمتحزبين،فقد رأينا كثيراً من تناقضات مشايخ السلفية،المتصلبين تجاه التشريع للاحتفال بالمولد النبوي،فبعضهم أجاز الاحتفال بالأعياد الوطنية،ولا يزال يرفض رفضاً قاطعاً الاحتفاء بالمولد النبوي،كالشيخ صالح الفوزان على سبيل المثال،وأغلبيتهم- ما لم يكن جميعهم- يدافعون عن بدعة زيادة الأذان الثاني الحسنة،الذي أضافه الخليفة الثالث عثمان بن عفان، قبل الأذان المشروع يوم الجمعة ويبررون هذه البدعة بالقول إن عثمان فعل ذلك لمصلحة، وهو أن الناس عندما كثروا؛ وتباعدت منازلهم عن المسجد؛ رأى هذا الأذان نافعاً لاتساع المدينة وكثرة أهلها، فيدعوهم ذلك إلى الاستعداد’’وقد نقل القرطبي في ’’تفسيره’’عن الماوردي قوله:(فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها).
يؤكد السلفيون أن فعل عثمان يعتبر من المصلحة المرسلة و’’المصلحة المرسَلة’’ في تعريف الأصوليين هي ما يحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحةٍ أو دفع مفسدةٍ عن الناس’’.وسميت ’’مرسلة’’ لعدم وجود ما يوافقها أو يخالفها في الشرع أي: أرسلت إرسالاً وأطلقت إطلاقاً.
ويتفق أغلب السلفيين مع الأصوليين في كون الضابط الذي تتميز به المصلحة المرسلة من البدع المحدثة هو ما قاله ابن تيمية في ’’اقتضاء الصراط المستقيم(والضابط في هذا- والله أعلم - أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئاً إلا لأنهم يرونه مصلحةً، إذ لو اعتقدوه مفسدةً؛ لم يحدثوه؛ فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين فما رآه الناس مصلحةً؛ نظر في السبب المحوج إليه فإن كان السبب المحوج إليه أمراً حدث بعد النبي لكن من غير تفريط منه؛ فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله، لكن تركه النبي لمعارضٍ زال بموته وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث فكل أمرٍ يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله موجوداً، لو كان مصلحةٍ ولم يُفْعَل: يُعْلم أنه ليس بمصلحة وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق؛ فقد يكون مصلحةً..الخ).ولو أنصفوا لتبين لهم أن ما يسوقونه من مبررات للبدعة المحدثة،التي تقتضيها المصلحة المرسلة،يصح اعتمادها لتبرير الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم،فقد أفضى نبينا إلى ما قدم وتقادم عهدنا به،فما المانع من اتخاذ ذكرى مولده أو حتى شهر مولده مناسبة لتذكير الناس بسيرة وسنة وأخلاق صاحب الرسالة،وفضل رسالته علينا،وخصوصاً بعد تعقيدات الحياة المعاصرة وكثرة مشاغلها،والعبرة في الأخير بالمقاصد الحسنة وحدوث المقتضي -تقادم العهد وكثرة مشاغل الناس- كما أكد ذلك الإمام ابن تيمية.
ومن تناقضات المدرسة السلفية المعاصرة في تعاملها مع المولد،أن هذه المدرسة أجازت بعض البدع المحدثة التي تتصادم مع وجود أصل مشروع، كالبدع المستحدثة في التعامل مع قضايا المرأة ومنها :استحداث جوامع خاصة بالنساء معزولة عن جوامع الرجال،واستحداث أحكام خاصة بالفصل الكامل بين الرجال والنساء في سائر مناحي الحياة،تحت دعوى تحريم الاختلاط، وهم يدركون أن من يقول بوجود البدعة الحسنة لا يدرج هذا النوع من البدع في البدع الحسنة،لأن هذه المبتدعات تخالف أصلاً مشروعاً وهذا ما قصده الشافعي عندما قال (المحدثات من الأمور ضربان:ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا ، فهذه البدعة ضلالة ، وما أحدث لا خلاف فيه لواحد من هذا ، فهذه محدثة غير مذمومة ـ قد قال عمر رضي الله عنه في قيام رمضان نعمت البدعة هذه ، يعني أنها محدثة لم تكن ، وإن كانت فليس فيها رد لما مضى)
وإذا نظرنا في البدع المتعلقة بقضايا المرأة لوجدنا أنها من النوع الأول وهي بدع الضلالة التي تخالف أصلاً مشروعاً في القرآن والسنة وإجماع المسلمين،والكثير من خطباء المساجد ينزعجون من كثرة كتابتنا عن بدعة تحريم مشاركة النساء للرجال في مناحي الحياة العامة رغم أنها قد تصل إلى مرتبة البدعة المكفرة لتضمنها تحريماً لما أحله الله «أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله» مع أن الأصل أن يكون السلفيون أكثر الناس انزعاجاً من هذا الابتداع في الدين، والخلط الحاصل بين أحكام الخلوة بالأجنبية،وأحكام المزاحمة التي تفضي إلى تلاصق الأجساد وبين مشاركة النساء للرجال في الأماكن العامة ولأن الكثير من القراء يستغرب من الحديث عن شرعية ما يسمى بالاختلاط، سنضطر في هذه التناولة إلى سرد عناوين بعض الأبواب فقط في صحيح البخاري التي تؤكد شرعية مشاركة النساء للرجال في كثير من مناحي الحياة،سنكتفي بأسماء بعض الأبواب فقط،لأنها أكثر من ثلاثمائة باب تتضمن مئات الأحاديث ولا مجال لذكرها جميعاً،سأترك القارئ أمام أسماء بعض هذه الأبواب ليقرر بعد ذلك حكم ابتداع ما يخالف مئات الأحاديث في صحيح البخاري فقط وهذه بعض الأبواب في البخاري:
باب: طواف النساء مع الرجال - باب: البيع والشراء مع النساء - باب: غزو النساء وقتالهن مع الرجال-باب:حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو- باب: مداوة النساء الجرحى في الغزو.-باب:رد النساء الجرحى والقتلى.-باب:ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس -باب:خروج النساء لحوائجهن-باب:عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح - باب: النظر إلى المرأة قبل التزويج-باب: قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس- باب: نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة- باب: عيادة النساء الرجال- باب: تسليم الرجال على النساء، والنساء على الرجال- باب: هل يداوي الرجل المرأة أو المرأة الرجل- باب: في المرأة ترقي الرجل. - - باب: نوم المرأة في المسجد. باب: غزو المرأة في البحر باب: صلاة النساء مع الرجال في الكسوف باب: القضاء واللعان في المسجد، بين الرجال والنساء - باب: خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس -باب: صلاة النساء خلف الرجال - باب:إرداف المرأة خلف الرجل وجاء عنوان الباب الأخير في صحيح مسلم كما يلي - باب: إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق.
ولم نفرغ من سرد عناوين الأبواب ولكن المقام لا يتسع وفيما ذكرناه كفاية،لردع المخلصين من أصحاب الضمائر الحية من خطباء المساجد عن التهكم على كاتب هذه السطور والادعاء بأنه جاء بمنكر من القول و زوراً في رفضه لبدعة تحريم مشاركة النساء للرجال في مناحي الحياة، نتمنى بعد هذا السرد أن يدرك الخطباء حرمة منابر المساجد التي يجب أن تكون لله ولا يجوز أن يشرك فيها خطباء المساجد حظوظ أنفسهم، والانتصار لمواقفهم المرجوحة المناقضة للإجماع،استسلاماً لتقليد فقهاء سد الذرائع، ولو أن هؤلاء اكتفوا بضلالهم لهان الأمر ولكنهم ما يبرحون يشهرون بمخالفيهم،ويحرضون عليهم وما أشبههم بالخوارج الذين وصفهم ابن تيمية بأنهم يكفرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله ويعلق ابن تيمية على هذا المذهب الخوارجي ومنهجيته في الأمر بالمعروف بالقول ’’’’وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم في بدعتهم. وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق’’’’
ومن آخر غرائب هوس هذه الخوارجية السلفية الفتوى التي صدرت مؤخراً من الشيخ السلفي عبدالرحمن البراك باعتبار من يقول بجواز الاختلاط مرتداً يجب قتله !!!
وإذا كان البعض يرى أن فصل الرجال عن النساء من المباحات،لعدم ورود الدليل في النهي عنه،وإعمالاً لقواعد سد الذرائع،فإننا نطلب منهم فقط لتبرئة ذمتهم عدم اعتبار ذلك حكم الله والكف عن تخطئة الموافقين للشرع،ومع ذلك فإن لابن تيمية موقفاً متشدداً لا نوافقه عليه في تحريم اتخاذ المباحات قربات وطاعات،ولكننا ننقله هنا للذين يتقربون إلى الله بمحاربة كثير من المباحات.يقول ابن تيمية :-
’’’’ بإِهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء إذا لم يكن محرماً لا ينهى عنه بل يقال إنه جائز لا يفرقون بين اتخاذه ديناً وطاعة وبراً وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة ، ومعلوم أن اتخاذه ديناً بالاعتقاد أو الاقتصاد أو بهما أو بالقول أو بالعمل أو بهما من أعظم المحرمات وأكبر السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يعلم أنها معاصي سيئات’’’’.
[email protected]
*نيوزيمن