في ذكرى مولد صاحب الخلق العظيم * مجيب الحميدي
لا جدال ولا نقاش في عظمة وعبقرية سيد الخلق حبيبنا صلى الله عليه وسلم. غير أن العظمة والعبقرية مهما بلغ أمدهما تقفان عاجزتان دون تحقيق تلكم النقلة الحضارية والإنسانية التي شهدتها البشرية حين أشرقت في جنباتها رسالة خير البرية.
من يتأمل أحوال البشرية قبل وبعد بزوغ الطلعة المحمدية يستطيع أن يجيب إن كان في إمكان القدرة البشرية المحدودة مهما ترقت في مدارج كمالها تحقيق ذلك الإنقلاب العظيم في تاريخ البشرية أم لا؟ قد يلمح المتأمل في شهادات بعض مفكري الغرب وفلاسفتهم الإشارة إلى هذه الامكانية ولكن من يستغور هذه الشهادات ويستنطق الوقائع والتجارب التاريخية لا يملك إلا أن يؤكد ما ذكره شاعرنا الراحل عبدالله البردوني حين أشار إلى أن نبينا العظيم ما استطاع تحقيق تلك النقلة الحضارية والإنسانية إلا بعد هزة جبريلية حولته من محمد ابن عبدالله إلى محمد رسول الله.
وقد صور الشيخ يوسف القرضاوي واقع الأمة قبل شروق شمس الرسالة الإسلامية فقال:
أطلَّ فجر هداه والدجى عممُ
بات الأنام وظلوا فيه عميانا
هذا يصور تمثالاً ويعبده
وذاك يعبد أحبارًا وكهَّانا
الكون بحرٌ عميقٌ لا منار به
لم يدرِ فيه بنو الإنسان شطئانا
ويل الصغير وقد صار الورى سمكًا
يسطو الكبير عليه غير خشيانا!
فدولة الروم حوتٌ فاغرٌ فمه
يطغى على تلكُم الأسماك طغيانا
ودولة الفرس حوتٌ مثله كشرت
أنيابه للورى بغيًا وعدوانا
وحشيةٌ عمَّت الدنيا أظافرها
جهالةٌ أصلت الأكوان نيرانا!
الليل طال ألا فجر يبدده؟!
ربَّاه.. أرسل لنا فلكًا وربانا!
هناك لاح سنا المختار مؤتلقًا
يهدي إلى الله أعجامًا وعربانا
يتلو كتاب هدًى كان الإخاء له
بدءًا وكان له التوحيد عنوانا
لا كبر- فالناس إخوان سواسية
لا ذلَّ إلا لمن سوَّاك إنسانا
ولذلك فإن الاحتفاء بذكرى ميلاد صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام ينبغي أن ينطلق من قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ}وقوله {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} وإذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية مع شدة صراعه مع الصوفية يؤكد أن تعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم، لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله-صلى الله عليه وسلم مع عدم تفضيل ابن تيمية ذلك لمن سينشغل بقربات أفضل وأعمال أجل.فقد ثبت في السنة النبوية احتفاء نبينا بيوم مولده بالتقرب إلى الله بالصيام كما ثبت في صحيح مسلم في تعليل صومه يوم الاثنين فقال:’’ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه’’والبدعة الحسنة هي البدعة التي توافق أصلاًً مشروعاً،أما البدعة التي تخالف ما هو مشروع بالكتاب والسنة القولية والعملية والإقرارية فهي البدعة المذمومة.ولهذا أكد الإمام السيوطي في ’’حسن المقصد في عمل المولد’’أن أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة.
وقد اعتدنا في السنوات الماضية على الاحتفاء بهذه المناسبة،بسرد بعض شهادات مفكري العالم عن أخلاق وعظمة صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الذكرى نستعرض مع القارئ الكريم بعض الأخلاق الرفيعة التي تميز بها صاحب الخلق العظيم لأن الاحتفال الحق بمولد الرسول، إنما يكون بالاقتداء به، والاهتداء بهديه،{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}
ولاستعراض بعض أخلاق صاحب الخلق العظيم نضع بين يدي القاري هذه اللمحة التي قدمها الشيخ الجليل محمد الغزالي عن أخلاق نبينا العظيم،
لمحة من أخلاق خير البشر صلى الله عليه وسلم
بقلم فضيلة الشيخ/ محمد الغزالي*
جاء الإسلام لينتقل بالبشر خطوات فسيحات إلى حياة مشرفة بالفضائل والآداب، و اعتبر المراحل المؤدية إلى هذا الهدف النبيل من صميم رسالته، كما أنه عدّ الإخلال بهذة الوسائل خروجًا عليه وابتعادًا عنه. فليست الأخلاق من مواد الترف، التي يمكن الاستغناء عنها، بل هي أصول الحياة التي يرتضيها الدين، ويحترم ذويها، وقد أحصى الإسلام الفضائل، وحثّ أتباعه على التمسك بها واحدة واحدة، ولو جمعنا أقوال صاحب الرسالة في التحلي بالأخلاق الذكية لخرجنا بسفْر لا يُعرف مثله لعظيمٍ من أئمة الإصلاح، وقبل أن نذكر تفاصيل هذه الفضائل، وما ورد في كل منها على حدة، نثبت طرفًا من دعوته الحارَّة إلى محامد الأخلاق، ومحاسن الشيم:
عن أسامه بن شريك قال: كنا جلوسًا عند النبي- صلى الله عليه وسلم- كأنما على رؤوسنا الطير، ما يتكلم منا متكلم، إذا جاءه أناس فقالوا: من أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: ’’أحسنهم خلقا’’، وفي رواية: ’’ما خير ما أُعطي الإنسان؟ قال: خلق حسن’’، وقال: ’’إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شيء، وإن أحسن الناس إسلامًا أحسنهم خلقًا’’، وسُئل: ’’أي المؤمنين أكمل إيمانًا؟ قال: أحسنهم خلقًا’’. وعن عبدالله بن عمرو: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: ’’ألا أخبركم بأحبكم إليّ، وأقربكم منّي مجلسًا يوم القيامة؟- فأعادها مرتين أو ثلاثًا- قالوا نعم يا رسول الله، قال: ’’أحسنكم خلقا’’. وقال: ’’ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلُق حسَن، إن الله يكره الفاحش البذيء، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة’’.
هذا التصريح لو صدر عن فيلسوف يشتغل بشئون الإصلاح الخلقي فحسب لما كان مستغربًا منه، إنما وجه العجب أن يصدر عن مؤسس دين كبير، والأديان- عادة- ترتكز في حقيقتها الأولى على التعبُّد المحض.
ونبي الإسلام دعا إلى عبادات شتَّى، وأقام دولةً ارتكزت على جهاد طويل ضد أعداء كثيرين، فإذا كان- مع سعة دينه، وتشعُّب نواحي العمل أمام أتباعه، يخبرهم بأن أَرجح ما في موازينهم يوم الحساب، الخلق الحسن، فإن دلالة ذلك على منزلة الخلق في الإسلام لا تخفى. والحق أن الدين إن كان خلقًا حسنًا بين إنسان وإنسان، فهو في طبيعته السماوية صلة حسنة بين الإنسان وربه، وكِلا الأمرين يرجع إلى حقيقة واحدة، إن هناك أديانًا تبشر بأن اعتناق عقيدة ما يمحو الذنوب، وأنَّ أداء طاعة معينة يمسح الخطايا. لكن الإسلام لا يقول هذا، إلا أن تكون العقيدة المعتنَقة محورًا لعمل الخير، وأداء الواجب، وأن تكون الطاعة المقترحة غسلاً من السوء، وإعدادًا للكمال المنشود، أي إنه لا يمحق السيئات إلا الحسنات التي يضطلع بها الإنسان، ويرقى صاعدًا، إلى مستوىً أفضل.
وقد حرص النبى- صلى الله عليه وسلم- على توكيد هذه المبادئ العادلة، تتبينها أمته جيدًا، فلا تهون لديها قيمة الخلق وترفع قيمة الطقوس. عن أنس: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ’’إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة، وأشرف المنازل، وأنه لضعيف العبادة، وأنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درجة في جهنم’’. وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول-: ’’إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم’’.وفي روايه: ’’إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجات قائم الليل وصائم النهار’’.وعن ابن عمر: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: ’’إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات بحسن خلقه وكرم طبيعته’’. وروى أبوهريرة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ’’كرم المؤمن دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه’’. وروى عنه أبوذر: ’’قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان، وجعل قلبه سليمًا، ولسانه صادقًا، ونفسه مطمئنةً، وخلقه مستقيمًا’’. وحسن الخلق لا يؤسس في المجتمع بالتعاليم المرسلة، أو الأوامر والنواهي المجردة، إذ لا يكفي في طبع النفوس على الفضائل أن يقول المعلم لغيره: افعل كذا، أو لا تفعل كذا، فالتأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة، ويتطلب تعهدًا مستمرًا. ولن تصلح تربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة، فالرجل السيئ لا يترك في نفوس من حوله أثرًا طيبًا، وإنما يتوقع الأثر الطيب ممن تمتد العيون إلى شخصه، فيروعها أدبه، وتقتبس بالإعجاب المحض من خلاله، وتمشي بالمحبة الخالصة من آثاره. بل لابد- ليحصل التابع على قدر كبير من الفضل- أن يكون في متبعه قدر أكبر وقسط أجلّ،
وقد كان رسول الإسلام بين أصحابه مثلاً أعلى للخُلُق الذي يدعو إليه، فهو يغرس بين أصحابه هذا الخلق السامي بسيرته العطرة، قبل أن يغرسه بما يقول من حكم وعظات، عن ’’عبد الله بن عمرو’’ قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول ’’خياركم أحاسنكم أخلاقا’’. وعن أنس قال: خدمت النبي- صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، والله ما قال لي: أف قط، ولا قال لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟’’ وعنه: إن الأَمَة كانت لتأخذ بيد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت، وكان إذا استقبله رجل فصافحه لا ينزع يده من يده، حتى يكون الرجل ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه، حتى يكون الرجل هوالذى يصرفه، ولم يُرَ مقدِّمًا ركبتيه بين يدي جليس له- يعني أنه يتحفظ مع جلسائه فلا يتكبر. وعن عائشة- رضى الله عنها- قالت: ’’ما خُيّر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه، وما انتقم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لنفسه في شيء قط، إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم، وما ضرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئًا قط بيده، ولا امرأةً ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى’’. وعن أنس: ’’كنت أمشي مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه بردة غليظة الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله، وقد أثَّرت فيها حاشية البردة من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وضحك، وأمر له بعطاء’’.وعن عائشة: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ’’إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يُعطي على العنف، ومالا يعطي على سواه’’.وفي روايه: ’’إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه’’
وعن جرير أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: ’’إن الله- عز وجل- ليُعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق- الحمق- وإذا أحب الله عبدًا أعطاه الرفْق، ما من أهل بيت يُحرمون الرفق إلا حُرموا الخير كله’’.وسُئلت عائشة- رضي الله عنها- ما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفعل في بيته؟ قالت: ’’كان يكون في مهنة أهله– أي خدمتهم- فإذا حضرت الصلاه يتوضأ ويخرج إلى الصلاة’’، وعن عبد الله بن الحارث: ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعن أنس: كان رسول الله أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ فطيم، يُسمَّى ’’أبا عمير’’، لديه عصفور صغير اسمه النُّغَير، فكان رسول الله يلاطف الطفل الصغير، ويقول له: يا أبا عمير، ما فعل النغير؟!. والمعروف في شمائل الرسول- صلى الله عليه وسلم- أنه كان سمحًا لا يبخل بشيء أبدًا، شجاعًا لا ينكص عن حق أبدًا، عدلاً لا يجور في حكم أبدًا، صدوقًا أمينًا في أطوار حياته كلها. وقد أمر الله المسلمين أن يقتدوا به في طيب شمائله وعريق خلاله فقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب:21).
قال القاضي ’’عياض’’: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، لقد فزع أهل المدينة ليلة، فانطلق ناس ِقبل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعًا، قد سبقهم إليه، واستبرأ الخبر على فرس لـ’’أبي طلحة’’ عري والسيغ في عنقه، وهويقول: ’’لن تراعوا’’. وقال ’’علي’’- رضي الله عنه-: إنا كنا – إذا حمي البأس واحمرت الحدق نتقي برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه.وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- قال: ما سُئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: لا، وقد قالت له خديجة: ’’إنك تحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق’’.وحُمل إليه سبعون ألف درهم، فوُضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما ردَّ سائلاً، حتى فرغ منها، وجاءه رجل فسأله، فقال له: ما عندي شيء، ولكن ابتع عليّ، فإذا جاءنا شيء قضيناه، فقال عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه! فكره النبي- صلى الله عليه وسلم- ذلك، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً، فتبسم النبي، وعُرف البِشر في وجهه، وقال: ’’بهذا أُمرت’’. وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يؤلف أصحابه ولا ينفِّرهم، ويكرم كريم كلّ قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد منهم بشرّه ولا خُلقه.
يتفقد أصحابه، ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسُه أن أحدًا أكرم عليه منه، من جالسه، أوقاربه لحاجة صابره، حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول.قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبًا، وصاروا عنده في الحق سواءً، وكان دائم البِشر، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب، ولا فحّاش، ولا عتّاب، ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه قاصده، وعن عائشة- رضي الله عنها-: ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله، ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: لبيك’’.وقال جرير بن عبد الله- رضي الله عنه-: ما حجبني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسَّم’’.
وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويجاريهم، ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينه، ويقبل عذر المتعذر، قال أنس: ما التقم أحد أذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر، وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة.
لم يُر قط مادًا رجليه بين أصحابه فيضيق بهما على أحد، يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى، ويكني أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمةً لهم، ولا يقطع على أحد حديثه، حتى يتجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام. وعن أنس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ أتي بهدية قال: ’’اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحب خديجة’’. وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: ’’ما غِرت من امرأة، ما غِرت من خديجة، لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان يذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها، واستأذنت عليه أختها فارتاح إليها، ودخلت عليه امرأة فهشَّ لها وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حُسن العهد من الإيمان’’.
وكان يصل ذوي رحمه، من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم،وعن أبي قتاده: لما جاء وفد النجاشي قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخدمهم، فقال له أصحابه: نكفيك، فقال: ’’إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم’’. وعن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متوكئًا على عصا، فقمنا له فقال: ’’لا تقوموا كما يقوم الأعاجم، يعظِّم بعضهم بعضًا’’. وقال: ’’إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد’’، وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجلس بين أصحابه مختلطًا بهم، حيثما انتهى به المجلس جلس. وحج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على رحْل رثٍّ، عليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم، فقال: ’’اللهم حِجةً لا رياء فيها ولا سمعة’’.ولما فُتحت عليه مكه ودخلها بجيوش المسلمين، طأطأ رأسه على راحلته حتى كاد يمس قادمته- تواضعًا لله تعالى- وكان كثير السكوت لا يتكلم في غير الحاجة، ويعرض عمن تكلم بغير جميل، وكان ضحكه تبسمًا، وكلامه فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، وكان ضَحِك أصحابه عنده التبسم، توقيرًا له واقتداءً به، مجلسه مجلس حلم وخير وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، لا تخدش فيه الحرم، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا مشى مجتمعًا، يعرف في مشيته أنه غير ضجر ولا كسلان، قال ابن أبي هالة: كان سكوته على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر، وقالت عائشة كان يتحدث حديثًا، لَوْ عدَّه العادُّ أحصاه، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحب الطّيب والرائحة الحسنة؛ ويستعملها كثيرًا، وقد سيقت له الدنيا بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحها، فأعرض عن زهرتها، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله.
*من كتاب (خلق المسلم)
*الصحوة نت
لا جدال ولا نقاش في عظمة وعبقرية سيد الخلق حبيبنا صلى الله عليه وسلم. غير أن العظمة والعبقرية مهما بلغ أمدهما تقفان عاجزتان دون تحقيق تلكم النقلة الحضارية والإنسانية التي شهدتها البشرية حين أشرقت في جنباتها رسالة خير البرية.
من يتأمل أحوال البشرية قبل وبعد بزوغ الطلعة المحمدية يستطيع أن يجيب إن كان في إمكان القدرة البشرية المحدودة مهما ترقت في مدارج كمالها تحقيق ذلك الإنقلاب العظيم في تاريخ البشرية أم لا؟ قد يلمح المتأمل في شهادات بعض مفكري الغرب وفلاسفتهم الإشارة إلى هذه الامكانية ولكن من يستغور هذه الشهادات ويستنطق الوقائع والتجارب التاريخية لا يملك إلا أن يؤكد ما ذكره شاعرنا الراحل عبدالله البردوني حين أشار إلى أن نبينا العظيم ما استطاع تحقيق تلك النقلة الحضارية والإنسانية إلا بعد هزة جبريلية حولته من محمد ابن عبدالله إلى محمد رسول الله.
وقد صور الشيخ يوسف القرضاوي واقع الأمة قبل شروق شمس الرسالة الإسلامية فقال:
أطلَّ فجر هداه والدجى عممُ
بات الأنام وظلوا فيه عميانا
هذا يصور تمثالاً ويعبده
وذاك يعبد أحبارًا وكهَّانا
الكون بحرٌ عميقٌ لا منار به
لم يدرِ فيه بنو الإنسان شطئانا
ويل الصغير وقد صار الورى سمكًا
يسطو الكبير عليه غير خشيانا!
فدولة الروم حوتٌ فاغرٌ فمه
يطغى على تلكُم الأسماك طغيانا
ودولة الفرس حوتٌ مثله كشرت
أنيابه للورى بغيًا وعدوانا
وحشيةٌ عمَّت الدنيا أظافرها
جهالةٌ أصلت الأكوان نيرانا!
الليل طال ألا فجر يبدده؟!
ربَّاه.. أرسل لنا فلكًا وربانا!
هناك لاح سنا المختار مؤتلقًا
يهدي إلى الله أعجامًا وعربانا
يتلو كتاب هدًى كان الإخاء له
بدءًا وكان له التوحيد عنوانا
لا كبر- فالناس إخوان سواسية
لا ذلَّ إلا لمن سوَّاك إنسانا
ولذلك فإن الاحتفاء بذكرى ميلاد صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام ينبغي أن ينطلق من قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ}وقوله {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} وإذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية مع شدة صراعه مع الصوفية يؤكد أن تعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم، لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله-صلى الله عليه وسلم مع عدم تفضيل ابن تيمية ذلك لمن سينشغل بقربات أفضل وأعمال أجل.فقد ثبت في السنة النبوية احتفاء نبينا بيوم مولده بالتقرب إلى الله بالصيام كما ثبت في صحيح مسلم في تعليل صومه يوم الاثنين فقال:’’ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه’’والبدعة الحسنة هي البدعة التي توافق أصلاًً مشروعاً،أما البدعة التي تخالف ما هو مشروع بالكتاب والسنة القولية والعملية والإقرارية فهي البدعة المذمومة.ولهذا أكد الإمام السيوطي في ’’حسن المقصد في عمل المولد’’أن أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة.
وقد اعتدنا في السنوات الماضية على الاحتفاء بهذه المناسبة،بسرد بعض شهادات مفكري العالم عن أخلاق وعظمة صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الذكرى نستعرض مع القارئ الكريم بعض الأخلاق الرفيعة التي تميز بها صاحب الخلق العظيم لأن الاحتفال الحق بمولد الرسول، إنما يكون بالاقتداء به، والاهتداء بهديه،{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}
ولاستعراض بعض أخلاق صاحب الخلق العظيم نضع بين يدي القاري هذه اللمحة التي قدمها الشيخ الجليل محمد الغزالي عن أخلاق نبينا العظيم،
لمحة من أخلاق خير البشر صلى الله عليه وسلم
بقلم فضيلة الشيخ/ محمد الغزالي*
جاء الإسلام لينتقل بالبشر خطوات فسيحات إلى حياة مشرفة بالفضائل والآداب، و اعتبر المراحل المؤدية إلى هذا الهدف النبيل من صميم رسالته، كما أنه عدّ الإخلال بهذة الوسائل خروجًا عليه وابتعادًا عنه. فليست الأخلاق من مواد الترف، التي يمكن الاستغناء عنها، بل هي أصول الحياة التي يرتضيها الدين، ويحترم ذويها، وقد أحصى الإسلام الفضائل، وحثّ أتباعه على التمسك بها واحدة واحدة، ولو جمعنا أقوال صاحب الرسالة في التحلي بالأخلاق الذكية لخرجنا بسفْر لا يُعرف مثله لعظيمٍ من أئمة الإصلاح، وقبل أن نذكر تفاصيل هذه الفضائل، وما ورد في كل منها على حدة، نثبت طرفًا من دعوته الحارَّة إلى محامد الأخلاق، ومحاسن الشيم:
عن أسامه بن شريك قال: كنا جلوسًا عند النبي- صلى الله عليه وسلم- كأنما على رؤوسنا الطير، ما يتكلم منا متكلم، إذا جاءه أناس فقالوا: من أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: ’’أحسنهم خلقا’’، وفي رواية: ’’ما خير ما أُعطي الإنسان؟ قال: خلق حسن’’، وقال: ’’إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شيء، وإن أحسن الناس إسلامًا أحسنهم خلقًا’’، وسُئل: ’’أي المؤمنين أكمل إيمانًا؟ قال: أحسنهم خلقًا’’. وعن عبدالله بن عمرو: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: ’’ألا أخبركم بأحبكم إليّ، وأقربكم منّي مجلسًا يوم القيامة؟- فأعادها مرتين أو ثلاثًا- قالوا نعم يا رسول الله، قال: ’’أحسنكم خلقا’’. وقال: ’’ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلُق حسَن، إن الله يكره الفاحش البذيء، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة’’.
هذا التصريح لو صدر عن فيلسوف يشتغل بشئون الإصلاح الخلقي فحسب لما كان مستغربًا منه، إنما وجه العجب أن يصدر عن مؤسس دين كبير، والأديان- عادة- ترتكز في حقيقتها الأولى على التعبُّد المحض.
ونبي الإسلام دعا إلى عبادات شتَّى، وأقام دولةً ارتكزت على جهاد طويل ضد أعداء كثيرين، فإذا كان- مع سعة دينه، وتشعُّب نواحي العمل أمام أتباعه، يخبرهم بأن أَرجح ما في موازينهم يوم الحساب، الخلق الحسن، فإن دلالة ذلك على منزلة الخلق في الإسلام لا تخفى. والحق أن الدين إن كان خلقًا حسنًا بين إنسان وإنسان، فهو في طبيعته السماوية صلة حسنة بين الإنسان وربه، وكِلا الأمرين يرجع إلى حقيقة واحدة، إن هناك أديانًا تبشر بأن اعتناق عقيدة ما يمحو الذنوب، وأنَّ أداء طاعة معينة يمسح الخطايا. لكن الإسلام لا يقول هذا، إلا أن تكون العقيدة المعتنَقة محورًا لعمل الخير، وأداء الواجب، وأن تكون الطاعة المقترحة غسلاً من السوء، وإعدادًا للكمال المنشود، أي إنه لا يمحق السيئات إلا الحسنات التي يضطلع بها الإنسان، ويرقى صاعدًا، إلى مستوىً أفضل.
وقد حرص النبى- صلى الله عليه وسلم- على توكيد هذه المبادئ العادلة، تتبينها أمته جيدًا، فلا تهون لديها قيمة الخلق وترفع قيمة الطقوس. عن أنس: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ’’إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة، وأشرف المنازل، وأنه لضعيف العبادة، وأنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درجة في جهنم’’. وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول-: ’’إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم’’.وفي روايه: ’’إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجات قائم الليل وصائم النهار’’.وعن ابن عمر: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: ’’إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات بحسن خلقه وكرم طبيعته’’. وروى أبوهريرة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ’’كرم المؤمن دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه’’. وروى عنه أبوذر: ’’قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان، وجعل قلبه سليمًا، ولسانه صادقًا، ونفسه مطمئنةً، وخلقه مستقيمًا’’. وحسن الخلق لا يؤسس في المجتمع بالتعاليم المرسلة، أو الأوامر والنواهي المجردة، إذ لا يكفي في طبع النفوس على الفضائل أن يقول المعلم لغيره: افعل كذا، أو لا تفعل كذا، فالتأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة، ويتطلب تعهدًا مستمرًا. ولن تصلح تربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة، فالرجل السيئ لا يترك في نفوس من حوله أثرًا طيبًا، وإنما يتوقع الأثر الطيب ممن تمتد العيون إلى شخصه، فيروعها أدبه، وتقتبس بالإعجاب المحض من خلاله، وتمشي بالمحبة الخالصة من آثاره. بل لابد- ليحصل التابع على قدر كبير من الفضل- أن يكون في متبعه قدر أكبر وقسط أجلّ،
وقد كان رسول الإسلام بين أصحابه مثلاً أعلى للخُلُق الذي يدعو إليه، فهو يغرس بين أصحابه هذا الخلق السامي بسيرته العطرة، قبل أن يغرسه بما يقول من حكم وعظات، عن ’’عبد الله بن عمرو’’ قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول ’’خياركم أحاسنكم أخلاقا’’. وعن أنس قال: خدمت النبي- صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، والله ما قال لي: أف قط، ولا قال لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟’’ وعنه: إن الأَمَة كانت لتأخذ بيد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت، وكان إذا استقبله رجل فصافحه لا ينزع يده من يده، حتى يكون الرجل ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه، حتى يكون الرجل هوالذى يصرفه، ولم يُرَ مقدِّمًا ركبتيه بين يدي جليس له- يعني أنه يتحفظ مع جلسائه فلا يتكبر. وعن عائشة- رضى الله عنها- قالت: ’’ما خُيّر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه، وما انتقم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لنفسه في شيء قط، إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم، وما ضرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئًا قط بيده، ولا امرأةً ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى’’. وعن أنس: ’’كنت أمشي مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه بردة غليظة الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله، وقد أثَّرت فيها حاشية البردة من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وضحك، وأمر له بعطاء’’.وعن عائشة: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ’’إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق مالا يُعطي على العنف، ومالا يعطي على سواه’’.وفي روايه: ’’إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه’’
وعن جرير أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: ’’إن الله- عز وجل- ليُعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق- الحمق- وإذا أحب الله عبدًا أعطاه الرفْق، ما من أهل بيت يُحرمون الرفق إلا حُرموا الخير كله’’.وسُئلت عائشة- رضي الله عنها- ما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يفعل في بيته؟ قالت: ’’كان يكون في مهنة أهله– أي خدمتهم- فإذا حضرت الصلاه يتوضأ ويخرج إلى الصلاة’’، وعن عبد الله بن الحارث: ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعن أنس: كان رسول الله أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ فطيم، يُسمَّى ’’أبا عمير’’، لديه عصفور صغير اسمه النُّغَير، فكان رسول الله يلاطف الطفل الصغير، ويقول له: يا أبا عمير، ما فعل النغير؟!. والمعروف في شمائل الرسول- صلى الله عليه وسلم- أنه كان سمحًا لا يبخل بشيء أبدًا، شجاعًا لا ينكص عن حق أبدًا، عدلاً لا يجور في حكم أبدًا، صدوقًا أمينًا في أطوار حياته كلها. وقد أمر الله المسلمين أن يقتدوا به في طيب شمائله وعريق خلاله فقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب:21).
قال القاضي ’’عياض’’: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، لقد فزع أهل المدينة ليلة، فانطلق ناس ِقبل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعًا، قد سبقهم إليه، واستبرأ الخبر على فرس لـ’’أبي طلحة’’ عري والسيغ في عنقه، وهويقول: ’’لن تراعوا’’. وقال ’’علي’’- رضي الله عنه-: إنا كنا – إذا حمي البأس واحمرت الحدق نتقي برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه.وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- قال: ما سُئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: لا، وقد قالت له خديجة: ’’إنك تحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق’’.وحُمل إليه سبعون ألف درهم، فوُضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما ردَّ سائلاً، حتى فرغ منها، وجاءه رجل فسأله، فقال له: ما عندي شيء، ولكن ابتع عليّ، فإذا جاءنا شيء قضيناه، فقال عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه! فكره النبي- صلى الله عليه وسلم- ذلك، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً، فتبسم النبي، وعُرف البِشر في وجهه، وقال: ’’بهذا أُمرت’’. وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يؤلف أصحابه ولا ينفِّرهم، ويكرم كريم كلّ قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد منهم بشرّه ولا خُلقه.
يتفقد أصحابه، ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسُه أن أحدًا أكرم عليه منه، من جالسه، أوقاربه لحاجة صابره، حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول.قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبًا، وصاروا عنده في الحق سواءً، وكان دائم البِشر، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب، ولا فحّاش، ولا عتّاب، ولا مدّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه قاصده، وعن عائشة- رضي الله عنها-: ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله، ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: لبيك’’.وقال جرير بن عبد الله- رضي الله عنه-: ما حجبني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسَّم’’.
وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويجاريهم، ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينه، ويقبل عذر المتعذر، قال أنس: ما التقم أحد أذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر، وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة.
لم يُر قط مادًا رجليه بين أصحابه فيضيق بهما على أحد، يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى، ويكني أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمةً لهم، ولا يقطع على أحد حديثه، حتى يتجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام. وعن أنس: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ أتي بهدية قال: ’’اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحب خديجة’’. وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: ’’ما غِرت من امرأة، ما غِرت من خديجة، لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان يذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها، واستأذنت عليه أختها فارتاح إليها، ودخلت عليه امرأة فهشَّ لها وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حُسن العهد من الإيمان’’.
وكان يصل ذوي رحمه، من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم،وعن أبي قتاده: لما جاء وفد النجاشي قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخدمهم، فقال له أصحابه: نكفيك، فقال: ’’إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم’’. وعن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متوكئًا على عصا، فقمنا له فقال: ’’لا تقوموا كما يقوم الأعاجم، يعظِّم بعضهم بعضًا’’. وقال: ’’إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد’’، وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجلس بين أصحابه مختلطًا بهم، حيثما انتهى به المجلس جلس. وحج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على رحْل رثٍّ، عليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم، فقال: ’’اللهم حِجةً لا رياء فيها ولا سمعة’’.ولما فُتحت عليه مكه ودخلها بجيوش المسلمين، طأطأ رأسه على راحلته حتى كاد يمس قادمته- تواضعًا لله تعالى- وكان كثير السكوت لا يتكلم في غير الحاجة، ويعرض عمن تكلم بغير جميل، وكان ضحكه تبسمًا، وكلامه فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، وكان ضَحِك أصحابه عنده التبسم، توقيرًا له واقتداءً به، مجلسه مجلس حلم وخير وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، لا تخدش فيه الحرم، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا مشى مجتمعًا، يعرف في مشيته أنه غير ضجر ولا كسلان، قال ابن أبي هالة: كان سكوته على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر، وقالت عائشة كان يتحدث حديثًا، لَوْ عدَّه العادُّ أحصاه، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحب الطّيب والرائحة الحسنة؛ ويستعملها كثيرًا، وقد سيقت له الدنيا بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحها، فأعرض عن زهرتها، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله.
*من كتاب (خلق المسلم)
*الصحوة نت