فقه التعايش .. كيف نفهمه؟!.
بقلم/ محمد معافى المهدلي
دعونا ابتداءاً نقرر حقيقة هامة وهي ، أنّ الإسلام هو الديانة الوحيدة التي بسطت نفوذها على نصف العالم القديم تقريباً ، بحيث امتدت من المحيط الأطلنطي غرباً إلى بلاد الصين وسمرقند وطشقند شرقاً ، أي نحواً من خمسة عشر ساعة ، تسافرها الطائرة الجادة في سيرها، بلا انقطاع أو توقف، ومع أنّ الإسلام بسط سلطانه على ملايين الكيلومترات ، وعشرات ومئات الأمم والشعوب إلا أن الجميع استطاع أن يتعايش في أمن وسلام في رحاب دولة الإسلام التي منحت الجميع حق المواطنة المتساوية بلا منّ أو أذى.
ربما لهذه الظاهرة التاريخية الفريدة من نوعها أسبابها ، فالإسلام هو الدين الأوحد الذي يعترف بالآخر ، ويقدره ويجله ويكرمه ، فالإيمان بالله وبالرسل والكتب السماوية أركان إسلامية لا يصح إسلام المرء إلا بها .
ثمة أسباب أخرى ، في تقديري ، تفسر لنا هذا التعايش الفريد من نوعه ، ربما أن الإسلام هو المنهج الأوحد القادر على استيعاب البشرية جمعاء ، وهو الدين العالمي ، الذي ارتضاه الله لعباده، وهو بالتالي الدين الأصلح والأنفع للإنسانية في مختلف أطوارها .
ربما هناك عوامل وأسباباً أخر ، ليس هذا مكان تفصيلها وبيانها ، لأننا إنما نود أن نلج إلى مفهوم التعايش ، لا إلى مفهوم الإسلام وحقيقته وعدالته ، التي يكاد لا ينكرها أحد ، من ذوي الحجى وحكماء العالم.
إن مفهوم التعايش محل خلاف بين طرفين ووسط ، فالبعض يرى التعايش يعني الصمت عن الباطل والفساد ، وغض الطرف عن الجريمة بمختلف أنواعها وأشكالها سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية كانت ، أو بمعنى آخر التعايش مع الظلم والفساد والاحتلال والفجور والدمار ..وهذا منهج الليبراليين بعامة .
على أنّ هذه المنهجية يبدوا في الظاهر أنها كذلك ، أعني تتعايش مع الآخر ، لكنها في واقع الحال وعلى صعيد الممارسة نجد أن هذه النظرية تُقصي أو تغتال كل سبب للخير والفضيلة وتحاصرها في أي صورة من الصور .
إن هذا التيار إنما يرفع شعار التعايش كستار ويافطة ، ليقوم بعد ذلك بأوسع عمليات الاغتيال الفكري والحصار والتدمير لكل سبب للفضيلة والخيرية والسكينة الاجتماعية تحت ما يسمى بالتعايش مع الآخر ، وليس أدل على هذا من احتضان مشاريع الأمركة واللبرلة وغيرها من مشاريع الهيمنة والسيطرة على أمتنا ، وخنق كل صوت عربي أو قومي أو إسلامي أصيل ، كما تنطق به صحافتهم وإعلامهم كل وقت وحين.
إن هذا الطرف الليبرالي أفرط في تصوره لمعنى التعايش ، وحرفه عن معناه ومضمونه، إلى معنى خاص به ، ليس محل قبول وطني ولا ديني ، وهو بهذا لا يقل عن الطرف الآخر الذي رد ورفض هذا المفهوم واستنكره وأعرض عنه وحط من قدره ، زاعماً بأن الإسلام لا يقبل إلا بحق أو باطل وإسلام أو كفر ، وفضيلة أو رذيلة .. وبالتالي لا مجال في الإسلام لما يسمى بالتعايش ، كما أنّ هذا المصطلح ضرب من ضروب الخداع الغربي ، أو الصهيوني، يراد منه سحب البساط من تحت أقدام الحركات الوطنية التحررية ، لتتعايش مع الاستعمار والاستبداد .
وبالتالي فهذا المصطلح فَرض أو روّج على أقل تقدير لمسلسل ثقافة الخنوع والإذلال ، باسم التعايش ، وإنما المراد هو أن يعيش الباطل والمنكر والاحتلال ، ليس إلا .
ومن هنا فقد ردت بعض التيارات الإسلامية هذا المفهوم ، لا لذاته ، في الأعم الأغلب، وإنما بالنظر إلى واقع الحال ، فما أصاب الأمة إنما أصابها بسبب تلقفها للمصطلحات الغربية ، دون تدقيق ولا تمحيص ، ولكل منصف أن يراقب ماذا جنت الأمة من ويلات بسبب مصطلح الشعوبية والاشتراكية والليبرالية والتقدمية ..الخ .
هذان المنهجان المتطرفان النقيضان ظاهراً ، المتحدان في النتائج والمآلات ، لا شك أن الحق ليس مع أي منهما ، لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ، بل النظرتان تحتاجان إلى مدارسة وتصحيح، ويمكننا أن نفهم التعايش وفق ما يأتي :
1) أن التعايش لا يعني مداهنة الباطل وغض الطرف عن المنكرات السياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية والدينية ، بل يجب أن تصحح الحياة وفق منهج الصراط المستقيم الذي لا ترى فيه عوجا ولا أمتا ، ما استطاع المسلمون إلى ذلك سبيلا وطريقا ، ودليل ذلك عشرات الأدلة الشرعية القطعية ، كقوله تعالى : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} الحجر94 . وكقوله تعالى : {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} القلم9. وكقوله تعالى : {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} هود113. وقوله تعالى : {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ، إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً }الإسراء75.
وكقوله صلى الله عليه وسلم : (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) .
وحديث : (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله ) .
إن رسالة الإسلام لا تقبل للمسلم الرضى بالظلم أو الفساد أو الباطل ، أو التعايش معه ، وهذا ما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يهاجر من مكة إلى المدينة المنورة ، طلباً للحق ، وبعداً عن الباطل.
وعلة صرامة الإسلام في عدم مهادنة الباطل ، أن في مهادنة الباطل فسادا للحياة والأحياء وتخريبا للعيش على كوكب الأرض، ويحول البشرية قاطبة إلى قطعان من الذئاب والوحوش المفترسة ، يأكل بعضها بعضاً ، وهو ما تعانيه البشرية اليوم وما تذوقه من انهيار ودمار على كافة الصعد والمستويات ، اجتماعياً واقتصاديا وعسكريا ، لعل من أهم أسباب هذا الفساد العالمي ، حماية الباطل والمبطلين والدفاع عن الطغاة والمستبدين ، وتوسيع دائرة الهيمنة الدولية والظلم تحت لافتة ما يسمى بثقافة ’’التعايش’’!!.
ولو هادن الإسلام هذا الطغيان في أي صورة من صوره ، وتعايش معه وصمت عنه ولم يقاومه لكان في هذا نهاية الدنيا وخرابها ولهذا جاء في القرآن العظيم التحذير من مباطنة المبطلين والرضى بحالهم ، ولو كان هذا تحت ظرف الحاجة الشديدة ، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً } النساء97 .
2) الإسلام وهو يرفض الباطل والكفر والفساد ، لا يلزم أحداً بترك دينه ، بل ترك للناس حرية التدين والمعتقد ، والأدلة الشرعية متظافرة متواترة على ذلك ، كقوله تعالى : {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً} الكهف29.
صحيح أن هذه الآية وأمثالها نزلت منزلة التهديد والوعيد لا التخيير ، لكن مما اتفق عليه المسلمون أنه لا إكراه في الدين .
وبالتالي حرم الإسلام كافة ألوان الاضطهاد الديني والعرقي ، ولم ينقل لنا التاريخ لا القديم ولا الحديث أن أمة المسلمين اضطهدت قوماً لأجل دينهم أو عقيدتهم ، بل كانت دولة الإسلام مأوى كل طريد ، وسكن كل شريد ، وأمان كل خائف ، وكانت هي البلد الذي يأوي إليه المظلومون والمغلوبون على أمرهم ، من مختلف أصقاع المعمورة ، منذ العصر الإسلامي الأول وإلى يومنا ، فقد فر النصارى الكاثوليك إلى دولة الإسلام في القرون الوسطى هرباً من جحيم إخوانهم البروتستانت الذين أحرقوهم بالنار ، إبان الحروب العرقية والدينية، في أوربا ، فلاذوا بالفرار إلى الشام والعراق ومصر والجزيرة العربية ، وسكنوا فيها قرونا عديدة يتفيأون فيها نسائم الحرية والأمان بين ظهراني المسلمين ، وحازوا على كثير من الحقوق التي لم يحزها المسلمون أنفسهم ، وإلى يومنا .
وأجدها فرصة سانحة لبيان ما ذكره أهل العلم في تأويل حديث (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب) فالمراد ليس طردهم وتشريدهم أو إيذاؤهم ، بدليل أن أهل الكتاب عاشوا في كنف الجزيرة العربية منذ العهد النبوي مرورا بعهد الخلفاء الراشدين المهديين ، فالدولة الأموية فالعباسية والعثمانية ، وإلى يوم الناس هذا ، مما يدلل أن المراد بإخراجهم من جزيرة العرب أي المعاندين منهم والحربيين ، لا عمومهم ، ممن سالم الأمة أو دخل في ذمتها وعهدها ، فالنصوص الشرعية في هذه الصورة إنما تمنحتهم ذمة الله وذمة رسوله وذمة المؤمنين .
كما أن دعاوى إخراج أهل الكتاب من جزيرة العرب مظنة لأذية المسلمين في بلاد الغرب، من باب الجزاء بالمثل ، وهو ما يعني بالضرورة مراعاة المصلحة ، التي تؤيدها الأدلة الشرعية .
3) صحيح أن ثمة ضيق أفق لدى بعض المسلمين ، بل لدى بعض العلماء وطلبة العلم ، سبب هذا الضيق ذلك الموروث التراكمي الكبير لعصور التخلف والتقهقر الحضاري ، جعل البعض يضيق ذرعاً بالآخر ، أياً كان ، بل في كثير من الأحيان ليس هذا ’’الآخر’’ بجديد ولا غريب على الأمة ، بل هو منها وفيها ، كالذي جرى ويجري من إقصاء لبعض المذاهب الإسلامية كالمذاهب الأربعة المتبوعة ، في بعض البلدان ، وقد وقع هذا كما بينا في عصور التخلف والانحطاط ، ولا تزال بعض آثاره إلى يومنا .
وقد روى لنا المؤرخون كثيراً من القصص والأخبار في هذا الصدد، فمن ذلك ، أن أحد المصلين كان يحرك أصبعه في التشهد ، فقام عليه بعض المصلين فقطعوها له ، لأن التحريك للأصبع في التشهد مخالف للمذهب ، وقد كانت مثل هذه القصص لا تكاد تصدق، حتى رأينا في بعض حوزاتنا الفقهية مثل هذا ، أو قريباً منه ، فأحد الشيوخ منع بعض تلاميذه من التدريس ، وزيادة في الحظر منعه حتى من التدريس في المسجد ، ولا أستبعد أن يُمنع من دخول المسجد أو الصلاة فيه ، طالما وأن له رأياً يخالف فيه شيخه ، ليس في مسائل عديدة، بل في مسألة واحدة ، أو جزء منها ، الأمر الذي يجعلنا نعيد النظر في مناهجنا وثقافتنا ، وأن نميز منها فيما هو إسلامي ، وما هو عرفي ، أو موروث، فربما كان هذا العرف لا يجد له مستنداً من الشريعة أو الديانة ، وهذا كثيراً ما يقع ، وتتلقاه الأمة على أنه جزء من الدين ، وهو في حقيقة الأمر دخيل غريب .
4) إن التعايش الذي ننادي به إنما يقوم على أس الاحترام المتبادل بين أهل الديانات ، وعدم سب أو إيذاء أي منها ، كما قال تعالى : {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }الأنعام108. وكما قال تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125 .
وأعتقد جازماً أن ما نراه من صراع الديانات والحروب، إنما هو بسبب اللوبي الصهيوني العنصري ، الذي ليس له من عمل سوى إيقاد الفتن وإشعال الحروب بين الأمم والشعوب والديانات ، كما قال تعالى : { كلما أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }المائدة64 .
أحسب أني في هذه العجالة بينت مفهوم ’’التعايش’’ أو وقفت على بعض معانيه ، سائلا من الله العلي القدير أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه .
والله تعالى من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين،،
*مأرب برس
بقلم/ محمد معافى المهدلي
دعونا ابتداءاً نقرر حقيقة هامة وهي ، أنّ الإسلام هو الديانة الوحيدة التي بسطت نفوذها على نصف العالم القديم تقريباً ، بحيث امتدت من المحيط الأطلنطي غرباً إلى بلاد الصين وسمرقند وطشقند شرقاً ، أي نحواً من خمسة عشر ساعة ، تسافرها الطائرة الجادة في سيرها، بلا انقطاع أو توقف، ومع أنّ الإسلام بسط سلطانه على ملايين الكيلومترات ، وعشرات ومئات الأمم والشعوب إلا أن الجميع استطاع أن يتعايش في أمن وسلام في رحاب دولة الإسلام التي منحت الجميع حق المواطنة المتساوية بلا منّ أو أذى.
ربما لهذه الظاهرة التاريخية الفريدة من نوعها أسبابها ، فالإسلام هو الدين الأوحد الذي يعترف بالآخر ، ويقدره ويجله ويكرمه ، فالإيمان بالله وبالرسل والكتب السماوية أركان إسلامية لا يصح إسلام المرء إلا بها .
ثمة أسباب أخرى ، في تقديري ، تفسر لنا هذا التعايش الفريد من نوعه ، ربما أن الإسلام هو المنهج الأوحد القادر على استيعاب البشرية جمعاء ، وهو الدين العالمي ، الذي ارتضاه الله لعباده، وهو بالتالي الدين الأصلح والأنفع للإنسانية في مختلف أطوارها .
ربما هناك عوامل وأسباباً أخر ، ليس هذا مكان تفصيلها وبيانها ، لأننا إنما نود أن نلج إلى مفهوم التعايش ، لا إلى مفهوم الإسلام وحقيقته وعدالته ، التي يكاد لا ينكرها أحد ، من ذوي الحجى وحكماء العالم.
إن مفهوم التعايش محل خلاف بين طرفين ووسط ، فالبعض يرى التعايش يعني الصمت عن الباطل والفساد ، وغض الطرف عن الجريمة بمختلف أنواعها وأشكالها سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية كانت ، أو بمعنى آخر التعايش مع الظلم والفساد والاحتلال والفجور والدمار ..وهذا منهج الليبراليين بعامة .
على أنّ هذه المنهجية يبدوا في الظاهر أنها كذلك ، أعني تتعايش مع الآخر ، لكنها في واقع الحال وعلى صعيد الممارسة نجد أن هذه النظرية تُقصي أو تغتال كل سبب للخير والفضيلة وتحاصرها في أي صورة من الصور .
إن هذا التيار إنما يرفع شعار التعايش كستار ويافطة ، ليقوم بعد ذلك بأوسع عمليات الاغتيال الفكري والحصار والتدمير لكل سبب للفضيلة والخيرية والسكينة الاجتماعية تحت ما يسمى بالتعايش مع الآخر ، وليس أدل على هذا من احتضان مشاريع الأمركة واللبرلة وغيرها من مشاريع الهيمنة والسيطرة على أمتنا ، وخنق كل صوت عربي أو قومي أو إسلامي أصيل ، كما تنطق به صحافتهم وإعلامهم كل وقت وحين.
إن هذا الطرف الليبرالي أفرط في تصوره لمعنى التعايش ، وحرفه عن معناه ومضمونه، إلى معنى خاص به ، ليس محل قبول وطني ولا ديني ، وهو بهذا لا يقل عن الطرف الآخر الذي رد ورفض هذا المفهوم واستنكره وأعرض عنه وحط من قدره ، زاعماً بأن الإسلام لا يقبل إلا بحق أو باطل وإسلام أو كفر ، وفضيلة أو رذيلة .. وبالتالي لا مجال في الإسلام لما يسمى بالتعايش ، كما أنّ هذا المصطلح ضرب من ضروب الخداع الغربي ، أو الصهيوني، يراد منه سحب البساط من تحت أقدام الحركات الوطنية التحررية ، لتتعايش مع الاستعمار والاستبداد .
وبالتالي فهذا المصطلح فَرض أو روّج على أقل تقدير لمسلسل ثقافة الخنوع والإذلال ، باسم التعايش ، وإنما المراد هو أن يعيش الباطل والمنكر والاحتلال ، ليس إلا .
ومن هنا فقد ردت بعض التيارات الإسلامية هذا المفهوم ، لا لذاته ، في الأعم الأغلب، وإنما بالنظر إلى واقع الحال ، فما أصاب الأمة إنما أصابها بسبب تلقفها للمصطلحات الغربية ، دون تدقيق ولا تمحيص ، ولكل منصف أن يراقب ماذا جنت الأمة من ويلات بسبب مصطلح الشعوبية والاشتراكية والليبرالية والتقدمية ..الخ .
هذان المنهجان المتطرفان النقيضان ظاهراً ، المتحدان في النتائج والمآلات ، لا شك أن الحق ليس مع أي منهما ، لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ، بل النظرتان تحتاجان إلى مدارسة وتصحيح، ويمكننا أن نفهم التعايش وفق ما يأتي :
1) أن التعايش لا يعني مداهنة الباطل وغض الطرف عن المنكرات السياسية والفكرية والثقافية والاقتصادية والدينية ، بل يجب أن تصحح الحياة وفق منهج الصراط المستقيم الذي لا ترى فيه عوجا ولا أمتا ، ما استطاع المسلمون إلى ذلك سبيلا وطريقا ، ودليل ذلك عشرات الأدلة الشرعية القطعية ، كقوله تعالى : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} الحجر94 . وكقوله تعالى : {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} القلم9. وكقوله تعالى : {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} هود113. وقوله تعالى : {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ، إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً }الإسراء75.
وكقوله صلى الله عليه وسلم : (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) .
وحديث : (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله ) .
إن رسالة الإسلام لا تقبل للمسلم الرضى بالظلم أو الفساد أو الباطل ، أو التعايش معه ، وهذا ما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يهاجر من مكة إلى المدينة المنورة ، طلباً للحق ، وبعداً عن الباطل.
وعلة صرامة الإسلام في عدم مهادنة الباطل ، أن في مهادنة الباطل فسادا للحياة والأحياء وتخريبا للعيش على كوكب الأرض، ويحول البشرية قاطبة إلى قطعان من الذئاب والوحوش المفترسة ، يأكل بعضها بعضاً ، وهو ما تعانيه البشرية اليوم وما تذوقه من انهيار ودمار على كافة الصعد والمستويات ، اجتماعياً واقتصاديا وعسكريا ، لعل من أهم أسباب هذا الفساد العالمي ، حماية الباطل والمبطلين والدفاع عن الطغاة والمستبدين ، وتوسيع دائرة الهيمنة الدولية والظلم تحت لافتة ما يسمى بثقافة ’’التعايش’’!!.
ولو هادن الإسلام هذا الطغيان في أي صورة من صوره ، وتعايش معه وصمت عنه ولم يقاومه لكان في هذا نهاية الدنيا وخرابها ولهذا جاء في القرآن العظيم التحذير من مباطنة المبطلين والرضى بحالهم ، ولو كان هذا تحت ظرف الحاجة الشديدة ، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً } النساء97 .
2) الإسلام وهو يرفض الباطل والكفر والفساد ، لا يلزم أحداً بترك دينه ، بل ترك للناس حرية التدين والمعتقد ، والأدلة الشرعية متظافرة متواترة على ذلك ، كقوله تعالى : {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً} الكهف29.
صحيح أن هذه الآية وأمثالها نزلت منزلة التهديد والوعيد لا التخيير ، لكن مما اتفق عليه المسلمون أنه لا إكراه في الدين .
وبالتالي حرم الإسلام كافة ألوان الاضطهاد الديني والعرقي ، ولم ينقل لنا التاريخ لا القديم ولا الحديث أن أمة المسلمين اضطهدت قوماً لأجل دينهم أو عقيدتهم ، بل كانت دولة الإسلام مأوى كل طريد ، وسكن كل شريد ، وأمان كل خائف ، وكانت هي البلد الذي يأوي إليه المظلومون والمغلوبون على أمرهم ، من مختلف أصقاع المعمورة ، منذ العصر الإسلامي الأول وإلى يومنا ، فقد فر النصارى الكاثوليك إلى دولة الإسلام في القرون الوسطى هرباً من جحيم إخوانهم البروتستانت الذين أحرقوهم بالنار ، إبان الحروب العرقية والدينية، في أوربا ، فلاذوا بالفرار إلى الشام والعراق ومصر والجزيرة العربية ، وسكنوا فيها قرونا عديدة يتفيأون فيها نسائم الحرية والأمان بين ظهراني المسلمين ، وحازوا على كثير من الحقوق التي لم يحزها المسلمون أنفسهم ، وإلى يومنا .
وأجدها فرصة سانحة لبيان ما ذكره أهل العلم في تأويل حديث (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب) فالمراد ليس طردهم وتشريدهم أو إيذاؤهم ، بدليل أن أهل الكتاب عاشوا في كنف الجزيرة العربية منذ العهد النبوي مرورا بعهد الخلفاء الراشدين المهديين ، فالدولة الأموية فالعباسية والعثمانية ، وإلى يوم الناس هذا ، مما يدلل أن المراد بإخراجهم من جزيرة العرب أي المعاندين منهم والحربيين ، لا عمومهم ، ممن سالم الأمة أو دخل في ذمتها وعهدها ، فالنصوص الشرعية في هذه الصورة إنما تمنحتهم ذمة الله وذمة رسوله وذمة المؤمنين .
كما أن دعاوى إخراج أهل الكتاب من جزيرة العرب مظنة لأذية المسلمين في بلاد الغرب، من باب الجزاء بالمثل ، وهو ما يعني بالضرورة مراعاة المصلحة ، التي تؤيدها الأدلة الشرعية .
3) صحيح أن ثمة ضيق أفق لدى بعض المسلمين ، بل لدى بعض العلماء وطلبة العلم ، سبب هذا الضيق ذلك الموروث التراكمي الكبير لعصور التخلف والتقهقر الحضاري ، جعل البعض يضيق ذرعاً بالآخر ، أياً كان ، بل في كثير من الأحيان ليس هذا ’’الآخر’’ بجديد ولا غريب على الأمة ، بل هو منها وفيها ، كالذي جرى ويجري من إقصاء لبعض المذاهب الإسلامية كالمذاهب الأربعة المتبوعة ، في بعض البلدان ، وقد وقع هذا كما بينا في عصور التخلف والانحطاط ، ولا تزال بعض آثاره إلى يومنا .
وقد روى لنا المؤرخون كثيراً من القصص والأخبار في هذا الصدد، فمن ذلك ، أن أحد المصلين كان يحرك أصبعه في التشهد ، فقام عليه بعض المصلين فقطعوها له ، لأن التحريك للأصبع في التشهد مخالف للمذهب ، وقد كانت مثل هذه القصص لا تكاد تصدق، حتى رأينا في بعض حوزاتنا الفقهية مثل هذا ، أو قريباً منه ، فأحد الشيوخ منع بعض تلاميذه من التدريس ، وزيادة في الحظر منعه حتى من التدريس في المسجد ، ولا أستبعد أن يُمنع من دخول المسجد أو الصلاة فيه ، طالما وأن له رأياً يخالف فيه شيخه ، ليس في مسائل عديدة، بل في مسألة واحدة ، أو جزء منها ، الأمر الذي يجعلنا نعيد النظر في مناهجنا وثقافتنا ، وأن نميز منها فيما هو إسلامي ، وما هو عرفي ، أو موروث، فربما كان هذا العرف لا يجد له مستنداً من الشريعة أو الديانة ، وهذا كثيراً ما يقع ، وتتلقاه الأمة على أنه جزء من الدين ، وهو في حقيقة الأمر دخيل غريب .
4) إن التعايش الذي ننادي به إنما يقوم على أس الاحترام المتبادل بين أهل الديانات ، وعدم سب أو إيذاء أي منها ، كما قال تعالى : {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }الأنعام108. وكما قال تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125 .
وأعتقد جازماً أن ما نراه من صراع الديانات والحروب، إنما هو بسبب اللوبي الصهيوني العنصري ، الذي ليس له من عمل سوى إيقاد الفتن وإشعال الحروب بين الأمم والشعوب والديانات ، كما قال تعالى : { كلما أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }المائدة64 .
أحسب أني في هذه العجالة بينت مفهوم ’’التعايش’’ أو وقفت على بعض معانيه ، سائلا من الله العلي القدير أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه .
والله تعالى من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين،،
*مأرب برس