مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
وسقط صنم الليبرالية (2/3)
وسقط صنم الليبرالية (2/3)

’’...وقد أدت الليبرالية الجديدة التي يمثلها خير تمثيل منتدى ’’دافوس’’ في مؤتمراته السنوية إلى كوارث لا حدود لها لشعوب العالم النامي نتيجة لاستبعادها من دورة الإنتاج الفعال وتحويلها إلى أسواق للشركات الرأسمالية الكبرى تحت رعاية ’’منظمة التجارة العالمية’’...’’

مراحل الليبرالية

أولاً : الليبرالية الكلاسيكية :

وهي مفاهيم الليبرالية التي ظهرت كرد فعل للاضطهاد الذي لاقاه الأوربيون في هذه الأونة .

ويعتبر جوك لوك ( 1704م ) أبرز فلاسفة الليبرالية الكلاسيكية، ونظريته تتعلق بالليبرالية السياسية، وتنطلق نظريته من فكرة العقد الاجتماعي في تصوره لوجود الدولة، وهذا في حد ذاته هدم لنظرية الحق الإلهي التي تتزعمها الكنيسة. وقد تميز لوك عن غيره من فلاسفة العقد الاجتماعي بأن السلطة أو الحكومة مقيدة بقبول الأفراد لها ولذلك يمكن بسحب السلطة الثقة فيها .

وهذه الليبرالية الإنكليزية هي التي شاعت في البلاد العربية أثناء عملية النقل الأعمى لما عند الأوربيين باسم الحضارة ومسايرة الركب في جيل النهضة كما يحلو لهم تسميته. وقد أبرز آدم سميث (1790م) الليبرالية الاقتصادية وهي الحرية المطلقة في المال دون تقييد أو تدخل من الدولة.

وقد تكونت الديمقراطية والرأسماليّة من خلال هذه الليبرالية، فهي روح المذهبين وأساس تكوينها، وهي مستوحاة من شعار الثورة الفرنسية ’’ دعه يعمل ’’ وهذه في الحرية الاقتصادية ’’ دعه يمر ’’ في الحرية السياسية. وسيأتي التفصيل في مجالات الليبرالية.

ثانياً : الليبرالية الجديدة :

تعود نشأة الليبرالية الجديدة إلى منتصف القرن الميلادي الماضي، كردِّ فعل لإخفاق الليبرالية الكلاسيكية في تجنيب العقل الأوروبي تبعات التطرف العقائدي، والذي استفحل مع بروز الحركات الفاشية والقومية، وحتى الشيوعية التي خرجت كسابقاتها من رحم الفلسفة المادية، وهي المرجعية الأم للعقل الأوروبي الحديث بكافة أطيافه .

ومع تراجع الليبرالية الكلاسيكية التي حُمّلت الكثير من أوزار الحربين العالميتين، بدأت مرحلة جديدة من النقد وإعادة البناء في محاولة لإنقاذ الثقافة الليبرالية الغربية، فظهرت «الكينزية» كتعديل ضروري وعاجل للاقتصاد الرأسمالي الكلاسيكي ليسمح للدولة بالتدخل وإدارة الأزمات، وفي الفلسفة والآداب بدأ المفكرون والنقاد بوضع تصوراتهم المختلفة لمرحلة «ما بعد الحداثة». وفي السياسة برزت مفاهيم التكتل والأحلاف والاحتواء. أما الميدان العلمي فقد شهد انحساراً لنزعة المركزية الأوروبية المتعالية، وبدأ العلماء يدركون أن معرفتهم بالكون ما زالت أقل بكثير من تحقيق آمال القرن العشرين في الإحاطة بأسراره.

ويلاحظ (رانزولي) أن هذه الكلمة تستعمل في إنكلترا خصوصاً بالمعنى الاقتصادي ، بينما تكاد تستعمل دائماً في إيطاليا بالمعنى السياسي الديني .

ثم بدأت الليبرالية الجديدة في الزحف نحو السيطرة على المجال الاقتصادي العالمي منذ أكثر من ربع قرن بقليل. كانت دول مثل بريطانيا ثاتشر، أمريكا ريغان، تركيا أوزال، وأرجنتين العسكر اليمنيين، من أوائل الدول التي اتجهت نحو تطبيق النموذج الليبرالي الجديد؛ ولكن هيمنة النموذج لم تتحقق إلا بعد سقوط الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفيتي. طوال معظم القرن العشرين مثل التصور الاشتراكي التحدي الرئيسي للرأسمالية ـ الليبرالية، سواء على المستوى النظري أو على المستوى التطبيقي.

ويحبذ الليبراليون اليوم التنظيم النشط من قبل الحكومة للاقتصاد من أجل صالح المنفعة العامة. وفي الواقع، فإنهم يؤيدون برامج الحكومة لتوفير ضمان اقتصادي، وللتخفف من معاناة الإنسان.

وهذه البرامج تتضمن : التأمين ضد البطالة، قوانين الحد الأدنى من الأجور ، ومعاشات كبار السن ،والتأمين الصحي.

ويؤمن الليبراليون المعاصرون بإعطاء الأهمية الأولى لحرية الفرد ، غير أنهم يتمسكون بأن على الحكومة أن تزيل بشكل فعال العقبات التي تواجه التمتع بتلك الحرية.

واليوم يطلق على أولئك الذي يؤيدون الأفكار الليبرالية القديمة : المحافظون .

ونلاحظ أن أبرز نقطة في التمايز بين الطورين السابقين هو في مدى تخل الدولة في تنظيم الحريات ، ففي الليبرالية الكلاسيكية لا تتدخل الدولة في الحريات بل الواجب عليها حمايتها ليحقق الفرد حريته الخاصة بالطريقة التي يريد دون وصاية عليه ، أما في الليبرالية المعاصرة فقد تغير ذلك وطلبوا تدخل الدولة لتنظيم الحريات وإزالة العقبات التي تكون سبباً في عدم التمتع بتلك الحريات.

وهذه نقطة جوهرية تؤكد لنا أن الليبرالية اختلفت من عصر إلى عصر ، ومن فيلسوف إلى آخر ، ومن بلدٍ إلى بلدٍ ، وهذا يجعل مفهومها غامضاً كما تقدم.

وقد تعرف الليبرالية تطورات أخرى في المستقبل ، ولعل أبرز ما يتوقع في الليبرالية هو التطور نحو العولمة التي هي طور ليبرالي خطير وسيأتي الإشارة إليه في المبحث الرابع.

ولعل أبرز تطور جديد في الليبرالية المعاصرة هو ’’ ليبرالية العولمة ’’ ومن دلالتها الفكرية : العودة إلى الليبرالية الكلاسيكية كمفهوم ، وذلك أن من أبرز معالم العولمة : التخفيف من التدخل الحكومي في انتقال المال عبر الحدود والأسوار السياسية ، وذلك لتحقيق أعلى الأرباح ، فقد طبّقت الفلسفة الليبرالية عملياً عن طريق الشاويش السياسي الذي يحمي هذه الفكرة القديمة في الضمير الغربي.

لقد أصبح الاقتصاد وسيلة سياسية للسيطرة ، ونقل الثقافات الحضارية بين الأمم ، ولهذا فالأقوى اقتصادياً هو الأقوى سياسياًّ ولهذا اقتنعت الدول الغربية بهذه الفلسفة مع مشاهدتها لآثار الرأسمالية على الشعوب الفقيرة ، ومن خلال اللعبة الاقتصادية يمكن أن تسقط دول ، وتضعف أخرى.

وجذر العولمة الفكري هو انتفاء سيادة الدول على حدودها ومواطنيها فضلاً عن عدم سيطرتها عل النظام الاقتصادي الحر الذي كان يطالب به الليبراليون الكلاسيكيون.

يقول رئيس المصرف المركزي الألماني هناس تيتمار في فبراير من عام 1996م أمام المنتدى الاقتصادي في دفوس ’’ إن غالبية السياسيين لا يزالون غير مدركين أنهم قد صاروا الآن يخضعون لرقابة أسواق المال ، لا ، بل إنهم صاروا يخضعون لسيطرتها وهيمنتها’’ وسوف يكون قادة العالم في المرحلة القادمة ( العولمة ) هم أرباب المال ، وسدنة المؤسسات الاقتصادية الكبرى .

تهافت الليبرالية :

بعد سقوط الشيوعية كآيديولوجية كانت تهدد الفكر الليبرالي الغربي اغتر الغربيون كثيرا بمبدأ ( الليبرالية) وصاروا يبشرون به في كل محفل ويزعمون أنه هو خيار الإنسانية الوحيد فوظفوا طاقاتهم الفكرية والإعلامية بدعم سياسي واقتصادي رهيب لنقل هذا النور !! الى الإنسانية كلها .

ولعل أبرز نتاج فكري يدل على الغرور الكبير بهذا المبدأ عند الغربيين كتاب (نهاية التاريخ ) لمؤلفه فرانسيس فوكوياما وهو أمريكي الجنسية ياباني الأصل ، وقد ظهر فيه بوضوح مدى الغرور الكبير بهذا المنهج (الليبرالية) حيث اعتبرها فوكوياما نهاية التاريخ الإنساني وليس الأمريكي فحسب .

ولقد أستغل الغربيون الليبراليون الإمكانيات الكبيرة المتاحة لديهم لنقل هذا المذهب إلى أقصى الدنيا وصناعة الحياة الإنسانية على أسسه ومبادئه عن طريق القوة السياسية والإقتصادية وتوظيف وسائل الإتصالات التي تمكنهم من مخاطبة كل الناس وفي كل الأرض .

ولعل من أبرز نتائج الليبرالية في مجال الإقتصاد (العولمة ) وما تحمله من مضامين فكرية وقيم أخلاقية وأنماط حضارية وهي تحمل الرغبة الغربية في السيطرة في كل اتجاه : الحربي والسياسي والقيمي والحضاري والإقتصادي . فضلا عما تحمله من الدمار للإنسانية في معاشها الدنيوي وقد ظهرت آثار الرأسمالية في الحياة الغربية قبل مرحلة العولمة التي هي تعميم للرأسمالية على العالم كله .

مما جعل البعض يعتبر القرن الحادي والعشرين هو قرن المفكر الشيوعي (كارل ماركس ) لما يرى من تكدس الثروة بيد طبقة من الناس وانتشار الفقر والعوز في الناس و أخذ الأموال من البشر بأي طريق ، والتفنن في احتكار السلع الضرورية وتجويع البشر وإذلالهم باسم الحرية الإقتصادية .

دور الليبرالية في الأزمة الاقتصادية الحالية :

النظام الرأسمالي بطريقة تطبيقه، ووفقا لأولريخ تيلمان نائب مدير معهد أخلاقيات الأعمال التجارية في جامعة سانت غالن السويسرية، أثبت أنه متوحش وغير عادل. وقد أثبتت الأسابيع الأخيرة أنه يفوق في خزيه كل وصف. ففي العقود الأخيرة اكتسبت الأسواق المالية نفوذا هائلا أدى إلى سيادة نمط من عدم المساواة. بنت هذه الأسواق كازينوات ضخمة سمحت بها السلطات التنظيمية، بل وشجعتها كذلك، وكانت النتائج خسائر كبيرة سيفرض على دافعي الضرائب من المواطنين العاديين تسديدها.

إن الأزمة الحالية، من وجهة نظر تيلمان ترقى إلى مستوى الفضيحة. إن الحلول التي جرى تبنيها من قبل الإدارة الأمريكية والدول الأوروبية، من كما يرى عدد من المحللين الاقتصاديين هي حلول غير واقعية، وهي أشبه باللجوء إلى تدريبات مكافحة الحرائق لمنع أزمة اقتصادية عالمية. إن كون رأس المال ليس مجرد لعبة بين أيادي حملة الأسهم، بل يرتبط بالاقتصاد الحقيقي، أي إلى سوق الائتمان، يجعل بقية الناس رهائن بطريقة ما، لحركة أسواق البورصة. وربما تكون الخيارات التي تم اللجوء لها مقبولة بشكل مؤقت، لكن ينبغي الحذر من الركون لها باستمرار إلى ما لا نهاية. إن ترك الحبل على الغارب، سيؤدي إلى مبادرة جميع العملاء إلى سحب مدخراتهم، ومن شأن ذلك أن يعيد كارثة عام 1929، لذلك يغدو بديهيا أن تتدخل الدولة وتعلن ضمانها لتلك الأموال??.

كما يرى كثيرون أن الأزمة الراهنة تفتح باب الجدل من جديد حول تناقضات النظام الرأسمالي ومدى قدرة الليبرالية الجديدة على حل أو تجاوز تناقضات هذا النظام في زمن العولمة. ولأنه سبق لنا تناول البعدين الاقتصادي والسياسي بقدر من التفصيل فسنخصص مقال اليوم لمعالجة الأبعاد الفكرية والأيديولوجية للأزمة بقدر أكبر من التفصيل.

من المعروف أن الثورة الصناعية، التي ظهرت في أوروبا منذ ما يقرب من ثلاثة قرون ومنها انتقلت إلى بقية أنحاء العالم، كانت أحدثت انقلابا جذريا في أنماط ووسائل الانتاج وفرضت تقسيما جديدا للعمل ترتب عليه تغير ضخم في علاقات الانتاج وظهور طبقات اجتماعية مختلفة عن تلك التي عرفتها المجتمعات الزراعية والإقطاعية وتبلور نظام اقتصادي واجتماعي جديد «الرأسمالي». غير أن هذا النظام مر بمراحل تطور متعددة قبل أن يستقر كنظام عالمي تحت تأثير عاملين، الأول: استعمار أوروبي لقارات إفريقيا وآسيا والأمريكتين حولها إلى مصادر لمد الصناعات الأوروبية الوليدة بالمواد الأولية التي تحتاجها وإلى أسواق لتصريف منتجاتها، والثاني: شركات عملاقة ظهرت أولا في كنف الاستعمار وتحت حمايته لكنها راحت بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية تقوى وتتحول إلى شركات عملاقة متعددة الجنسيات لتصبح أحد أهم مرتكزات وآليات عولمة النظام الرأسمالي.

هذا بالإضافة إلي أن اعتناق النموذج الليبرالي الجديد أدى إلى أزمات اجتماعية طاحنة في البداية، من الإضرابات العمالية واسعة النطاق إلى الارتفاع الحاد في معدلات البطالة واقتلاع مجتمعات بأكملها .

أما ما يحدث اليوم فهو يمس دول المركز، بل والسوق الأميركية ذاتها. البنوك وشركات الإقراض والتأمين المالي التي أفلست أو أشرفت على حافة الإفلاس هي بعض أضخم المؤسسات المالية في العالم، ومصيرها لا يؤثر على عدد من المستثمرين الكبار أو الصغار وحسب، بل وعلى دول وصناديق سيادية وبنوك وشركات تجارية. الذين قالوا إن الأزمة الحالية لن تصل إلى مستوى الانهيار الذي عاشته الولايات المتحدة ودول أخرى عدَّة في نهاية العشرينيات من القرن الماضي محقون. فالعالم اليوم في وضع أفضل بكثير من حيث مقدرته على التعامل مع الأزمات المالية والاقتصادية الكبرى، وقد رأينا كيف تحركت الدول والبنوك المركزية في جميع الدول الصناعية الرئيسة لمحاصرة الأزمة ومنعها من التفاقم. ولكن ذلك لا يعني أن الاقتصاد العالمي سيخرج من هذه الأزمة سريعاً أو من دون تكاليف باهظة. إلى جانب الخسائر الهائلة لجميع أصناف المستثمرين، فإن الأموال التي ضخت لإنقاذ المؤسسات المالية المهددة هي أموال دافعي الضرائب، مما قد يؤدي إلى ارتفاع عجز ميزانيات عدد من الدول. والانهيارات المالية، إلى جانب المستويات المرتفعة لأسعار الفائدة، ستترك أثرها على عجلة الإنتاج والنمو الاقتصاديين، إلى ارتفاع معدلات البطالة، وإلى تراجع الطلب على عدد متزايد من السلع. وهم النمو الاقتصادي المستمر، والازدهار المتصل، الذي وعدت به الليبرالية الجديدة، قد وصل إلى نهايته. ولم يعد من منقذ سوى أداة الدولة، وليس من يحمل عبء الإخفاق سوى دافعي الضرائب، ملايين العاملين من المواطنين العاديين??.

ويقول توماس فريدمان : إذا كنتم تريدون مثلاً وحيداً عن الطريقة التي رمتنا بها دمقرطة التمويل في الأزمة المالية العالمية والطريقة التي ستخرجنا بها من مأزقنا، يكفيكم النظر إلى الصحف البريطانية الأسبوع الماضي وعناوينها الرئيسيّة التي سلّطت الضوء على عدد المواطنين والبلديات والجامعات في بريطانيا، بما فيها جامعة كامبردج، الواقعين في حالة من الارتباك اليوم نتيجةً لحسابات الادخار التي فتحوها لدى مصارف أيسلندية من خلال الخدمات المصرفيّة عبر الإنترنت، لاسيما Icesave.co.uk ... إليكم ما أوصل أيسلندا إلى الأزمة التي تعاني منها اليوم. في عام 2002 تقريباً، بدأت أيسلندا بعمليّة لخصخصة المصارف المحلية. وبحسب ما جاء في صحيفة «وول ستريت جورنال»، شهدت المصارف الثلاثة التي تشكّل الجزء الأكبر من النظام المصرفي في أيسلندا «نمواً سريعاً بفضل الائتمانات السهلة المنال وتضاعف إجمالي أصول هذه المصارف مجتمعةً عشر مرّات في غضون خمس سنوات». وفي حين أن المصارف الأيسلندية لم تكن معنيّة بالرهون العقارية الأميركية ذات التصنيف الائتماني المنخفض، إلا أنها أسرفت في عمليات الاقتراض والإقراض، مُغريةً العملاء الراغبين في ادخار أموالهم في معظم أنحاء أوروبا بمعدّل فائدة يساوي 45،5 في المائة على حسابات الادخار ... في الماضي، كانت حركة العولمة مرادفاً للعطاء، ذلك لأن دمقرطة التمويل ساعدت على دفع عجلة نمو الاقتصاد العالمي الذي ساهم في إخراج عدد كبير من الهنود والصينيين والبرازيليين من رقعة الفقر في العقود الماضية. لكن اليوم، تعمد العولمة إلى سحب كلّ المزايا التي قدّمتها إلى العالم سابقاً، ذلك لأن دمقرطة التمويل أدّت إلى انتقال عدوى الرهون العقارية السامة في الولايات المتحدة إلى سائر دول العالم. وعلى ضوء هذا الواقع، لم يعد أمامنا سوى الانتظار لعل العولمة تنقذنا من مخالب الأزمة المالية الحالية??. ويقول الدكتور السيد ياسين : ’’ما شهدناه في عصر العولمة من محاولات دائبة لإعادة صياغة الأيديولوجية الرأسمالية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وابتداع نظرية ’’الليبرالية الجديدة’’ التي تجاهد الولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص لكي تصبح هي الأيديولوجية السائدة في كل المجتمعات الإنسانية المعاصرة بلا استثناء، ونقطة البدء هي تصفية دولة الرعاية الاجتماعية Welfare State بأشكالها المتنوعة الاشتراكية والرأسمالية المهذبة، وتصفية نظرية التخطيط الاشتراكي، ونسف كل مشاريع القطاع العام من خلال برامج الخصخصة، وتحرير الاقتصاد، والتركيز على حرية السوق من خلال آلية العرض والطلب، وفتح الباب -نظرياً- أمام التنافس الحر الطليق للمواطنين في المجتمع.

وقد أدت الليبرالية الجديدة التي يمثلها خير تمثيل منتدى ’’دافوس’’ في مؤتمراته السنوية إلى كوارث لا حدود لها لشعوب العالم النامي نتيجة لاستبعادها من دورة الإنتاج الفعال وتحويلها إلى أسواق للشركات الرأسمالية الكبرى تحت رعاية ’’منظمة التجارة العالمية’’. غير أن الليبرالية الجديدة قامت في مواجهتها حركات احتجاجية عالمية، وهكذا أصبح لدينا دافوس وضد دافوس. وهذه الحركات قنعت حتى الآن بالنقد العنيف لمقولات وممارسات الليبرالية الجديدة، غير أنه يبقى أمامها -كما دعا إلى ذلك آرنسون- أن تصوغ مشروعاً راديكالياً جديداً لتغيير العالم! ??.’’ .

على الرغم من أداء الاقتصادات الرأسمالية الرئيسية في أميركا وأوروبا الغربية وازدهارها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية السبعينيات من القرن العشرين، فإن النظريات الاقنصادية قد برهنت في أوضاع الأزمة التي تصيب الرأسمالية من فترة إلى أخرى على فشلها كما قال رئيس الوزراء البريطاني تشرشل ذات مرة ... لقد حرصت النظرية الكينزية على إصلاح الرأسمالية لتجنب انهيارها، ولذلك داست على بعض معتقداتها في سبيل البعض الآخر، وانتهكت حرمة معبودها -السوق- بإدخال الدولة في النشاط الاقتصادي كلاعب رئيس. وكردة فعل على النظرية الاقتصادية الكينزية جاءت أفكار مدرسة جانب العرض (Supply Side Economics ) التي تربط كل أزمات الاقتصاد بـ’’ ارتفاع تكاليف الضرائب’’، وقد سخر من هؤلاء كروغمان واصفا إياهم بالفشل في التحليل الاقتصادي الكلي.

فمثلا الضرائب وفرت للحكومة الاتحادية الأميركية في عهد كلينتون حوالي 82.2% من مواردها، لكن الدعم الموجه لتستفيد منه الطبقات الاجتماعية الخاصة (فئة المسنين والفقراء) لم يتجاوز 5% فقط! ??. .

وبحسب خبراء المال والاقتصاد فإن الأسوأ لم يظهر بعد في الأزمة المالية الدولية، وأن تسعين بالمئة من الضرر نتج عن سياسات مالية خاطئة، ومضاربات وفساد إداري وعشرة بالمئة نتيجة العوامل الضعيفة في السوق. .. وان الأضرار والخسائر في العام المنصرم، قاربت ألفي بليون دولار وقرابة أربعمائة مليار دولار، في الربع الأخير من هذه السنة، منها مائة وثمانين مليار دولار، خسائر الأسواق الخليجية، والأسوأ لم يظهر بعد. .. فشل النظرية الاقتصادية الليبرالية الرئيسة وتطبيقاتها وغياب الرقابة وسطوة المضاربات ركزت النشاط الاقتصادي في جانب واحد من النشاط الاقتصادي على حساب الجوانب الاخرى الاكثر اهمية.

لقد دفع العالم ثمنا غاليا، لنظريات تسليع وفتح الاسواق واجتياحها بدون ضوابط، وان اوان العودة لشيء من الضوابط الوطنية والدولية على الحركة الاقتصادية فلم يعد سليما القبول بالتوجهات الاقتصادية المنفلتة التي قامت اساسا على فرص اولويات اصحاب هذه النظريات واجنداتهم واستثماراتهم ونتائج فشل سياساتهم على دول العالم، بدون تدخل او رقابة ??..

هذا بالإضافة إلي أن واقع السوق الحر يثبت أن المصلحة تتجه نحو جيوب كهنة المال والاقتصاد، فالمال يضخ في خزائن الذي يملكون التجربة والممارسة الاقتصادية، ورفع سلطة الدولة عن ضبط السوق، مكن كل محتال أن يلعب لعبته، وصار السوق غابة من وحوش تأكل كل ضعيف وساذج أو صادق غرّ، لايعرف ولايحب أن يعرف طرائق المكر والاحتيال. وكون الفرد ينطلق من مصالحه الخاصة، بيعا وشراء، هذا لا علاقة له بصحة العملية بوجه، فالانتفاع عملية متبادلة بين البائع والمشتري، هذا صحيح، لكن هذا لايمنع من التلاعب والاحتيال، ما لم يخضع لقانون، وحرص الفرد على مصلحته لايرفع عنه الغفلة، كما لايرفع عنه الخديعة، ما لم يجد قانونا يحميه، أو قانونا يردعه ويكفه عن العبث. فهذا الذي يملك سلعة يحتكرها، فلا يبيعها، حتى إذا شحت في أيدي الناس، وزاد الطلب عليها، باعها بأعلى الأسعار، أليس يحقق مصلحته في البيع، ويحقق مصلحة المشتري حينها؟.

ثم في الليبرالية، ما مصير القيم الأخرى، كالمساواة والعدالة والسعادة والتعاون؟..

فإذا كانت الحرية هي القيمة العليا، فلا شك أنها ستتعارض مع قيم كثيرة: ستتعارض مع السعادة، فالفرد بدعوى الحرية سيفعل ما يشاء، ولو كان فيه شقاؤه، سيشرب الخمر، ويزني، ويخدع، ويحتال، وكل هذه آفات تقتل السعادة، يقر بذلك كل العقلاء. وحرية السوق أو السياسة تتعارض مع العدالة والمساواة:

فأين نجد المساواة في حكم ديمقراطي، الحكم فيه للأغلبية الغنية ؟ وأين نجد العدالة في سوق حر، لا يعرف إلا الاحتيال والتلاعب، والذكي من يكسب أكثر؟.

إن الحل الليبرالي قاتم وسقيم، والغرب أكبر شاهد على هذا، فقد عاش الحياة ’’الليبرالية’’ بالمفهوم الذي وضع لها، أكثر من قرنين، وهاهو ينتقدها ويعارضها ، بعدما طحنت شعوبهم، فنشرت فيهم البطالة والفقر، والأمراض المهلكة، والمخدرات والخمور والزنى والشذوذ والإلحاد والجريمة، والغرب اليوم، ومن وراء الفكر الليبرالي، يصدر للعالم مشاكله وجرائمه وعدوانه.

ومع ذلك فكلما اجتهد العلماء وخبراء الاقتصاد في بحث أفضل السبل لإنقاذ الاقتصاد العالمي وجدوا أن الحل الأمثل هو تخفيض فوائد البنوك لتصل إلى الصفر (أي إلغاء الربا) وتثبيت الضرائب عند نسبة 2.5% (وهي قيمة الزكاة- كما شرعها الله تعالى)...
*القلم
أضافة تعليق