تقنين الفقه وتدوينه مترادفان أم مختلفان
الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي
كانت الندوة الحوارية التي أجرتها قناة دليل ابتداء من الخامس من رمضان لهذا العام 1430 هـ لقاء مثريا بالنسبة لي وقد كنت مشاركا في الندوة تلك للتعبير عن وجهة القائلين بجواز تدوين الأحكام الشرعية والإلزام بها .
إلا أن مصطلح التقنين الوارد في عنوان تلك الندوات والذي تداوله المشاركون وعدد من المداخلين على أنه مرادف للتدوين كان محل اعتراض عندي عبرت عنه منذ بداية اللقاء الأول ، لكن كثرة عناصر الحوار وشعور المشاركين ومقدم البرنامج بأن هذه مسألة مصطلحية لا يرون الوقوف عندها على حساب ما هو أهم منها في نظرهم من محاور اللقاء ، أقول إن هذا الشعور لم يمكني من التعبير عن هذه الجزئية التي أرى أنها من الأهمية بحيث تستحق دراستها في ندوات مستقلة بل أرى أنها محل التقديم على سائر محاور موضوع تدوين القضاء والإلزام به .
فالتقنين والتدوين مصطلحان ظن الكثير من الباحثين في تقنين الفقه أنهما مترادفان وبنوا على هذا الظن تخطئة من توقفوا أو منعوا التقنين بسبب هذا المصطلح محتجين بأن كلمة قانون قد استخدمها العلماء المسلمون في كثير من كتاباتهم وأسماء كتبهم فتنقطع بذلك دعوى المنع بحجة التشبه بالغرب .
والقول بأن كلمة القانون قد استخدمها العلماء الأولون أمر صحيح ، لكن المنع من استخدامها كمرادف للتدوين في عصرنا الحاضر ليس مرده في كل الأحوال الخوف من مشابهة الغرب وحسب .
بل مرده أن التقنين في هذا العصر أصبح علَما على طريقة في صياغة الأنظمة تختلف اختلافا كبيرا عن أسلوب تدوين الأحكام الفقهية وحين نطلق مصطلح التقنين على تدوين الأحكام الفقهية فكأننا نعني بذلك صياغة الفقه بالطريقة نفسها التي تصاغ بها مواد القانون، وهذا فيه إشكال كبير من جهة الفرق الشاسع بين صياغة القانون وصياغة الفقه .
فالفقه الذي نطالب بتدوين أحكامه القضائية يتكون من مسائل واقعية وافتراضية كل مسألة مستقلة عن أختها من حيث دليلها الذي تستند إليه من الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب والعرف أو غيرها من مصادر الاستدلال المعروفة عند علماء أصول الفقه ، كما أن هذه المسائل في غالبها تأخذ الصورة الوصفية لفعل العبد مما يتسبب في كثرتها وعدم تناهيها ، كما أن علاقة هذه المسائل بالقاعدة الفقهية أنها تأتي بعدها بمعنى أن المسائل الفقهية تسبق في الوجود القاعدة التي تجمعها ، ومعظم القواعد الفقهية الصغرى ليس لها دليل مستقل بل قيمتها في الوجود مستندة إلى المسائل التي تدخل تحتها ولذلك فالقواعد الفقيهة ليست كلية بل أغلبية يستعين الفقيه بها على حفظ أفراد المسائل لكنه لا يحكم بموجبها على ما يجد لديه من مشكلات إلا على سبيل القياس على مسألة أخرى من المسائل التي استقر دخولها تحت تلك القاعدة .
هذا المسلك في صياغة الفقه الإسلامي يجعله عظيم الإحاطة بمطالب الناس دقيقا في التعبير عنها كما أنه يجعل الفقه بجميع جزئياته مرتبطا بأصول التشريع .
أضرب مثالا قريبا للإيضاح فقط بهذه المسائل الفقهية :
مسألة :إذا أشرف الإنسان على الهلاك بسبب الجوع ولم يجد طعاما إلا ميتة جاز له الأكل منها بقدر ما يدفع عنه الهلاك ، دليله قوله تعالى (فمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)
مسألة : إذا أشرف على الهلاك عطشا ولم يجد ما يدفع عنه الهلاك إلا خمرا جاز له الشرب منه بقدر ما يدفع عنه الهلكة والدليل القياس على أكل الميتة عند الضرورة .
تجد أن هاتين المسألتين مرتبطتين مباشرة بالدليل الشرعي أخذ الفقهاء منهما ومن مسائل أخر قاعدة الضرورات تبيح المحضورات ، لكن هذه القاعدة كغالب القواعد الشرعية ليست كلية ، لذلك نجد المسألة التالية تخرج منها :
مسألة : إذا أشرف على الهلاك لمرضه ولم يكن له علاج إلا في الخمر لم يجز له تناوله لقوله صلى الله عله وسلم (إن الله لم يجعل شفاء أمتي بما حرم عليها)
ويلاحظ القارئ تشابه المسألتين تشابها كبيرا لكن منع من دخول الأخيرة معهما في القاعدة المذكورة ما قدمته من ارتباط مسائل الفقه بالدليل مباشرة .
فإذا أردنا وضع مدونة للفقه ملزمة للقضاة فلا بد أن تكون مفصلة المسائل معتمدة على الوصفية في صياغتها لتكون أوضح في الدلالة على الوقائع ، رابطة كل مسألة بدليلها مباشرة ، كما ينبغي تنحية القواعد الفقهية عن أن تكون مواد حاكمة أو الإشارة إليها على أنها مصدر لأي من هذه المسائل .
وبهذا الشكل لن تتعرض المدونة القضائية لاختلاف كبير في فهم مسائلها شأنها في ذلك شأن كتب الفقه المطولات التي لا يختلف المختصون في الفقه في فهم مسائلها ،وبذلك نقطع قول من قال إن تدوين الفقه القضائي لن يرفع الخلاف وسنجد أنفسنا محتاجين إلى تفسير المدونات كما فعل ويفعل أهل القانون مع موادهم القانونية .
هذا ما عن الفقه .
أما القانون فإن مواده مصوغة على شكل قواعد كلية وهذه المواد ليست وصفية كمسائل الفقه بل عامة مجردة وقصد بتجريدها خلوها من الشروط والصفات التي قد تؤدي إلى تطبيقها على شخص بذاته وهذا مخالف للمسألة الفقهية التي تتقيد دائما بالشروط والصفات التي تؤدي فعلا إلى مطابقتها لأحوال أفراد الناس .
أما عموم المادة القانونية فيعني أنه يندرج تحتها العديد من المسائل المختلفة الصور .
وهذه السمة العامة لمواد القانون هي التي تجعل القانونيين يختلفون في تفسير المواد وتجعل القضاة أيضا يختلفون في فهمها ويضطرون أحيانا على البرهنة على صحة فهمهم بما يتناسب واتجاهاتهم من الكتب التي اعتنت بتفسير القانون يضاف إلى ذلك أن المادة القانونية هي دليل بذاتها وحين يخرج القاضي عنها لأي سبب من الأسباب فلا بد أن يستدل لخروجه بمادة أخرى من مواد القانون .
ويوجد في القانون ما يسمى بالقواعد القانونية وهي أيضا مواد في القانون نفسه ولكنها تكون أكثر عموما من المواد الأخرى بحيث يستعان بها على فهم المواد التفصيلية .
ومن هنا يظهر أن التقنين أصبح علما على منهج محدد المعالم في صياغة الفقه الوضعي وهو يختلف كليا عما نطالب به من تدوين الأحكام الفقهية الشرعية والإلزام بها ، وعليه فإنني أنادي بعدم استخدام مصطلح التقنين كمرادف لتدوين الأحكام لأن الواقع يقضي بعدم الترادف فقد انتقلت كلمة القانون من مصطلح عام يتلكم به علماء العرب ليعبروا به عن الترتيب الدقيق إلى مصطلح خاص يعني كتابة النظم القضائية على وجه مخصوص ولا بد لنا أن نذعن لهذا الواقع اللغوي ولا نصر على الخلط بينهما سيما وأن هذا الخلط سوف يفضي حتما لا تقديرا إلى مشكلات كبيرة لو قدر أن تمت الموافقة السامية في بلادنا على التقنين بهذا اللفظ
وآمل أن ييسر الله تعالى لمن هم ألصق بالقانون من الباحثين للكتابة في هذه القضية كتابة مستفيضة مدعمة بالأمثلة والبسط
وهذا رابط لمن أراد مشاهدة تلك الندوات
http://www.benaa.com/Read.asp?PID=1521871&Sec=0
*لجينيات
الدكتور محمد بن إبراهيم السعيدي
كانت الندوة الحوارية التي أجرتها قناة دليل ابتداء من الخامس من رمضان لهذا العام 1430 هـ لقاء مثريا بالنسبة لي وقد كنت مشاركا في الندوة تلك للتعبير عن وجهة القائلين بجواز تدوين الأحكام الشرعية والإلزام بها .
إلا أن مصطلح التقنين الوارد في عنوان تلك الندوات والذي تداوله المشاركون وعدد من المداخلين على أنه مرادف للتدوين كان محل اعتراض عندي عبرت عنه منذ بداية اللقاء الأول ، لكن كثرة عناصر الحوار وشعور المشاركين ومقدم البرنامج بأن هذه مسألة مصطلحية لا يرون الوقوف عندها على حساب ما هو أهم منها في نظرهم من محاور اللقاء ، أقول إن هذا الشعور لم يمكني من التعبير عن هذه الجزئية التي أرى أنها من الأهمية بحيث تستحق دراستها في ندوات مستقلة بل أرى أنها محل التقديم على سائر محاور موضوع تدوين القضاء والإلزام به .
فالتقنين والتدوين مصطلحان ظن الكثير من الباحثين في تقنين الفقه أنهما مترادفان وبنوا على هذا الظن تخطئة من توقفوا أو منعوا التقنين بسبب هذا المصطلح محتجين بأن كلمة قانون قد استخدمها العلماء المسلمون في كثير من كتاباتهم وأسماء كتبهم فتنقطع بذلك دعوى المنع بحجة التشبه بالغرب .
والقول بأن كلمة القانون قد استخدمها العلماء الأولون أمر صحيح ، لكن المنع من استخدامها كمرادف للتدوين في عصرنا الحاضر ليس مرده في كل الأحوال الخوف من مشابهة الغرب وحسب .
بل مرده أن التقنين في هذا العصر أصبح علَما على طريقة في صياغة الأنظمة تختلف اختلافا كبيرا عن أسلوب تدوين الأحكام الفقهية وحين نطلق مصطلح التقنين على تدوين الأحكام الفقهية فكأننا نعني بذلك صياغة الفقه بالطريقة نفسها التي تصاغ بها مواد القانون، وهذا فيه إشكال كبير من جهة الفرق الشاسع بين صياغة القانون وصياغة الفقه .
فالفقه الذي نطالب بتدوين أحكامه القضائية يتكون من مسائل واقعية وافتراضية كل مسألة مستقلة عن أختها من حيث دليلها الذي تستند إليه من الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب والعرف أو غيرها من مصادر الاستدلال المعروفة عند علماء أصول الفقه ، كما أن هذه المسائل في غالبها تأخذ الصورة الوصفية لفعل العبد مما يتسبب في كثرتها وعدم تناهيها ، كما أن علاقة هذه المسائل بالقاعدة الفقهية أنها تأتي بعدها بمعنى أن المسائل الفقهية تسبق في الوجود القاعدة التي تجمعها ، ومعظم القواعد الفقهية الصغرى ليس لها دليل مستقل بل قيمتها في الوجود مستندة إلى المسائل التي تدخل تحتها ولذلك فالقواعد الفقيهة ليست كلية بل أغلبية يستعين الفقيه بها على حفظ أفراد المسائل لكنه لا يحكم بموجبها على ما يجد لديه من مشكلات إلا على سبيل القياس على مسألة أخرى من المسائل التي استقر دخولها تحت تلك القاعدة .
هذا المسلك في صياغة الفقه الإسلامي يجعله عظيم الإحاطة بمطالب الناس دقيقا في التعبير عنها كما أنه يجعل الفقه بجميع جزئياته مرتبطا بأصول التشريع .
أضرب مثالا قريبا للإيضاح فقط بهذه المسائل الفقهية :
مسألة :إذا أشرف الإنسان على الهلاك بسبب الجوع ولم يجد طعاما إلا ميتة جاز له الأكل منها بقدر ما يدفع عنه الهلاك ، دليله قوله تعالى (فمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)
مسألة : إذا أشرف على الهلاك عطشا ولم يجد ما يدفع عنه الهلاك إلا خمرا جاز له الشرب منه بقدر ما يدفع عنه الهلكة والدليل القياس على أكل الميتة عند الضرورة .
تجد أن هاتين المسألتين مرتبطتين مباشرة بالدليل الشرعي أخذ الفقهاء منهما ومن مسائل أخر قاعدة الضرورات تبيح المحضورات ، لكن هذه القاعدة كغالب القواعد الشرعية ليست كلية ، لذلك نجد المسألة التالية تخرج منها :
مسألة : إذا أشرف على الهلاك لمرضه ولم يكن له علاج إلا في الخمر لم يجز له تناوله لقوله صلى الله عله وسلم (إن الله لم يجعل شفاء أمتي بما حرم عليها)
ويلاحظ القارئ تشابه المسألتين تشابها كبيرا لكن منع من دخول الأخيرة معهما في القاعدة المذكورة ما قدمته من ارتباط مسائل الفقه بالدليل مباشرة .
فإذا أردنا وضع مدونة للفقه ملزمة للقضاة فلا بد أن تكون مفصلة المسائل معتمدة على الوصفية في صياغتها لتكون أوضح في الدلالة على الوقائع ، رابطة كل مسألة بدليلها مباشرة ، كما ينبغي تنحية القواعد الفقهية عن أن تكون مواد حاكمة أو الإشارة إليها على أنها مصدر لأي من هذه المسائل .
وبهذا الشكل لن تتعرض المدونة القضائية لاختلاف كبير في فهم مسائلها شأنها في ذلك شأن كتب الفقه المطولات التي لا يختلف المختصون في الفقه في فهم مسائلها ،وبذلك نقطع قول من قال إن تدوين الفقه القضائي لن يرفع الخلاف وسنجد أنفسنا محتاجين إلى تفسير المدونات كما فعل ويفعل أهل القانون مع موادهم القانونية .
هذا ما عن الفقه .
أما القانون فإن مواده مصوغة على شكل قواعد كلية وهذه المواد ليست وصفية كمسائل الفقه بل عامة مجردة وقصد بتجريدها خلوها من الشروط والصفات التي قد تؤدي إلى تطبيقها على شخص بذاته وهذا مخالف للمسألة الفقهية التي تتقيد دائما بالشروط والصفات التي تؤدي فعلا إلى مطابقتها لأحوال أفراد الناس .
أما عموم المادة القانونية فيعني أنه يندرج تحتها العديد من المسائل المختلفة الصور .
وهذه السمة العامة لمواد القانون هي التي تجعل القانونيين يختلفون في تفسير المواد وتجعل القضاة أيضا يختلفون في فهمها ويضطرون أحيانا على البرهنة على صحة فهمهم بما يتناسب واتجاهاتهم من الكتب التي اعتنت بتفسير القانون يضاف إلى ذلك أن المادة القانونية هي دليل بذاتها وحين يخرج القاضي عنها لأي سبب من الأسباب فلا بد أن يستدل لخروجه بمادة أخرى من مواد القانون .
ويوجد في القانون ما يسمى بالقواعد القانونية وهي أيضا مواد في القانون نفسه ولكنها تكون أكثر عموما من المواد الأخرى بحيث يستعان بها على فهم المواد التفصيلية .
ومن هنا يظهر أن التقنين أصبح علما على منهج محدد المعالم في صياغة الفقه الوضعي وهو يختلف كليا عما نطالب به من تدوين الأحكام الفقهية الشرعية والإلزام بها ، وعليه فإنني أنادي بعدم استخدام مصطلح التقنين كمرادف لتدوين الأحكام لأن الواقع يقضي بعدم الترادف فقد انتقلت كلمة القانون من مصطلح عام يتلكم به علماء العرب ليعبروا به عن الترتيب الدقيق إلى مصطلح خاص يعني كتابة النظم القضائية على وجه مخصوص ولا بد لنا أن نذعن لهذا الواقع اللغوي ولا نصر على الخلط بينهما سيما وأن هذا الخلط سوف يفضي حتما لا تقديرا إلى مشكلات كبيرة لو قدر أن تمت الموافقة السامية في بلادنا على التقنين بهذا اللفظ
وآمل أن ييسر الله تعالى لمن هم ألصق بالقانون من الباحثين للكتابة في هذه القضية كتابة مستفيضة مدعمة بالأمثلة والبسط
وهذا رابط لمن أراد مشاهدة تلك الندوات
http://www.benaa.com/Read.asp?PID=1521871&Sec=0
*لجينيات