السلفيون والعمل السياسي.. جدلية العلاقة بين المركز والأطراف وصورة المستقبل (2-3)
04/08/2009
د. أحمد محمّد الدغشي
بعد استعراض التعريف بالخارطة السلفية السائدة اليوم ننتقل في هذه الحلقة إلى مشهد المستقبل السياسي لدى الأولى والثانية منها، وذلك على النحو التالي:
الواقع السياسي والمستقبل:
أما فيما يتصل بشان اشتغال كل منها بالعمل السياسي ومستقبله؛ فبوسع الباحث في شئونها إدراك أنها جميعاً تتعاطى العمل السياسي على نحو أو آخر، حتى وإن أعلن بعضها خلاف ذلك، انطلاقاً من مسلّمة تنتظمها جميعاً، وهي أن الإسلام نظام شامل، يشمل الدين والدنيا، والعقيدة والشريعة، بيد أن منهج كل منها يختلف عن غيره، على المستوى النظري والعملي معاً، بحسب نمط التنشئة، ومنهاج التربية، وآليات التوجيه، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
أولاً: السلفية العلمية التقليدية (الماضوية)
يتمثّل تعاطي هذا الاتجاه للعمل السياسي في مباركته للنظام الرسمي، وإضفاء الشرعية السياسية على كل ممارساته، حتى وإن تباينت مع بعض المقررات والأحكام التي كانت عنده مما يُعرف في مدرسته بالمعلوم من الدين بالضرورة. ولعل الشاهد الأكبر في ذلك هو الموقف من العدو الصهيوني، فبعد الفتاوى المحرّمة للتعامل معه، أو عقد اتفاق سلام بأي معنى، وذلك في مرحلة كان الموقف الرسمي العربي مجمعاً تقريباً على ذلك، وبعد التطورات التي تمت منذ العام 1993م، أي بعد اتفاقية أوسلو- سيئة الذكر- تبدّلت فتاوى السلفية الرسمية رأساً على عقب، بدءاً من المركز ’’السعودية’’، وانتهاء بالأطراف في كل قطر يتبعها، بوصف ذلك الرأي –عندها- هو الذي ارتأه ولي الأمر، والمصلحة كامنة فيه. وأيّما رأي أو اجتهاد بخلاف سياسة الحاكم فإنه منازعة لولي الأمر، بل خروج على الحاكم المسلم، حتى لو كان أسلوب الاختلاف سلمياً مدنياً بعيداً عن العنف المادي، أو التحريض للخروج على شرعية النظام، وجزاء من يضبط داعية إلى ذلك، هو جزاء الخارجين على الحاكم الشرعي في الفقه الإسلامي، وهو ما حدث عملياً مع أبرز دعاة الاتجاه الثاني مثل سفر الحوالي وسلمان العودة، على خلفية موقفهما المختلف مع الموقف الرسمي من أزمة الخليج الثانية عام 1990-1991م، حيث أعلنا رفضهما الاستعانة بالقوات الأجنبية حينذاك. وقد أكّد كاتب هذه السطور على الموقف من السلام مع الكيان الصهيوني دون غيره، لما فيه من الدلالات الكليّة على موقف هذا الاتجاه من العمل السياسي، من غير التقليل من شأن الشواهد الأخرى، ولاسيما الموقف من أزمة الخليج الثانية عام 1991م، سواء على مستوى المركز أم على مستوى الأطراف، لكنه- بالمقابل- سيغدو من القصور المنهجي تجاهل ذلك التناقض الصارخ الذي اتسمت به المواقف السلفية السياسية التقليدية (الماضوية) على مستوى اليمن- بوجه خاص- في موقفها من الديمقراطية، والحرّيات السياسية ونحوها، وما يستتبعها من انتخابات وتداول سلمي، وتشكيل أحزاب ونحو ذلك.
مواقف السلفية التقليدية (الماضوية) المتكرّرة تخلص إلى النكير الشديد، بل التكفير أحياناً لمفهوم الديمقراطية، وتحريم التداول السلمي للسلطة والتعدّدية؛ وقد كتب أحدهم في ذلك منذ وقت مبكّر رسالة وسمها بـ(القول السديد في أن دخول المجالس النيابية ينافي التوحيد)، كما كتب محمّد بن عبدالله الإمام من رموز السلفية (الماضوية) في اليمن كتاباً آخر وسمه بـ(كشف مفاسد وشبهات الانتخابات)، لكننا ألفينا بعض رموزها يخالفون مقرّراتهم تلك، في الانتخابات الرئاسية التي جرت في اليمن في سبتمبر عام 2006م، إذ كان المفترض أن يعتزلوا الأطراف كلّها، بوصفها واقعة في الخطيئة العظمى، وهي ممارستها للديمقراطية والانتخاب والتداول السلمي للسلطة والتعدّدية السياسية، وكلّها من المفردات المحظورة في المنهج السلفي التقليدي، بيد أننا وجدنا موقفاً مضادّاً لذلك، إذ وقف بعض أبرز رموزها في جانب الموقف الرسمي للسلطة، حيث دعا أبو الحسن المأربي - على سبيل المثال- في حفل مشهود نقل على شاشات التلفزة، داعياً – في حفل رسمي لمرشح حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم- إلى الوقوف مع مرشح هذا الحزب، وعادّاً للوقوف مع الطرف الآخر منازعة لولي الأمر الشرعي، منتهياً إلى عدم جواز ترشيح مرشّح المعارضة. وهو بذلك علاوة على تناقضه السافر مع مقرّرات مدرسته، من حيث رفض الديمقراطية ومستلزماتها؛ فإنه يزيد على ذلك مخالفة أخرى تتمثل في مخالفته لتوجيه ولي الأمر الذي دعا في إعلان رسمي عام المواطنين إلى المشاركة في الانتخابات، دون أن يوجّههم إلى انتخابه، بل انتخاب من يرونه ممثلاً لتحقيق آمالهم وطموحاتهم في العهد الرئاسي الجديد، عملاً بالدستور والقانون في ذلك. وكذلك فإن محمّد بن عبدالله الإمام- وهو مصنّف على فصيل يحي الحجوري- هو الآخر عُرف في الانتخابات الرئاسية 2006م من خلال خطبه المنبرية داعية إلى انتخاب ولي الأمر مرشّح الحزب الحاكم، مشنّعاً على منافسيه، وفق الحيثيات السابقة التي جاهر بها خصمه أبو الحسن المأربي!
وعلى صعيد المستقبل لا يبدو في الأفق أي مؤشّر من شأنه أن يقود إلى تطوّر إيجابي حقيقي، في مسار هذا الاتجاه، على مستوى الممارسة السياسية، وأيّما تطوّر ظاهري فإنّه لا يعدو الشكل، كأن نجد استبسالاً في سبيل التأكيد على شرعية نظام سياسي ملكي في بلد ما، وحشد ما تظنه أدلة على مشروعية ذلك النظام، على حين لا تخطئ العين استبسالاً مماثلاً ولكن في اتجاه معاكس، في بلد ذي نظام جمهوري بحجج مخالفة، وكلّها تدّعي شرعية مناقضة لأختها، من حيث إضفاء المشروعية على هذا النظام وممارساته التطبيقية وهكذا! ويعود ذلك إلى أنّ هذا الاتجاه قد رهن موقفه بموقف النظام السياسي الرسمي، في أي قطر، ولديه جاهزية مطلقة للتلوّن بأيّ زيّ، بحيث يعمل على تكييف نفسه وفق الوضع السياسي الرسمي النافذ، والمبرّر الدائم السمع والطاعة لولي الأمر - أيّاً كان- في المنشط والمكره، في اليسر والعسر، في الرضا والغضب!! والأهم أن لا يصبح أي نظام سياسي حاكم منتمياً إلى الحركة الإسلامية أو مصنّفاً عليها، كما حدث مع النظام السوداني في وقت سابق، إذ كان مصنّفاً على الجبهة القومية الإسلامية التي يقودها الدكتور حسن الترابي، فشنّت عليه الحملات التكفيرية من رموز هذا الاتجاه ودعاته في المركز والأطراف على حدّ سواء، بما يدع الحليم حيران، إذ إنه في الأول والأخير حاكم مسلم، فكيف استثني من حق السمع والطاعة في المنشط والمكره - بحسب أدبيات القوم-؟!
أو كما حدث بعد حرب 1994م في اليمن، إذ كان حزب الإصلاح (الإخوان المسلمون) جزءاً من النظام السياسي وقتئذٍ، ولذلك شنّت الحملات اللافتة عليه من قبل المؤسس الأول لهذا الاتجاه الشيخ مقبل بن هادي الوادعي- رحمه الله- موجّهة – بوجه خاص- إلى أكبر رأس علمي وفكري وسياسي يمثلهم وهو الشيخ عبدالمجيد الزنداني عضو مجلس الرئاسة آنذاك. ولا يغيب عن البال أن ذلك الهجوم جاء تابعاً للموقف الرسمي السعودي الذي أعلن دعمه لموقف قوى الانفصال الجنوبي في حرب 1994م، ووجّه المؤسسة الدينية هنالك لإصدار فتوى تحرّم المواجهة العسكرية، وتدعو إلى حق الانفصال بناء على رغبة أحد طرفي الاتفاق، رغم أن ذلك الطرف خرج في ذلك الحين على النظام السياسي خروجاً مسلّحاً، دون أن يعدّ هذا الاتجاه ذلك المسلك عملاً مجرّماً أو خروجاً غير شرعي على الحاكم المسلم كما تقرّره الأدبيات السلفية النظرية، وذلك هو الموقف ذاته الذي عرف به هذا الاتجاه كما الاتجاه الثاني في اليمن، في ذلك الحين، حيث كان الجواب الشهير لمن يطالب السلفية بموقف تجاه ما يجري من خروج على الحاكم الشرعي: إنّا على الحياد لأن الراية غير واضحة أو ’’عِمِّيّة’’!!
والسؤال المحيّر: لماذا يلجأ رموز هذا الاتجاه ودعاته إلى موقف الخروج – فقط- حين يصبح الحاكم منتمياً أو مصنّفاً على الحركة الإسلامية، أما حين يكون وضعه غير ذلك يميناً أو يساراً أو وسطاً فإن موقف (الإرجاء) والتبرير والتسويق هو دين السلفية الماضوية وديدنها، ما لم يخالف توجيهات المركز وأوامره؟!
ولعلّ من الدلائل على ذلك اليوم هو هذا الموقف الذي خرج به المشاركون – ومنهم من ينتمي إلى هذا الاتجاه- في الملتقى السلفي المشار إليه في مستهل هذه القراءة، من الوقوف الصريح مع السلطة، في شأن الوحدة، وفي تصدّيها لما يسمّى بالحراك الجنوبي، إلى الحدّ الذي دفع بعض الرموز المشاركة في الملتقى – في سياق مؤتمر صحفي عقد على هامش الملتقى- إلى عدم استبعاد فرضية المشاركة في حرب تعلنها السلطة ضدّ عناصر الحراك المنادية بالانفصال، مع ما عُرِف من موقف مختلف لهؤلاء في حرب 1994م، مع أن الهدف في ذلك الحين لم يكن يختلف عن الهدف اليوم، ناهيك عن أن الحراك الجنوبي لم يعلن تبنيه للخيار المسلّح حتى الساعة، بخلاف الموقف في 1994م!!
*نيوز يمن