معركة الإصلاح التركي تزداد احتداما
23-7-2009
بعد زهاء السنوات الثمانية من الحكم، وبالرغم من أن بعض الدوائر المؤيدة للحزب الحاكم لا تقل راديكالية وإقصائية عن خصومها، أظهر العدالة والتنمية للشعب التركي فقدان اتهامات الدكتاتورية الإسلامية للمصداقية. ولكن هيمنة دولة بنيت خلال ثمانية عقود لا يمكن تقليصها خلال عقد واحد؛ ومن هنا تبدو تركيا وكأنها لا تخرج من أزمة حتى تدخل أخرى، وإن حافظ إردوغان على رباطة جأشه، فسيكون العام القادم موعداً لأكبر معارك الإصلاح الداخلي على الإطلاق: دستور جديد
البروفسور عزت أوزغنتش هو القائم بأعمال رئيس مجلس التعليم العالي التركي (YOK)، وأحد مستشاري الطيب رجب إردوغان، رئيس الوزراء التركي، عندما كان إردوغان رئيساً لبلدية اسطنبول في التسعينات من القرن الماضي. الذي يعنيه هذا أن البروفسور موضع ثقة قديم لرئيس الوزراء، أو من تصنفهم الدوائر العلمانية التركية عادة بالإسلاميين الجدد.
طبقاً للدستور التركي الحالي، الذي صاغه النظام الانقلابي في مطلع الثمانينات، يتمتع مجلس التعليم العالي بسلطات تحكمية هائلة في البنية والعملية التعليمية، سيما الجامعية منها. وقد سيطرت العناصر العلمانية على المجلس منذ تأسيسه؛ ولكن وجود عبد الله غول، رفيق إردوغان في تأسيس حزب العدالة والتنمية، في موقع رئاسة الجمهورية، أطاح مؤخراً بالهيمنة العلمانية على المجلس، وأدخل إلى عضويته عدداً من العناصر المحافظة أو الليبرالية الوسطية. ومن هنا جاء الاهتمام بالبروفسور أوزغنتش.
في تصريح لم يلبث أن أثار ردود فعل حادة في الدوائر العلمانية، دعا أوزغنتش إلى تحرير دروس تعليم القرآن الكريم (الاختيارية الحرة) من دائرة الشؤون الدينية، مؤسسة الدولة المسؤولة عن كل الشأن الإسلامي في البلاد منذ تأسيس الجمهورية، ووضعها في يد مؤسسات خاصة.
دائرة الشؤون الدينية (أو ديانات، كما يسميها الأتراك)، هي مؤسسة رسمية، تتبع في هرمية الدولة مكتب رئيس الوزراء مباشرة، ويديرها علماء مسلمون متخصصون. وهي بذلك لا تنقصها القدرة على تنظيم دروس القرآن، الأمر الذي تتعهده منذ عقود. ومن المستبعد أن يكون هدف أوزغنتش الانتقاص من الدائرة وعلمائها. الأرجح أن تصريح البروفسور جاء في سياق التوجه العام للحزب الحاكم وأنصاره لتقليص دور الدولة في الحياتين العامة والخاصة، وتعزيز دور القوى والمؤسسات الاجتماعية غير الرسمية.
ولكن المعلقين العلمانيين وأنصار الدولة المهيمنة في الإعلام التركي رأوا مثل هذه الدعوة من وجوه أخرى؛ فالمفترض في موقع البروفسور، من ناحية، التركيز على الارتقاء بالتعليم الجامعي، بينما هو يشغل نفسه كما يبدو بتعليم القرآن للصبيان والفتية. كما أن رفع يد دائرة الشؤون الدينية عن دروس تعليم القرآن، ليست إلا دعوة مبطنة لإفساح المجال للطرق الصوفية والنورسيين والجماعات الإسلامية المختلفة للسيطرة على قطاع تعليمي هائل، تضم حلقاته عشرات، وربما مئات، الألوف من الأتراك الصغار.
في جدل مواز، اجتمع مجلس القضاء الأعلى، الهيئة المنظمة لشؤون القضاء والادعاء التركي، مساء الخامس عشر من الشهر الحالي، للنظر في تنقلات وتعيينات القضاء والادعاء العام. القضاء هو مؤسسة الدولة الأكثر راديكالية في علمانيتها، والتي أصبحت في مناسبات عدة الأداة الفاعلة لقمع كل قوة سياسية أو غير سياسية تحاول المس بتصور النخبة العلمانية للدولة والمجتمع التركيين.
ولكنَ شيئاً ما طرأ على هذه المؤسسة في الأعوام الأخيرة، عندما نجح عدد من المدعين والقضاة من خارج النخبة العلمانية التقليدية في التسرب إلى صفوفها. أحد هؤلاء هو مدعي عام اسطنبول الذي يحقق منذ أكثر من عامين في القضية الأشهر في تاريخ تركيا الحديث: منظمة الأرغنكون السرية، التي يعتقد بأنها تضم العشرات من العسكريين السابقين (والعاملين)، الصحافيين والكتاب، الأكاديميين والنقابيين والحزبيين، وتتهم بأنها قامت خلال السنوات القليلة الماضية بسلسلة من أعمال القتل والاغتيال، وخططت لنشر الفوضى وإطاحة الحكومة المنتخبة.
وقد اعتقل حتى الآن زهاء 15 متهماً على ذمة القضية، ووجه الاتهام لعدد أكبر من ذلك. الأوساط العلمانية التركية تقول إن مدعى التحقيق في القضية هو عضو في جماعة فتح الله غولان (الجماعة النورسية الأكبر في تركيا، التي تتعهد قطاعاً واسعاً من التعليم الخاص والخدمات الصحية والاجتماعية، وتقول إنها لا تمارس السياسة)، وأن ما يقوم به المدعي ليس تحقيقاً قانونياً بل حملة سياسية للقضاء على شخصيات علمانية محورية، تعارض محاولة الإسلاميين الخفية والحثيثة للسيطرة على الدولة والمجتمع.
وقد تسرب قبل اجتماع مجلس القضاء الأعلى، أنه سيقوم في جلسته هذه بنقل مدعي اسطنبول، والفريق المعاون له، من مواقعهم إلى مواقع أخرى، ربما بهدف التمهيد لإغلاق ملف إرغنكون. ولكن قرارات المجلس لا تصبح قاعلة دون حضور وزير العدل لجلسته والتوقيع على القرارات، ونظراً لأن الوزير كان يتوقع أن يأخذ المجلس قراراً بنقل مدعي اسطنبول وفريقه، فقد تغيب متعمداً (على الأرجح) عن الجلسة، التي انتهت بالطبع دون نتيجة ما.
الجدل الثالث هو أكبر وأكثر دلالة، ويتعلق بسلطات القضاء المدني على أعضاء المؤسسة العسكرية. فبخلاف كل الأنظمة الديمقراطية، لا يتمتع القضاء والادعاء المدني بسلطات توجيه الاتهام أو محاكمة العسكريين الأتراك، الذين تعالج شؤونهم القضائية من قبل الادعاء العسكري. وكان هذا الاستثناء غير المعهود قد برز على السطح قبل عدة أسابيع عندما نشرت وثيقة تحمل توقيع كولونيل في الجيش، تضمنت مخططاً لإطاحة الحكومة وتشويه سمعة جماعة غولان النورسية؛ ولكن الادعاء العسكري، وبعد تحقيق سريع، أصدر قراراً بتبرئة الكولونيل، على أرضية عدم توفر النسخة الأصلية من الوثيقة وادعاء الكولونيل أن توقيعه على الوثيقة ليس صحيحاً.
خلال أيام قليلة من انفجار هذه القضية، مررت الحكومة مشروع قانون في البرلمان يسمح للجهاز القضائي المدني بالادعاء على ومحاكمة العسكريين، الأمر الذي أثار ضجة بالغة في صفوف القوى العلمانية، التي ترى في المؤسسة العسكرية مركز قوتها وقلعتها الرئيسة. وقد سارع حزب الشعب الجمهوري المعارض، الحارس السياسي المفترض للعلمانية التركية وسيطرة الدولة، إلى رفع قضية أمام المحكمة الدستورية، للاعتراض على القانون الجديد باعتباره مناقضاً للدستور.
ما يجمع هذه القضايا الثلاث، المتداخلة إلى حد كبير، أنها تعكس الصراع المتصل بين معسكرين رئيسيين في الاجتماع السياسي التركي. يضم المعسكر الأول قطاعاً كبيراً ومؤثراً من البيروقراطية المدنية والعسكرية، بما في ذلك أجهزة القضاء وقادة التعليم العالي والجيش، ومؤسسات مجتمع مدني عرفت بعلاقتها الوثيقة بالدولة، وبعضاً من أكبر المؤسسات الإعلامية وقطاعاً من المعلقين والكتاب البارزين.
أما المعسكر الثاني، الذي يوصف خطأ بالإسلامي، فيضم قطاعاً صغيراً ولكن متزايداً من بيروقراطية الدولة، وجمعيات وهيئات إسلامية وغير إسلامية التوجه، سياسية وغير سياسية، والشريحة الأكبر من تنظيمات المجتمع المدني، وعدداً ملموساً من الأكاديميين والكتاب والصحافيين من ذوي التوجه الإسلامي والمحافظ، بل والليبراليين واليساريين. يدور التدافع بين الطرفين ليس حول مقاليد الحكم والدولة وحسب، بل أيضاً، وهذا هو الأهم، حول مساحة دور الدولة وسلطتها ومجال فعلها.
فمنذ قيام الجمهورية في مطلع العشرينات، واصلت الدولة التركية الاتجاه الرئيس للدولة العثمانية الحديثة، دولة ما بعد تنظيمات القرن التاسع عشر، التي اتسمت بتعزيز سيطرة الدولة المركزية على شؤون الحياة والاجتماع العثمانيين. علمانية الدولة الجمهورية لم تكن تعني فصل الدين عن الدولة، بل سيطرة الدولة على المجال الديني؛ ولأن الدولة الجمهورية افترضت لنفسها دوراً ثورياً وتبشيرياً، فقد جمعت بين توجهات الهيمنة المركزية الحديثة والنزعة الأيديولوجية الأبوية. وخلال سنوات قليلة من ولادة الجمهورية، كانت الدولة الجديدة قد صنعت نخبتها الحاكمة، التي أصبحت في النهاية تجسيداً للدولة والأب والوصي.
تجلت المحاولة الأولى لدفع حدود الدولة إلى الخلف في تولي الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس الحكم طوال عقد الخمسينات. ولكن المحاولة سرعان ما أجهضت في انقلاب عسكري، أطاح الحكومة المنتخبة وأعدم رئيس وزرائها. وقد مثل انقلاب 196 منعطفاً هاماً في تاريخ الجمهورية، ليس فقط لأنه منح الجيش دور الحارس للدولة المهيمنة، بل أيضاً لأنه رسم حداً فاصلاً للانقسام الثقافي والفكري والسياسي في البلاد.
كلا معسكري الانقسام سيصبح أكثر راديكالية في سياساته، وأكثر أيديولوجية في دوافعه. وبدلاً من أن تكون السياسة جدلاً حول المصالح والتفاوض البراغماتي، تحولت السياسة التركية إلى ساحة حرب طاحنة من الاغتيالات والإقصاءات، من الانقلابات السافرة والمستبطنة، ومن لغة الإلغاء المتبادل. خلال عقد الثمانينات، حاول تورغوت أوزال، رئيساً للوزراء ثم للجمهورية، استئناف ما بدأه مندريس، بتبني سياسة انفتاح على العالم خارجياً وتقليص دور الدولة الاقتصادي وتعزيز بنية الطبقى الوسطى داخلياً.
ولكن حقبة أوزال لم تكن كافية لتحرير المجتمع التركي من قبضة الدولة ونخبتها الحاكمة، التي عادت في عقد التسعينات بروح انتقامية، تجلت في سلسلة من القوانين المقيدة للحريات وفي مناخ نهب واسع النطاق لصالح النخبة التقليدية وحلفائها، أودى بالاقتصاد التركي إلى الهاوية.
منذ توليه الحكم في مطلع هذا العقد، استطاع حزب العدالة والتنمية بناء الاقتصاد من جديد، وتبنى سياسات إصلاحية، تبدو وكأنها استئناف لمشروع مندريس المجهض وسياسات أوزال قصيرة العمر، مبدياً قدرة غير مسبوقة على المناورة وانتهاج سياسة خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، ومستنداً إلى دعم شعبي واسع النطاق ومناخ عالمي ديمقراطي، استطاع إردوغان تجنيب البلاد الانقلاب العسكري، مفسحاً المجال أمام بروز نخبة اقتصادية وسياسية جديدة من المحافظين والإسلاميين الديمقراطيين.
بعد زهاء السنوات الثمانية من الحكم، وبالرغم من أن بعض الدوائر المؤيدة للحزب الحاكم لا تقل راديكالية وإقصائية عن خصومها، أظهر العدالة والتنمية للشعب التركي فقدان اتهامات الدكتاتورية الإسلامية للمصداقية. ولكن هيمنة دولة بنيت خلال ثمانية عقود لا يمكن تقليصها خلال عقد واحد؛ ومن هنا تبدو تركيا وكأنها لا تخرج من أزمة حتى تدخل أخرى، وإن حافظ إردوغان على رباطة جأشه، فسيكون العام القادم موعداً لأكبر معارك الإصلاح الداخلي على الإطلاق: دستور جديد، يحل محل دستور نظام مطلع الثمانينات العسكري، أصل الأزمات جميعاً.
>العصر
23-7-2009
بعد زهاء السنوات الثمانية من الحكم، وبالرغم من أن بعض الدوائر المؤيدة للحزب الحاكم لا تقل راديكالية وإقصائية عن خصومها، أظهر العدالة والتنمية للشعب التركي فقدان اتهامات الدكتاتورية الإسلامية للمصداقية. ولكن هيمنة دولة بنيت خلال ثمانية عقود لا يمكن تقليصها خلال عقد واحد؛ ومن هنا تبدو تركيا وكأنها لا تخرج من أزمة حتى تدخل أخرى، وإن حافظ إردوغان على رباطة جأشه، فسيكون العام القادم موعداً لأكبر معارك الإصلاح الداخلي على الإطلاق: دستور جديد
البروفسور عزت أوزغنتش هو القائم بأعمال رئيس مجلس التعليم العالي التركي (YOK)، وأحد مستشاري الطيب رجب إردوغان، رئيس الوزراء التركي، عندما كان إردوغان رئيساً لبلدية اسطنبول في التسعينات من القرن الماضي. الذي يعنيه هذا أن البروفسور موضع ثقة قديم لرئيس الوزراء، أو من تصنفهم الدوائر العلمانية التركية عادة بالإسلاميين الجدد.
طبقاً للدستور التركي الحالي، الذي صاغه النظام الانقلابي في مطلع الثمانينات، يتمتع مجلس التعليم العالي بسلطات تحكمية هائلة في البنية والعملية التعليمية، سيما الجامعية منها. وقد سيطرت العناصر العلمانية على المجلس منذ تأسيسه؛ ولكن وجود عبد الله غول، رفيق إردوغان في تأسيس حزب العدالة والتنمية، في موقع رئاسة الجمهورية، أطاح مؤخراً بالهيمنة العلمانية على المجلس، وأدخل إلى عضويته عدداً من العناصر المحافظة أو الليبرالية الوسطية. ومن هنا جاء الاهتمام بالبروفسور أوزغنتش.
في تصريح لم يلبث أن أثار ردود فعل حادة في الدوائر العلمانية، دعا أوزغنتش إلى تحرير دروس تعليم القرآن الكريم (الاختيارية الحرة) من دائرة الشؤون الدينية، مؤسسة الدولة المسؤولة عن كل الشأن الإسلامي في البلاد منذ تأسيس الجمهورية، ووضعها في يد مؤسسات خاصة.
دائرة الشؤون الدينية (أو ديانات، كما يسميها الأتراك)، هي مؤسسة رسمية، تتبع في هرمية الدولة مكتب رئيس الوزراء مباشرة، ويديرها علماء مسلمون متخصصون. وهي بذلك لا تنقصها القدرة على تنظيم دروس القرآن، الأمر الذي تتعهده منذ عقود. ومن المستبعد أن يكون هدف أوزغنتش الانتقاص من الدائرة وعلمائها. الأرجح أن تصريح البروفسور جاء في سياق التوجه العام للحزب الحاكم وأنصاره لتقليص دور الدولة في الحياتين العامة والخاصة، وتعزيز دور القوى والمؤسسات الاجتماعية غير الرسمية.
ولكن المعلقين العلمانيين وأنصار الدولة المهيمنة في الإعلام التركي رأوا مثل هذه الدعوة من وجوه أخرى؛ فالمفترض في موقع البروفسور، من ناحية، التركيز على الارتقاء بالتعليم الجامعي، بينما هو يشغل نفسه كما يبدو بتعليم القرآن للصبيان والفتية. كما أن رفع يد دائرة الشؤون الدينية عن دروس تعليم القرآن، ليست إلا دعوة مبطنة لإفساح المجال للطرق الصوفية والنورسيين والجماعات الإسلامية المختلفة للسيطرة على قطاع تعليمي هائل، تضم حلقاته عشرات، وربما مئات، الألوف من الأتراك الصغار.
في جدل مواز، اجتمع مجلس القضاء الأعلى، الهيئة المنظمة لشؤون القضاء والادعاء التركي، مساء الخامس عشر من الشهر الحالي، للنظر في تنقلات وتعيينات القضاء والادعاء العام. القضاء هو مؤسسة الدولة الأكثر راديكالية في علمانيتها، والتي أصبحت في مناسبات عدة الأداة الفاعلة لقمع كل قوة سياسية أو غير سياسية تحاول المس بتصور النخبة العلمانية للدولة والمجتمع التركيين.
ولكنَ شيئاً ما طرأ على هذه المؤسسة في الأعوام الأخيرة، عندما نجح عدد من المدعين والقضاة من خارج النخبة العلمانية التقليدية في التسرب إلى صفوفها. أحد هؤلاء هو مدعي عام اسطنبول الذي يحقق منذ أكثر من عامين في القضية الأشهر في تاريخ تركيا الحديث: منظمة الأرغنكون السرية، التي يعتقد بأنها تضم العشرات من العسكريين السابقين (والعاملين)، الصحافيين والكتاب، الأكاديميين والنقابيين والحزبيين، وتتهم بأنها قامت خلال السنوات القليلة الماضية بسلسلة من أعمال القتل والاغتيال، وخططت لنشر الفوضى وإطاحة الحكومة المنتخبة.
وقد اعتقل حتى الآن زهاء 15 متهماً على ذمة القضية، ووجه الاتهام لعدد أكبر من ذلك. الأوساط العلمانية التركية تقول إن مدعى التحقيق في القضية هو عضو في جماعة فتح الله غولان (الجماعة النورسية الأكبر في تركيا، التي تتعهد قطاعاً واسعاً من التعليم الخاص والخدمات الصحية والاجتماعية، وتقول إنها لا تمارس السياسة)، وأن ما يقوم به المدعي ليس تحقيقاً قانونياً بل حملة سياسية للقضاء على شخصيات علمانية محورية، تعارض محاولة الإسلاميين الخفية والحثيثة للسيطرة على الدولة والمجتمع.
وقد تسرب قبل اجتماع مجلس القضاء الأعلى، أنه سيقوم في جلسته هذه بنقل مدعي اسطنبول، والفريق المعاون له، من مواقعهم إلى مواقع أخرى، ربما بهدف التمهيد لإغلاق ملف إرغنكون. ولكن قرارات المجلس لا تصبح قاعلة دون حضور وزير العدل لجلسته والتوقيع على القرارات، ونظراً لأن الوزير كان يتوقع أن يأخذ المجلس قراراً بنقل مدعي اسطنبول وفريقه، فقد تغيب متعمداً (على الأرجح) عن الجلسة، التي انتهت بالطبع دون نتيجة ما.
الجدل الثالث هو أكبر وأكثر دلالة، ويتعلق بسلطات القضاء المدني على أعضاء المؤسسة العسكرية. فبخلاف كل الأنظمة الديمقراطية، لا يتمتع القضاء والادعاء المدني بسلطات توجيه الاتهام أو محاكمة العسكريين الأتراك، الذين تعالج شؤونهم القضائية من قبل الادعاء العسكري. وكان هذا الاستثناء غير المعهود قد برز على السطح قبل عدة أسابيع عندما نشرت وثيقة تحمل توقيع كولونيل في الجيش، تضمنت مخططاً لإطاحة الحكومة وتشويه سمعة جماعة غولان النورسية؛ ولكن الادعاء العسكري، وبعد تحقيق سريع، أصدر قراراً بتبرئة الكولونيل، على أرضية عدم توفر النسخة الأصلية من الوثيقة وادعاء الكولونيل أن توقيعه على الوثيقة ليس صحيحاً.
خلال أيام قليلة من انفجار هذه القضية، مررت الحكومة مشروع قانون في البرلمان يسمح للجهاز القضائي المدني بالادعاء على ومحاكمة العسكريين، الأمر الذي أثار ضجة بالغة في صفوف القوى العلمانية، التي ترى في المؤسسة العسكرية مركز قوتها وقلعتها الرئيسة. وقد سارع حزب الشعب الجمهوري المعارض، الحارس السياسي المفترض للعلمانية التركية وسيطرة الدولة، إلى رفع قضية أمام المحكمة الدستورية، للاعتراض على القانون الجديد باعتباره مناقضاً للدستور.
ما يجمع هذه القضايا الثلاث، المتداخلة إلى حد كبير، أنها تعكس الصراع المتصل بين معسكرين رئيسيين في الاجتماع السياسي التركي. يضم المعسكر الأول قطاعاً كبيراً ومؤثراً من البيروقراطية المدنية والعسكرية، بما في ذلك أجهزة القضاء وقادة التعليم العالي والجيش، ومؤسسات مجتمع مدني عرفت بعلاقتها الوثيقة بالدولة، وبعضاً من أكبر المؤسسات الإعلامية وقطاعاً من المعلقين والكتاب البارزين.
أما المعسكر الثاني، الذي يوصف خطأ بالإسلامي، فيضم قطاعاً صغيراً ولكن متزايداً من بيروقراطية الدولة، وجمعيات وهيئات إسلامية وغير إسلامية التوجه، سياسية وغير سياسية، والشريحة الأكبر من تنظيمات المجتمع المدني، وعدداً ملموساً من الأكاديميين والكتاب والصحافيين من ذوي التوجه الإسلامي والمحافظ، بل والليبراليين واليساريين. يدور التدافع بين الطرفين ليس حول مقاليد الحكم والدولة وحسب، بل أيضاً، وهذا هو الأهم، حول مساحة دور الدولة وسلطتها ومجال فعلها.
فمنذ قيام الجمهورية في مطلع العشرينات، واصلت الدولة التركية الاتجاه الرئيس للدولة العثمانية الحديثة، دولة ما بعد تنظيمات القرن التاسع عشر، التي اتسمت بتعزيز سيطرة الدولة المركزية على شؤون الحياة والاجتماع العثمانيين. علمانية الدولة الجمهورية لم تكن تعني فصل الدين عن الدولة، بل سيطرة الدولة على المجال الديني؛ ولأن الدولة الجمهورية افترضت لنفسها دوراً ثورياً وتبشيرياً، فقد جمعت بين توجهات الهيمنة المركزية الحديثة والنزعة الأيديولوجية الأبوية. وخلال سنوات قليلة من ولادة الجمهورية، كانت الدولة الجديدة قد صنعت نخبتها الحاكمة، التي أصبحت في النهاية تجسيداً للدولة والأب والوصي.
تجلت المحاولة الأولى لدفع حدود الدولة إلى الخلف في تولي الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس الحكم طوال عقد الخمسينات. ولكن المحاولة سرعان ما أجهضت في انقلاب عسكري، أطاح الحكومة المنتخبة وأعدم رئيس وزرائها. وقد مثل انقلاب 196 منعطفاً هاماً في تاريخ الجمهورية، ليس فقط لأنه منح الجيش دور الحارس للدولة المهيمنة، بل أيضاً لأنه رسم حداً فاصلاً للانقسام الثقافي والفكري والسياسي في البلاد.
كلا معسكري الانقسام سيصبح أكثر راديكالية في سياساته، وأكثر أيديولوجية في دوافعه. وبدلاً من أن تكون السياسة جدلاً حول المصالح والتفاوض البراغماتي، تحولت السياسة التركية إلى ساحة حرب طاحنة من الاغتيالات والإقصاءات، من الانقلابات السافرة والمستبطنة، ومن لغة الإلغاء المتبادل. خلال عقد الثمانينات، حاول تورغوت أوزال، رئيساً للوزراء ثم للجمهورية، استئناف ما بدأه مندريس، بتبني سياسة انفتاح على العالم خارجياً وتقليص دور الدولة الاقتصادي وتعزيز بنية الطبقى الوسطى داخلياً.
ولكن حقبة أوزال لم تكن كافية لتحرير المجتمع التركي من قبضة الدولة ونخبتها الحاكمة، التي عادت في عقد التسعينات بروح انتقامية، تجلت في سلسلة من القوانين المقيدة للحريات وفي مناخ نهب واسع النطاق لصالح النخبة التقليدية وحلفائها، أودى بالاقتصاد التركي إلى الهاوية.
منذ توليه الحكم في مطلع هذا العقد، استطاع حزب العدالة والتنمية بناء الاقتصاد من جديد، وتبنى سياسات إصلاحية، تبدو وكأنها استئناف لمشروع مندريس المجهض وسياسات أوزال قصيرة العمر، مبدياً قدرة غير مسبوقة على المناورة وانتهاج سياسة خطوتين إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، ومستنداً إلى دعم شعبي واسع النطاق ومناخ عالمي ديمقراطي، استطاع إردوغان تجنيب البلاد الانقلاب العسكري، مفسحاً المجال أمام بروز نخبة اقتصادية وسياسية جديدة من المحافظين والإسلاميين الديمقراطيين.
بعد زهاء السنوات الثمانية من الحكم، وبالرغم من أن بعض الدوائر المؤيدة للحزب الحاكم لا تقل راديكالية وإقصائية عن خصومها، أظهر العدالة والتنمية للشعب التركي فقدان اتهامات الدكتاتورية الإسلامية للمصداقية. ولكن هيمنة دولة بنيت خلال ثمانية عقود لا يمكن تقليصها خلال عقد واحد؛ ومن هنا تبدو تركيا وكأنها لا تخرج من أزمة حتى تدخل أخرى، وإن حافظ إردوغان على رباطة جأشه، فسيكون العام القادم موعداً لأكبر معارك الإصلاح الداخلي على الإطلاق: دستور جديد، يحل محل دستور نظام مطلع الثمانينات العسكري، أصل الأزمات جميعاً.
>العصر