مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
معارضة يائسة تجر مصر من أزمة إلى أخرى
د. بشير موسى نافع معارضة يائسة تجر مصر من أزمة إلى أخرى

تبدو مصر وكأنها تنحدر إلى هوة أزمة جديدة. ولكن مصر في الحقيقة لم تخرج من الأزمة السابقة. هذه حلقات متصلة من أزمة واحدة، تبدو بلا نهاية، تصبح أكثر أو أقل حدة، طبقاً لما توفره ظروف الداخل من فرصة أو تدفع إليه ضغوط الخارج.

بين معارضة لا تقبل بأقل من إطاحة الرئيس والسيطرة على الحكم، من دون أن يكون لديها من الدعم الشعبي ما يؤهلها لمثل هذه القفزة، وقوى عربية تبذل كل جهد ممكن لإغراق مصر في حالة من الفوضى والشلل، وأجهزة دولة بالغة الاضطراب، يعيش المصريون أيام قلق أخرى.

يتعلق إحدى أوجه احتدام الأزمة برد فعل مدينة بورسعيد على الأحكام التي أصدرتها محكمة أحداث الملعب الرياضي في المدينة في العام الماضي. كانت أحداث العام الماضي وحشية ودموية، وجاءت الأحكام قاسية، تعكس اقتناع قضاة المحكمة بحجم الجرم وأدلة الإدانة.

وبالرغم من أن رد فعل ما كان متوقعاً، سواء من أنصار ضحايا مجزرة العام الماضي أو أنصار المتهمين، فإن مناخ التأزم السياسي المتفاقم حول شوارع مدينة بورسعيد إلى ساحة قتال، سيما بعد أن حاولت مجموعات مسلحة اقتحام سجن المدينة والإفراج عن السجناء. ليس من تقاليد المصريين الاحتجاج الدموي على أحكام القضايا الجنائية؛ وقضية ملعب بورسعيد جنائية بامتياز.

ولكن مناخ التوتر السياسي، والتشجيع على العنف، سواء في وسائل الإعلام المعارضة، التي هي كل وسائل الإعلام تقريباً، ولغة التحريض الانقلابية التي تستخدمها قوى المعارضة، والغطاء الذي وفرته مظاهرات المعارضة في ذكرى ثورة 25 يناير لعصابات من الخارجين على القانون وجماعات فوضوية، جعل أحكام القضاء مناسبة أخرى لتصعيد العنف.

ما بين 22 نوفمبر، يوم صدور الإعلان الدستوري المكمل، و22 ديسمبر، يوم اكتمال الاستفتاء الشعبي على مشروع الدستور الجديد، تعهدت المعارضة المصرية محاولتها الأولى، والأخطر لإطاحة الرئيس. رفض قادة المعارضة، أو أغلبهم، دعوات الرئيس للحوار، ورفعوا شعارات تشكك في شرعيته. نقلت حركة الاحتجاج عندها إلى محيط قصر العروبة، حيث مكتب الرئيس، وجرت محاولة سافرة لاقتحام القصر.

كان هدف الرئيس مرسي من الإعلان الدستوري، المثير للجدل بلا شك، الإسراع بالمرحة الانتقالية وتحصين الجمعية التأسيسية من مخططات سياسية ذات طابع قضائي لتعطيل عملها.

أما هدف المعارضة، فكان فتح المرحلة الانتقالية على المجهول، منع وضع مسودة الدستور، وانتظار الفرصة السانحة لإطاحة الرئيس. ولكن المعارضة أخفقت في تحقيق هدفها، بينما نجح الرئيس في حماية الجمعية التأسيسية من الحل إلى أن طرح مشروع الدستور على الاستفتاء.

وبالرغم من الحملة الإعلامية الشعواء على مشروع الدستور، صوت المصريون بأغلبية كبيرة لإقراره. ولكن الأمور لم تنته هنا. كان يمكن للبلاد أن تبدأ رحلة الاستقرار، وأن تلتفت إلى شؤونها المالية والاقتصادية الملحة، وإلى جدول أعمال مزدحم في حقل السياسة الخارجية.

ولكن لا المعارضة، ولا الدول العربية التي جعلت نفسها معنية بالوضع المصري الداخلي، ترغب في أعطاء البلاد فرصة؛ وهو ما أدى، عشية ذكرى ثورة كانون ثاني/يناير، إلى تشكل خارطة قوى مولدة للتأزم:

تدرك المعارضة ضعف وهشاشة قواعدها الشعبية. ولم يحدث أن استدعي الشعب، منذ إطاحة النظام السابق، للإدلاء برأيه، إلا وعجزت القوى التي تسمى أحياناً بالليبرالية عن تحقيق التفاف شعبي مقنع حول مرشحيها أو مواقفها.

فشل المعارضة في إسقاط الرئيس أو إقناع الشعب برفض مشروع الدستور، يدفع المعارضة، أكثر وأكثر، نحو العنف واستخدام وسائل غير قانونية لتوكيد وجودها. وهذا ما حدث في تظاهرات ذكرى الثورة. لم تستطع قوى المعارضة مجتمعة، (ثلاثة عشر حزباً منضوية تحت مظلة ما يعرف بجبهة الإنقاذ الوطني) حشد أكثر من مائتي ألف مؤيد في كافة المدن التي شهدت نشاطات احتجاجية، بما في ذلك ميدان التحرير، أيقونة الثورة في قلب العاصمة المصرية.

ولكن ما حدث في القاهرة أن تحولت المظاهرات خلال ساعات قليلة إلى هجمات على وزارة الداخلية ومحاولة لاقتحام مجلس الشورى، وفي مدن أخرى إلى هجمات مشابهة على مقار حكومية محلية، وسجون، وأملاك خاصة. كان يمكن للمعارضة، التي رفع قادتها شعارات إسقاط الدستور في الشارع (هكذا بكل ديمقراطية)، التنصل من وإدانة أحداث العنف التي تسترت بمظاهراتها.

ولكنها لم تستطع، تماماً كما تسلحت بالصمت تجاه أحداث العنف البالغة التي شهدتها أزمة الإعلان الدستوري في نوفمبر الماضي. وبدا أن العنف بات أداة المعارضة المتبقية لإفقاد النظام الجديد توازنه.

بيد أن خارطة التأزم لا تضم قادة معارضة طموحين ومحبطين وحسب. ثمة عدد من الدول العربية والإقليمية التي تشارك المعارضة المصرية موقفها من صعود القوى الإسلامية السياسية للحكم، في مصر وفي دول عربية أخرى.

ينبع قلق هذه الدول من وجود د. محمد مرسي على مقعد الرئاسة وتزايد حظوظ التيار الإسلامي المصري في الحكم من عدد من المصادر: هناك، أولاً، قلق دولة إسلامية إقليمية من موقف الرئاسة المصرية القاطع من الأزمة السورية، واتجاه قاهرة ما بعد الثورة إلى التحالف مع تركيا العدالة والتنمية.

وهناك، ثانياً، قلق دول عربية من أن يكون الصعود الإسلامي السياسي في مصر مؤشراً لاتساع نفوذ التيارات الإسلامية السياسية، سيما الإخوان، في المجال العربي ككل، وتغذية التيارات الإسلامية السياسية لقوى الثورة والتغيير في دول المجال العربي.

ولأن واشنطن بدت وكأنها غير قادرة على التأثير في مسار الأوضاع المصرية، يفقد حلفاء الولايات المتحدة من العرب ثقتهم في الحليف الأميركي والحصانة التي يوفرها التحالف من الثورة والتغيير.

وهناك، ثالثاً، ما يعنيه استقرار الأوضاع المصرية لدور مصر العربي والإقليمي، سيما وأن مرسي لم يخف، حتى قبل توليه الرئاسة، عزمه إعادة الاعتبار لدور مصر الخارجي.

اعتاد بعض من العرب خلال العقدين أو الثلاثة الماضية غياب الدور المصري النشط والقيادي، واعتاد هذا البعض تضخم أدواره ونفوذه على حساب الغياب المصري، وتثير عودة الدور المصري، بقيادة إسلامية، مخاوف لا يمكن إخفاؤها. الأفضل، لهذه الدوائر العربية، أن تنشغل مصر بنفسها لأطول فترة ممكنة.

القوة الثالثة في هذه الخارطة هي أجهزة الدولة المصرية، التي يفترض بها أن تحمي الشرعية وأن تضع حداً لحالة الفوضى وفقدان الأمن التي تشيعها فئة قليلة من الشبيحة المحترفين والشبيحة السياسيين.

ولكن المشكلة أن الدولة المصرية، التي لم تمس إلا قليلاً منذ إطاحة نظام مبارك، ليست دولة الثورة ولا تدين بالولاء للرئيس ولا لأي من قوى الثورة والتغيير.

هذه دولة قائمة ومستمرة منذ أكثر من قرنين، وقد تشكلت رؤيتها لنفسها ولعلاقتها بالشعب المصري على أساس أن التيار الإسلامي جسم غريب ومعاد.

ولكن هذا لا يعني أن الدولة تتآمر على الرئيس وتقف إلى صف المنادين بإسقاطه؛ إذ أن سلطة الشرعية ليست شأناً هيناً أو يمكن تجاهله.

الدولة في الحقيقة تستجيب لأوامر الرئيس بتثاقل بالغ، وتعمل وكأنها تنتظر نتيجة الصراع، ولن تنحاز للرئيس ومعسكر المؤيدين له بصورة قاطعة إلا بعد أن ترى بوضوح أن الرئيس حسم الصراع نهائياً لصالحه.

أما القوة الرابعة، فتتمثل في التيار الإسلامي، والإخوان المسلمين بصورة خاصة. تتمتع القوى الإسلامية بقاعدة شعبية واسعة، تمتد من شمال الجمهورية إلى جنوبها، ولكنها تفتقد إلى نفوذ حقيقي وملموس في جسم الدولة المصرية.

وتحاول قوى التيار الإسلامي منذ اندلاع الأزمة تجنب الشارع، والابتعاد عن أية مواطن للصدام، سواء مع مؤيدي قوى المعارضة أو مع عصابات العنف والفوضى التي يوفر لها موقف المعارضة الغطاء.

ولكنَ أحداً لا يعرف ما إن كان ضبط النفس هذا سيستمر طويلاً، أو ما إن كان الإسلاميون سيستمرون في دعمهم لمقاربة الرئيس للأزمة، القائمة على الدعوة للحوار واللجوء لأجهزة الدولة لمعالجة حالة فقدان الأمن وانتشار العنف.

تعكس الإجراءات التي اتخذها مرسي في محافظات قناة السويس الثلاث، من الإعلان المؤقت لحالة الطوارئ وحظر التجوال المسائي ونشر قوات الجيش، المزاج العام للشعب، الذي أراد من الرئيس موقفاً حازماً لاستعادة الأمن والنظام والاستقرار.

ولكن انتقادات وجهت للرئيس تطالبه بموقف لا يقل حزماً في القاهرة، وفي وسط المدينة على وجه الخصوص. وليس من المؤكد، حتى بعد انتشار وحدات عسكرية، أن الدولة ستستطيع التحكم في الموقف بمدن القناة.

وما لم ترجع السياسة إلى نمطها العادي في نظام ديمقراطي، تعددي، فستظل العاصمة المصرية رهينة قوى المعارضة وسعيها الحثيث لإسقاط الرئيس.

وربما يجدر بحفنة السياسيين الطموحين في قيادة المعارضة أن تدرك إن إطاحة رئيس منتخب وشرعي يعني أن البلاد لن تستقر لعقود طويلة قادمة، وأن رئيساً لن يستطيع البقاء في منصبه لشهور، أو حتى لأسابيع، بعد ذلك. ولكن أحداً لم يعد يرى المسألة بأي درجة من العقلانية.

كان بيان المعارضة الصادر في ساعة مبكرة من صباح 26 كانون ثاني/يناير أقرب إلى الدعوة الانقلابية منه إلى التدافع السياسي العادي بين حكم ومعارضة. ولم يلبث النفس الانقلابي أن عاد من جديد في بيان قيادة المعارضة، 28 يناير، الرافض لدعوة الحوار الوطني التي أعلنها الرئيس.

فأين المخرج، إذن؟

ليس هناك نظام ديمقراطي ينهض على أرضية هشة من الانقسام الاستقطابي والصراع المحتدم على السلطة. يشترط النظام الديمقراطي توافقاً مسبقاً على أسس الدولة وإجماعاً على هوية الأمة ومصالحها الكبرى.

ومصر لم تصل بعد، لا إلى التوافق على أسس الدولة، ولا إلى الإجماع على هوية الأمة ومصالحها؛ بغض النظر عن حجم المعارضة ووزنها الشعبي.

ومع تداعي مقدرات البلاد المالية والاقتصادية وتضاؤل الأمل في وصول حالة الأزمة المستديمة إلى نهايتها، باتت مصر في حاجة ملحة للحسم، بالحوار أو بوسائل أخرى.
*العصر
أضافة تعليق