د. بشير موسى نافع
23-6-2011
على نحو ما، يمكن القول إن التدافع المحتدم بين النظام والشعب وصل إلى منتصف الطريق، حيث لم يعد النظام قادراً على قمع الحراك الشعبي من دون ارتكاب مجازر واسعة النطاق، ولا تبدو خلخلة أركان النظام ممكنة من دون تدخل خارجي. لحماية سورية من مثل هذا التدخل، ينبغي الثقة في قدرة الشعب السوري على تقرير مستقبل بلاده..
تحدث الرئيس السوري بشار الأسد يوم الأثنين الماضي، يونيو، مرة أخرة منذ اندلاع الحركة الشعبية. تحدث الرئيس طويلاً كعادته.
تحدث حول ما تشهده بلاده من أحداث، حول المؤامرات التي تحاك ضد سورية، حول الإصلاحات التي تعهدها نظامه خلال الشهور الثلاثة الماضية، وتلك التي يعتزم تعهدها للانتقال بالبلاد إلى حقبة جديدة، بل وتحدث بفخر مبالغ فيه حول أن تعطي سورية بقيادته دروساً في الإصلاح والتغيير للجوار، لا أن تتلقى منه الدروس.
ولكن الرئيس لم يكن مقنعاً، لا لشعبه، ولا لدول الإقليم ورأيه العام، ولا لأغلب دول العالم الذي يراقبه، فإلى أين تمضي سورية من هنا؟
اختار الرئيس الأسد جامعة دمشق لتوجيه خطابه الثالث منذ بدء الأزمة، ولعل الاختيار لم يخل من دلالة؛ فهنا في جامعة دمشق ألقى الرئيس كلمة هامة ومدوية بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في فبراير 2005م، وإجبار سورية على الانسحاب الكامل من لبنان.
كانت دمشق حينها تتعرض لضغوط غربية - أمريكية هائلة، بغض النظر عن المسؤولية عن اغتيال الرئيس الحريري، والعالم العربي كله ينظر إلى وضع سورية بقلق هائل، سيما بعد أن تصاعدت المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأجنبي.
اختار الأسد يومها الصمود في وجه الضغوط، واكتسب بذلك موقعاً خاصاً لدى الرأي العام العربي، ولكن التاريخ ليس من عادته أن يعيد نفسه، إلا في صورة مشوهة أو مثيرة للسخرية، كما لاحظ ماركس.
منصة جامعة دمشق لم تستطع أن توفر للرئيس المجد الذي وفرته في 5، ليس فقط لأن المناسبة لا تستدعي الصمود والعناد والمغالبة، ولكن أيضاً لأن من يقف في مواجهة الرئيس اليوم ليس التهديد الأمريكي، بل الشعب السوري نفسه وحركته المطالبة بالحرية والكرامة.
ولم يظهر الرئيس في مظهر المطمئن أو الواثق بالنفس، بالرغم من لجوئه المعتاد إلى الفكاهة والسخرية؛ بل لم يظهر حتى قادراً على الإقناع. وقد بدا حريصاً على توكيد محبة الشعب له، وإيمانه بقيادته؛ ربما لأن الرئيس لم يكن مقتنعاً تماماً بمصداقية ما يقول، أو أنه بات مدركاً لصرخات الرفض الشعبية لاستمراره في الحكم والسلطة.
ولكن ’’سيكولوجيا’’ الخطاب ليست هي المسألة بالتأكيد، المسألة هي جوهر الخطاب ومادته، الرسالة التي أراد الرئيس إيصالها، والجهة التي أراد الرئيس أن يوصل لها الرسالة، ومستوى ارتقاء الرسالة لحجم الأزمة التي يواجهها نظام الحكم.
وهنا بالتأكيد محك الخطاب ومدى قدرته على رسم خارطة الخروج من الأزمة. المؤكد أنها المرة الأولى منذ اندلاع الحركة الشعبية السورية، التي تعامل معها النظام من البداية بقدر كبير من العنف، التي يقف فيها الرئيس ليظهر أسفاً على أرواح أبناء شعبه المهدورة. وللمرة الأولى أيضاً يتحدث الرئيس عن برنامج إصلاحي ضمن أفق زمني، ويشير إلى مواعيد محددة. وبالرغم من ذلك، لم يكن الرئيس مقنعاً.
المشكلة أن بشار الأسد، مرة أخرى، تحدث كمراقب محايد وليس قائداً لمسيرة إصلاح، وتحدث كشخصية تقنية، تغرق في التفاصيل، وليس كزعيم سياسي يتعامل مع المسائل الكبرى.
ولكن مشكلة المشاكل أن خطاب الرئيس استبطن رسالة للخارج وليس للشعب السوري.
بذل الرئيس جهداً هائلاً ليؤكد أن نظامه لم ينكسر أمام الحراك الجماهيري، وأنه لا يقدم تنازلات ما للمطالب الشعبية. الإصلاحات المعلن عنها، سواء ما قيل إنها أنجزت بالفعل أو ما وعد بأن تدرس لإقرارها، كان مخططاً لها من قبل، ولا تمثل تراجعاً ما أمام الحركة الشعبية.
وقد بدا أن الرئيس يريد أن يؤكد مصداقية نواياه الإصلاحية لجهات مثل تركيا أو الولايات المتحدة، ليتجنب أي تصعيد محتمل في الضغوط الإقليمية والدولية، أو أنه يريد أن يوفر لدول مثل روسيا والصين ما يبرر معارضتيهما لأي تصعيد محتمل.
لهؤلاء، قال بشار إن هناك برنامجاً إصلاحياً بالفعل؛ صحيح أنه ليس بالسرعة المتوقعة، ولكنه برنامج واقعي على أية حال، وأن هناك مواعيد محددة لهذا البرنامج.
أما الرسالة الموجهة إلى الشعب، فمن صنف آخر مختلف تماماً. ففي قلب وعود الإصلاح التي طرحها الرئيس يقف مؤتمر للحوار الوطني، ليس من الواضح كيف سيعقد، ومن هو المؤهل لعضويته، وكيف ستحدد هذه العضوية، أو الكيفية التي سيدار بها المؤتمر، ومدى الحرية والضمانات التي ستوفر للمشاركين في مجرياته.
وإن كان للسوريين تقدير الأمر، فهناك إشارات لما يمكن أن تكون الإجابة على هذه الأسئلة. فسواء في خطاب الرئيس إلى مجلس شعبه أو في الخطاب الأخير، لم يشهد الشعب السوري إلا مجاميع من المصفقين وأصحاب الهتافات، الذين صفقوا لكل صغيرة وكبيرة من كلمات الرئيس وهتفوا له باعتباره رباً معبوداً.
وفي جلسات الحوار التي عقدها الرئيس مع فئات مختلفة من الشعب السوري خلال الأسابيع القليلة الماضية، لم ير السوريون معارضين حقيقيين، ولا حتى شخصيات معتبرة من أبناء المجتمع السوري.
الذين دعوا لهذه الحوارات كانوا في أغلبهم من حزب البعث الحاكم، أو من المعروفين بارتباطهم بالنظام وأدواته. وعندما تحدث الرئيس عن الحراك الجماهيري الواسع الذي تشهده أنحاء البلاد، لم يتردد في تقسيم الشعب السوري إلى فئات من المخلصين البسطاء، والمجرمين المرتبطين بمخططات التخريب الخارجية، ودعاة الانتقام من الإخوان المسلمين والسلفيين.
وإلى جانب هذه الإشارات، وخارج قاعة جامعة دمشق اللافتة في وقارها وأناقتها، كان ثمة إشارات أخرى لا تقل دلالة. فقد استمرت الحملة العسكرية الأمنية بلا هوادة ضد المدن والبلدات السورية، واستمرت معها حملات الاعتقال العشوائية وغير العشوائية، والخسائر المتزايدة في الأرواح.
وبعد أن كانت سورية ملجأ للفارين من الموت والخراب، باتت مصدراً للاجئين الناجين بأرواحهم وأبنائهم من الموت والخراب.
ويعمل النظام بجهد فائق في تعزيز الخطاب الطائفي، وحشد أبناء الطائفة العلوية، الذين يعاني أغلبهم، كما أغلب السوريين، من الضائقة الاقتصادية والهيمنة الأمنية والسياسية على شؤون الدولة والبلاد من قبل شريحة حاكمة صغيرة.
أنتجت هذه التعبئة في المناطق المختلطة، ميليشيات طائفية، تعمل إلى جانب القوى العسكرية والأمنية. وربما سيمر زمن طويل قبل أن يستطيع السوريون بناء الثقة بين فئات اجتماعهم المختلفة.
مثل هذه الإشارات، سواء في مادة خطاب الرئيس، في سياق الخطاب، أو في السياسة التي يتبعها النظام في التعامل مع الحراك الجماهيري، لا توحي بالثقة، ولا تترك مجالاً لأخذ مشروع الحوار الذي يتبناه النظام مأخذ الجد.
الجدية الوحيدة التي يراها السوريون الآن هي جدية النظام البالغة في مغالبة شعبه، قرية قرية، بلدة بلدة، ومدينة مدينة، تماماً كما هي السياسة التي تبناها النظام الليبي في التعامل مع الحراك الشعبي الذي انفجر في وجهه قبل شهر واحد من اندلاع الحركة الشعبية السورية.
ما توحي به هذه الإشارات في الحقيقة أن الإستراتيجية الوحيدة المتماسكة التي يتبعها النظام هي إستراتيجية كسب الوقت: تقديم تصور ما للإصلاح للخارج، يعمل على امتصاص حدة الضغوط الدولية والإقليمية، وتقديم وعود إصلاح فضفاضة، غير ملزمة، في سياق إجرائي مبهم، للشعب السوري.
وفي الوقت ذاته، تستمر الحملة الأمنية العسكرية بلا هوادة لكسر إرادة الشعب، بحيث تنتهي وعود الإصلاح إلى شيء ما، لا يمس القواعد التي يستند إليها النظام، ولا الخصائص الرئيسية لتحكمه في، وسيطرته على، مقاليد الحكم والسلطة ومقدرات البلاد.
بحديث الرئيس للمرة الثالثة، لم يعد ثمة مجال للشك في أن الأزمة السورية تزداد تعقيداً. ما أراد الرئيس الأسد من خلاله التوكيد على أن النظام قد تجاوز مرحلة الخطر، وأن الأمر ليس سوى مجرد الوقت قبل أن تعود سورية إلى وضعها السابق على 15 مارس، تحول إلى دليل جديد على تفاقم الأزمة وتعقيدها.
ولكن ذلك لا يعني أن النظام في طريقه للانهيار. الحراك الشعبي يتصاعد بلا شك، وقد باتت بعض المدن السورية في حالة ثورة حقيقية، ولكن الدولة الحديثة هي دولة مركزية، لا يمكن تهديد وجودها بالفعل من دون تحديها في قلب عاصمتها.
ولأسباب متعددة، وخاصة بالسياق السوري، لم تشهد العاصمة دمشق بعد حراكاً جماهيرياً ضخماً، يطرح مركز شرعية النظام للتساؤل.
ولأن الجيش السورية لم يكن يتوقع له أن يسلك سلوك الجيش المصري أو التونسي، فإن تقويض آلة القمع التي يوظفها النظام ضد الحركة الشعبية، لا يمكن أن ينجز من دون تدخل خارجي أو تشظي المؤسسة العسكرية.
الخيار الأول مرفوض، سورياً وعربياً، والخيار الثاني لم يتجل في شكل ملموس بعد، بالرغم من التشققات المستمرة في وحدات الجيش. ولا تقل مسألة مواقف القوى الإقليمية وخارطة علاقات النظام تعقيداً؛ فإلى جانب أن إيران تتعامل مع المسألة السورية كما يتعامل معها النظام، أي باعتبارها مسألة وجود، لم تقرر تركيا بعد المدى الذي يمكن أن تصل إليه في رفضها لسياسة القمع التي ينتهجها النظام ضد شعبه.
أما على المستوى الدولي، فلم تزل القوى الكبرى عاجزة عن حزم أمر موقفها من الحدث السوري.
على نحو ما، يمكن القول إن التدافع المحتدم بين النظام والشعب وصل إلى منتصف الطريق، حيث لم يعد النظام قادراً على قمع الحراك الشعبي من دون ارتكاب مجازر واسعة النطاق، ولا تبدو خلخلة أركان النظام ممكنة من دون تدخل خارجي. لحماية سورية من مثل هذا التدخل، ينبغي الثقة في قدرة الشعب السوري على تقرير مستقبل بلاده.
*العصر
23-6-2011
على نحو ما، يمكن القول إن التدافع المحتدم بين النظام والشعب وصل إلى منتصف الطريق، حيث لم يعد النظام قادراً على قمع الحراك الشعبي من دون ارتكاب مجازر واسعة النطاق، ولا تبدو خلخلة أركان النظام ممكنة من دون تدخل خارجي. لحماية سورية من مثل هذا التدخل، ينبغي الثقة في قدرة الشعب السوري على تقرير مستقبل بلاده..
تحدث الرئيس السوري بشار الأسد يوم الأثنين الماضي، يونيو، مرة أخرة منذ اندلاع الحركة الشعبية. تحدث الرئيس طويلاً كعادته.
تحدث حول ما تشهده بلاده من أحداث، حول المؤامرات التي تحاك ضد سورية، حول الإصلاحات التي تعهدها نظامه خلال الشهور الثلاثة الماضية، وتلك التي يعتزم تعهدها للانتقال بالبلاد إلى حقبة جديدة، بل وتحدث بفخر مبالغ فيه حول أن تعطي سورية بقيادته دروساً في الإصلاح والتغيير للجوار، لا أن تتلقى منه الدروس.
ولكن الرئيس لم يكن مقنعاً، لا لشعبه، ولا لدول الإقليم ورأيه العام، ولا لأغلب دول العالم الذي يراقبه، فإلى أين تمضي سورية من هنا؟
اختار الرئيس الأسد جامعة دمشق لتوجيه خطابه الثالث منذ بدء الأزمة، ولعل الاختيار لم يخل من دلالة؛ فهنا في جامعة دمشق ألقى الرئيس كلمة هامة ومدوية بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في فبراير 2005م، وإجبار سورية على الانسحاب الكامل من لبنان.
كانت دمشق حينها تتعرض لضغوط غربية - أمريكية هائلة، بغض النظر عن المسؤولية عن اغتيال الرئيس الحريري، والعالم العربي كله ينظر إلى وضع سورية بقلق هائل، سيما بعد أن تصاعدت المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأجنبي.
اختار الأسد يومها الصمود في وجه الضغوط، واكتسب بذلك موقعاً خاصاً لدى الرأي العام العربي، ولكن التاريخ ليس من عادته أن يعيد نفسه، إلا في صورة مشوهة أو مثيرة للسخرية، كما لاحظ ماركس.
منصة جامعة دمشق لم تستطع أن توفر للرئيس المجد الذي وفرته في 5، ليس فقط لأن المناسبة لا تستدعي الصمود والعناد والمغالبة، ولكن أيضاً لأن من يقف في مواجهة الرئيس اليوم ليس التهديد الأمريكي، بل الشعب السوري نفسه وحركته المطالبة بالحرية والكرامة.
ولم يظهر الرئيس في مظهر المطمئن أو الواثق بالنفس، بالرغم من لجوئه المعتاد إلى الفكاهة والسخرية؛ بل لم يظهر حتى قادراً على الإقناع. وقد بدا حريصاً على توكيد محبة الشعب له، وإيمانه بقيادته؛ ربما لأن الرئيس لم يكن مقتنعاً تماماً بمصداقية ما يقول، أو أنه بات مدركاً لصرخات الرفض الشعبية لاستمراره في الحكم والسلطة.
ولكن ’’سيكولوجيا’’ الخطاب ليست هي المسألة بالتأكيد، المسألة هي جوهر الخطاب ومادته، الرسالة التي أراد الرئيس إيصالها، والجهة التي أراد الرئيس أن يوصل لها الرسالة، ومستوى ارتقاء الرسالة لحجم الأزمة التي يواجهها نظام الحكم.
وهنا بالتأكيد محك الخطاب ومدى قدرته على رسم خارطة الخروج من الأزمة. المؤكد أنها المرة الأولى منذ اندلاع الحركة الشعبية السورية، التي تعامل معها النظام من البداية بقدر كبير من العنف، التي يقف فيها الرئيس ليظهر أسفاً على أرواح أبناء شعبه المهدورة. وللمرة الأولى أيضاً يتحدث الرئيس عن برنامج إصلاحي ضمن أفق زمني، ويشير إلى مواعيد محددة. وبالرغم من ذلك، لم يكن الرئيس مقنعاً.
المشكلة أن بشار الأسد، مرة أخرى، تحدث كمراقب محايد وليس قائداً لمسيرة إصلاح، وتحدث كشخصية تقنية، تغرق في التفاصيل، وليس كزعيم سياسي يتعامل مع المسائل الكبرى.
ولكن مشكلة المشاكل أن خطاب الرئيس استبطن رسالة للخارج وليس للشعب السوري.
بذل الرئيس جهداً هائلاً ليؤكد أن نظامه لم ينكسر أمام الحراك الجماهيري، وأنه لا يقدم تنازلات ما للمطالب الشعبية. الإصلاحات المعلن عنها، سواء ما قيل إنها أنجزت بالفعل أو ما وعد بأن تدرس لإقرارها، كان مخططاً لها من قبل، ولا تمثل تراجعاً ما أمام الحركة الشعبية.
وقد بدا أن الرئيس يريد أن يؤكد مصداقية نواياه الإصلاحية لجهات مثل تركيا أو الولايات المتحدة، ليتجنب أي تصعيد محتمل في الضغوط الإقليمية والدولية، أو أنه يريد أن يوفر لدول مثل روسيا والصين ما يبرر معارضتيهما لأي تصعيد محتمل.
لهؤلاء، قال بشار إن هناك برنامجاً إصلاحياً بالفعل؛ صحيح أنه ليس بالسرعة المتوقعة، ولكنه برنامج واقعي على أية حال، وأن هناك مواعيد محددة لهذا البرنامج.
أما الرسالة الموجهة إلى الشعب، فمن صنف آخر مختلف تماماً. ففي قلب وعود الإصلاح التي طرحها الرئيس يقف مؤتمر للحوار الوطني، ليس من الواضح كيف سيعقد، ومن هو المؤهل لعضويته، وكيف ستحدد هذه العضوية، أو الكيفية التي سيدار بها المؤتمر، ومدى الحرية والضمانات التي ستوفر للمشاركين في مجرياته.
وإن كان للسوريين تقدير الأمر، فهناك إشارات لما يمكن أن تكون الإجابة على هذه الأسئلة. فسواء في خطاب الرئيس إلى مجلس شعبه أو في الخطاب الأخير، لم يشهد الشعب السوري إلا مجاميع من المصفقين وأصحاب الهتافات، الذين صفقوا لكل صغيرة وكبيرة من كلمات الرئيس وهتفوا له باعتباره رباً معبوداً.
وفي جلسات الحوار التي عقدها الرئيس مع فئات مختلفة من الشعب السوري خلال الأسابيع القليلة الماضية، لم ير السوريون معارضين حقيقيين، ولا حتى شخصيات معتبرة من أبناء المجتمع السوري.
الذين دعوا لهذه الحوارات كانوا في أغلبهم من حزب البعث الحاكم، أو من المعروفين بارتباطهم بالنظام وأدواته. وعندما تحدث الرئيس عن الحراك الجماهيري الواسع الذي تشهده أنحاء البلاد، لم يتردد في تقسيم الشعب السوري إلى فئات من المخلصين البسطاء، والمجرمين المرتبطين بمخططات التخريب الخارجية، ودعاة الانتقام من الإخوان المسلمين والسلفيين.
وإلى جانب هذه الإشارات، وخارج قاعة جامعة دمشق اللافتة في وقارها وأناقتها، كان ثمة إشارات أخرى لا تقل دلالة. فقد استمرت الحملة العسكرية الأمنية بلا هوادة ضد المدن والبلدات السورية، واستمرت معها حملات الاعتقال العشوائية وغير العشوائية، والخسائر المتزايدة في الأرواح.
وبعد أن كانت سورية ملجأ للفارين من الموت والخراب، باتت مصدراً للاجئين الناجين بأرواحهم وأبنائهم من الموت والخراب.
ويعمل النظام بجهد فائق في تعزيز الخطاب الطائفي، وحشد أبناء الطائفة العلوية، الذين يعاني أغلبهم، كما أغلب السوريين، من الضائقة الاقتصادية والهيمنة الأمنية والسياسية على شؤون الدولة والبلاد من قبل شريحة حاكمة صغيرة.
أنتجت هذه التعبئة في المناطق المختلطة، ميليشيات طائفية، تعمل إلى جانب القوى العسكرية والأمنية. وربما سيمر زمن طويل قبل أن يستطيع السوريون بناء الثقة بين فئات اجتماعهم المختلفة.
مثل هذه الإشارات، سواء في مادة خطاب الرئيس، في سياق الخطاب، أو في السياسة التي يتبعها النظام في التعامل مع الحراك الجماهيري، لا توحي بالثقة، ولا تترك مجالاً لأخذ مشروع الحوار الذي يتبناه النظام مأخذ الجد.
الجدية الوحيدة التي يراها السوريون الآن هي جدية النظام البالغة في مغالبة شعبه، قرية قرية، بلدة بلدة، ومدينة مدينة، تماماً كما هي السياسة التي تبناها النظام الليبي في التعامل مع الحراك الشعبي الذي انفجر في وجهه قبل شهر واحد من اندلاع الحركة الشعبية السورية.
ما توحي به هذه الإشارات في الحقيقة أن الإستراتيجية الوحيدة المتماسكة التي يتبعها النظام هي إستراتيجية كسب الوقت: تقديم تصور ما للإصلاح للخارج، يعمل على امتصاص حدة الضغوط الدولية والإقليمية، وتقديم وعود إصلاح فضفاضة، غير ملزمة، في سياق إجرائي مبهم، للشعب السوري.
وفي الوقت ذاته، تستمر الحملة الأمنية العسكرية بلا هوادة لكسر إرادة الشعب، بحيث تنتهي وعود الإصلاح إلى شيء ما، لا يمس القواعد التي يستند إليها النظام، ولا الخصائص الرئيسية لتحكمه في، وسيطرته على، مقاليد الحكم والسلطة ومقدرات البلاد.
بحديث الرئيس للمرة الثالثة، لم يعد ثمة مجال للشك في أن الأزمة السورية تزداد تعقيداً. ما أراد الرئيس الأسد من خلاله التوكيد على أن النظام قد تجاوز مرحلة الخطر، وأن الأمر ليس سوى مجرد الوقت قبل أن تعود سورية إلى وضعها السابق على 15 مارس، تحول إلى دليل جديد على تفاقم الأزمة وتعقيدها.
ولكن ذلك لا يعني أن النظام في طريقه للانهيار. الحراك الشعبي يتصاعد بلا شك، وقد باتت بعض المدن السورية في حالة ثورة حقيقية، ولكن الدولة الحديثة هي دولة مركزية، لا يمكن تهديد وجودها بالفعل من دون تحديها في قلب عاصمتها.
ولأسباب متعددة، وخاصة بالسياق السوري، لم تشهد العاصمة دمشق بعد حراكاً جماهيرياً ضخماً، يطرح مركز شرعية النظام للتساؤل.
ولأن الجيش السورية لم يكن يتوقع له أن يسلك سلوك الجيش المصري أو التونسي، فإن تقويض آلة القمع التي يوظفها النظام ضد الحركة الشعبية، لا يمكن أن ينجز من دون تدخل خارجي أو تشظي المؤسسة العسكرية.
الخيار الأول مرفوض، سورياً وعربياً، والخيار الثاني لم يتجل في شكل ملموس بعد، بالرغم من التشققات المستمرة في وحدات الجيش. ولا تقل مسألة مواقف القوى الإقليمية وخارطة علاقات النظام تعقيداً؛ فإلى جانب أن إيران تتعامل مع المسألة السورية كما يتعامل معها النظام، أي باعتبارها مسألة وجود، لم تقرر تركيا بعد المدى الذي يمكن أن تصل إليه في رفضها لسياسة القمع التي ينتهجها النظام ضد شعبه.
أما على المستوى الدولي، فلم تزل القوى الكبرى عاجزة عن حزم أمر موقفها من الحدث السوري.
على نحو ما، يمكن القول إن التدافع المحتدم بين النظام والشعب وصل إلى منتصف الطريق، حيث لم يعد النظام قادراً على قمع الحراك الشعبي من دون ارتكاب مجازر واسعة النطاق، ولا تبدو خلخلة أركان النظام ممكنة من دون تدخل خارجي. لحماية سورية من مثل هذا التدخل، ينبغي الثقة في قدرة الشعب السوري على تقرير مستقبل بلاده.
*العصر