الحركة الإسلامية والنظام السياسي .. من التحالف إلى التنافس (الحلقة الخامسة) نشوء وتطور حركة الإخوان المسلمين في اليمن
في الحلقة الخامسة من كتاب ’’الحركة الإسلامية والنظام السياسي في اليمن .. من التحالف إلى التنافس’’، نبدأ بنشر المبحث الثالث المعنون بـ’’ نشوء وتطور حركة الإخوان المسلمين في اليمن’’.
وفي هذه الحلقة ننشر المرحلة الأولى من مراحل نشوء حركة الإخوان المسلمين في اليمن والتي امتدت من 1938م إلى قيام الحركة الدستورية عام 1948م ، ودور الإخوان في ثورة 48 .
مقدمة:
تعد الكتابة في تاريخ الحركات والتنظيمات السياسية في الدول التي تُحرِّم العمل السياسي المنظم من الأمور الصعبة، نظرا لحالة السرية التامة التي تصحب عملية التأسيس، وعدم الاتفاق بين أعضاء التنظيم حول بعض التفاصيل، لأن كلاً منهم ينظر إليها من زاويته ومن الموقع الذي كان فيه، ولاختلاف المعلومات التي بحوزة كل منهم، فما لدى المستويات القيادية غالبا ما يكون أكثر مما لدى بقية الأفراد، وتزداد الصعوبة إذا ما كانت هذه الحركة أو التنظيم في حالة استمرارية، إذ توجد محاذير من التأثير السلبي للمعلومات التي يتم الكشف عنها على مسارها وانجازاتها.
وبعض هذا وجده الباحث وهو يتتبع تاريخ الحركة الإسلامية في اليمن، وفوق ذلك فليس بالإمكان الإعلان عن كل المعلومات، وكما سبق فإن البيانات التي يمكن نشرها في هذه الدراسة هي في حدود ما يمكن أن يسمح به الوضع الحالي.
وكما هو معلوم، فقد ولدت حركة الإخوان المسلمين عام 1928م، بعد سقوط الخلافة العثمانية، وخضوع أغلب بلدان العالم العربي والإسلامي للاستعمار الغربي، وتبعيتها السياسية والفكرية والاقتصادية للدول الأوروبية، واستمرت في النمو والانتشار، وتحولت بفعل تطورات كثيرة إلى مدرسة فكرية امتد تأثيرها إلى بقية الأقطار العربية والإسلامية ومنها اليمن.
مراحل نشوء وتطور حركة الإخوان المسلمين في اليمن:
عايشت اليمن مع حركة الإخوان المسلمين تجربتين، امتدت الأولى من ثلاثينيات القرن العشرين حتى عام 1948م، فيما تأسست الثانية في أواخر الخمسينيات واستمرت حتى اليوم، وهنا نستعرض أبرز الملامح في المرحلتين:
( أ ) المرحلة الأولى: (1938م ـ 1948م)
إن امتداد التأثير الفكري والسياسي لحركة الإخوان المسلمين إلى اليمن لا يعد استثناءا، إذ تشير الخبرة التاريخية بأن اليمن من أكثر الأقطار العربية تأثراً بالتطورات السياسية والفكرية التي حصلت في مصر، وفي إطار هذا التأثير غالبًا ما تجد التيارات السياسية والفكرية التي تولد في مصر امتداداً لها في اليمن، وغالبا ما تكون اليمن في مقدمة اهتمام أي مشروع فكري أو سياسي يتعدى مصر إلى خارجها، وكثيرا ما تحملت مصر أعباء امتداد مشاريعها الفكرية إلى اليمن(1).
تعود علاقة حركة الإخوان المسلمين باليمن إلى عام 1928م عندما تعرف الأستاذ حسن البنا ـ مؤسس الجماعة ـ بالعلامة محمد زبارة أمير القصر السعيد باليمن، حيث نزل ضيفًا على الإخوان بدارهم بالإسماعيلية وتأثر بشخصية البنا، واتفق معه على قبول انتدابه إلى اليمن ليقوم بشؤون التعليم هناك، وتبودلت رسائل بذلك الشأن بين حكومتي البلدين، غير أن الحكومة المصرية رفضت الموافقة على الطلب رفضًا باتًا(2)، وقد كان الإمام حسن البنا يولي اليمن اهتمامًا خاصًا، فقد كان يعرف جيدًا أن اليمن لم تكن كغيرها من البلدان وخاصة لدعوة كدعوته تطمح إلى تقديم الإسلام للعالم بصورته الشاملة الكاملة، فاليمن كانت تتميز بكونها نائية، ومن أطراف الدولة الإسلامية التي تضعف فيها السلطة المركزية، وأيضًا ذات مجتمع قبلي لا يخضع للولاة أو الحكام بسهولة، ويقاوم بضراوة أي هيمنة تحاول النيل من اعتزازه بحريته، والميزة الأخرى هي خصوبة المجتمع وتقبله للدعوات السياسية أو الفكرية، ولاسيما إذا خاطبت وجدانه بخطاب الدين الذي يؤثر في الإنسان اليمني أكثر من أي شيء آخر(3).
وإجمالا فقد توفرت في اليمن مجموعة من العوامل التي جعلت الإخوان المسلمين يفكرون في اليمن منطلقًا لدعوتهم من هذه العوامل(4):
1ـ أن اليمن ـ المملكة المتوكلية اليمنية ـ مستقلة ولم تلوثها يد الاستعمار ولا تخضع لتوجيه أجنبي.
2ـ أن اليمن خالٍ من الأقليات الدينية ـ عدى بضعة آلاف من اليهود ـ والإسلام هو دين اليمنيين جميعًا.
3ـ أن نظام الحكم في اليمن يقوم على أساس الإسلام، فالحاكم والمحكوم في اليمن يتمسكان بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
4ـ ما لليمنيين من ماضٍ مجيد في نشر الدعوة الإسلامية وفتح البلدان أمام التوسع الإسلامي، والمكانة المرموقة لليمن (اليمانيين في الكتاب والسنة).
ولهذا فقد كان الأستاذ البنا يتحدث إلى مريديه وتلاميذه قائلاً: ’’إن نجاح الحركة الإسلامية سيكون في هذا الصقع المبارك... (اليمن)، لأنه لا سلطان فيه للاستعمار وأهله مشهود لهم بالإيمان والحكمة...’’ (5).
ويصف الإخوان المسلمون علاقتهم باليمن بأنها علاقة خاصة، فهم كانوا يشعرون من أول يوم أنهم تربطهم باليمن رابطة خاصة، أساسها ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، إضافة إلى حب الأستاذ البنا لليمن(6)، ولقد بلغ من حب الأستاذ حسن البنا أن أطلق على نجله الوحيد اسم أحمد سيف الإسلام حسن البنا، تسجيلاً لهذه الرابطة الروحية بينه وبين اليمن(7). ومن المعروف أن لقب سيف الإسلام هو لقب خاص بالأمراء من الأسرة الحاكمة في اليمن آنذاك، وكان هذا اللقب الغريب على المصريين هو لقب واسم النجل الأكبر للإمام يحيى حميد الدين، الذي أصبح فيما بعد الإمام أحمد حميد الدين(8).
ولذلك ظلت اليمن حكومة وشعبًا محل اهتمام وحب الأستاذ حسن البنا والإخوان المسلمين، ونمت علاقة جيدة بين البنا والشخصيات الرسمية اليمنية، لاسيما الإمام يحيى حميد الدين وابنه أحمد وبعض أركان حكمه، حيث ارتسمت لليمن صورة زاهية لدى الأستاذ حسن البنا والإخوان المسلمين.
لكن تلك الصورة التي رسمت عن بعد لحكومة الإمام يحيى وأوضاع اليمن عمومًا أخذت في التحول، حيث بدأ الإخوان المسلمون يطلعون شيئًا فشيئًا على حقيقة الأوضاع المتردية في اليمن وطبيعة حكم الأئمة، والذي يمارس صورا شتى من الظلم باسم الدين، ويقوم على رؤية عنصرية ضيقة.
وقد كان اليمنيون المقيمون في مصر، والذين كانوا على اتصال بالمركز العام للإخوان المسلمين مصدر معلومات الإخوان، حيث كان الكثير من أبناء اليمن الدارسين في معاهد ومدارس مصر، يقومون بنقد الأوضاع في اليمن، وتقديم صورة مختلفة عن تلك التي كانت لدى الإخوان، إضافة إلى احتكاك الإخوان المسلمين مع بعض الوفود الرسمية القادمة إلى مصر، أو العابرة من خلالها، لتمثيل اليمن في بعض المؤتمرات، والذين كانوا يطلبون العون الفني والإداري من الإخوان المسلمين، فقد كان الإخوان يكتشفون مدى تخلف وانعزال اليمن عن العالم.
كما كانت تأتي رسائل من بعض المثقفين اليمنيين القريبين من الإخوان المسلمين تشرح لهم حجم المعاناة والاستبداد التي يفرضها الإمام يحيى على اليمنيين، إلى جانب الصلات القائمة بين الإخوان ومعارضي حكم الإمام يحيى من اليمنيين الذين خرجوا إلى عدن، وكان يطلق عليهم الأحرار، وقد توثقت العلاقة بين الأحرار اليمنيين والإخوان المسلمين في مصر، وتختلف المصادر التاريخية في تحديد طبيعة تلك العلاقة، فهناك من يرى بأن العلاقة بينهما كانت ذات طابع فكري، فتقارب وجهة نظر حركة المعارضة اليمنية مع وجهة نظر الإخوان المسلمين (حول الأوضاع في اليمن وسبل إصلاحها) يرجع إلى أن حركة المعارضة اليمنية هي في الأساس حركة إصلاحية دينية نهل معظم روادها من منابع الفكر الإسلامي لمدرسة الشيخ جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده، ورشيد رضا، وهو نفس المنهل الذي نهل منه الإمام حسن البنا والعناصر المؤسسة لحركة الإخوان المسلمين(9)، على حين ترى بعض المصادر الأخرى أن المعارضة اليمنية كانت تمثل امتداداً فكرياً وتنظيمياً لحركة الإخوان.
توثقت العلاقة ـ بمستويات ومضامين مختلفة ـ بين حركة الإخوان المسلمين في مصر من جهة وبين الإمام يحيى وبعض أفراد أسرته، وأركان حكمه، ومعارضيه داخل اليمن وخارجها، وبعض الشخصيات اليمنية المثقفة والطلاب والمغتربين اليمنيين في مصر وبعض الدول في شرق أفريقيا من جهة ثانية، وتبنى الإخوان إستراتيجية إصلاح نظام حكم الإمام يحيى، والتقريب بينه وبين المعارضة، وكان أمل الإخوان في إصلاح ذلك الحكم كبيرا ولهذا وجهوا معارضي الإمام الذين يدرسون في القاهرة إلى التعامل ’’بالحكمة والموعظة الحسنة، والتمسك بأهداب النظام، والبعد عن كل ما من شأنه المهاجمة والخصومة والحرص على حسن طاعة الإمام...والصبر والهدوء، وأخذ الأمور بالحلم والأناة، ونصحوهم: ’’بالتفاهم مع محبي الخير لليمن من رجال الجامعة العربية على وجوب بذل النصح لجلالة الإمام بأن يخطو ببلاده خطوات في سبيل الإصلاح المادي مهما كانت ضيقة، فهي خطوات على كل حال تسكن بها الثائرة ويحيا بها أمل الناس’’(10).
وشيئا فشيئا انغمس الإخوان في شؤون اليمن، وتعددت العلائق وأدوات تأثيرهم في الأوضاع العامة في اليمن من خلال:
إقامة العلاقة والصلات مع الإمام يحيى وبعض أفراد أسرته وأركان حكمه، ودعوتهم إلى مقر الإخوان، واصطحاب بعضهم في نوادي الإخوان خارج القاهرة، وإقامة احتفالات ببعض وفودهم، وتلبية طلبهم في توفير من يرافقهم من الإخوان إلى المؤتمرات الدولية.
تبادل الرسائل مع الإمام يحيى وولي عهده وبعض مساعديه، ونصحهم للإمام وتأكيدهم عليه في جميع الرسائل على حاجة اليمن إلى الإصلاح في مختلف المجالات، ففي إحدى الرسائل يشير الأستاذ البنا إلى: ’’أن العالم الإسلامي يتوجه إلى جلالة الإمام المعظم وكله أمل ورجاء في أن يسرع جلالته مؤيدا مشكورا في إقرار النواحي الإصلاحية الإدارية والاقتصادية والاجتماعية التي تنهض بشعبه وتعود بالخير على البلاد والعباد، حتى لا يدع ثغرة ينفذ منها الاستعمار الأجنبي إلى هذه الأوطان العزيزة’’(11)، كما كانت ذات الرسائل تتضمن محاولة التقريب بين الإمام ومعارضيه في الخارج.
أسهم الإخوان في تأسيس بدايات الحركة التعليمية في اليمن، وأولوا قضية التعليم أهمية خاصة، من خلال ابتعاث معلمين ومدرسين من الإخوان بمصر إلى اليمن للقيام بالتعليم في مدارسها القليلة(12).
تعززت صلاتهم مع المعارضين اليمنيين في الخارج، فمنذ عام 1944م (بعد خروج الزبيري والنعمان إلى عدن وإعلانهما للمعارضة) دعم الإخوان مطالب الأحرار ونشروها في صحافتهم، ولعبت صحيفة الإخوان المسلمين اليومية، ومجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية، بالإضافة إلى مجلة الكشكول، وغيرها من الصحف الإخوانية بمصر دورا مميزا في التعريف بالقضية اليمنية، فنشرت مقالات لليمنيين المقيمين في القاهرة ولكتاب مصريين من(الإخوان)(13)، تطالب بضرورة الإصلاح وتخليص اليمن من مظالم سيوف الإسلام.
تعمقت صلات الإخوان المسلمين مع معارضي الإمام، لاسيما بعد انضمام سيف الحق إبراهيم ابن الإمام يحيى إلى حزب الأحرار اليمنيين، الذي يتزعمه الأستاذ الزبيري وأحمد النعمان، وقد طلب الأمير سيف الحق إبراهيم من الأستاذ البنا أن يحمل لواء القضية اليمانية في العالم العربي، وفي ذات الوقت استمرت مطالب الإخوان للإمام يحيى وابنه أحمد بإصلاح الأوضاع في اليمن، ومثل سفر الفضيل الورتلاني -وهو أحد أنصار الإخوان -إلى اليمن بغرض إقامة شركة تجارية محطة جديدة في علاقة الإخوان المسلمين باليمن، فإلى جانب مهمته التجارية، حث الورتلاني الإمام يحيى للقيام بإصلاحات عاجلة في الجوانب السياسية والإدارية والاقتصادية، وقدم للإمام تقارير مكتوبة عن ما يلزم القيام به.
وكان مقدم الفضيل بخبرته التنظيمية الطويلة وطريقته الساحرة في الإقناع، نقطة تحول في مسيرة المعارضة اليمنية، وكان الدور الذي قام به في غاية الصعوبة، استغرق وقتا وجهدا كبيرين، ويرى الدكتور عبد العزيز المقالح أن هذا الدور ما كان غير الورتلاني ليضطلع به، فأصبح الشخصية المحورية المهمة في اليمن(14)، وهو من أطلع رموز المعارضة اليمنية على مسودة الميثاق الوطني المقدس، ومثل همزة وصل بينها وبين المعارضة في عدن، وبين الجميع والإمام البنا حتى تم الاتفاق على الصياغة النهائية للميثاق، وترتيب انتقال السلطة بعد وفاة الإمام يحيى، وتحديد الأشخاص الذين سيتولون المناصب الحكومية.
وفي نفس الوقت قام عبد الرحمن عزام باشا أمين عام جامعة الدول العربية بإطلاع الملوك والزعماء العرب على فكرة الميثاق واحتياج الشعب اليمني لها، ووعد هؤلاء الملوك بدعم هذه الحركة بعد وفاة الإمام يحيى وفاة طبيعية’’(15)، غير أن تلك الترتيبات أُربكت بعد أن اطلع عليها ولي العهد، وأوعز إلى احد معاونيه بالاتصال بالمندوب البريطاني وأبلغه بوفاة الإمام يحيى، وقام المندوب البريطاني بتعزية سيف الحق إبراهيم، وبعد يومين نشرت جريدة ’’ الإخوان المسلمين’’ اليومية في صدر صفحتها خبر وفاة الإمام يحيى ومبايعة السيد عبد الله بن احمد الوزير، إماما دستوريا، وتشكيل حكومة دستورية جديدة برئاسة علي بن عبد الله الوزير، وأوردت الجريدة أسماء التشكيلة الحكومية، الأمر الذي كشف مخطط تغيير الحكم، وخوفا من انتقام الإمام يحيى قرر بعض قيادات المعارضة اغتيال الإمام يحيى وولي عهده، وقد تم اغتيال الإمام يحيى في إحدى ضواحي صنعاء بتاريخ 17 فبراير 1948م، فيما نجا ولي العهد، وانتقل من تعز إلى حجة، وأثار القبائل ضد الثوار، وتمكن من إسقاط الحكومة الدستورية والتنكيل بمن شارك في ثورة 1948م.
وقبل أن تسقط، كانت الحكومة الدستورية في صنعاء تلح على المرشد العام للإخوان المسلمين بسرعة وصوله إلى اليمن، مصطحبا معه أمين عام جامعة الدول العربية، واستجاب البنا لهذه الدعوة، فتم تعيين بعثة إلى اليمن على رأسها المرشد العام، وفي اللحظات الأخيرة لم يسافر البنا واقتصر الوفد على عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للإخوان المسلمين وعدد آخر من الإخوان، وقد قام أعضاء الوفد بإثارة حماس الثوار والمواطنين والتغطية الإخبارية للأحداث في صحف الإخوان(16).
وطوال ثلاثة أسابيع هي كل عمر الانقلاب الدستوري، كان الإخوان المسلمون هم القوة الوحيدة التي وقفت مع الحكومة الدستورية الجديدة(17).
وبعد سقوط الانقلاب، وتشريد وإعدام أنصار الإخوان المسلمين في اليمن، انتهى أي وجود للإخوان المسلمين داخل المملكة المتوكلية اليمنية طوال فترة حكم الإمام أحمد حميد الدين (1948ـ 1962م)(18)، وكان الإمام أحمد وبقية أفراد الأسرة الحاكمة، قد حمّلوا الإخوان المسلمين في مصر مسؤولية دعم تلك الثورة، وانتقموا ممن كان لديه شبهة الانتماء إليهم من اليمنيين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع :
(1) مدّ محمد علي نفوذه إلى اليمن في إطار مشروعه النهضوي، ودفع ثمن ذلك غاليا من تآمر الباب العالي مع الدول الغربية، وحدث نفس الأمر مع عبد الناصر، فقد آزر ثورة 26 سبتمبر 1962م في اليمن عسكريا وسياسيا واقتصاديا، ودفع ثمن ذلك باهظاً أثناء عدوان 1967م، وقبله ساند الإخوان ثورة 1948م ضد الإمام يحيى، ودفعوا ثمنا غاليا فقد كان موقف الإخوان من ثورة اليمن أحد أسباب التآمر لاغتيال الإمام البنا وحل الجماعة.
(2) المركز العام للإخوان المسلمين، بيان عن موقف الإخوان المسلمين م من قضية اليمن، أبريل1948م، ص2، انظر: نص البيان ملحق، بـ حميد أحمد شحرة، مصرع الابتسامة، سقوط مشروع الدولة الإسلامية في اليمن (1938ـ1948م)، صنعاء، المركز اليمني للدراسات الإستراتيجية، 1998م.
(3) حميد أحمد شحرة، مصرع الابتسامة ص: 41.
(4) المرجع نفسه، ص: 42.
(5) مركز الدراسات والبحوث اليمني، وثائق أولى عن الثورة اليمنية، ص119، نقلا عن حميد شحرة، مصرع الابتسامة، مرجع سبق ذكره، ص: 43.
(6) كتب الأستاذ حسن البنا عن حبه لليمن ’’قرأنا عن اليمن الخضراء السعيدة مهد الحضارة ومنبع كثير من المدنيات وسمعنا قول الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ’’الإيمان يمان والحكمة يمانية ’’، وقوله ’’إني لأشم نفس الرحمن من اليمن’’، فأحببت اليمن حبا جما، أحببنا أرضها وسماءها وأهلها وشعبها وحكومتها وإمامها، واهتممنا بكل ما يتصل بها، وزادنا بها تعلقا ولها اهتماما أنها البقعة من الأرض التي لم تصل إلى قلبها يد الاستعمار...وأنها تعلن استمساكها بكتاب الله تعالى نظاما شاملا، وتنفر من كل ما عداه..’’ جريدة الإخوان المسلمين اليومية بتاريخ 3/8/1947م، نقلا عن حميد شحرة، مصرع الابتسامة، مرجع سبق ذكره، ص: 43.
(7) المركز العام للإخوان المسلمين، مرجع سبق ذكره، ص: 6.
(8) حميد أحمد شحرة، مصرع الابتسامة، مرجع سبق ذكره، ص: 44.
(9) عبد الكريم قاسم سعيد، الإخوان المسلمون والحركة الأصولية في اليمن، (القاهرة، مكتبة مدبولي)،ط1، 1995م، ص: 11- 12.
(10) المركز العام للإخوان المسلمين، مرجع سبق ذكره، ص: 5
(11) صحيفة الإخوان المسلمين اليومية، بتاريخ 3 أغسطس 1947م، الموافق 16 رمضان 1366هـ.
(12) حميد شحرة، مصرع الابتسامة، مرجع سبق ذكره، ص: 65.
(13) أبرزهم الشهيد عبد القادر عودة.
(14) حميد شحرة، مصرع الابتسامة، مرجع سبق ذكره، ص: 136.
(15) محاضرة للأستاذ عمر بهاء الدين الأميري، عن الشهيد الزبيري في برمنجهام عام 1988م نقلا عن شحرة، مصرع الابتسامة، مرجع سبق ذكره، ص: 138.
(16) للتعرف على تفاصيل موقف الإخوان المسلمين في مصر من ثورة عام 1948م يرجع إلى: الدكتور عبد الله الذيفاني، الاتجاه القومي في حركة الأحرار اليمنيين، (صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، والمركز الفرنسي للدراسات اليمنية) ط1، ص: 254-275.
(17) حميد شحرة، مصرع الابتسامة، مرجع سبق ذكره، ص: 183.
(18) المرجع نفسه، ص: 211.
.المصدر اون لاين
في الحلقة الخامسة من كتاب ’’الحركة الإسلامية والنظام السياسي في اليمن .. من التحالف إلى التنافس’’، نبدأ بنشر المبحث الثالث المعنون بـ’’ نشوء وتطور حركة الإخوان المسلمين في اليمن’’.
وفي هذه الحلقة ننشر المرحلة الأولى من مراحل نشوء حركة الإخوان المسلمين في اليمن والتي امتدت من 1938م إلى قيام الحركة الدستورية عام 1948م ، ودور الإخوان في ثورة 48 .
مقدمة:
تعد الكتابة في تاريخ الحركات والتنظيمات السياسية في الدول التي تُحرِّم العمل السياسي المنظم من الأمور الصعبة، نظرا لحالة السرية التامة التي تصحب عملية التأسيس، وعدم الاتفاق بين أعضاء التنظيم حول بعض التفاصيل، لأن كلاً منهم ينظر إليها من زاويته ومن الموقع الذي كان فيه، ولاختلاف المعلومات التي بحوزة كل منهم، فما لدى المستويات القيادية غالبا ما يكون أكثر مما لدى بقية الأفراد، وتزداد الصعوبة إذا ما كانت هذه الحركة أو التنظيم في حالة استمرارية، إذ توجد محاذير من التأثير السلبي للمعلومات التي يتم الكشف عنها على مسارها وانجازاتها.
وبعض هذا وجده الباحث وهو يتتبع تاريخ الحركة الإسلامية في اليمن، وفوق ذلك فليس بالإمكان الإعلان عن كل المعلومات، وكما سبق فإن البيانات التي يمكن نشرها في هذه الدراسة هي في حدود ما يمكن أن يسمح به الوضع الحالي.
وكما هو معلوم، فقد ولدت حركة الإخوان المسلمين عام 1928م، بعد سقوط الخلافة العثمانية، وخضوع أغلب بلدان العالم العربي والإسلامي للاستعمار الغربي، وتبعيتها السياسية والفكرية والاقتصادية للدول الأوروبية، واستمرت في النمو والانتشار، وتحولت بفعل تطورات كثيرة إلى مدرسة فكرية امتد تأثيرها إلى بقية الأقطار العربية والإسلامية ومنها اليمن.
مراحل نشوء وتطور حركة الإخوان المسلمين في اليمن:
عايشت اليمن مع حركة الإخوان المسلمين تجربتين، امتدت الأولى من ثلاثينيات القرن العشرين حتى عام 1948م، فيما تأسست الثانية في أواخر الخمسينيات واستمرت حتى اليوم، وهنا نستعرض أبرز الملامح في المرحلتين:
( أ ) المرحلة الأولى: (1938م ـ 1948م)
إن امتداد التأثير الفكري والسياسي لحركة الإخوان المسلمين إلى اليمن لا يعد استثناءا، إذ تشير الخبرة التاريخية بأن اليمن من أكثر الأقطار العربية تأثراً بالتطورات السياسية والفكرية التي حصلت في مصر، وفي إطار هذا التأثير غالبًا ما تجد التيارات السياسية والفكرية التي تولد في مصر امتداداً لها في اليمن، وغالبا ما تكون اليمن في مقدمة اهتمام أي مشروع فكري أو سياسي يتعدى مصر إلى خارجها، وكثيرا ما تحملت مصر أعباء امتداد مشاريعها الفكرية إلى اليمن(1).
تعود علاقة حركة الإخوان المسلمين باليمن إلى عام 1928م عندما تعرف الأستاذ حسن البنا ـ مؤسس الجماعة ـ بالعلامة محمد زبارة أمير القصر السعيد باليمن، حيث نزل ضيفًا على الإخوان بدارهم بالإسماعيلية وتأثر بشخصية البنا، واتفق معه على قبول انتدابه إلى اليمن ليقوم بشؤون التعليم هناك، وتبودلت رسائل بذلك الشأن بين حكومتي البلدين، غير أن الحكومة المصرية رفضت الموافقة على الطلب رفضًا باتًا(2)، وقد كان الإمام حسن البنا يولي اليمن اهتمامًا خاصًا، فقد كان يعرف جيدًا أن اليمن لم تكن كغيرها من البلدان وخاصة لدعوة كدعوته تطمح إلى تقديم الإسلام للعالم بصورته الشاملة الكاملة، فاليمن كانت تتميز بكونها نائية، ومن أطراف الدولة الإسلامية التي تضعف فيها السلطة المركزية، وأيضًا ذات مجتمع قبلي لا يخضع للولاة أو الحكام بسهولة، ويقاوم بضراوة أي هيمنة تحاول النيل من اعتزازه بحريته، والميزة الأخرى هي خصوبة المجتمع وتقبله للدعوات السياسية أو الفكرية، ولاسيما إذا خاطبت وجدانه بخطاب الدين الذي يؤثر في الإنسان اليمني أكثر من أي شيء آخر(3).
وإجمالا فقد توفرت في اليمن مجموعة من العوامل التي جعلت الإخوان المسلمين يفكرون في اليمن منطلقًا لدعوتهم من هذه العوامل(4):
1ـ أن اليمن ـ المملكة المتوكلية اليمنية ـ مستقلة ولم تلوثها يد الاستعمار ولا تخضع لتوجيه أجنبي.
2ـ أن اليمن خالٍ من الأقليات الدينية ـ عدى بضعة آلاف من اليهود ـ والإسلام هو دين اليمنيين جميعًا.
3ـ أن نظام الحكم في اليمن يقوم على أساس الإسلام، فالحاكم والمحكوم في اليمن يتمسكان بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
4ـ ما لليمنيين من ماضٍ مجيد في نشر الدعوة الإسلامية وفتح البلدان أمام التوسع الإسلامي، والمكانة المرموقة لليمن (اليمانيين في الكتاب والسنة).
ولهذا فقد كان الأستاذ البنا يتحدث إلى مريديه وتلاميذه قائلاً: ’’إن نجاح الحركة الإسلامية سيكون في هذا الصقع المبارك... (اليمن)، لأنه لا سلطان فيه للاستعمار وأهله مشهود لهم بالإيمان والحكمة...’’ (5).
ويصف الإخوان المسلمون علاقتهم باليمن بأنها علاقة خاصة، فهم كانوا يشعرون من أول يوم أنهم تربطهم باليمن رابطة خاصة، أساسها ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، إضافة إلى حب الأستاذ البنا لليمن(6)، ولقد بلغ من حب الأستاذ حسن البنا أن أطلق على نجله الوحيد اسم أحمد سيف الإسلام حسن البنا، تسجيلاً لهذه الرابطة الروحية بينه وبين اليمن(7). ومن المعروف أن لقب سيف الإسلام هو لقب خاص بالأمراء من الأسرة الحاكمة في اليمن آنذاك، وكان هذا اللقب الغريب على المصريين هو لقب واسم النجل الأكبر للإمام يحيى حميد الدين، الذي أصبح فيما بعد الإمام أحمد حميد الدين(8).
ولذلك ظلت اليمن حكومة وشعبًا محل اهتمام وحب الأستاذ حسن البنا والإخوان المسلمين، ونمت علاقة جيدة بين البنا والشخصيات الرسمية اليمنية، لاسيما الإمام يحيى حميد الدين وابنه أحمد وبعض أركان حكمه، حيث ارتسمت لليمن صورة زاهية لدى الأستاذ حسن البنا والإخوان المسلمين.
لكن تلك الصورة التي رسمت عن بعد لحكومة الإمام يحيى وأوضاع اليمن عمومًا أخذت في التحول، حيث بدأ الإخوان المسلمون يطلعون شيئًا فشيئًا على حقيقة الأوضاع المتردية في اليمن وطبيعة حكم الأئمة، والذي يمارس صورا شتى من الظلم باسم الدين، ويقوم على رؤية عنصرية ضيقة.
وقد كان اليمنيون المقيمون في مصر، والذين كانوا على اتصال بالمركز العام للإخوان المسلمين مصدر معلومات الإخوان، حيث كان الكثير من أبناء اليمن الدارسين في معاهد ومدارس مصر، يقومون بنقد الأوضاع في اليمن، وتقديم صورة مختلفة عن تلك التي كانت لدى الإخوان، إضافة إلى احتكاك الإخوان المسلمين مع بعض الوفود الرسمية القادمة إلى مصر، أو العابرة من خلالها، لتمثيل اليمن في بعض المؤتمرات، والذين كانوا يطلبون العون الفني والإداري من الإخوان المسلمين، فقد كان الإخوان يكتشفون مدى تخلف وانعزال اليمن عن العالم.
كما كانت تأتي رسائل من بعض المثقفين اليمنيين القريبين من الإخوان المسلمين تشرح لهم حجم المعاناة والاستبداد التي يفرضها الإمام يحيى على اليمنيين، إلى جانب الصلات القائمة بين الإخوان ومعارضي حكم الإمام يحيى من اليمنيين الذين خرجوا إلى عدن، وكان يطلق عليهم الأحرار، وقد توثقت العلاقة بين الأحرار اليمنيين والإخوان المسلمين في مصر، وتختلف المصادر التاريخية في تحديد طبيعة تلك العلاقة، فهناك من يرى بأن العلاقة بينهما كانت ذات طابع فكري، فتقارب وجهة نظر حركة المعارضة اليمنية مع وجهة نظر الإخوان المسلمين (حول الأوضاع في اليمن وسبل إصلاحها) يرجع إلى أن حركة المعارضة اليمنية هي في الأساس حركة إصلاحية دينية نهل معظم روادها من منابع الفكر الإسلامي لمدرسة الشيخ جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده، ورشيد رضا، وهو نفس المنهل الذي نهل منه الإمام حسن البنا والعناصر المؤسسة لحركة الإخوان المسلمين(9)، على حين ترى بعض المصادر الأخرى أن المعارضة اليمنية كانت تمثل امتداداً فكرياً وتنظيمياً لحركة الإخوان.
توثقت العلاقة ـ بمستويات ومضامين مختلفة ـ بين حركة الإخوان المسلمين في مصر من جهة وبين الإمام يحيى وبعض أفراد أسرته، وأركان حكمه، ومعارضيه داخل اليمن وخارجها، وبعض الشخصيات اليمنية المثقفة والطلاب والمغتربين اليمنيين في مصر وبعض الدول في شرق أفريقيا من جهة ثانية، وتبنى الإخوان إستراتيجية إصلاح نظام حكم الإمام يحيى، والتقريب بينه وبين المعارضة، وكان أمل الإخوان في إصلاح ذلك الحكم كبيرا ولهذا وجهوا معارضي الإمام الذين يدرسون في القاهرة إلى التعامل ’’بالحكمة والموعظة الحسنة، والتمسك بأهداب النظام، والبعد عن كل ما من شأنه المهاجمة والخصومة والحرص على حسن طاعة الإمام...والصبر والهدوء، وأخذ الأمور بالحلم والأناة، ونصحوهم: ’’بالتفاهم مع محبي الخير لليمن من رجال الجامعة العربية على وجوب بذل النصح لجلالة الإمام بأن يخطو ببلاده خطوات في سبيل الإصلاح المادي مهما كانت ضيقة، فهي خطوات على كل حال تسكن بها الثائرة ويحيا بها أمل الناس’’(10).
وشيئا فشيئا انغمس الإخوان في شؤون اليمن، وتعددت العلائق وأدوات تأثيرهم في الأوضاع العامة في اليمن من خلال:
إقامة العلاقة والصلات مع الإمام يحيى وبعض أفراد أسرته وأركان حكمه، ودعوتهم إلى مقر الإخوان، واصطحاب بعضهم في نوادي الإخوان خارج القاهرة، وإقامة احتفالات ببعض وفودهم، وتلبية طلبهم في توفير من يرافقهم من الإخوان إلى المؤتمرات الدولية.
تبادل الرسائل مع الإمام يحيى وولي عهده وبعض مساعديه، ونصحهم للإمام وتأكيدهم عليه في جميع الرسائل على حاجة اليمن إلى الإصلاح في مختلف المجالات، ففي إحدى الرسائل يشير الأستاذ البنا إلى: ’’أن العالم الإسلامي يتوجه إلى جلالة الإمام المعظم وكله أمل ورجاء في أن يسرع جلالته مؤيدا مشكورا في إقرار النواحي الإصلاحية الإدارية والاقتصادية والاجتماعية التي تنهض بشعبه وتعود بالخير على البلاد والعباد، حتى لا يدع ثغرة ينفذ منها الاستعمار الأجنبي إلى هذه الأوطان العزيزة’’(11)، كما كانت ذات الرسائل تتضمن محاولة التقريب بين الإمام ومعارضيه في الخارج.
أسهم الإخوان في تأسيس بدايات الحركة التعليمية في اليمن، وأولوا قضية التعليم أهمية خاصة، من خلال ابتعاث معلمين ومدرسين من الإخوان بمصر إلى اليمن للقيام بالتعليم في مدارسها القليلة(12).
تعززت صلاتهم مع المعارضين اليمنيين في الخارج، فمنذ عام 1944م (بعد خروج الزبيري والنعمان إلى عدن وإعلانهما للمعارضة) دعم الإخوان مطالب الأحرار ونشروها في صحافتهم، ولعبت صحيفة الإخوان المسلمين اليومية، ومجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية، بالإضافة إلى مجلة الكشكول، وغيرها من الصحف الإخوانية بمصر دورا مميزا في التعريف بالقضية اليمنية، فنشرت مقالات لليمنيين المقيمين في القاهرة ولكتاب مصريين من(الإخوان)(13)، تطالب بضرورة الإصلاح وتخليص اليمن من مظالم سيوف الإسلام.
تعمقت صلات الإخوان المسلمين مع معارضي الإمام، لاسيما بعد انضمام سيف الحق إبراهيم ابن الإمام يحيى إلى حزب الأحرار اليمنيين، الذي يتزعمه الأستاذ الزبيري وأحمد النعمان، وقد طلب الأمير سيف الحق إبراهيم من الأستاذ البنا أن يحمل لواء القضية اليمانية في العالم العربي، وفي ذات الوقت استمرت مطالب الإخوان للإمام يحيى وابنه أحمد بإصلاح الأوضاع في اليمن، ومثل سفر الفضيل الورتلاني -وهو أحد أنصار الإخوان -إلى اليمن بغرض إقامة شركة تجارية محطة جديدة في علاقة الإخوان المسلمين باليمن، فإلى جانب مهمته التجارية، حث الورتلاني الإمام يحيى للقيام بإصلاحات عاجلة في الجوانب السياسية والإدارية والاقتصادية، وقدم للإمام تقارير مكتوبة عن ما يلزم القيام به.
وكان مقدم الفضيل بخبرته التنظيمية الطويلة وطريقته الساحرة في الإقناع، نقطة تحول في مسيرة المعارضة اليمنية، وكان الدور الذي قام به في غاية الصعوبة، استغرق وقتا وجهدا كبيرين، ويرى الدكتور عبد العزيز المقالح أن هذا الدور ما كان غير الورتلاني ليضطلع به، فأصبح الشخصية المحورية المهمة في اليمن(14)، وهو من أطلع رموز المعارضة اليمنية على مسودة الميثاق الوطني المقدس، ومثل همزة وصل بينها وبين المعارضة في عدن، وبين الجميع والإمام البنا حتى تم الاتفاق على الصياغة النهائية للميثاق، وترتيب انتقال السلطة بعد وفاة الإمام يحيى، وتحديد الأشخاص الذين سيتولون المناصب الحكومية.
وفي نفس الوقت قام عبد الرحمن عزام باشا أمين عام جامعة الدول العربية بإطلاع الملوك والزعماء العرب على فكرة الميثاق واحتياج الشعب اليمني لها، ووعد هؤلاء الملوك بدعم هذه الحركة بعد وفاة الإمام يحيى وفاة طبيعية’’(15)، غير أن تلك الترتيبات أُربكت بعد أن اطلع عليها ولي العهد، وأوعز إلى احد معاونيه بالاتصال بالمندوب البريطاني وأبلغه بوفاة الإمام يحيى، وقام المندوب البريطاني بتعزية سيف الحق إبراهيم، وبعد يومين نشرت جريدة ’’ الإخوان المسلمين’’ اليومية في صدر صفحتها خبر وفاة الإمام يحيى ومبايعة السيد عبد الله بن احمد الوزير، إماما دستوريا، وتشكيل حكومة دستورية جديدة برئاسة علي بن عبد الله الوزير، وأوردت الجريدة أسماء التشكيلة الحكومية، الأمر الذي كشف مخطط تغيير الحكم، وخوفا من انتقام الإمام يحيى قرر بعض قيادات المعارضة اغتيال الإمام يحيى وولي عهده، وقد تم اغتيال الإمام يحيى في إحدى ضواحي صنعاء بتاريخ 17 فبراير 1948م، فيما نجا ولي العهد، وانتقل من تعز إلى حجة، وأثار القبائل ضد الثوار، وتمكن من إسقاط الحكومة الدستورية والتنكيل بمن شارك في ثورة 1948م.
وقبل أن تسقط، كانت الحكومة الدستورية في صنعاء تلح على المرشد العام للإخوان المسلمين بسرعة وصوله إلى اليمن، مصطحبا معه أمين عام جامعة الدول العربية، واستجاب البنا لهذه الدعوة، فتم تعيين بعثة إلى اليمن على رأسها المرشد العام، وفي اللحظات الأخيرة لم يسافر البنا واقتصر الوفد على عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للإخوان المسلمين وعدد آخر من الإخوان، وقد قام أعضاء الوفد بإثارة حماس الثوار والمواطنين والتغطية الإخبارية للأحداث في صحف الإخوان(16).
وطوال ثلاثة أسابيع هي كل عمر الانقلاب الدستوري، كان الإخوان المسلمون هم القوة الوحيدة التي وقفت مع الحكومة الدستورية الجديدة(17).
وبعد سقوط الانقلاب، وتشريد وإعدام أنصار الإخوان المسلمين في اليمن، انتهى أي وجود للإخوان المسلمين داخل المملكة المتوكلية اليمنية طوال فترة حكم الإمام أحمد حميد الدين (1948ـ 1962م)(18)، وكان الإمام أحمد وبقية أفراد الأسرة الحاكمة، قد حمّلوا الإخوان المسلمين في مصر مسؤولية دعم تلك الثورة، وانتقموا ممن كان لديه شبهة الانتماء إليهم من اليمنيين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع :
(1) مدّ محمد علي نفوذه إلى اليمن في إطار مشروعه النهضوي، ودفع ثمن ذلك غاليا من تآمر الباب العالي مع الدول الغربية، وحدث نفس الأمر مع عبد الناصر، فقد آزر ثورة 26 سبتمبر 1962م في اليمن عسكريا وسياسيا واقتصاديا، ودفع ثمن ذلك باهظاً أثناء عدوان 1967م، وقبله ساند الإخوان ثورة 1948م ضد الإمام يحيى، ودفعوا ثمنا غاليا فقد كان موقف الإخوان من ثورة اليمن أحد أسباب التآمر لاغتيال الإمام البنا وحل الجماعة.
(2) المركز العام للإخوان المسلمين، بيان عن موقف الإخوان المسلمين م من قضية اليمن، أبريل1948م، ص2، انظر: نص البيان ملحق، بـ حميد أحمد شحرة، مصرع الابتسامة، سقوط مشروع الدولة الإسلامية في اليمن (1938ـ1948م)، صنعاء، المركز اليمني للدراسات الإستراتيجية، 1998م.
(3) حميد أحمد شحرة، مصرع الابتسامة ص: 41.
(4) المرجع نفسه، ص: 42.
(5) مركز الدراسات والبحوث اليمني، وثائق أولى عن الثورة اليمنية، ص119، نقلا عن حميد شحرة، مصرع الابتسامة، مرجع سبق ذكره، ص: 43.
(6) كتب الأستاذ حسن البنا عن حبه لليمن ’’قرأنا عن اليمن الخضراء السعيدة مهد الحضارة ومنبع كثير من المدنيات وسمعنا قول الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ’’الإيمان يمان والحكمة يمانية ’’، وقوله ’’إني لأشم نفس الرحمن من اليمن’’، فأحببت اليمن حبا جما، أحببنا أرضها وسماءها وأهلها وشعبها وحكومتها وإمامها، واهتممنا بكل ما يتصل بها، وزادنا بها تعلقا ولها اهتماما أنها البقعة من الأرض التي لم تصل إلى قلبها يد الاستعمار...وأنها تعلن استمساكها بكتاب الله تعالى نظاما شاملا، وتنفر من كل ما عداه..’’ جريدة الإخوان المسلمين اليومية بتاريخ 3/8/1947م، نقلا عن حميد شحرة، مصرع الابتسامة، مرجع سبق ذكره، ص: 43.
(7) المركز العام للإخوان المسلمين، مرجع سبق ذكره، ص: 6.
(8) حميد أحمد شحرة، مصرع الابتسامة، مرجع سبق ذكره، ص: 44.
(9) عبد الكريم قاسم سعيد، الإخوان المسلمون والحركة الأصولية في اليمن، (القاهرة، مكتبة مدبولي)،ط1، 1995م، ص: 11- 12.
(10) المركز العام للإخوان المسلمين، مرجع سبق ذكره، ص: 5
(11) صحيفة الإخوان المسلمين اليومية، بتاريخ 3 أغسطس 1947م، الموافق 16 رمضان 1366هـ.
(12) حميد شحرة، مصرع الابتسامة، مرجع سبق ذكره، ص: 65.
(13) أبرزهم الشهيد عبد القادر عودة.
(14) حميد شحرة، مصرع الابتسامة، مرجع سبق ذكره، ص: 136.
(15) محاضرة للأستاذ عمر بهاء الدين الأميري، عن الشهيد الزبيري في برمنجهام عام 1988م نقلا عن شحرة، مصرع الابتسامة، مرجع سبق ذكره، ص: 138.
(16) للتعرف على تفاصيل موقف الإخوان المسلمين في مصر من ثورة عام 1948م يرجع إلى: الدكتور عبد الله الذيفاني، الاتجاه القومي في حركة الأحرار اليمنيين، (صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني، والمركز الفرنسي للدراسات اليمنية) ط1، ص: 254-275.
(17) حميد شحرة، مصرع الابتسامة، مرجع سبق ذكره، ص: 183.
(18) المرجع نفسه، ص: 211.
.المصدر اون لاين