مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض
ما نراه اليوم من محاولات جاهدة تبذلها الولايات المتحدة لعقد تحالفات إستراتيجية مع جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق أو إقامة مشروع الدرع الصاروخي في أوروبا، لا يهدف في حقيقته إلى حصار روسيا فحسب، بل إلى القضاء عليها كليا أو تحجيمها وتحويلها إلى دولة مشابهة لبقية الدول الأوروبية. وهذا ما دعا روسيا إلى حد التهديد بأنها ستعتبر تنفيذ مشروع الدرع الصاروخي، بمثابة إعلان حرب.
صراع أزلي بين الماء واليابسة. كانت الأرض مغمورة بالماء. فبدأ ينحسر لصالح اليابسة. ثم عاد مرة أخرى محاولا التهام ما يستطيع التهامه من اليابسة’’.... وهكذا تستمر عجلة الحياة صراع في صراع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .... هذا ولا يزال صراع الماء واليابسة مستمرا.... وما نشاهده من صراع حالي بين القوى المختلفة ما هو إلا أحد أشكاله.

الصراع سنة كونية. فلا تكاد تخلو حقبة من حقب التاريخ من صراع ما لأي سبب كان. قال تعالى ((وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)).. يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الاية ((أَيْ لَوْلَا أَنَّهُ يَدْفَع بِقَوْمٍ عَنْ قَوْم وَيَكُفّ شُرُور أُنَاس عَنْ غَيْرهمْ بِمَا يَخْلُقهُ وَيُقَدِّرهُ مِنْ الْأَسْبَاب لَفَسَدَتْ الْأَرْض وَلَأَهْلَكَ الْقَوِيّ الضَّعِيف)).

* أسس الصراع:

يؤمن علم ’’الجيوبولتيكا’’، بأن الضرورة لا تعرف قانونا. لذا تعتنق الجيوبولتيكا فلسفة القوة، وكل ما هو ممكن لتحقيق أهدافها. تعمل الجيوبولتيكا أيضا على الإفادة من علم الجغرافيا وحقائقه المتشعبة لخدمة خطط سياسية محددة يتبناها صانعو القرار في دولة ما. كما أنها ترسم الطريق لتحقيق المصالح القومية العليا للدولة. ويستفيد منها رجال الساسة وقادة الجيوش في اتخاذ القرارات الإستراتيجية والمصيرية.

يتكون مصطلح الجيوبولتيكا من مقطعين جيو (Geo)، وتعني أرض، وبولتيكا (Politic)، وتعني سياسة، أي أنها تعني ’’علم سياسة الأرض’’. أول من استخدم هذا المصطلح هو السويدي رودولف كلين. عرفها مؤسس الجيوبولتيكا الألمانية، كارل هوسهوفر، بأنها دراسة علاقات الأرض ذات المغزى السياسي، إذ ترسم المظاهر الطبيعية لسطح الأرض، الإطار للجيوبولتيكا الذي تتحرك فيه الأحداث السياسية.

يخلط الكثيرون بين الجيوبولتيكا والجغرافيا السياسية. فبينما تحاول الجيوبولتيكا وضع الجغرافيا وحقائقها في خدمة الدولة، فإن الجغرافيا السياسية ما هي إلا الصورة الحقيقة للدولة. كما ترسم الجيوبولتيكا خطة لما يجب أن تكون عليه الدولة في المستقبل، بينما تدرس الجغرافيا السياسية كيان الدولة الجغرافي بعناصره المختلفة. كما تضع الجيوبولتيكا تصورا للدولة في المستقبل إذا ما استمرت ظروفها الحالية كما هي دون تغيير، بينما تكتفي الجغرافيا السياسية برسم صورة الحاضر.

ما سبق من سطور كان مقدمة، لعلم برز بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وعلا نجمه ليرتقي إلى مصاف العلوم الرفيعة بقيام الحرب العالمية الثانية. ونحن بدورنا سنحاول سبر أغوار هذا العلم، علنا نفهم الأسباب الحقيقة الكامنة خلف ما يعصف بنا من أحداث سياسية وعسكرية كبيرة.

* حتمية الصراع:

يرى الألماني كارل شميدت ـ عالم قانون وأحد أهم الفلاسفة السياسيين في القرن العشرين ـ أن الصراع الكوني في حقيقته يدور بين القوى البحرية والقوى البرية. ويرى أيضا أن الانتقال إلى القوة الجوية، ومن ثم إلى حرب النجوم والفضاء، مجرد تطور طبيعي لإستراتيجية البحر وليس إشارات إلى تطورات جديدة. ومعنى ذلك أن قوة البحر في توسعها على حساب اليابسة تضع في خدمتها القوى الجوية والفضائية.

وفي أحد أكثر الكتب الجيوبولتيكة أهمية ’’أسس الجيوبولتيكا ... مستقبل روسيا الحديث’’، يذهب الكسندر دوغين ـ أحد المفكرين الإستراتيجيين البارزين في روسيا وأوروبا ـ إلى ما ذهب إليه كارل شميدت في اعتبار أن الصراع في حقيقته يدور بين القوى البحرية (التلاسقراطيا) وبين القوى البرية (التيلوقراطيا). ويرى أن الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي سابقا، أو بين الولايات المتحدة وروسيا حاليا، لم يكن أيديولوجيا في يوم من الأيام كما يعتقد كثير من الناس، ولكنه صراع حتمي. بل ويذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يعتقد أن هذا الصراع لن ينتهي إلا بتدمير أحد الطرفين للآخر.

البحار كانت ولازالت تلعب دورا مهما في هبوط قوى بحرية وصعود قوى أخرى. وهذا ما حدث بالضبط مع هبوط إنجلترا كقوة كونية وبروز الولايات المتحدة كوريثة لها وزعيمة للعالم الغربي، أو بالمعنى الجيوبولتيكي العالم البحري بعد الحرب العالمية الثانية.

لكن الولايات المتحدة تعاني من بعدها الجغرافي، إذ تقع في أقاصي العالم. لذا تحاول أن تعوض هذا البعد من خلال الوجود بشكل مكثف في المياه الدولية للتحكم في خطوط التجارة العالمية. فمن يريد السيطرة على العالم، فعليه التحكم في خطوط تجارته.

في المقابل، تشغل روسيا، والتي تعتبر أكبر دولة في العالم، أكثر من ربع مساحة اليابسة على الكرة الأرضية، إذ تبلغ مساحتها حوالي 18 مليون كيلو متر مربع. وإذا ما أضفنا إلى ذلك إمكانياتها التكنلوجية والاقتصادية والعسكرية الهائلة، فهي تعتبر بحق زعيمة القوى البرية. ولكنها تعاني مع ذلك من عدم امتلاكها إطلالة بحرية تتناسب مع مساحتها وإمكانياتها الهائلة، أي أنها لا تستطيع النفاذ إلى البحار الدولية، مما يعني أنها في حصار شبه دائم، وهذا يعتبر إستراتيجيا نقطة ضعف كبيرة جدا.

كان ولازال هم روسيا الدائم هو كيفية فك هذا الحصار الجغرافي الخانق من خلال النفاذ عبر المياه الدافئة. وفي ذات الوقت كان هم القوى البحرية بزعاماتها المختلفة هو الإبقاء على هذا الهم جاثما على صدر روسيا عبر العصور، وذلك بمنعها من الوصول إلى المياه الدافئة مهما كلف ذلك من ثمن. وهذا ما فعلته بريطانيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وما فعلته أمريكا في القرن العشرين، وما تحاول فعله، أو الإبقاء عليه بمعنى أصح في القرن الحادي والعشرين.

وهذا هو مربط الفرس ولب الصراع. إنها الجغرافيا وما يقع فوقها من مصالح اقتصادية، مهما حاول المتصارعون تسويقه من أسباب يجملون به سوء ما يقومون به تجاه الدول الأضعف التي جعلها موقعها الجغرافي حلبة لصراع لا ناقة لها فيه ولا جمل.

وكان هذا الحصار الطبيعي هو أحد أهم الأسباب الإستراتيجية لسلسلة الهزائم المتوالية التي منيت بها روسيا القيصيرية سابقا أو الاتحاد السوفييتي السابق أو حتى روسيا الاتحادية حاليا أمام العالم الغربي أو البحري.

وقد عملت الولايات المتحدة دون كلل أو ملل على إحكام هذا الحصار عن طريق منع روسيا من النفاذ عبر البحر الأسود إلى مياه البحر الأبيض المتوسط، وذلك بالتحالف المبكر مع تركيا. وكذلك حاولت منعها من النفاذ عبر الخليج العربي عبر التحالف مع إيران الشاة سابقا.

وكانت إيران الخميني أكثر وعيا من إيران الشاة في إدراك مدى أهمية موقع إيران الإستراتيجي في هذا الصراع وأكثر ذكاء في استغلاله والاستفادة منه بأقصى درجة ممكنة. فكانت تميل بين الكفتين بحرفية سياسية عالية، مدركة ماذا يريد بالتحديد كل طرف منها.

إن ما نراه اليوم من محاولات جاهدة تبذلها الولايات المتحدة لعقد تحالفات إستراتيجية مع جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق أو إقامة مشروع الدرع الصاروخي في أوروبا، لا يهدف في حقيقته إلى حصار روسيا فحسب، بل إلى القضاء عليها كليا أو تحجيمها وتحويلها إلى دولة مشابهة لبقية الدول الأوروبية. وهذا ما دعا روسيا إلى حد التهديد بأنها ستعتبر تنفيذ مشروع الدرع الصاروخي، بمثابة إعلان حرب.

من هنا نستنتج أنه من الخطأ القول بأن هذا الصراع قد انتهى بنهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي. والأصح، القول بأن فصلا من فصول الصراع قد انتهى بنهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي. أما الصراع نفسه، فلازال قائما على أشده، ولكنه بدأ فصلا جديدا سينتزع مسمى خاصا به مع مرور الوقت وتطور الأحداث السياسية والعسكرية.
.العصر
أضافة تعليق