مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الحركة الإسلامية والنظام .. من التحالف إلى التنافس (الحلقة الثالثة)

الحركة الإسلامية والنظام .. من التحالف إلى التنافس (الحلقة الثالثة) تطور النظام السياسي في الشطرين ومكاسب الرئيس من تحالفه مع الإخوان

نواصل هذا الأسبوع نشر كتاب ’’الحركة الإسلامية والنظام السياسي في اليمن .. من التحالف إلى التنافس’’ لمؤلفه الأستاذ ناصر الطويل.
وفي هذه الحلقة التي تعد الثالثة ننشر المبحث الثاني من الفصل الأول، وقد كنا الجمعة الماضية نشرنا المبحث الأول الذي تناول فيه المؤلف الملامح العامة للتطورات السياسية في شطري اليمن (1962 ــ 1978م).

وفي المبحث الثاني المعنون بـ’’النظام السياسي .. البناء والتطور’’، يتحدث المؤلف عن مراحل تطور النظام السياسي في شطري اليمن، والنظام الذي تشكل مع قيام الوحدة، وأبرز تحولات نظام صالح، وعلاقته بحركة الإخوان.
ونظراً لطول هذا المبحث فإننا سننشره على جزأين، يتناول الجزء الأول تطور النظام السياسي في شطري اليمن قبل الوحدة، فيما يتضمن الجزء الثاني تطور نظام ما بعد الوحدة وخصائص هذا النظام.



المبحث الثاني
النظام السياسي: البناء والتطور

مقدمة:
وصل الرئيس علي عبدالله صالح إلى سدة الحكم في الجمهورية العربية اليمنية، في 17 يونيو 1978م، في ظروف متخمة بالأزمات والتحديات، وبصعوبة بالغة حافظ النظام على بقائه، وشيئًا فشيئًا تمكن من تثبيت سلطته وتجاوز التحديات التي تعترضه، وبعد أربع سنوات مليئة بالصراعات والتحديات، أسهم عدد من المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية في الانتقال بالبلاد من حالة الاضطراب والقلاقل إلى قدر من الاستقرار النسبي طوال بقية سنوات عقد الثمانينيات من القرن الماضي.

وفي الفترة ذاتها استمرت الجبهة القومية تحكم الشطر الجنوبي، وشكلت مع بعض القوى اليسارية الأخرى تنظيم الحزب الاشتراكي، والذي امتلك سلطة مركزية قوية في الجنوب، غير أنه عجز عن إيقاف دوامة الصراع في قياداته العليا، وأفرط في التعويل على الدعم السوفيتي، ليجد نفسه أمام مخاطر محدقة على إثر التحولات في بنية وتوجهات الدولة السوفيتية في نهاية نفس العقد، وهو ما وفر الظروف الموضوعية لقيام الوحدة.

وبقيام الوحدة، توسعت اليمن جغرافيًا وسياسيًا واقتصاديًا، ودخلت السلطتان الحاكمتان في شراكة وتقاسم للسلطة والنفوذ في إطار نظام دولة الوحدة.

وخلال السنوات الأولى لقيام الوحدة، تحولت العلاقة بين تنظيمي المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي من التحالف إلى التنافس والصراع، وسعى كل طرف إلى إقصاء الآخر، ما أدخل البلاد في أزمة سياسية شاملة وحرب أهلية طاحنة، خرج على إثرها الحزب الاشتراكي من السلطة نهائيًا، لينفرد الرئيس علي عبد الله صالح بحكم اليمن الموحد، لتبدأ معه مرحلة جديدة، تتسم بتحولات في بنية النظام وسياساته وتحالفاته، ونطاق سلطاته.

ظل الاتجاه الغالب في الفترة التي تلت حرب صيف 1994م هو التوسع المطرد في سلطات وصلاحيات الرئيس، وتمدد النظام السياسي الحاكم على حساب القوى السياسية والاجتماعية الأخرى.

وبرغم اتساع الفترة الزمنية لحكم الرئيس علي عبد الله صالح، وتعدد التحولات الكبيرة في الحياة السياسية اليمنية، إلا أن القسم الأكبر من الخصائص التي برزت في عقد الثمانينيات لنظامه ظلت ثابتة ومطردة في مرحلة ما بعد الوحدة، وتحديداً بعد عام 1994م.

أولا : مراحل تطور النظام السياسي:
سنتناول هنا مراحل تطور النظامين السياسيين في شطري اليمن من جهة، والنظام السياسي الذي تشكل مع قيام الوحدة من جهة أخرى، وأبرز التحولات والتحديات التي واجهت نظام الرئيس علي عبد الله صالح، الذي امتد حكمه حتى اليوم، وتأثير ذلك على علاقته بحركة الإخوان المسلمين، أحد حلفائه فيما يزيد على نصف فترة حكمه.

أ‌) في الشطر الجنوبي:
شهد الشطر الجنوبي من اليمن العديد من الأحداث الهامة في عام 1978م، فقد برزت إلى العلن الخلافات بين تيارين داخل سلطة التنظيم السياسي الموحد –الجبهة القومية-، وتمحور الخلاف حول جوانب أيديولوجية وقضايا سياسية متفرعة عنها، وقد تصدر جناحي الخلاف كل من: سالم ربيع علي رئيس الجمهورية، وعبد الفتاح إسماعيل أمين عام الجهة القومية، فقد كان سالم ربيع مواليا ’’للخط الصيني –الماوي’’ في الحركة الشيوعية العالمية، في حين أن عبد الفتاح كان يولي الخط السوفيتي، وكان من نتائج الصراع حول القضايا الفكرية أن بدأ كل من الطرفين خوض معركة داخلية لكسب مراكز القوة، سواء على صعيد التنظيمات في المحافظات، أو على صعيد المنظمات التابعة للجبهة القومية (الطلبة، الشبيبة، النساء، النقابات..)، وكذالك في الجيش وقوى الأمن، وحتى الأحزاب الأخرى .

ارتفع مستوى الاستقطاب بين التيارين، ويبدو أن التيار الذي يتزعمه عبد الفتاح إسماعيل كان الأكثر تنظيما، وقد ساعدت التطورات الدراماتيكية التي شهدتها اليمن في عام 1978م على إمكانية إزاحة سالم ربيع علي من رئاسة الدولة، فقد اُتهم الأخير بالتورط في التخطيط لاغتيال الرئيس الشمالي أحمد الغشمي، بتاريخ 24 يونيو 1978م، وعلى إثر ذلك طلب معظم أعضاء اللجنة المركزية من الرئيس سالم ربيع أن يتنحى عن السلطة، وأمام رفضه، اندلعت معارك بين فرق الجيش والمليشيات الحزبية الموالية لكل طرف، وانتهت بإلقاء القبض على سالم ربيع ومحاكمته، وإعدامه في 26 يونيو 1978م، وتولى على إثرها عبد الفتاح إسماعيل رئاسة الدولة إلى جانب كونه أميناً عاماً للتنظيم.

وقد كان من تداعيات إقصاء سالمين تسهيل إتمام دمج التنظيمات اليسارية -التي سبقت الإشارة إليها- وتشكيل الحزب الطليعي، فقد أعاق سالمين ذلك الدمج، وهكذا ’’عقد الحزب الاشتراكي اليمني مؤتمره الأول في مدينة عدن، خلال الفترة من 11- 13 أكتوبر 1978م ، وقام على أساس الدمج العضوي بين جميع التنظيمات اليسارية في شطري اليمن جنوبه وشماله.

كان الدمج عضويا وسريا على مستوى كافة الهيئات، وتحول فيه الحزب الاشتراكي اليمني إلى حزب اشتراكي يمني لكل الإقليم بالفعل وليس بالاسم، وقد أنكرته سلطات الحزب في الجنوب، تفاديا لإثارة حساسيات مع السلطة في الشمال، ونتيجة لتحفظ السوفيت والألمان الشرقيين عليه، نظرا لما يمكن أن يشكله من إحراج سياسي بالنسبة لمسألة توحيد ألمانيا، في حين أيدته فيتنام وكوبا فقط، ومن هنا تم إعلان حزب ’’الوحدة الشعبية’’ المعروف اختصارا بـ(حُوشي) في الشطر الشمالي كنوع من التمويه على الدمج العضوي، ولم يتم الإعلان عن حقيقة الدمج وعضويته إلا قبل إعلان دولة الوحدة بيومين .

عبرت وثائق المؤتمر عن أن الحزب الاشتراكي يؤمن ’’بالاشتراكية العلمية’’، وأن ميدان العمل الايدولوجي ما يزال أحد المجالات الحيوية التي يسعى إلى لعب دور رئيسي فيه، ومع هذا فإن الحرص على تسميته بالحزب ’’الاشتراكي’’، وليس بالحزب ’’الشيوعي’’ يدل على مراعاة قيادة الحزب لحقائق الواقع اليمني الاجتماعية والثقافية والدينية.

عادت الخلافات لتطفو من جديد في الحياة السياسية في الشطر الجنوبي من اليمن، ’’فقد برزت خلافات ’’غير فكرية’’ وإنما سياسية واقتصادية، وعلى هيئة انتقادات قاسية أجبرت عبد الفتاح إسماعيل على عرض استقالته أربع مرات، تم قبولها في المرة الخامسة والأخيرة في مايو 1980م، وبعدها سافر إلى الاتحاد السوفيتي، وأُعلن أنه أصبح رئيسا للحزب، وهو منصب غير متعارف عليه سابقا، ولا ذِكرَ له في نص من نصوص النظام الداخلي للحزب الاشتراكي اليمني..، وتولى على ناصر محمد إلى جانب منصبه كرئيس للوزراء منصبي الأمين العام للحزب ورئيس مجلس الرئاسة’’ .

انتهج على ناصر محمد سياسة (براغماتية) تجاه الأوضاع الداخلية، وتجاه علاقة عدن بدول الجوار الجغرافي، مع التمسك في الوقت ذاته بالأسس السياسية والأيديولوجية التي سار عليها نظاما الجبهة القومية والحزب الاشتراكي، أما فيما يتعلق بقضية الوحدة مع الشمال، فقد كان المنطق الغالب الذي سارت عليه سياسة على ناصر محمد هو منطق الدولة أكثر منه منطق الثورة، وعلى هذا الأساس تركز الاعتماد على الصلات المباشرة بين القيادتين وعلى التوصل إلى مراكمة سلسلة من الاتفاقيات الرسمية ، خاصة وانه قد أوقف الدعم العسكري الذي يقدم للجبهة الوطنية في شمال اليمن، بعد أن تم ضرب قدراتها العسكرية.

تبلورت سياسة التجنحات من جديد داخل قيادة الحزب الاشتراكي، حيث أبدى الجناح الذي كان وراء إقصاء عبد الفتاح إسماعيل امتعاضه من إدارة الرئيس على ناصر محمد للدولة والحزب، وأخذ يجمع قواه في محاولة لإعادة توزيع القوة من جديد، ’’في ضوء هذا الحال أحس أعضاء هذا التكتل (أو الجناح): على عنتر، علي سالم البيض، علي شايع، سالم صالح، محمود عشيش، جار الله عمر، احمد السلامي، يحيى الشامي، صالح السِّيَلي، وحتى صالح مصلح وزير الدفاع، أحسوا بأنه لا بد لهم من رأس قيادي آخر يستطيع إدارة المعركة ضد علي ناصر محمد بنجاح حتى النهاية، فاتجهت الأنظار إلى موسكو، حيث يقيم الأمين العام السابق عبد الفتاح إسماعيل’’ عاد عبد الفتاح إلى عدن، واشتد الخلاف بين الطرفين حول إعادة توزيع المناصب السياسية، ولم تُجدِ بعض التسويات نفعاً في التخفيف من حدة الخلاف، وحيال ذلك اتفق الطرفان على الاحتكام إلى قرارات المؤتمر العام الثالث للحزب، غير أن الاختلاف امتد إلى الجوانب الإجرائية لعقد المؤتمر، ولم يَجِد الطرفان بداً من التوافق على أعضاء المؤتمر وأعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي الذين سيتم انتخابهم من قِبل المؤتمر العام، حيث اتفق أن تكون الأكثرية في اللجنة المركزية لأنصار على ناصر محمد، والعكس بالنسبة للمكتب السياسي حيث ستكون لصالح المعارضين.

ومع أن المؤتمر العام الثالث للحزب الاشتراكي الذي عقد في 11 أكتوبر 1985م اتسم بالمناقشات العاصفة في الغالب، إلا أن الطرفين تمكنا من تجاوزه، فقد كانت مخرجاته بحسب المتفق عليه، وقد اجتمعت اللجنة المركزية وانتخبت أعضاء المكتب السياسي وفق المتفق عليه أيضا، غير أن الطرفين تعثرا أمام مشكلة توزيع المهام بين أعضاء المكتب السياسي، وحيال مماطلة على ناصر، اتجه كل طرف لحسم الأمور عسكريا، وكان على ناصر هو المبادر، حيث أعد خطة لتصفية أعضاء المكتب السياسي المعارضين له، إذ دعا أعضاء المكتب السياسي إلى الاجتماع في صباح 13 يناير، وأوعز إلى حُراسه بتصفية الحاضرين جسديا، إلا أن بعضهم نجا واتصل بأنصاره، ’’ودارت خلال الأيام الثلاثة من الانفجار معارك طاحنة بين القوات الموالية للطرفين، ولكن الغلبة انتقلت تدريجيا لصالح القوات الموالية للمعارضة’’ .

انتقل بعدها على ناصر محمد وعدد كبير من القوات الموالية له وعدد من المواطنين إلى الشطر الشمالي ودول الجوار الجغرافي، لتنتهي بذلك أحداث يناير الدموية التي راح ضحيتها آلاف من القتلى والجرحى والمشردين.
بالرغم من أن أحداث (13) يناير 1986م عصفت بأبرز رجالات الدولة والحزب الاشتراكي سواء الذين قتلوا في الأحداث، أمثال: عبد الفتاح إسماعيل، وعلى عنتر، وصالح مصلح، وعلي شايع، أو الذين لجأوا إلى الشطر الشمالي وإلى الخارج، وفي طليعتهم علي ناصر محمد، بالرغم من ذلك.. فقد تمكن المنتصرون في عدن من الإمساك بمقاليد الأمور وتثبيت قوة وبنية النظام والحزب ، ففي فبراير من نفس العام، انتخب مجلس الشعب الأعلى رئيسا جديدا للبلاد، هو رئيس الوزراء السابق حيدر أبو بكر العطاس، وتولى ياسين سعيد نعمان تشكيل الحكومة، واُسند منصب الأمين العام إلى علي سالم البيض.

بعد أحداث 1986م عمد الحزب إلى عملية مراجعة وتقييم للتجربة في الجنوب، واتخذ من النقد الذاتي أداة لإصلاح الأوضاع الداخلية، وبرز تغيير واضح في أطروحاته، وخاصة في الدورة الثامنة عشرة للجنة المركزية في سبتمبر 1989م والتي طُرح فيها مشروعية تعدد الآراء، واُقر حق ممارسة التعددية الحزبية ، ومع الآثار المأساوية التي تركتها أحداث عام 1986م، إلا أنها ساهمت بشكل أو بآخر في توفير الظروف الموضوعية لقيام الوحدة، فقد كسرت حدة الجوانب الفكرية للدولة في جنوب اليمن، وأدخلت تغيرات كبيرة لدى مدركات النخبة الحاكمة في ذلك الشطر، وخففت أيضا من القبضة الأمنية تجاه القوى السياسية الأخرى، ومنها حركة الإخوان المسلمين، التي عادت بشكل سري ومتدرج إلى الظهور بعد تلك الأحداث.

ب‌) في الشطر الشمالي:
قذفت التطورات السياسية بالرئيس علي عبد الله صالح إلى سدة الحكم، بالرغم من أنه لم يكن في المواقع الأمامية للسلطة، حيث كان قائداً عسكرياً للواء تعز، فقد أزاح الرئيسان الحمدي والغشمي - في فترتي حـكمهما- القيادات العسكرية الكبيرة عن المواقع القيادية الحساسة في الجيش، لأســباب تتصل بـعـدم الثقة بها، مما تــرك فراغاً سده الرئيس صالح.

ومِثل الحمدي، فإن علي عبد الله صالح كان لديه طموح مبكر في الوصول إلى السلطة، وظل يبني علاقات داخل الجيش تسهل له الوصول إلى ذلك الهدف، فقد كان عضوا في ما عرف بمجلس قيادة الظل، منذ انتقال السلطة إلى يد العسكر بقيادة إبراهيم الحمدي ، وأثناء فترة حكم الغشمي، وبدعم من الأخير وثق الرئيس علي عبد الله صالح صلاته بالمملكة العربية السعودية، صاحبة التأثير الأكبر في تحديد من يحكم اليمن الشمالية في تلك الفترة، وبعد الرحيل المفاجئ للريئس الغشمي حصل الرئيس علي عبدالله صالح على تأييد المملكة العربية السعودية، التي خشيت من خطورة الفراغ الحاصل في القيادة السياسية العسكرية في شمال اليمن، وإمكانية سقوط البلاد بيد فصائل اليسار التي كانت تتحرك باتجاه العاصمة، بعد أن استولت على عدد كبير من المناطق والطرق الرئيسية، ’’كما حاز على تأييد عدد من الضباط المقربين منه من أبناء منطقته الذين أسهموا في تمكينه من السيطرة على السلطة، حيث توجه عدد منهم للإمساك بالمرافق الرئيسية للقوات المسلحة والجهاز المدني خشية حدوث حالة انفلات وفوضى، فتمكنوا من السيطرة على الأوضاع داخل الوحدات البرية والجوية والمطار والإذاعة والتلفزيون .

وقد عارض كبار مشايخ اليمن، وخاصة الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر وصول الرئيس إلى السلطة، لاعتقادهم بأنه غير قادر على تحمل المسؤولية، وبسبب خلفيته العسكرية، حيث شعر الشيخ عبد الله بأنه أخطأ عندما تعاون على إخراج الحكم من المدنيين إلى العسكريين، بإقصائه القاضي عبد الرحمن الإرياني ونقل السلطة إلى الرئيس إبراهيم الحمدي وكان مقتنعاً بضرورة أن يكون الرئيس القادم ذا خلفية مدنية ، وتحت إلحاح الضغوط السعودية، عاد كبار المشايخ وغيرهم وقدموا الولاء للرئيس علي عبد الله صالح ، ’’وربما ساعد الشعور العام بالخطر وأجواء المواجهة مع الشطر الجنوبي على التفاف النخبة السياسية سريعا وراء السلطة الجديدة .

’’كانت أول المهام أمام الرئيس علي عبدالله صالح هي مواجهة تداعيات تورط السلطة في جنوب اليمن في اغتيال الرئيس أحمد حسين الغشمي، وهو الأمر الذي أفرز مناخًا مواتيًا للحرب، وساعد على زيادة حدة تدخلات القوى القبلية، وتصاعد حملاتها الدعائية ومحاولتها التخلص من النظام في الجنوب عبر مواجهة مسلحة شاملة، خصوصًا وأن تقييمات القوى الإقليمية للنظام الحاكم في عدن صارت أكثر سلبية، في ضوء ما تمخض عنه صعود عبد الفتاح إسماعيل إلى قمة رئاسة الدولة والحزب معًا’’ ، بعد إعدام الرئيس سالم ربيع علي.

وبعد فترة وجيزة من تولي الرئيس للسلطة، اندلعت الحرب بين شطري اليمن، وعكست موازين القوة نفسها في تلك الحرب، وتلقى جيش الجمهورية العربية اليمنية هزيمة قاسية على أيدي قوات الجنوب وأنصار الجبهة الوطنية لم يخفف منها إلا اشتراك القوات القبلية، والضغط الذي مارسته كل من العراق وسوريا والأردن لوقف تقدم الجيش الجنوبي في الأراضي الشمالية، وحاول الرئيس علي عبد الله صالح تقليل أثر اختلال التوازن بين الشطرين، من خلال تقديم تنازلات في قمة الكويت التي جمعته مع عبد الفتاح إسماعيل، برعاية أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح، وقبوله التفاوض مع ممثلي الجبهة الوطنية، واستعداده لتنفيذ بعض مطالبهم، ومن جهة ثانية عمل على إعادة ترتيب أوضاع الجيش وأجهزة الأمن، بما يضمن له الولاء داخلها، ويمكنها من مواجهة تمرد فصائل اليسار.

وفي منتصف أكتوبر1978م، تعرض الرئيس علي عبد الله صالح لمحاولة انقلاب أحبطت في مراحلها الأخيرة، وقف وراءها التنظيم الناصري بجناحيه المدني والعسكري.

وإجمالا فان السنوات الثلاث الأولى من حكم الرئيس علي عبد الله صالح كانت من أصعب سنوات حكمه، إذ كانت الحملات الإعلامية بين شطري اليمن على أشدها، وبعض الوحدات العسكرية لم يكن ولاؤها كاملا لنظامه، والاستقرار يكاد يغيب عن كثير من المحافظات، بفعل حرب العصابات التي يقودها فرع الحزب الاشتراكي وأنصاره في عدد كبير من المحافظات الشمالية.

كثف الرئيس من جهوده السياسية والعسكرية لإنقاذ نظامه من مخاطر السقوط الوشيك، وتجاوز عجز الجيش عن مواجهة العمل المسلح الذي تقوم به تنظيمات اليسار، وتواتر سقوط مناطق جديدة بيدها، مما جعلها تمثل تهديدا حقيقيا وعاجلا للنظام.

واتجهت خطوات الرئيس نحو تعزيز نظامه، وجعله في وضع يستطيع أن يواجه التحديات الخطيرة التي تحيط به، وذلك من خلال الآتي:

(1) التحالف مع الإخوان المسلمين والقضاء على القدرات العسكرية للجبهة الوطنية:
في ظل الظروف السياسية والأمنية المعقدة والخطيرة التي واجهها الرئيس في السنوات الأولى من حكمه، برز إلى الساحة اليمنية متغير جديد كان له دور كبير في تغيير موازين القوة وإسناد نظام الرئيس في مواجهة تلك المخاطر، وهو متغير لم يكن بحسبان الرئيس، فقد قررت الهيئات القيادية لتنظيم الإخوان المسلمين تبني المواجهة العسكرية والفكرية مع التيار الماركسي المسلح، والذي سعى لإسقاط النظام في شمال اليمن.
بدأ التحالف بين الإخوان والرئيس محدودا في البداية بسبب عدم ثقة الرئيس بالقدرات العسكرية للإخوان، ثم أخذ ينمو سريعًا على وقع المعارك الملتهبة في المناطق الوسطى، والانتصارات التي كانت تتحقق في الميدان، ولم تنته الأعمال العسكرية حتى كانت قد هيئت الأرضية لتحالف طويل الأمد بين الطرفين، امتد إلى الجوانب السياسية والفكرية والاستراتيجية، وكان أحد أبرز أسباب استقرار الأوضاع السياسية في الشطر الشمالي خلال عقد الثمانينيات، وأبرز أسلحة الرئيس في مواجهة العلاقات المضطربة مع نظام الحزب الاشتراكي في الجنوب.

لمس الرئيس سريعًا ثمار تحالفه مع الإخوان، فقد تمكنا معاً من هزيمة الجبهة الوطنية الديمقراطية في فترة قياسية، ودون الحاجة إلى دعم عسكري خارجي، كما هو الحال في سلطنة عُمان التي لاقى نظامها مخاطر شبيهة بما واجهه الرئيس علي عبدالله صالح، ولم يتمكن سلطان عمان من القضاء على تمرد اليسار الماركسي إلا بتدخل عسكري إيراني وبريطاني باهظ الثمن، وفيما بعد تحول ذلك التدخل إلى مشكلة إقليمية معقدة.

كما أن التحالف العسكري مع الإخوان أثناء حرب المناطق الوسطى يكاد يكون بلا كلفة وأعباء يتحملها النظام، فالإخوان هم من بادر إلى اتخاذ قرار المواجهة العسكرية مع اليسار المسلح لأسباب شرعية وعقدية، كما أن مطالبهم من النظام اقتصرت على السماح لهم بحرية الحركة لنقل الأفراد والسلاح، وطلب توفير بعض المؤن والذخائر، مع كونهم لا يمثلون في الوقت ذاته خطرا على سلطة الرئيس فلم يكن لهم آنذاك طموح في الوصول إلى السلطة، وليس لهم ارتباطات بقوى خارجية، فبعد القضاء على الخطر العسكري الذي كانت تمثله الجبهة الوطنية، تم حل فرق المقاتلين الإسلاميين، وعادت الحركة إلى طبيعتها المدنية في وقت قياسي.

وإضافة إلى القضاء على الخطر العسكري للماركسيين، فإن نظام الرئيس على عبد الله صالح حقق فوائد أخرى من تحالفه مع الإخوان، تمثل بعضها من وجهة نظر ناشط يساري في الآتي :

أولا: حقق الرئيس لنفسه بتحالفه مع الإخوان المسلمين قاعدة شعبية كان يفتقدها، لأنه لم يكن يعتمد على تنظيم سياسي أو حركة شعبية، أو اتجاه فكري، يجعل الناس أو قطاعات منهم يؤيدونه بسبب ما يحمله من مشروع فكري أو اجتماعي.

ثانيا: تمكن النظام من أن يكسب لنفسه بُعدًا فكريًا لم يكن يمتلكه، فقد تزاوج الفكر الذي يعطي الأولوية للبعد الوطني والذي تتبناه مؤسسات الدولة الرسمية مع الأفكار الإسلامية التي تحملها الحركة الإسلامية الإخوانية، فأنتجا نسقا فكريا عرف بالوطنية الإسلامية التي سادت كأيدلوجية رسمية للنظام في شمال اليمن معظم سنوات الثمانينيات في مواجهة الأفكار اليسارية المدعومة من الجنوب.

ثالثا: كان الإخوان المسلمون يمثلون القوة الرئيسية في تأمين التأييد الشعبي لنظام الرئيس علي عبد الله صالح، فقد تبنوا دعم نظام قوي في الشمال، يواجه قوة السلطة في الجنوب، وكان لتحالف الإخوان أثره الواضح في توفير التأييد الشعبي للنظام، خاصة وأن الرئيس تولى السلطة ولم يكن معروفاً شعبيًا، وأكثر من هذا تعرض لحملات إعلامية من أنصار تيار اليسار وبعض فصائل التيار القومي، وقد بذل الإخوان جهوداً كبيرة لإعادة ثقة المواطنين بسلطة الدولة التي كانت في حالة من الضعف بسبب التغييرات القسرية العنيفة والسريعة لرؤساء الدولة، وعجز سلطات الدولة عن مواجهة الجبهة الوطنية الديمقراطية عسكريًا وإعلاميًا.

بقي الإخوان أهم القوى السياسية التي اعتمد عليها نظام الرئيس في مده بالتأييد الشعبي، وامتد تحالفهما كامل عقد الثمانينيات وتعاونا تجاه العديد من القضايا والمنعطفات الوطنية، فقد آزر الإخوان الرئيس في المواجهة الفكرية والإعلامية للأفكار والتنظيمات اليسارية، وإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية وبلورة وتسويق الميثاق الوطني، وتشكيل وإدارة المؤتمر الشعبي العام كتنظيم سياسي يسد الفجوة بين قيادة الدولة والمواطنين، ويوفر للنظام في الشمال تنظيماً يناظر تنظيم الحزب الاشتراكي في الجنوب.

(2) بناء الأيديولوجية والتنظيم السياسي:
مثّل الفراغ في الجانبين الفكري والمؤسسي أحد مصادر المخاطر التي واجهها نظام الرئيس علي عبد الله صالح، الأمر الذي دفعه للبحث عن صيغة تُخرِج البلاد من حالة الاضطراب وانعدام الاستقرار، وتسد الفراغ الناشئ عن غياب تنظيم سياسي رسمي يتولى عملية التعبئة والحشد، ويعزز موقف النظام في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

في مثل تلك الظروف ولدت فكرة الميثاق الوطني كصيغة لبناء توجه فكري يسد ذلك الفراغ، جاءت فكرة الميثاق من واقع نقاش وحوار الرئيس مع عدد من الشخصيات السياسية والفكرية، في إطار بحثه عن ما ينتشل البلاد من الأوضاع الصعبة التي كانت تعيشها، ويوفر لها حصانة ضد الأفكار والتنظيمات اليسارية والقومية المتطرفة التي أثرت على الاستقرار والتنمية في البلاد.

أوكل الرئيس إلى لجنة من المفكرين والعلماء والمثقفين من داخل مجلس الشعب وخارجه، وَضعَ مسودة أولية لمشروع ميثاق وطني تطرح للنقاش .. تم مناقشة المشروع الأولي للميثاق في اجتماع موسع ضم أعضاء مجلس الوزراء والقيادات العسكرية والمحافظين والهيئة العليا للاتحاد العام لهيئات التعاون الأهلي للتطوير، وأُحيلت الملاحظات والإضافات التي تم طرحها، إلى اللجنة التي صاغت المسودة الأولية لمشروع الميثاق، ولإشراك القوى السياسية والفكرية في صياغته، صدر القرار الجمهوري رقم (5) لسنة 1981م، والذي نص على تشكيل ’’لجنة الحوار الوطني’’، والتي ضمت في عضويتها واحداً وخمسين مشاركا من مختلف التوجهات السياسية والفكرية بهدف البحث في أنسب صيغة للقضاء على الفراغ السياسي والتنظيمي .

على أن يكون من مهامها تقصي آراء ووجهات نظر المواطنين حول مجمل القضايا الأساسية التي تهم الوطن، من خلال توزيع نسخ من مشروع الميثاق الوطني عليهم كورقة عمل قابلة للتعديل، ورفع الصيغة النهائية لمشروع الميثاق إلى رئيس الجمهورية ليقوم بدوره بتوجيه الدعوة لعقد مؤتمر شعبي عام.

كان من الواضح أن الهدف من الميثاق هو بناء أيدلوجية رسمية للنظام يكون بإمكانها تحصين المجتمع ضد الأفكار اليسارية التي كانت أحد مصادر الصراع السياسي في شمال اليمن في ذلك الوقت .

وبهدف استقصاء آراء المواطنين باشرت اللجان الفرعية المنبثقة من لجنة الحوار تحركاتها إلى مختلف مناطق الجمهورية من أجل عقد المؤتمرات المصغرة في كل ناحية وقضاء ومحافظة، وتم خلالها توزيع استمارات الاستبيان المعدة مع نسخ من مشروع الميثاق الوطني على جميع المواطنين وتجمعات المهاجرين والطلاب في الخارج، وتولت لجنة الحوار الوطني فرز وتبويب آراء المواطنين، وتعديل نصوص الميثاق على ضوئها، ثم إقرار الصيغة النهائية لمشروع الميثاق.

ضمت لجنة الحوار الوطني ممثلين عن مختلف التيارات السياسية والفكرية، اليسارية والقومية واللبرالية والإسلامية، و’’لأن قوى سياسية متعددة ومختلفة شاركت في إعداد وصياغة الميثاق الوطني، فقد دخل ممثلو الحركة الإسلامية والقوى الاجتماعية المتمسكة بالهوية الإسلامية لليمن في حوار وجدل مع من يريد أن يضعف الخط الإسلامي في الميثاق الوطني، أو يجعله خليطاً من الإسلامية وغير الإسلامية’’ .

ومع ذلك فقد كانت صياغة الميثاق النهائية صياغة إسلامية صرفة، تعكس التوجهات الفكرية لحركة الإخوان المسلمين، ويبدو أن ذلك يعود إلى ثقل الواقع الاجتماعي اليمني، إذ يصعب على أي طرف سياسي أن يتبنى مواقف معلنة تتصادم مع الشريعة والهوية الإسلامية لليمن من جهة، ولأن الرئيس- وهذا هو الأهم- كان متحمسًا لصياغة الميثاق بتلك الصورة من جهة أخرى ، وكان يتدخل وبتنسيق مسبق مع عبد الملك منصور، أمين عام تنظيم الإخوان في ذلك الوقت لترجيح الصياغة التي يتبناها الإخوان، لاسيما في القضايا الجوهرية ، ومن جهة ثالثة فإن تلك الصياغة ورغم أن أغلبها جاءت ضمن المفاهيم الإسلامية الحركية التي أدخلتها حركة الإخوان المسلمين في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر إلا أنها عكست توجهات القطاع الغالب من المواطنين اليمنيين وضمنت تأييدهم، فالأيدلوجية التي تضمنها الميثاق لم تكن غريبة بأي حال عن توجهات المجتمع اليمني.

ولهذا فقد بذل الإخوان جهدا كبيرا لبلورة رؤاهم حول المواضيع المختلفة التي دار حولها الحوار واتبعوا طرقاً مختلفة لضمان تمريرها في اللجنة، واجتهدوا في حشد التأييد الشعبي لرؤيتهم أثناء انعقاد المؤتمرات الفرعية لمناقشة بنود الميثاق، وكسب تأييد الأوساط الاجتماعية، وتفنيد الآراء المعارضة التي أثارتها التيارات السياسية الأخرى، وظلوا إلى جانب القوى الوطنية أكثر الأطراف تحمسا للميثاق الوطني والدفاع عنه.

أما بالنسبة للمؤتمر الشعبي العام فان فكرة إنشائه تعود إلى الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي، فقد صدر قرار مجلس القيادة بمدينة الحديدة بتاريخ 9 فبراير1977م، ونص على تشكيل اللجنة التحضيرية للمؤتمر الشعبي العام، من (15) شخصا برئاسة القاضي عبد الله الحجري .

وقد رأينا أن لجنة الحوار الوطني بعد أن انتهت من صياغة الميثاق الوطني توصلت إلى ضرورة وجود تنظيم يتولى تنفيذ الميثاق الوطني ويرعى تطبيقه، وبناء على اقتراحها صدر القرار الجمهوري رقم (19) لسنة 1981م، والخاص بتحديد أعضاء المؤتمر الشعبي العام (بألف شخص)، منهم 70% ينتخبون من قبل المواطنين في جميع أنحاء الجمهورية، بينما 30% منهم يتم تعيينهم بقرار جمهوري، كما صدر القرار الجمهوري رقم( 128) لسنة1981م، والذي كلف اللجنة العليا واللجان الفرعية لانتخابات هيئات التعاون للموسم الانتخابي التعاوني الثالث بالإشراف على انتخاب ممثلي المواطنين في المؤتمر الشعبي العام، وهو ما تم فعلا، فقد انتهت عملية الانتخاب بتاريخ 23/3/1982م، حيث تم انتخاب (697) عضوا من مختلف الدوائر الانتخابية في البلاد.

كلف الرئيس لجنة الحوار الوطني بمهمة الإعداد والتحضير للمؤتمر الشعبي العام، وبتاريخ 24 أغسطس 1982م تم عقد المؤتمر العام الأول للمؤتمر الشعبي العام تحت شعار ’’من أجل ميثاق وطني يجسد عقيدة الشعب وأهداف الثورة’’ تم خلاله إقرار الميثاق الوطني في صيغته النهائية، واعتماد المؤتمر كصيغة دائمة للعمل السياسي.

استمر المؤتمر الشعبي العام يمثل التنظيم السياسي الرسمي في شمال اليمن طوال عقد الثمانينيات، ومع هذا يمكن تقسيم مسيرته فيما يتعلق بتأثيره على العلاقة بين حركة الإخوان المسلمين ونظام الرئيس على عبد الله صالح إلى مرحلتين:

1) المرحلة الأولى (1982-1986م):
بخلاف اتفاق الرئيس وقيادات الحركة الإسلامية على صياغة الميثاق الوطني، فإن تحديد من يتولى المواقع القيادية في تنظيم المؤتمر الشعبي العام عند إنشائه، كان محل خلاف بين الطرفين، ’’فأنصار الاتجاه الإسلامي كانوا يرون ضرورة أن تكون قيادات هذا التنظيم مقتنعة ومنسجمة مع فكر الميثاق الوطني والغرض الذي أنشئ من أجله، ولم يكن الرئيس معهم في هذا الرأي، فقد كان أقرب إلى القوى السياسية غير الإسلامية ، وذلك في سياق سياسة التوازنات التي مثلت معلما بارزا لحكم الرئيس، ومع هذا فقد تمكنت الحركة الإسلامية من أن تحشد أنصارها أثناء انتخابات أعضاء المؤتمر الشعبي العام، وأن توصل عدداً كبيراً منهم عبر الانتخابات إلى الهيئات القيادية في المؤتمر، ’’فقد فاز ممثلو الحركة الإسلامية بما يقارب (50%) من المقاعد المنتخبة للجنة الدائمة(المركزية)، بينما تم تمثيل اليسار من قبل الرئيس علي عبدالله صالح ضمن النسبة الممنوحة له لهذا الغرض ، وطوال الفترة الممتدة من عام 1982م وحتى عام 1986م كان الإخوان هم القوة الأساسية داخل التكوينات القيادية المختلفة للمؤتمر الشعبي العام، وكان هذا الأخير اقرب إلى أن يكون وعاء يضم الإسلاميين والقوى الوطنية القريبة منهم.


2) المرحلة الثانية ( 1986-1990م):
خلال هذه المرحلة تراجع الدور السياسي لتنظيم المؤتمر الشعبي العام على الصعيدين الفكري والسياسي، وبشكل خاص بعد المؤتمر العام الثالث الذي انعقد في مدينة تعز عام 1986م ، وذلك بسبب افتقاده لقوة الدفع والتأييد من قبل الرئيس وتنظيم الإخوان المسلمين وهما أهم طرفين شاركا في تأسيسه، ويعود ذلك إلى وجود تباين بينهما حول التشكيل القيادي للمؤتمر، فقد تدخل الرئيس أثناء انعقاد المؤتمر العام الثالث واستبعد عدداً من رموز الإخوان من قائمة الفائزين في عضوية اللجنة الدائمة، ويبدو أن ذلك يعود إلى أنه لم يعد مقتنعا-في تلك المرحلة- بضرورة استحواذ الإخوان على المقاعد القيادية في المؤتمر، لاسيما بعد تراجع التحديات التي تواجه نظامه على إثر زوال خطر الأفكار والتنظيمات اليسارية بعد تفكك فصائل اليسار في الشمال وضعف النظام في الجنوب بعد أحداث يناير، والى جانب ذلك فقد أدى قرار توسيع عضوية المؤتمر الشعبي العام إلى فتح المجال لقوى سياسية جديدة لمزاحمة الإسلاميين على المواقع القيادية في تنظيم المؤتمر، وخاصة التيار الليبرالي القادم من مؤسسات الدولة، فضلا عن التنافس بين الحركة الإسلامية وتنظيم البعث -فرع العراق- على ذات المواقع.

وبشكل عام فقد أدت الدورات الانتخابية الدورية لأعضاء المؤتمرات العامة للمؤتمر الشعبي العام، وحرص القوى السياسية المنضوية في إطاره على تصعيد أنصارها إلى المواقع القيادية فيه إلى زيادة التنافس فيما بينها، فيما تفرغ النظام لبناء ديناميكيات قوته واستمراره، في ظل إدراك القوى السياسية المختلفة -وخاصة الإخوان المسلمين- أن الهدف من المشاركة في المؤتمر هو المساهمة والتعامل الايجابي مع الأطر السياسية الممكنة.
كما وفر المؤتمر الشعبي العام للنظام الذي يقوده الرئيس علي عبدالله صالح الوعاء المناسب لاحتواء الشخصيات الاجتماعية المؤثرة، بمن فيهم مشائخ القبائل، بجذبهم إلى عضوية المؤتمر، وتولي مناصب في تكويناته المركزية والمحلية، وهو ما سهل دمجهم في النظام السياسي.

تنامي قوة النظام السياسي:
استمرت قوة النظام السياسي في النمو الرأسي والأفقي، فالاستقرار السياسي الذي شهدته اليمن الشمالية في عقد الثمانينيات أتاح للسلطة فرصةً لترتيب أوضاعها والهيمنة على مصادر جديدة لقوتها السياسية بتعزيز قبضتها على المؤسسة العسكرية، وتوثيق تحالفها مع أبرز مشائخ القبائل والتنظيمات السياسية، ’’فقد أولى الرئيس الجيش اهتماما خاصا، فزوده بالمعدات العسكرية الشرقية والغربية، والتي وإن لم تكن متقدمة إلا أنها ليست متخلفة عن الأسلحة المتوفرة حينذاك في جنوب اليمن، وبالتوازي مع ذلك حرص الرئيس على تأمين جانبه من قبل الجيش بوضع قيادته بأيدي الثقة من أقربائه وقد تمكنت قيادة الجيش من إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية تدريجيا وإقصاء الرموز الحزبية القومية في البنية العسكرية أو احتوائها’’ .

كما تم احتواء البنية القبلية من خلال مد سلطة الدولة إلى معظم مناطق الجمهورية، بما فيها المناطق القبلية، وكانت الخدمات والمشاريع الحكومية هي مقدمة طلائع الوجود الحكومي في تلك المناطق، واحتواء شيوخ القبائل الصغار المؤثرين في مناطق محدودة بدمجهم في تكوينات المؤتمر الشعبي العام وهيئات التعاون للتطوير، أما كبار المشائخ الذين كان لهم أدوار سياسية في مراحل سابقة، فقد اعتمد نظام الرئيس علي عبد الله صالح سياسة التوافق، بإشراكهم في المناصب الحكومية وصنع القرار، وكسب ولائهم بواسطة الاعتمادات المالية، وإفساح المجال لهم للانشغال في الأعمال التجارية.

وبشكل عام، فقد تنامت قوة الدولة بشكل تدريجي خلال سنوات عقد الثمانينيات من القرن العشرين، وبحسب أحد الباحثين الغربيين، فان ’’العامل السياسي الأكثر أهمية في الجمهورية العربية اليمنية خلال معظم فترة الثمانينيات كان التوسع التدريجي للسلطة الحكومية وامتدادها إلى المناطق القبلية، وما نتج عن ذلك من ضعف في القوة السياسية لزعماء القبائل، وقدمت الحكومة خدمات اجتماعية كالمدارس، والعيادات، والطرقات للمناطق القبلية، وأصبحت بذلك منافسا للشيوخ، وفي الوقت نفسه بدأت تستميل هؤلاء بإعطائهم فرصا مستمرة للعمل، وبهذه الطريقة صار (المشائخ) أكثر انشغالا بالمصالح التجارية للشيوخ وأقل اهتماما بالمحافظة على مواقعهم داخل قبائلهم، وتخلى بعضهم رسميا عن موقعه القيادي في القبيلة ليكرس أوقاته لربح المال’’ .

واستتبع نمو سلطة الدولة نمو قوة النظام أيضا، ففي اليمن كما- في بقية الدول النامية- توجد علاقة طردية بين قوة الدولة وقوة النظام، فقوة الدولة تؤدي إلى قوة النظام، أما العكس فليس بصحيح، فقد تكون سلطة الدولة في حالة ضعف لكن النظام لا يكون كذلك، ومثل هذا الوضع ينطبق كثيرا على اليمن. ’’فالنخبة الحاكمة سيطرت تدريجياً على الدولة، حتى أنك لا تستطيع أن تضع خطاً فاصلاً بين نخبة الحكم أو الحزب الحاكم وبين مؤسسات الدولة، ولهذا تحولت الدولة إلى مفتاح للإدارة السلطوية للمجتمع .

وفي حين كانت قوة النظام في تصاعد كانت القوى السياسية الأخرى تسير في اتجاه عكسي، فالتيار اليساري تلقى هزيمة عسكرية وسياسية وفكرية أضعفت من تأثيره، وتعرض التنظيم الناصري لضربات قاسية على إثر محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس علي عبد الله صالح.

ولم يتبق إلا قوة واحدة آخذة في النمو هي حركة الإخوان المسلمين، والتي كانت على علاقة تحالفية بالنظام، وساهمت بدور مهم في توفير الاستقــرار السياسي النسبي الذي نعمت به الجمهورية العربية اليمنية خــلال ذلك العقد.

ومما يجدر ذكره أن تزايد تأثير الإخوان المسلمين ونمو تنظيمهم في ذلك العقد لم يكن يمثل خطورة على النظام السياسي بقدر ما كان تعزيزاً له، لأسباب مختلفة، في مقدمتها حاجة النظام إلى الإخوان في مواجهة الاحتمالات المختلفة لتطورات الأوضاع في الجنوب، وثقته بهم، ولأن قوتهم ظلت محكومة ومحاطة بشبكة من العلاقات الاجتماعية والسياسية تحت رعاية الرئيس وأركان حكمه، وإطلاع الرئيس على بعض تفاصيل بناء الإخوان، وإدراكه أنهم وربما لعقود قادمة سيظلون في مرحلة البناء وليس في أهدافهم القريبة منافسته على السلطة.

وتم اكتشاف النفط عام 1984م، وأصبحت اليمن من الدول المصدرة له، ومع أن الكميات التي يتم تصديرها محدودة، إلا أنها أضافت مصدرًا مهماً للدخل في اليمن، وإلى جانبه فقـد تم في عهد الرئيس علي عبدالله صـالح إعـادة بنـاء سـد مأرب التاريخي، بدعم مباشر من رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة زايد بن سلطان آل نهيان، ومع أن عوائده السد الاقتصادية محدودة جدا إلا أن قيمته الرمزية كـانت كبيرة.

وبشكل غير مباشر، فإن أحداث 13 يناير عام 1986م في جنوب اليمن وما رافقها من تدمير وقتل، أكسبت توجه النظام في شمال اليمن بشكل عام، ونظام الرئيس علي عبدالله صالح على سبيل التحديد، قوة معنوية إضافية، فأسلوب إدارة الرئيس للخلافات السياسية والفكرية، وطريقة تعامله مع القوى السياسية، القائم على سياسة التوازنات ومحاولة الاحتواء والإرضاء وعدم الميل كثيرا نحو العنف، اكتسب عند كثير من المواطنين في شطري اليمن ـ على ضوء مقارنته بما حصل في الجنوب ـ احتراماً بأثر رجعي، ومع هذا فإن ثمة حدود ظلت تحد من قوة النظام السياسي، في مقدمتها ضعف سلطة الدولة المركزية، بسبب طبيعة البنية القبلية للمجتمع اليمني وتأثير العوامل الخارجية.
.لقراءة الحلقتين السابقتين
http://wefaqdev.net/index.php?page=pens&type_page=2&wr_no=327&num_item=7
أضافة تعليق