مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الحركة الإسلامية والنظام السياسي .. من التحالف إلى التنافس الملامح العامة للتطورات السياسية في شطري
الحركة الإسلامية والنظام السياسي .. من التحالف إلى التنافس
الملامح العامة للتطورات السياسية في شطري اليمن (1962 ــ 1978م) (الحلقة الثـــــــانية)

* أولا : التطورات السياسية والاجتماعية في الجمهورية العربية اليمنية (سابقا):في اليمن
* ثانيا : التطورات السياسية والاجتماعية في جمهورية اليمن الديمقراطية (سابقا)
ناصر الطويل
أولا : التطورات السياسية والاجتماعية في الجمهورية العربية اليمنية (سابقا):في اليمن








كنا الأسبوع الماضي قد نشرنا الحلقة الأولى من كتاب الإخوان المسلمين، والتي تضمنت نبذة عن الكتاب بقلم المؤلف، ومقدمة الكتاب، ومحتوياته.
وفي الحلقة الثانية نبدأ بنشر الفصل الأول من الكتاب. ونكرر هنا الإشارة إلى أننا لن ننشر الهوامش والمراجع التي اعتمد عليها الكاتب في بعض المعلومات لصعوبة تنسيقها كما هو الحال في الكتاب، حيث يمكن إحالة القارئي لمرجع المعلومة االمذكورة في نفس الصفحة من الكتاب، وهو ما يتعذر علينا فعله هنا. وقد ننشرها في نهاية الحلقات احتراماً وحفاظاً على الحق الفكري، أو يمكن الإشارة لها في مقدمة كل حلقة.
إلى الحلقة الثانية التي تتضمن مقدمة الفصل الأول، ومقدمة المبحث الأول من هذا الفصل، والذي يتناول فيه المؤلف الأستاذ ناصر الطويل، الملامح العامة للتطورات السياسية في شطري اليمن (1962 ــ 1978م).


الفصل الأول
البناء الفكري والسياسي للنظام السياسي والحركة الإسلامية في اليمن

سنتناول في هذا الفصل عرضاً تحليلياً لنشأة وتطور كل من نظام الرئيس علي عبد الله صالح الذي تأسس مع وصوله إلى السلطة في الشمال في عام 1978م، وطبيعة التطورات التي لحقت به في البعدين الهيكلي والفكري في مرحلة الثمانينيات وبعد قيام الوحدة، وأبرز الخصائص العامة لهذا النظام، وطبيعة التحديات التي تواجهه، ونفس الأمر- وإن بشكل أقل- سنتتبع أبرز التطورات التي لحقت بنظام الحزب الاشتراكي في جنوب اليمن، وانعكاسات كل ذلك على علاقة نظامي دولتي اليمن في مرحلة التشطير ونظام اليمن الموحد بالحركة الإسلامية الإخوانية.
وفي السياق ذاته، سنتتبع مراحل نشوء وتطور حركة الإخوان المسلمين في شطري اليمن وأهم التطورات التنظيمية والفكرية والحركية التي لحقت بها، وطبيعة التحولات والتحديات التي واجهتها في مرحلتي ما قبل الوحدة وما بعدها.
غير أننا قبل ذلك سنقدم عرضا موجزا لأهم التطورات السياسية في شطري اليمن منذ قيام الثورة وإعلان الجمهورية في شمال اليمن في 26 سبتمبر 1962م، وخروج الاستعمار البريطاني من جنوبه في نوفمبر 1967م وحتى عام 1978م، وهو العام الذي تنطلق منه الدراسة، وذلك لأن الأحداث التي شهدتها اليمن في مرحلة الثمانينيات وما بعدها تعد امتداداً للتطورات السياسية والاجتماعية للمراحل الزمنية التي سبقت ذلك.

وعلى ذلك فإن هذا الفصل يتكون من ثلاثة مباحث، هي:
المبحث الأول: الملامح العامة للتطورات السياسية في شطري اليمن (1962-1978م).
المبحث الثاني: النظام السياسي: البناء والتطور.
المبحث الثالث: نشوء وتطور حركة الإخوان المسلمين في اليمن.



المبحث الأول: الملامح العامة للتطورات السياسية في شطري اليمن (1962 ــ 1978م)

مقدمة:
شهد شطرا اليمن بعد قيام النظام الجمهوري في الشطر الشمالي، وجلاء الاستعمار البريطاني من الشطر الجنوبي تطورات سياسية واجتماعية متسارعة، فقد تحول شمال البلاد إلى ساحة لحرب أهلية وإقليمية لفترة سبع سنوات متواصلة، صاحبها وترتب عليها تجاذب بين القوى السياسية والاجتماعية حول هوية النظام السياسي وعقيدته السياسية وتوجهاته الداخلية والخارجية، وعلى خلاف ذلك فَرض الإتجاه اليساري الماركسي هويته على النظام الجديد في الجنوب، فقد استحوذت الجبهة القومية على السلطة بعد خروج المستعمر، وتعرضت لتحولات فكرية جذرية حلت فيها الأفكار اليسارية الماركسية محل الأفكار القومية، وأنشئت الدولة الماركسية الوحيدة في الوطن العربي، وهنا سنعرض أبرز التطورات السياسية فيما كان يعرف باليمن الشمالية واليمن الجنوبية.
أولا : التطورات السياسية والاجتماعية في الجمهورية العربية اليمنية (سابقا):
شهدت الجمهورية العربية اليمنية بعد قيام ثورة سبتمبر عام 1962م وحتى عام 1978م تحولات سياسية واجتماعية غير مسبوقة، مقارنةً بحالة الجمود والعزلة التي كانت أبرز معالم حكم الأئمة، فقد تعرض النظام الجمهوري لمخاطر وتحديات عسكرية وسياسية كادت أن تعصف به أثناء الحرب الأهلية، وبداخله حدث تباين واستقطاب لأسباب تتعلق بهويته الفكرية وتوجهاته السياسية وعلاقاته الخارجية، وظل يعاني من غياب الاستقرار طوال تلك الفترة.

(أ) التجاذب حول الهوية السياسية والفكرية للنظام الجمهوري:
انسحب المناخ الفكري والسياسي الذي كان سائداً في المنطقة العربية في عقد الستينيات إلى شمال اليمن، وهو مناخ اتسم بالصراع بين ما كان يعرف بالأفكار والنظم التقدمية( القومية واليسارية)، والأفكار والنظم المحافظة، وانزلق بعض أنصار النظام الجمهوري إلى بعض الممارسات التي صورت الثورة وكأنها ضد كل ما هو متصل بالماضي، بما في ذلك الثوابت الدينية والأعراف القبلية، وسعوا إلى إظهار الثورة بالمظهر القومي المتطرف، ’’وكان من الطبيعي أن يكون لهذا التطرف اليساري، الذي علا صوته في صنعاء بعد الثورة، آثاراً سيئةً، فقد تمكن الملكيون من كسب ولاء قبائل عديدة معروفة بالبأس والشدة، وأثاروا مخاوفهم حول الخطاب الرسمي والحزبي الذي كان يصف القبلية بالرجعية والتخلف، ويطالب بالقضاء عليها .. كما استفادوا من التطرف اليساري في تصوير الثـورة بأنها ضد الإسلام .
وانحازت قيادة النظام الجمهوري إلى ما كان يعرف في وقتها بالمعسكر الثوري التقدمي، واستفزت ببعض مواقفها وتصرفاتها المملكة العربية السعودية، واتجه الرئيس السلال إلى الإمساك بخيوط السلطة- والتي لم تكن بيده عمليا- والإنفراد بالقرار، ومدت القوى السياسية اليسارية والقومية نفوذها على معظم أجهزة الدولة الناشئة، وكل ذلك في سياق حرب أهلية متواصلة بين المعسكرين، الجمهوري الذي تدعمه القوات المصرية، والملكي الذي تقف خلفه المملكة العربية السعودية.
أخذ الصف الجمهوري يتمايز إلى تيارين، الأول يمثل القوى الراديكالية، ويقوده الرئيس السلال وبعض الضباط، والقوى السياسية المنظمة، وتحديداً حركة القوميين العرب، ويتكتل في التيار الثاني القيادات التاريخية للنضال اليمني من حزب الأحرار، وفي مقدمتهم القاضي محمد محمود الزبيري، وأحمد محمد نعمان، وعبد الرحمن الإرياني، وعدد من مشائخ اليمن، وحزب البعث وأعضاء تنظيم الإخوان المسلمين.
تباينت رؤية الطرفين حول كيفية مواجهة الحرب، فقد كان جناح السلال يدعو إلى الاستمرار في القتال والحرب حتى النهاية، فيما كان جناح الزبيري والنعمان والإرياني يرى أن الحرب ليست ضرورة قدرية، وحول أسلوب إدارة الدولة، وضرورة تصحيح مسار الثورة وجعلها شوروية وجماعية ، وعلى الرغم من أن الأستاذ محمد محمود الزبيري لم يكن يتولى منصباً رئيسياً في النظام الجمهوري الجديد إلا أن شخصيته ودوره التاريخي النضالي ومكانته في قلوب اليمنيين، بما فيهم المتحمسون للملكية، كانت تجعله قطب الرحى في صنعاء، وتلقى توجيهاته وآراؤه تجاوباً حماسياً من الجميع.
اتسعت الهوة بين جناحي التطرف والاعتدال داخل الصف الجمهوري، وكان أحد أسباب الخلاف الرئيسة يدور حول الهوية السياسية والفكرية للنظام الجمهوري وطريقة إدارته، فالزبيري والتيار الذي يقوده، وهو التيار الغالب، كانا يسعان إلى ’’إعادة الوجه الصحيح للثورة اليمنية من خلال التأكيد على الهوية الإسلامية لها، واحترام دور القبائل اليمنية في الدفاع عن الثورة، وضرورة تقوية هذا الدور من خلال مخاطبة اليمنيين باللغة الإسلامية التي يفهمونها و يحترمونها’’ ، في حين أن التيار الآخر كان يريد نظاماً سياسياً على غرار ما هو موجود في النظم العربية التقدمية في ذلك الوقت، وبخاصة في مصر.
اتكأ جناح السلال على القوات والأجهزة العربية المصرية، والتي كانت صاحبة القرار الحقيقي، وفي مقابل ذلك لجأ الزبيري ورفاقه إلى الضغط من خلال المؤتمرات الشعبية، فقد تم جمع الزعامات القبلية والدينية والسياسية في اليمن في مؤتمر عمران عام 1964م، وعندما لم تنفذ قراراته، خرج الزبيري من صنعاء، وطلب من أعضاء الحكومة تقديم استقالاتهم، واتجه صوب القبائل لكسب تأييدها، وفي منطقة برط، أعلن عن تأسيس حزب الله، ودعا الزعامات اليمنية من الصفين الجمهوري والملكي إلى مؤتمر شعبي جديد، تُطرح فيه مطالب اليمنيين.
اغتيل القاضي الزبيري في 31/3/1965م، وانعقد مؤتمر خَمِر في نفس العام، وفيه تم وضع الدستور الدائم، والذي أكد على الهوية الإسلامية الكاملة للشعب اليمني، وأعاد بناء النظام السياسي على النحو الذي يمنع الاستفراد بالحكم.
تعززت مكانة التيار الإصلاحي بعد خروج القوات العربية المصرية والإطاحة بالرئيس السلال، حيث تولى القاضي عبد الرحمن الإرياني رئاسة السلطة، وجرى تثبيت رؤية هذا التيار حول عقيدة النظام السياسي وتوجهاته الداخلية والخارجية في الدستور الدائم، الذي تم إقراره في 28/12/1970م، والمؤسسات السياسية التي تم تشكيلها، ومع هذا فقد تحول النزاع حول الهوية السياسية والفكرية للنظام إلى صراع مسلح بين السلطة السياسية والتنظيمات اليسارية، في شكل أعمال عنف تركزت في بعض المناطق وسط وجنوب اليمن الشمالية، فيما عرف بحرب المناطق الوسطى، ومثّل استمرار الحرب في بعض جوانبها صورة من صور التنازع حول هوية النظام السياسي الجمهوري، والذي لم يُحسم إلا بعد ضرب القدرات العسكرية للتنظيم اليساري في أوائل الثمانينيات، وهيمنة ما عرف بالأيديولوجية ’’الإسلامية الوطنية’’ كعقيدة سياسية وفكرية للنظام الذي يقوده الرئيس علي عبد الله صالح في مواجهة الأيديولوجية الاشتراكية لنظام الحزب الاشتراكي في الجنوب.
(ب) ـــ نشوء وتطور القوى والتيارات السياسية :
انتقلت التيارات السياسية اليسارية والقومية إلى اليمن في العقدين الخامس والسادس من القرن العشرين، فقد ظهرت في تعز عام 1958م الحلقة الأولى للاتجاه الماركسي الذي كان قد تأسس في عدن على يد عبدالله عبد الرزاق باذيب عام 1953م، وتلك الحلقة التي شكلت في الفترة اللاحقة حزب الاتحاد الشعبي الديمقراطي في اليمن الجنوبي، وفي عام 1959م تكوّن في كل من شطري اليمن الشمالي والجنوبي فرعان لحركة القوميين العرب، التي كان مركزها الرئيسي في بيروت، فيما تم تأسيس فرع حزب البعث العربي الاشتراكي في عدن عام 1956م، وفي الشمال عام 1958م .
كان لأعضاء حزب البعث دور في التخطيط لثورة 26 سبتمبر، غير أنهم تعرضوا للاضطهاد في عهد الرئيس السلال من قبل أجهزة الأمن المصرية، على خلفية الصراع الذي كان محتدماً آنذاك بين البعثيين ونظام الرئيس جمال عبد الناصر، ولهذا ظل البعث قريباً من رموز التيار الإصلاحي بقيادة الأستاذ محمد محمود الزبيري ، وساهم حزب البعث في الانقلاب الأبيض الذي أوصل القاضي عبد الرحمن الإرياني إلى السلطة، ونشط في عهده، وكان البعثيون مقربين من الإرياني، الذي أسند رئاسة الحكومة أكثر من مرة للأستاذ محسن العيني المعروف بانتمائه للبعث، وكانوا يمثلون قوة كبيرة، ولم يحد من هيمنتهم على السلطة إلا النفوذ الكبير لمشائخ القبائل ومنافسة الإخوان المسلمين، إلى جانب الضغوط التي كانت تمارسها الرياض.
أما الرئيس إبراهيم الحمدي فقد رأى أن تثبيت نظامه يتطلب تحجيم قوة حزب البعث، خاصة وأن عدداً من قياداته تجمع بين الانتماء السياسي للحزب والنفوذ العسكري والقبلي، فعمل على التخلص من تلك القيادات، تحت لافتة القضاء على مراكز النفوذ، وهكذا تم إقصاء الأستاذ محسن العيني من رئاسة الحكومة، وإزاحة أسرة آل ’’أبو لحوم’’ من مجلس قيادة الثورة، وقيادة بعض وحدات الجيش.
أما حركة القوميين العرب فقد ’’بات متفقاً على أن الخلية الأولى لها، قد تشكلت في منطقة الشيخ عثمان بعدن عام1959م، ثم نشأت بعد قليل خلية مماثلة في شمال اليمن’’ ، وقد تمكنت خليتها الأولى من السيطرة -إبان حكم الإمامة- على نقابة العمال الوحيدة في شمال اليمن، وبفضل هذه السيطرة تمكنت من تشكيل لجنة شعبية استولت على مدينة تعز عشية إعلان الجمهورية.
وفي إطار تخطيطها المبكر للاستيلاء على السلطة، زجت حركة القوميين العرب بكوادرها في كلية صنعاء العسكرية، وأخذت تبني خلاياها في الجيش من خلال انخراطها مع الآلاف، لاسيما من جنوب اليمن في الحرس الوطني، وكان لها نفوذ واسع في أجهزة الإعلام والمدارس والجهاز الإداري للدولة ، وقد وقف أعضاؤها والناصريون في الصف المؤيد للسلال، وكانوا من أنشط المتعاونين مع الخبراء والمستشارين المصريين، وعلى هذا الأساس أتيحت لهم، وللمنظمات الاجتماعية الخاضعة لنفوذهم (النقابات، اتحاد الطلاب، وبعض النوادي الرياضية) الإمكانية لممارسة النشاط السياسي العلني .
استفاد القوميون العرب في اليمن من الدعم الذي قدمته القوات والأجهزة المصرية، لاسيما في السنوات الأولى التي تلت قيام الثورة، غير أن تلك العلاقة لم تستمر إذ تعرضت للتدهور لأسباب عديدة منها: استياء القوميين العرب من التعامل البيروقراطي للأجهزة المصرية، وخوفهم من خروج القوات المصرية إذا ما توصلت القاهرة والرياض إلى اتفاق بشأن إنهاء الحرب الأهلية في اليمن، والتحولات اليسارية التي كانت تعتمل داخل الحركة الأم، والتحول الذي طرأ على علاقتها بالرئيس عبد الناصر، ومع ذلك فقد كانت حركة القوميين العرب بشمال اليمن من أكثر المتضررين بعد خروج القوات المصرية من اليمن، على إثر هزيمة حزيران 1967م، فقد أُقصي الرئيس السلال والعناصر الراديكالية القريبة من حركة القوميين العرب من السلطة، وحل محلهم رموز التيار السياسي المعتدل.
تنامت الميول الماركسية بشكل سريع داخل حركة القوميين العرب في شمال اليمن، وفي يوليو 1968م قطعت علاقتها بشكل كلي مع حركة القوميين العرب ’’الأم’’، وتبنت الماركسية وغيرت اسمها إلى ’’الحزب الديمقراطي الثوري اليمني’’، وتم تعريفه بأنه ’’طليعة عمالية تلتزم بالماركسية اللينينية، ويهتدي بها في نضاله، ويعمل بدأب من أجل خلق الحزب الشيوعي اليمني الواحد، وتبنت استراتيجية حرب التحرير الشعبية لإسقاط نظام’’ الرئيس عبد الرحمن الإرياني وحركة نوفمبر الذي وصفتها بالرجعية.
وعموما فقد سارت التطورات السياسية باتجاه حدوث صدام مسلح بين الحزب الثوري الديمقراطي ـ القوميين العرب سابقا ـ وبين السلطات السياسية الرسمية، فقد تعاظمت قوة هذا الحزب من خلال تشكيله لفرق المقاومة، وسيطر أعضاؤه على وحدات عسكرية حيوية في الجيش (المظلات، الصاعقة، والمدفعية)، وبرزت إجراءاته المكشوفة للاستيلاء على السلطة، فقد دفع بأعضائه في الأرياف للتمرد والعصيان المسلح، كما برزت- أثناء حصار صنعاء وبعده- الروابط القوية بين الجبهة القومية الحاكمة في الجنوب وأنصار الحزب الثوري الديمقراطي اليمني، وهو ما أثار مخاوف السلطة السياسية والقيادات الاجتماعية في صنعاء من مخاطر سيطرة اليسار على السلطة في شمال اليمن، كما هو الحال في الجنوب، وخلال ’’يومين جرت معارك ضارية في مدينة صنعاء بين وحدات وتشكيلات الجمهوريين بمختلف توجهاتهم السياسية أنصار الجناح اليساري الراديكالي وبين العناصر المحافظة والمعتدلة الموالية للعمري’’ ، وقد حسمت المعركة في نهاية الأمر لصالح القوات المسلحة التابعة للقيادة السياسية الرسمية، وتم إلقاء القبض على عدد من قيادات التنظيمات اليسارية، فيما فر آخرون باتجاه الجنوب، وعاد كثيرٌ منهم إلى مناطقهم ليقودوا تمرداً مسلحاً ضد السلطة والزعامات الاجتماعية في شمال اليمن، فيما عُرف بحرب المناطق الوسطى والتي استمرت حتى عام 1983م.
وفي 25 يناير 1971م تمكنت العناصر اليسارية المتطرفة في الجبهة القومية الحاكمة في الجنوب، وبالتعاون مع أجهزة المخابرات الألمانية الشرقية، من إنشاء منظمة المقاومين الثوريين اليمنيين، برئاسة ’’ناصر السعيد’’، وضمت المنظمة غلاة الماركسيين الذين انشقوا عن الحزب الديمقراطي الثوري اليمني، لتقوم بالأعمال المسلحة ’’لإسقاط السلطة في الشمال، واستعادة الأراضي المحتلة من قبل المملكة العربية السعودية، ومقاومة سلطة الإقطاع والبرجوازية ’’ .
كانت هذه المنظمة أول من استخدم العمل المسلح المنظم ضد السلطات المركزية والمحلية في اليمن الشمالي في منطقة (دَمت)، وعُرف عنها إسرافها في استخدام الأعمال الإرهابية ضد الأهالي والمواطنين بوجه عام، والعلماء والمشايخ القبليين، ومن يعترض أفكارها من المثقفين بوجه خاص، فقد أقدمت على تسميم آبار الشرب، واغتيال المشايخ والعلماء، وخطف عدد من المواطنين، وزرع الألغام وهدم البيوت والمنازل، وإحراق المحاصيل الزراعية، وبث الشائعات لإرعاب المواطنين، وإجبارهم على التعاون مع أعضائها، وفي مطلع السبعينيات تأسس أيضا حزب العمل اليمني كحزب ماركسي’’ جديد، وكان فرع من حزب البعث قد انشق وقطع صلته بالقيادة القومية للحزب في سوريا، وتبنى الماركسية، وأطلق على نفسه اسم’’ حزب الطليعة الشعبية’’، في خطوات متزامنة مع ما يحدث لفرع الحزب في عدن.
وفي أوائل السبعينيات أيضاً ’’بدأت بعض العناصر القيادية في التنظيمات اليسارية في حزب البعث، والحزب الديمقراطي الثوري اليمني، وحزب الشعب الديمقراطي، تطرح ضرورة الحوار لمحاولة توحيد القوى اليسارية، وقد بدأ الحوار بين تلك الفصائل عام1970م، واستمر حتى عام 1976م، كان الحوار يستهدف الوصول إلى صيغة ما للعمل الوحدوي، في محاولة للحد من نفوذ القوى التقليدية، ومن خارج فصائل اليسار انضم إلى الحوار حزب البعث العربي الاشتراكي المرتبط بالقيادة القومية بالعراق ، كان هذا الحوار يتم بالتوازي مع حوار آخر بين فصائل اليسار في الجنوب، بهدف تشكيل التنظيم السياسي الطليعي، وتقرر إقامة حوار واحد بين مختلف فصائل اليسار في اليمن كله (شماله وجنوبه)، فتم في عدن عام 1973م، وضم من الجنوب، الجبهة القومية، وحزب الطليعة الشعبية، واتحاد الشعب الديمقراطي، وضم من الشمال، الحزب الديمقراطي الثوري اليمني، وحزب الطليعة الشعبية، ومنظمة المقاتلين الثوريين اليمنيين، وحزب العمل اليمني، واتحاد الشعب الديمقراطي، إضافة إلى حزب البعث العربي الاشتراكي المرتبط بالقيادة القومية بالعراق ، وهذا الأخير لم يستمر طويلا، إذ عاد وانسحب من الجبهة الوطنية، لأنه لم يكن يرى ضرورة لاستخدام العمل المسلح ضد النظام في صنعاء.
وقد أفضى حوار الفصائل في الجنوب إلى تشكيل الجبهة القومية ـ التنظيم السياسي الموحد- في أكتوبر 1975م، كمرحلة انتقالية لقيام الحزب الطليعي الذي تندمج فيه تنظيمات اليسار الثلاثة في الجنوب، وهو ما تم بقيام الحزب الاشتراكي اليمني، في أكتوبر 1978م.
أما في الشمال فقد تواصل حوار تنظيمات الفصائل اليسارية، وكان حصيلته قيام ’’الجبهة الوطنية الديمقراطية’’ بتاريخ 11 فبراير 1976م، لتشكل غطاءاً سياسياً للتحالف الجبهوي بين تلك الفصائل، وإطاراً مفتوحاً لاستيعاب الأفراد والقوى السياسية الأخرى، فقد انضمت إليها جبهة 13يونيو الناصرية، بعد فشل الانقلاب ضد الرئيس علي عبد الله صالح في 15 أكتوبر 1979م، كما انضم إليها ـ في فترة من الفترات ـ حزب البعث (جناح العراق)، وفي كل الأحوال ظل أعضاء التنظيمات اليسارية ـ وخاصة الحزب الديمقراطي الثوري اليمني ـ هم قوة الدفع الأساسية للجبهة .
وبجانب الحفاظ على الجبهة الوطنية الديمقراطية كإطار عام، دخلت تنظيمات اليسار في شمال اليمن في حوار للانتقال إلى مرحلة متقدمة من العمل المشترك، وهي مرحلة الاندماج والتوحد، وتم الاتفاق على صيغة الاندماج، وأقر كل فصيل في مؤتمر عام تلك الصيغة، وعقد المؤتمر الموحد لكل فصائل اليسار في شمال اليمن في مارس 1979م، وبهذه الطريقة اندمج اليسار في إطار تنظيمي واحد، ووصولا إلى قيام التنظيم الطليعي اليمني الواحد في شطري اليمن تم الدمج بين الفصائل اليسارية الجنوبية المنضوية في إطار الجبهة القومية- التنظيم السياسي الموحد- وبين تنظيمات اليسار الشمالية التي تم توحيدها حديثا في إطار الجبهة الوطنية، لتشكيل كيان واحد لمختلف تيارات اليسار في اليمن، هو الحزب الاشتراكي اليمني الموحد.
وهكذا فقد أفضت التطورات إلى توحد كل تنظيمات اليسار في تنظيم سياسي واحد، يوجه كل قوته للاستيلاء على السلطة في الشمال، ومن ثم يتم توحيد اليمن على أساس من الأيديولوجية الاشتراكية.
ج ـــ غياب الاستقرار السياسي وضعف سلطة الدولة:
ظلت السمة الغالبة على شمال اليمن هي غياب الاستقرار السياسي، وضعف السلطة المركزية للدولة، فقد استمرت الحرب الأهلية بين الجمهوريين والملكيين قرابة سبع سنوات، وما كادت تنتهي حتى اندلع الصراع بين النظام السياسي والتنظيمات اليسارية، التي تبنت استراتيجية إسقاط النظام من خلال ما أطلقت عليه بالحرب الشعبية، حيث تحولت بعض المناطق في وسط وجنوب الجمهورية العربية اليمنية إلى ساحة للقتال بين المتمردين والحملات العسكرية التي كانت ترسلها السلطة في صنعاء، وإلى جانب الصراع السياسي والعسكري مع الشطر الجنوبي، فقد خاض شطرا اليمن حربين شطريتين: الأولى عام 1972، والثانية عام 1979م، واُغتِيل رئيسان للجمهورية العربية اليمنية، في فترة متقاربة، فقد قتل الرئيس إبراهيم الحمدي بتاريخ11/10/1977م، ولم يستمر خليفته الرئيس أحمد الغشمي إلا قرابة ثمانية أشهر فقط، إذ تم اغتياله بتاريخ 24/6/1978م، فضلاً عن الصراعات التقليدية بين القبائل وبعضها البعض، والقبائل والدولة، والنزاع حول السلطة بين الرئيس إبراهيم الحمدي ومشائخ القبائل، والرئيس الغشمي وأنصار الرئيس الحمدي.. وهكذا فقد كان الصراع السياسي سمةً لليمن منذ قيام الثورة، وأخذ مستوى الصراع في الصعود كلما قربنا من عام 1978م، بفعل تنامي قوة التيارات اليسارية، وهو العام الذي تولى فيه الرئيس علي عبد الله صالح السلطة.
ثانيا : التطورات السياسية والاجتماعية في جمهورية اليمن الديمقراطية (سابقا)


ثانيا : التطورات السياسية والاجتماعية في جمهورية اليمن الديمقراطية (سابقا):
واجه الاستعمار البريطاني مقاومة مستمرة من قبل المواطنين في مدينة عدن والمحميات، وتتابعت الثورات التي قامت بها القبائل، فيما تولت الأحزاب والنقابات والنوادي الثقافية الجوانب السياسية من المقاومة، بتنفيذ الإضرابات والمظاهرات ورفع مطالب الاستقلال إلى الجهات الإقليمية والدولية وغيرها من أشكال المقاومة.
كان أول تنظيم جرى تشكيله في عدن هو الجمعية الإسلامية الكبرى، التي تشكلت عام 1949م، وضمت عددا من المسلمين البارزين من مختلف الجنسيات، من بينهم محمد علي الجفري الذي أسس –فيما بعد- حزب رابطة الجنوب العربي، والشيخ محمد سالم البيحاني، الشيخ علي باحميش، الشيخ علي بازرعة، الشيخ علي إسماعيل تركي، سالم الصافي، الشيخ ياسين راجمنار، عبد الله بن صالح المحضار، وعلي غانم كليب’’ إلى جانب مؤسسها ’’محمد بن عبد الله’’ وهو محامي من أصل باكستاني، غير أن هذه الجمعية انتهت بعد وفاة مؤسسها، وتوزع أعضاؤها بين الأحزاب السياسية الأخرى، حيث تحول معظمهم إلى رابطة أبناء الجنوب العربي.
وأياً كان الدور الذي قامت به الجمعية الإسلامية الكبرى فإن تشكيلها كأول منظمة سياسية يشير إلى محورية الإسلام في مواجهة الاستعمار البريطاني، والدفاع عن الهوية العربية والإسلامية لمدينة عدن.
وفي عام 1950م شكل محمد علي الجفري رابطة أبناء الجنوب العربي، كما تأسس في يوليو1962م حزب الشعب الاشتراكي، بقيادة عبدالله الاصنج كواجهة سياسية لنقابات العمال، وتولى هذان الحزبان قيادة العمل السياسي في عدن .
(أ): وصول اليسار إلى السلطة:
تشكلت الخلية الأولى لحركة القوميين العرب في الجنوب في منطقة الشيخ عثمان بعدن أواخر عام 1959م، وتألفت أساسا من موظفين وتلامذة ومعلمين، ونشطت في البدء تحت ستار نادي ’’الشباب الثقافي ’’ في عدن، الذي استقطب طلاب المدرسة الثانوية الوحيدة للبنين في عدن، وهي كلية عدن التي كان يدرس فيها عدد من أولاد الشيوخ، وفي هذه الثانوية تم تأسيس أولى الخلايا .
ومنذ وقت مبكر، وبتخطيط من قيادة الحركة في بيروت، ومساعدة بقية الفروع في دول المشرق العربي، كان فرع الحركة في جنوب اليمن يُعِد نفسه لقيادة حرب التحرير ضد الاستعمار البريطاني واستلام السلطة من بعده، وتحقيقا لذلك عملت الحركة على التواجد التنظيمي في المناطق الريفية بين أفراد وشيوخ القبائل، إضافة إلى انتشارها في الأوساط العمالية والطلاب في عدن، فقد تمكنت من استقطاب وتنظيم عدد كبير من المغتربين اليمنيين في دول الخليج، وخاصة الكويت’’ .
وخلال الفترة 1959- 1963م لعب فرع الحركة دورا مهما على صعيد نشر الأفكار التحررية، ومارس عملا دعائيا وتعبويا كبيرا في مواجهة الاستعمار البريطاني..كما وقف ضد المشاريع الاستعمارية البريطانية، وبخاصة منها مشروع إقامة ’’اتحاد إمارات الجنوب العربي’’، حيث صدر عن الحركة كتاب في عام 1959م في عدن يفضح أهداف قيام ’’اتحاد الإمارات المزيف’’، كما صدرت فيما بعد كتب أخرى من تأليف قادة الفرع اليمني للحركة، ساهمت إلى -حد كبير- في رفع الوعي الشعبي في مواجهة الاستعمار البريطاني، هذا إلى جانب العديد من المقالات والندوات السياسية والفكرية التي نشرت أو أُعدت لهذا الغرض .
أما بعد انتصار ثورة 26 سبتمبر في شمال اليمن، فقد ساهم العشرات من أعضاء الحركة في الجنوب في الدفاع عن الثورة، ملتحقين بكتائب الحرس الوطني، ومشاركين في العمليات الحربية التي خاضتها قوى الثورة ضد فلول الملكيين.. وكان من بين المشاركين الشهيد ’’غالب لبوزة’’ الذي أطلق باستشهاده عند عودته إلى الجنوب شرارة الثورة المسلحة ضد المستعمر البريطاني، وعلى إثرها تشكلت الجبهة القومية .
حصلت الجبهة القومية على دعم كبير من حكومة الجمهورية العربية المتحدة، إلا أن العلاقات بين الطرفين أخذت في الاتجاه نحو التوتر بسبب عدم التفاهم بين الأجهزة الأمنية المصرية والجبهة، ورغبة الأخيرة في الحفاظ على استقلالها خاصة مع تنامي الميول اليسارية داخلها، وخروجها عن الخط القومي الناصري.
أدى التوتر بين الأجهزة الأمنية المصرية والجبهة القومية إلى سعي الأولى لتجميع أبرز القوى السياسية المنافسة للجبهة القومية في تكتل واحد تدعمه القاهرة، فتشكلت جبهة التحرير التي تكونت من حزب الشعب الاشتراكي ورابطة أبناء الجنوب اليمني، وعدد من السلاطين والشخصيات الاجتماعية القبلية، وذلك تحت إشراف جامعة الدول العربية، وتحوَّل الدعم الذي كانت تقدمه السلطات المصرية للجبهة القومية إلى جبهة التحرير، وبعد إعلان المستعمر البريطاني قرب رحيله، كثفت الجامعة العربية ومصر من ضغوطهما لأجل توحيد القوى السياسية في جنوب اليمن، ومارست القاهرة ضغوطاً مباشرةً على الجبهة القومية لقبول الاندماج مع جبهة التحرير، فوقعت بعض الشخصيات القيادية في الجبهة على صيغة الدمج بين التنظيمين، ولقي ذلك التوقيع رفضاً صريحاً من قِبَل القيادات البارزة في الجبهة، في المقدمة منهم ’’قحطان الشعبي’’، و’’فيصل عبد اللطيف الشعبي’’ والصف الثاني في قيادة الجبهة الذي يقود العمل المسلح في الميدان.
استغلت الجبهة القومية سحب سلطة الاحتلال للجيش من مناطق المحميات فكثفت العمل المسلح، وبشكل سريع تساقطت مناطق الداخل بيد أنصار الجبهة القومية، وربما بسبب ذلك حددت بريطانيا الجبهة القومية كجهة يمكن التفاوض معها حول عملية الانسحاب، وقد انعكس كل ذلك على علاقة الجبهة القومية بجبهة التحرير التي رفضت أن تؤول السلطة إلى الجبهة القومية، واتهمت السلطات البريطانية بالتآمر ضدها، وتطور التنافس بين الجبهتين إلى صراع مسلح في شوارع مدينة عدن حسم بتدخل الجيش الاتحادي إلى جانب الجبهة القومية، وطرد قيادات جبهة التحرير إلى شمال اليمن، وهكذا استلمت الجبهة القومية السلطة في عدن بعد خروج جيش الاحتلال البريطاني في 30 نوفمبر 1967م، وتمكنت من توحيد الإمارات والسلطنات في دولة واحدة، هي جمهورية اليمن الجنوبية.
برزت الخلافات الفكرية بين أجنحة الجبهة القومية بعد استلامها للسلطة، وإعلانها بأنها التنظيم السياسي الوحيد، وهي خلافات تعود إلى عام 1965م، عندما بدأ التمايز بين التيار اليساري الماركسي والتيار القومي، غير أن خوف الجبهة القومية آنذاك من التحلل داخل إطار جبهة التحرير أجل الخلافات بين التيارين، فقد حدث تحول داخل بعض أجهزت الحركة، من الفكر القومي إلى الفكر اليساري، ’’وبالطبع لم يكن هذا التحول معزولا عن التغيرات التي شهدتها حركة القوميين العرب مركزيا وفي عدد من الفروع بفعل ’’المناخ الثوري’’ الذي عم العديد من مناطق في العالم فيتنام، الصين، كوبا..وغيرها .
وعلى إثر وصولها إلى السلطة، برزت رغبة تيار اليسار في الهيمنة على السلطة وتطبيق رؤاه التغييرية، على غرار حركات التحرر الاشتراكية في كل من: كوبا وفيتنام ودول أوروبا الشرقية.
وكان من الواضح أن ذلك التيار كان يمثل جبهة داخل الجبهة القومية، ويُعِد نفسه لاستلام السلطة، وهو وإن كان قد أسند رئاسة الدولة إلى التيار القومي، فإن ذلك لظروف اضطرارية، ولمرحلة مؤقتة، حيث تركز وجوده في المواقع التنظيمية الحيوية في الجبهة القومية، وسيطر على فروع الجبهة في عدد من المناطق، وبخاصة فرعي الجبهة بحضرموت وعدن، وكان فرع حضرموت أول من نفذ إجراءات التأميم ومحاكمات مَن كان يطلق عليهم أعداء الثورة، والتي قامت بها اللجان الشعبية وفق ما اشتهر ’’بالتجربة الحضرمية’’، أما فرع عدن، فان وجود السلطة المركزية التي كانت بيد ما عرف باليمين القومي حد من تطرف العناصر اليسارية، ومنعها من تكرار ما حدث في حضرموت .
ازداد التنافس بين تيار اليسار الأكثر تبلورًا وتماسكًا، والتيار الآخر الذي يضم المتحفظين والرافضين للماركسية داخل الجبهة القومية من أصحاب التوجهات القومية والإسلامية، وسريعا ما تحول التنافس إلى صراع وتصادم، كانت قوة التيار القومي في الجبهة القومية تتمثل في إمساكه بالسلطة، حيث أن أغلب أعضائه احتلوا المناصب العليا في الدولة، بما فيها رئيس الدولة (قحطان الشعبي)، ورئيس مجلس الوزراء (فيصل عبد اللطيف الشعبي) وعدد كبير من الوزراء، ويلقى التأييد من الجيش الاتحادي المعارض للأفكار اليسارية، وكانت نقطة ضعف التيار القومي في أنه لا يعمل وفق رؤية، ولا يدرك مرامي وأهداف التيار الآخر، ويتعامل مع الأحداث بقدر من التردد وعدم الحسم، أما التنظيم اليساري فقد سيطر على التنظيم داخل الجبهة القومية، وتعامل مع التطورات بقدرة عالية من التكتيك والمناورة، ولعب على تناقض الطرف الآخر، وحدد خطواته في ضوء هدف واضح، هو ضرورة استلامه للسلطة، والأهم من ذلك أنه كان يستعين بقيادة متفرغة وعقل حزبي مخطط، هو ’’نايف حواتمة’’ أحد القيادات التاريخية لحركة القوميين العرب ’’الأم’’ في بيروت، والذي تبنى الخط الماركسي باللجنة التنفيذية فيها، وبقي في عدن ليقوم بـ ’’إثارة الصراع الطبقي’’، والتخطيط لوصول أنصار اليسار إلى السلطة.
اختلفت رؤية الطرفين حول عدد من القضايا، منها: إنشاء اللجان الشعبية، والموقف من الجيش والأمن، والإصلاح الزراعي، ففي حين ركن ما كان يطلق عليه التيار اليميني إلى مواقعه في قيادة الدولة، ولم يتبن أي نوع من التحالف مع قيادة الجيش والقوى الاجتماعية والقبلية.
نشط اليسار في إكمال سيطرته على تنظيم الجبهة القومية، ودخل الطرفان في تنافس تجاه المؤتمر العام الرابع، الذي عقد في زنجبار بمحافظة أبين بتاريخ (2) مارس 1968م، وهو أول مؤتمر عام تقيمه الجبهة بعد وصولها إلى السلطة، فقد تعثرت لجنة الإعداد للمؤتمر، وشكل جناح اليسار لجنة خاصة غير معلنة ضمت عناصر يسارية متطرفة، علي صالح عباد ’’مقبل’’، سلطان أحمد عمر، عبد الله الأشطل، وبحضور ورعاية نايف حواتمة، أعدت الأوراق التي قدمها جناح اليسار إلى المؤتمر، وتضمنت رؤية متطرفة لتغييرات جذرية للمجتمع والدولة في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالرغم من معارضة جناح قحطان الشعبي إلا أن وثائق المؤتمر العام ومخرجاته كانت لصالح اليسار.
أثارت تصرفات اليسار مخاوف قيادة الجيش، وشن عدد من خطبـاء المسـاجد تحذيرات من مخاطر الشيوعيين، وقام الجيش والأمن بزعامة حسين عثمان عشال بمحاولة انقلاب حيث اعتقل في صباح (20) مارس مجموعة كبيرة من الجناح اليساري بينهم ثمانية أعضاء في القيادة العامة .
بادر أنصار الرئيس قحطان الشعبي إلى التوسط وإقناع قادة الجيش بأنهم إذا عادوا إلى ثكناتهم فسيوقفون تصرفات العناصر اليسارية، وفي تلك الأثناء هرب من الحجز عدد من قادة اليسار، وانتقلوا إلى المحافظة الثالثة ’’أبين’’ ليعدوا لانتفاضة مسلحة ضد قيادة الدولة.
أدى انقلاب 20 مارس 1969م إلى تفاقم الخلاف، وبروز أزمة الثقة بين جناحي الجبهة القومية المتصارعين، ولم يكن الجناح اليساري قانعًا بالإجراءات التي اتخذها الرئيس قحطان الشعبي، وكان داخل التيار اليساري من يطالب بضرورة معاقبة قيادة الجيش ومدبري الانقلاب دون تهاون، وكان في مقدمة أصحاب هذه المطالب: الكوادر والعناصر التي توجهت إثر الانقلاب العسكري إلى المحافظة الثالثة، وقد ضاعف من حجم أزمة الثقة بين الجانبين عدم تنفيذ حكومة قحطان الشعبي لقرارات المؤتمر الرابع، وإصدارها قانون الإصلاح الزراعي على النحو الذي انتقده اليساريون .
فشل تيار اليسار في تحقيق أهدافه من خلال الانتفاضة العامة التي قادها في المحافظة الثالثة، وتبنى سياسة جديدة تقوم على احتواء النظام وتفكيكه من الداخل، وقدم لهم تمرد بعض القبائل وفشل الوحدات العسكرية التي أرسلها قحطان الشعبي للقضاء على ذلك التمرد فرصة لتحسين العلاقة مع الشعبي والعودة إلى عدن، حيث عرضوا خدمتهم لمساعدته، وتمكنوا بالعنف الشديد من إخماد التمرد القبلي، ’’ويقر عبد الفتاح إسماعيل بشكل صريح أنه منذ عودة الجناح اليساري إلى عدن، بدأوا فورًا في تنفيذ مخطط يهدف في نهاية المطاف إلى تنحية قحطان الشعبي وأنصاره عن الحكم، وانفرادهم بالسلطة، وبفضل هذه السياسة تمكن قادة اليسار من العودة إلى ممارسة مسؤولياتهم في قيادة الجبهة القومية، كما وسعوا من سيطرتهم على مختلف المنظمات الحزبية والجماهيرية، وأقاموا تحالفات حتى مع بعض الرموز اليمينية المتناقضة مع الشعبي مثل محمد علي هيثم (وزير الداخلية)، ومحمد صالح عولقي (قائد الجيش)، وضباط العوالق في الجيش الذين كانوا يمثلون الأغلبية، وذلك بالطبع إلى جانب استقطابهم لتأييد صغار الضباط والجنود.
حصر أنصار تيار اليسار في الجبهة القومية خلافاتهم مع رئيس الجمهورية قحطان الشعبي، بغرض عزله عن أنصاره، حتى إذا ما تم التخلص منه، يتم التخلص من البقية فيما بعد،.. وعندما تمكنوا من تثبيت مواقعهم أطاحوا بالرئيس قحطان الشعبي بتاريخ 22مايو 1969م، فيما يسمى بحركة 22 مايو التصحيحية، حيث أُودع ’’قحطان الشعبي’’ السجن، وتم إعدام ’’فيصل الشعبي’’ بدعوى محاولة فراره من السجن، وتم تشكيل مجلس رئاسة جديد برئاسة سالم ربيع علي (سالمين)، وعضوية عبد الفتاح إسماعيل (الذي أصبح أميناً عاماً للجبهة القومية) ومحمد علي هيثم (الذي عُين رئيسا للوزراء)، ومحمد صالح عولقي، وعلي عنتر، وقد ضم المجلس عضوين محسوبين على ما كان يطلق عليه بتيار اليمين، وهما محمد علي هيثم، ومحمد صالح عولقي، وكان هذا إجراءاً تكتيكياً، إذ سرعان ما تم إقصاؤهما، فقد قررت القيادة العامة للجبهة القومية في دورتها التي عقدتها من 27 نوفمبر إلى 8 ديسمبر 1969م، تخفيض عدد أعضاء مجلس الرئاسة إلى ثلاثة أعضاء هم: سالم ربيع علي، عبد الفتاح إسماعيل، محمد علي هيثم، وفي أغسطس 1970م تم إقالة محمد علي هيثم من كافة المناصب وتعيين علي ناصر محمد بدلاً عنه .
وبسيطرة اليسار على السلطة وإزاحة ما كان يطلق عليه التيار اليميني أو القومي، تفرغ التيار الأول لتنفيذ ما أطلق عليه ’’مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية’’ والتي تعني تطبيق الاشتراكية العلمية، من خلال تجذير التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في البلاد.
وقد مثلت هذه الفترة التي امتدت إلى أكتوبر 1978م، وهو التاريخ الذي تم فيه الإطاحة بالرئيس سالم ربيع علي، مثلت اشد المراحل الاشتراكية تطرفًا، وأكثرها تضييقًا على القوى السياسية والاجتماعية في البلاد، بل وعلى تلك الشخصيات غير الماركسية التي ناضلت لإنشاء الجبهة القومية، وخاضت الكفاح من خلالها، وهي الفترة التي تم فيها تطبيق ما يعرف بالتحولات اليسارية في الدولة والمجتمع، وكان تطبيق تلك التحولات قائماً على الإفراط في التنكيل والبطش، والمغالاة في استخدام العنف والإرهاب.
(ب) ـ التغيرات الراديكالية:
بمجرد وصول تيار اليسار المتطرف إلى السلطة، عمل على تنفيذ تحولات جذرية لإعادة بناء الدولة والمجتمع، وفق نظرية الاشتراكية العلمية، وعلى غرار التجارب المماثلة التي تم تطبيقها في عدد من الدول التي تحولت إلى النظام الاشتراكي، وخاصة كوبا وفيتنام. إذ كان جناح اليسار قد قدم بعض رؤاه في المؤتمر العام الرابع للجبهة القومية، تحت عنوان ’’برنامج استكمال مهام مرحلة التحرر الوطني’’، وهو البرنامج الذي عارضه التيار اليميني برئاسة قحطان الشعبي، وبعد استيلائه على السلطة لم يعد مقتنعاً بذلك البرنامج، وطرح برنامجاً جديداً تم إقراره في المؤتمر العام الخامس للجبهة القومية، الذي عقد في 2ـ6 مارس 1972م، وهو البرنامج الذي أطلق عليه ’’مهام مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية’’، حيث أعلن صراحةً التزام الجبهة القومية بالاشتراكية العلمية، وأن العمل الثوري تجاوز مهام التخلص من الأعداء إلى تفكيك البناء السياسي للنظام القائم وإعادة بناؤه على أسس أيديولوجية، لم تطبق بتلك الدرجة والحدة في أي دولة عربية أخرى.
وعلى ذلك شهدت تلك المرحلة إعادة صياغة المكونات السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع في جنوب اليمن، بصورة احتوت قدراً كبيراً من تجاوز الحقائق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع اليمني.
1- إعادة بناء أجهزة الدولة على طريقة النظم الاشتراكية:
مثل الموقف من مؤسسات الدولة وأجهزتها نقطة خلاف بين التيارين المتنافسين في الجبهة القومية، إذ كان التيار اليميني يرى الحاجة للحفاظ عليها مع تقويمها وتصحيح أوضاعها لتقوم بدورها، أما التيار اليساري فقد كان يرى ضرورة تحطيمها والقضاء عليها، وبناء أجهزة جديدة تتسم بالثورية، وهذه الرؤية كانت عن قناعة فكرية، ’’فعلى الثورة لكي تحافظ على مكاسبها وتستمر قدمًا أن تحطم آلة الدولة ’’الجاهزة’’ وتستعيض عنها بآلة جديدة، وتدمج البوليس والجيش والبيروقراطية في الشعب المسلح عن بكرة أبيه’’( ) وهذا ما قامت به الجبهة القومية بعد انقلاب مارس 1969م .
فقد قامت الجبهة القومية بعملية تطهير واسعة لبعض الضباط في المستويات العليا، ليس المشكوك في مساندتهم لجبهة تحرير اليمن الجنوبية وتحالف الجنوب العربي فقط، بل وأولئك الذين كان لهم دور في القرار النهائي للجيش ايضاً، ولمساندة الجبهة القومية في كل وحدة من الجيش تم تعيين ضابط سياسي، مثل النظام المتبع في الاتحاد السوفيتي، لكي يطبق وجهة النظر الحزبية، وليمارس نفوذ الحزب، وأما الالتحاق بالمعاهد والكليات العسكرية فقد كان مقصورًا على الذين تقبلهم الجبهة الوطنية فقط، كما تم تكوين فرقة عسكرية مستقلة ثابتة للحزب، ليس لها أي علاقة بالقوات المسلحة، حيث كانت مهمة هذه الفرقة العسكرية حماية التنظيم الحزبي من أي محاولة للانقلاب .
وفي هذا الإطار يمكن فهم إصرار التيار اليساري في الجبهة القومية (وهو الذي كان يقود الكفاح المسلح ميدانيًا) على إنشاء العديد من الأجهزة البديلة لقوات الجيش: تنظيمات الفدائيين، وجيش التحرير الشعبي، واللجان الشعبية العسكرية والمدنية، والحرس الشعبي، والقوات الشعبية، بعضها أُنشئ أثناء عملية الكفاح المسلح، والبعض الآخر أُنشئ بعد التحرر وهي سمة عامة للثورات التحررية الشعبية المسلحة التي سلكت طريق التوجه الاشتراكي، وتتبنى الاشتراكية، مثل كوبا وفيتنام لاوس وكمبوديا .
كما ’’عملت الثورة على تطهير أجهزة الجيش والبوليس من عناصر الثورة المضادة، إلى درجة تحطيمها، وإعادة بنائها على أساس دمجها ضمن المؤسسات العسكرية للثورة، من حرس شعبي، وجيش تحرير شعبي، وقوات شعبية، وتنظيمات فدائيين، وكانت عملية تحطيم جهاز الدولة القديم سمة تميز ثورتنا عن الثورات الوطنية التحررية في الوطن العربي التي اكتفت على حد قول لينين بنقل آلة الدولة هذه من يد حزب إلى يد حزب آخر، وهذا ما أعاق عملية التطور لهذه البلدان في الاتجاه الاشتراكي بجانب العوامل الأخرى المتعلقة بطبيعة القوى الحاكمة’’ .
اقترن تطهير الأجهزة العسكرية والأمنية للدولة، وإحلال الأجهزة التي أوجدتها الجبهة القومية في مرحلة النضال المسلح وبعد الاستقلال، اقترن بخطوة أخرى وهي الحرص على تسييس وأدلجة المؤسسات والأجهزة الجديدة، بحيث تكون المسؤولة عن تطبيق الأفكار الاشتراكية وحماية النظام الجديد، فكما يقول أحد الباحثين فقد ’’أولت ثورتنا أهمية خاصة للعمل السياسي في أجهزة الجيش والبوليس، حيث كانت تسير عملية التدريب العسكري، والتثقيف السياسي والأيديولوجي سيرًا منسجمًا مع أهداف الثورة، تحت إشراف وتوجيه التنظيم السياسي القائد آنذاك ’’الجبهة القومية’’، حيث احتل النشاط السياسي في صفوف الأجهزة الدفاعية والأمنية المرتبة الأولى من حيث الأهمية النسبية لعملية الإعداد العسكري’’ .
ويضيف ’’بأن عملية تحطيم جهاز الدولة القديم في بلادنا، وتكوين جهاز ثوري حديث على أنقاضه من أبناء الكادحين، وإعداد وتنظيم وتسليح الشعب الكادح، ودمج كل المؤسسات العسكرية، والمنظمات الجماهيرية المسلحة، وجعلها تخوض معارك الدفاع عن الثورة المهددة بخطر الثورة المضادة بصورة مشتركة كان كل ذلك يعتبر من أهم عوامل نجاح ثورتنا المحاطة بالأعداء من كل جانب’’ .
وبعد المؤتمر العام الخامس للجبهة القومية، أتخذت قرارات أخرى تعزز هذا الاتجاه منها انخراط كافة أعضاء التنظيم السياسي في الميليشيا الشعبية لتدريبهم وتسليحهم، وتعيين مدربين عسكريين في المدارس لتدريب الميليشيا الطلابية، وإبرام اتفاقية تعاون مع الحزب الشيوعي الكوبي لتدريب الميليشيا، وفتح مدارس ومعسكرات تدريب الميليشيا في جميع المحافظات، وذلك لإعداد وتدريب الميليشيا، وتشكيل المحاكم الشعبية لمحاكمة الخونة، وتشكيل مجالس الدفاع الوطني في جميع أرجاء البلاد، ابتداءً بالمجلس الوطني للمركز كأصغر وحدة إدارية، وانتهاء بمجلس الدفاع الوطني الأعلى في الجمهورية .
وإلى جانب الميليشيا الشعبية تم إنشاء منظمة لجان الدفاع الشعبي التي تعتبر أكبر منظمة جماهيرية في البلاد وتضم معظم جماهير الشعب وتقوم بتأدية مهام دفاعية متعددة، أهمها: (إخماد) الحرائق، والرقابة على المنشآت والمواقع الحيوية، وتنظيم الاحتفالات في المناسبات العامة والأعياد الوطنية، ومساعدة الأجهزة الشرطوية والقضائية والإدارية في حل القضايا الاجتماعية اليومية، وفي تنفيذ البرنامج الثقافي من خلال نشر الوعي الثقافي والأمني والصحي بين المواطنين، والقيام بعملية الإخطار الاجتماعي، وغيرها من المهام .

2ـــ التحولات الفكرية والثقافية:
أولت القيادة اليسارية في الجبهة القومية اهتمامًا خاصًا لطبيعة التحولات الثقافية والفكرية والاجتماعية المراد إحداثها في مجتمع اليمن الجنوبي، بعد إقصاء الشخصيات والقوى السياسية الأخرى ’’القومية، والوطنية، والإسلامية’’، فقد كان البُعد الأيديولوجي والفكري هو الميدان الحقيقي للتغيير، على اعتبار أن الاشتراكية هي عقيدة وأيديولوجية قبل أي شيء آخر.
وقد كانت الجبهة القومية هي الهدف الأول للتيار اليساري، لأن الانفراد بها، يضمن تحويلها إلى أداة لبناء دولة اشتراكية.
بعد سيطرة اليسار على السلطة والجبهة القومية، تم إقصاء الشخصيات التي لا تؤمن بالأفكار الاشتراكية أو تتردد في الإيمان بها، وتم تحويل الجبهة القومية إلى أداة رئيسية في تنفيذ تلك الأفـكار في الواقع العملي .
والحقيقة أن كل الإجراءات التنفيذية الجذرية التي قامت بها الجبهة القومية في الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية تنطلق من أرضية فكرية وأيديولوجية، فقد كان الهدف العام هو تطبيق الفكر الاشتراكي، وبناء دولة ومجتمع على ضوئه، ولهذا كانت الأبعاد الفكرية والثقافية على درجة عالية من الأهمية، خاصة وأن مطالب التغيير لم تكن بسيطة ولا عَرَضية بقدر ما كانت جذرية وكلية.
تنوعت الآليات والإجراءات التي تم بها إحداث التغير الفكري، من تشريعات وأدوات قانونية، إلى مؤسسات وأجهزة تتبني عملية التغيير، إلى استخدام القوة والقمع في فرض الفكر الجديد، فقد أصدرت الجبهة القومية دستوراً صادقت عليه قيادتها العامة في 30 نوفمبر 1970م، أعلن بوضوح تبني الدولة للاشتراكية العلمية، وسعيها لتطبيقها في الواقع، وألغى العبارة المشهورة بأن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة.
ومن الجوانب الرمزية ذات الدلالة، أعلن سالم ربيع علي، في أول ديسمبر 1970م، أن اسم الدولة سيتغير إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وهو الاسم التقليدي للدول التابعة للاتحاد السوفيتي .
وكما أوضح أحد الباحثين المنتمين إلى الجبهة القومية في تلك الفترة ’’إن الثورة في بلادنا تدرك أهمية نشر وترسيخ منهجها الأيديولوجي بين الجماهير الكادحة من جهة والعمل على دحر الأيدولوجيا والأفكار الرجعية المعادية من جهة أخرى، وهذا لن يتأتى إلا من خلال ’’تحرير الجماهير من تأثير الفكر الرجعي’’ .
ويضيف: ’’ولهذا فقد اتخذت الثورة في بلادنا جملة من الإجراءات الثورية الصائبة على الصعيدين الأيديولوجي والثقافي، تمثلت بفتح المراكز الثقافية في جميع أنحاء البلاد، وخصوصًا بالأرياف، حيث لعبت تلك المراكز دورًا هامًا في تنوير الجماهير الكادحة بالأفكار الثورية، وعملت على محو أميتها الأبجدية والسياسية، وكان فتح المدرسة الحزبية المركزية للعلوم الاجتماعية في العاصمة عدن، وفتحت لها فروع في بقية المحافظات، وذلك بهدف تحصين كادرات الحزب تحصينًا أيديولوجيًا، ورفع مستوى معارفهم النظرية، حيث تخرج المئات من هذه المدارس، إلى جانب الذين تخرجوا من مدارس ومعاهد الاتحاد السوفيتي، وبقية مدارس النظرية الاشتراكية، ويلعب الخريجون الذين استوعبوا الفكر الماركسي اللينيني دورًا هامًا في عملية تعزيز وترسيخ منهج الثورة الأيديولوجي، ومحاربة الأعداء الأيديولوجيين الرجعيين، باعتبار أن واجب الثوريين كما بين ذلك ’’لينين’’ ليس التغلب على مقاومة الرأسماليين والعسكريين والسياسيين فقط، ولكن على الأيديولوجيين الأعمق والأقوى .
وقد كرست إدارة التنشئة العامة التي كانت تملكها الدولة والحزب لإحداث التغييرات الفكرية والثقافية المطلوبة، ’’ففي جانب التعليم، عملت الثورة على تغيير المناهج التعليمية السابقة منذ العام الدراسي 70/1971م، وإعداد مناهج مدرسية وطنية للتدريس في جميع مراحل التعليم العام، بما يتفق ونهج الثورة الأيديولوجي الماركسي’’ .
وفي التعليم الجامعي كان الطلاب ملزمين بمواد تدرس الأفكار الماركسية فقد كان طلاب السنة الأولى، يدرسون مادة ’’المادية الجدلية’’ أو ’’المادية التاريخية’’، ويدرس طلاب السنة الثانية ’’الاقتصاد السياسي الماركسي’’، ويدرس طلاب السنة الثالثة ’’الاشتراكية العلمية’’، إلى جانب أن الكراسات الأخرى محورة وبنيت على النظرية والتصور الماركسي وكانت الثقافة العامة في الشعر والأدب والقصة، والنثر وحتى الزوامل الشعبية مصبوغة بالصبغة الاشتراكية’’ . وقد وظف الإعلام بوسائله المختلفة، والمدارس، والتعبئة السياسية داخل المعسكرات وفي المدارس الحزبية، لتلقين الأفكار الاشتراكية ونشرها بين المواطنين.
كما أن الأجهزة التي أنشئت، مثل: ’’الاتحاد العام للعمال، والاتحاد النسائي اليمني، واتحاد الطلبة، وتنظيمات الشباب المنتشرة في القرى، ولجان الفلاحين في التعاونيات والمزارع الحكومية، ولجان الدفاع الشعبي، كانت كلها أدوات للتعبئة الشعبية والسيطرة وتلقين المبادئ، كما بذلت مجهودات كبيرة لنشر التعليم وتلقين الأفكار الاشتراكية في جميع أنحاء البلاد، وتم إنشاء مدرسة أيديولوجية خاصة في عدن لتدريب العاملين في الحزب’’ .
3ـــ التحولات الاقتصادية:
بعد مرور خمسة أشهر على قيام ما أطلق عليه بالحركة التصحيحية، باشرت حكومة اليسار بأجراء تحولات عميقة في الحقل الاقتصادي، فقد صدر في 27 نوفمبر 1967م القانون رقم (37) حول ’’المؤسسة الاقتصادية للقطاع العام والتخطيط الوطني، والذي بموجبه تم تأميم جميع البنوك، وكافة شركات التأمين الأجنبية، والشركات التجارية الأجنبية الكبرى، ووكالات تسويق منتجات النفط، وشركات خدمة السفن البحرية، حيث نقلت تلك الشركات إلى إشراف الدولة بشخص المؤسسة الاقتصادية للقطاع العام’’ .
وتم تنفيذ القانون بصورة غريبة، فلم تتول الأجهزة الإدارية في الدولة تطبيق هذا القانون، وإنما من خلال تشجيع الانتفاضات الفلاحية في أنحاء الريف باليمن الجنوبي، ويضيف مسؤول في الجبهة القومية كيفية مساعدة الفلاحين على الانتفاض بقوله: ’’لقد أفهمنا الفلاحين أن مستغليهم لن يتغيروا إطلاقًا وعليهم أن يتصرفوا، فأخذوا سكاكينهم ومناجلهم وألقوا القبض فورًا على الشيوخ والسادة وغيرهم من الإقطاعيين وهكذا قبضوا على 82 شخصًا، وقد ذهل الأهالي فقد كانوا يظنون أنه لا أحد يجرؤ على مس هؤلاء الأشخاص، وأن من يرفع يده في وجوههم سيقتل على الفور، وعندما رأوا أسيادهم السابقين ظلوا في السجن وأن المدينة لم تصب بكارثة، حلت عقدة كل الألسن، وانضم بقية الفلاحين إلى جمعيات للدفاع عن الفلاحين في المحافظة، وكان من المهم أن يسوق الفلاحون بأنفسهم المالكين والإقطاعيين إلى السجن، وكان بعض الفلاحين مسلحين ولكننا لم نوزع السلاح لأننا كنا نخشى وقوع مذبحة’’ .
وهكذا تم إعداد الفلاحين سياسيًا وتنظيميًا، حيث شكلت اللجان الفلاحية من بين صفوفهم، وانتزعوا الأرض من مستغليهم، تحت إشراف وتوجيه ودعم التنظيم السياسي للجبهة القومية، وحكومة الثورة، الأمر الذي أكسبهم وعيًا طبقيًا، وعزز من مواقفهم النضالية عبر نضالهم الشاق ضد الإقطاع وشبه الإقطاع الذين قاوموا الإجراءات الثورية .
كما صدر قانون الإسكان رقم (32) لسنة 1972م، والذي تم تنفيذه بنفس الكيفية، حيث لم تكن إجراءات التأميم ذات طابع إداري تنفذها أجهزة الدولة، بل كانت انتفاضات جماهيرية تحت إشراف التنظيم السياسي للجبهة القومية، حيث شكلت لجان الحراسة والرقابة الشعبية والمجالس الإدارية بين أوساط العمال، ولعبت النقابات العمالية دورًا بارزًا في تنظيم مظاهرات التأييد لإجراءات التأميم الثورية .

4ـــ التحولات الاجتماعية:
طالت التحولات التي قامت بها الجبهة القومية في طورها اليساري الجانب الاجتماعي في جنوب اليمن، حيث استهدفت تفكيك البناء الاجتماعي السابق والذي كان قائماً على الأساس التقليدي العشائري والقبلي، وتدمير العلاقات والتراتيب الاجتماعية السابقة، وبناء مجتمع جديد من حيث بناؤه الهيكلي وطبيعة العلاقات السائدة، وقد كان المدخل إلى ذلك تأميم الشركات والعقارات والمساكن والمواشي والآلات الزراعية ووسائل المواصلات وغيرها من الممتلكات التجارية والعقارية، وإعادة توزيعها على شرائح اجتماعية أخرى.
وكان من الواضح أن الأبعاد الاجتماعية غير غائبة في عملية التأميم، حيث كان يتم تثوير المواطنين والفلاحين والعمال ضد أصحاب الممتلكات تحت شعار ’’التثوير الطبقي’’.
ومن المشاكل البارزة التي واجهت الجبهة القومية، الانقسامات القبلية، وقد اتخذت الجبهة القومية العديد من الإجراءات التي بدأتها أثناء عملية الكفاح المسلح، مثل الحرص على أن يكون قادة التشكيلات التنظيمية في المناطق القبلية من خارج تلك المناطق، وإعادة تقسيم المحافظات وترقيمها، وإلغاء الألقاب وأسماء العائلات، وإغلاق النوادي التي تحمل أسماء المناطق والقبائل، واستخدام العنف شديد الإفراط لقمع القبائل ومنع مقاومتها، إضافة إلى الأدوات التشريعية والقانونية والإعلامية، ووسائل التنشئة العامة .
5ـــ التحولات في السياسة الخارجية:
تعاملت حكومة الجبهة القومية مع السياسة الخارجية بنفس الرؤية والطريقة التي تعامت بها مع السياسات الداخلية، حيث جعلت من جنوب اليمن مركزًا لنشر الثورة في دول الخليج، فبعد حركة يونيو 1969م، حاولت النخبة الحاكمة الجديدة، أن تجعل من عدن مركزًا لمد الثورة إلى كل الجزيرة العربية، خاصة إمارات الخليج العربي، بما فيها من وجود أجنبي، وسلطنة عمان ومسقط التي نُظر إليها باعتبارها رمزًا للتخلف والاستغلال المرفوض، وكذلك النظر إلى السعودية باعتبارها معقلاً للاتجاهات الرجعية في المنطقة العربية، وحليفًا طبيعيًا للإمبريالية الأمريكية، وارتبط ذلك بالتقسيم الثلاثي للعالم الذي أخذت به الجبهة القومية في علاقاتها الخارجية: (الدول الاشتراكية التي يتم الارتباط بها سياسيًا واقتصاديًا، البلدان الصديقة غير ذات الطابع الاستعماري ’’الكويت، السودان، لبنان، باكستان، فرنسا، والدول ذات الاتجاهات الرأسمالية الاستعمارية)، وهذا التقسيم جعل كافة الكيانات السياسية في الجزيرة العربية في قائمة الدول ذات الاتجاهات الاستعمارية والرأسمالية والتي لوسائل الإعلام اليمنية حرية نقدها والهجوم عليها.
أدت هذه النظرة من قِبل عدن للجزيرة العربية، إلى المشاركة في إحياء وتكوين المنظمات الثورية، سواء في مواجهة الوجود البريطاني في الإمارات، أم في مواجهة حكم السلطان سعيد بن تيمور في سلطنة مسقط وعُمان، ذات الحدود الطويلة مع اليمن الديمقراطية، وأبرز هذه المنظمات التي ساعدتها اليمن الديمقراطية ’’جبهة تحرير عُمان والجنوب المحتل، وهي الجبهة التي علقت عليها عدن أملاً كبيرًا في نشر الثورة في ربوع الجزيرة العربية، على النمط ذاته الذي عرفه جنوب اليمن على يد الجبهة القومية’’ .
فقد كانت الأيديولوجية الاشتراكية هي التي تضبط السياسة الخارجية لنظام الجبهة القومية في جنوب اليمن، حيث كانت عدن تنظر إلى نفسها على أنها جبهة متقدمة للوجود السوفيتي في المنطقة، وأداة من الأدوات الروسية في الحرب الباردة... وهكذا كانت الأولوية في تحديد المواقف من المتغيرات الدولية هي درجة تأثيرها على الفكر الاشتراكي ومصالح الدول الاشتراكية، حتى لو تعارض ذلك مع المصالح الإسلامية والقومية... وفي هذا الإطار يمكن فهم تأييد نظام جمهورية اليمن الديمقراطية لإثيوبيا في حربها ضد الصومال الإسلامية حول منطقة أوجادين، وكذلك دعمهم للدولة الإثيوبية ضد ثوار إريتريا الذين بعضهم من المسلمين، وتأييد الاتحاد السوفيتي في غزوه شعب أفغانستان المسلم عام 1979م، وبالرؤية العقدية نفسها، دعمت حكومة الجبهة القومية، الجبهة الوطنية الديمقراطية التي كان هدفها إقامة سلطة ماركسية في الشمال، تمهيداً لتوحيد اليمن على أساس من الأيدلوجية الاشتراكية
*لقراءة الحلقة الأولى
http://wefaqdev.net/index.php?page=pens&type_page=2&num_item=7&ar_no=1103
أضافة تعليق