صور من فقه الأسباب [3]
د. عبد الكريم بكار
ما زلنا نحاول اكتشاف الأسباب الكامنة خلف بعض الظواهر الأخلاقية والسلوكية والحضارية، وذلك لأن فهم أسباب أي ظاهرة على نحو جيد يشكِّل الخطوة الأولى على طريق التعامل معها، وأودّ أن أتحدث اليوم عن بعض الظواهر المتعلقة بالمرأة مع محاولة الوقوف على أسبابها، وهي في الحقيقة كثيرة، أعرض هنا لشيء منها:
1. يُلاحِظ المرء كثرة الدراسات التي تتحدث عن أسباب الطلاق، كما يلاحظ أن كثيراً من تلك الدراسات يشير إلى أن (صمت الرجل) وقلة كلامه مع زوجته من بين الأسباب التي تساهم في تفكيك الحياة الزوجية، وهذا ملموس ومشاهد بقوة. هناك إحصائية تقول: إن الرجل ينطق –وسطياً- بنحو ثمانية آلاف كلمة في اليوم، على حين أن المرأة تنطق بنحو ثلاثة عشر ألف كلمة –في اليوم-، ولهذا فإن طاقتها الكلامية تتبدّد سدى إذا لم يوجد الرجل الذي يستمع إليها، ويتفاعل مع كلامها، ويعزيها بالمزيد من الكلام! أضف إلى هذا فإن كون معظم النساء هنَّ ربات بيوت، ومعظم الرجال يعملون خارج المنزل، فإن المرأة ترى فيما يحدّثها به الرجل عن عمله وعما رآه وسمعه خارج المنزل –ترى في ذلك نافذة مهمة على العالم الخارجي-، وعلى الرجل أن يترك تلك النافذة دائماً مفتوحة. المرأة أيضاً تخاف من صمت الرجل؛ فهي تخشى أن يكون صمته بسبب شروده عنها وانصراف اهتمامه إلى غيرها، وبالمناسبة فإن الزوجة تعدّ كل امرأة في الدنيا منافسة لها! والمرأة تحمل بين جوانحها الكثير من النبل والشفقة على زوجها، وحين تراه صامتاً فإنها كثيراً ما تفسِّر صمته بهمٍّ استولى عليه بسبب متاعب في عمله أو كساد في تجارته. ويمكن أن نضيف إلى كل ذلك شيئاً مهماً، وهو أن المرأة تستمتع بكلام الرجل، وقد أثبتت التجربة أن كثيراً من الفتيات وقعن في شباك بعض الشباب المنحرفين بسبب قدرتهم على إسماعهن الكلام المعسول.. الدرس الذي يجب أن نخرج به هو أن على الرجل أن يدبِّر نفسه، ويحاول أن يكون مستعداً للتحدث في الكثير من الموضوعات، وإن كانت تلك الموضوعات غير مهمة بالنسبة إليه، فهي مهمة بالنسبة إلى زوجته.
2. يُلاحظ أن الناس كلما درجوا في سُلَّم الحضارة وترسّخت أقدامهم في الحياة المتمدنة ازداد نفوذ المرأة، وازداد تأثيرها في الحياة العامة، وهذا ملموس إلى درجة يصح معها القول: إن روح الحضارة (أنثى) ، وهكذا فنفوذ المرأة في المدينة بوصفها مركزاً حضارياً يقوي من نفوذها في القرية، ونفوذها في القرية أقوى من نفوذها في البادية. وقد جرت عادة أهل البادية باتهام أهل المدينة بضعف الشخصية والتبعية لنسائهم والخوف منهن، والأمر ليس كذلك، فلو أن مائة شخص من أهل البادية سكنوا في حي فاخر من أحياء إحدى العواصم لصار موقفهم من نسائهم بعد عشرين سنة لا يختلف عن موقف أهل المدن. إذا تساءلنا: لماذا كان نفوذ المرأة في المدينة أقوى فإن الجواب قد يكون في أن الناس إذا استوطنوا المدن تذوقوا طعم الرفاهية، وصارت جزءاً من مكتسباتهم التي يصعب عليهم التنازل عنها، والمرأة بالنسبة إلى الرجل من جملة الأشياء التي يترفّه بها، لكن من طبيعة المرأة أنك لا تستطيع أن تترفه بها إلاّ إذا رفَّهتها، ومن هنا نقول: إن زواج النبي –صلى الله عليه وسلم- بذلك العدد من النساء لم يكن من أجل الرفاهية، و إنما لأسباب أخرى، والدليل على ذلك أنه لم يقم بترفيههن، وحين طلبن التوسع في النفقة خيَّرهن –صلى الله عليه وسلم- بين الطلاق وبين الصبر معه على الحالة المعهودة. الترفّه بالمرأة إذن يتطلب ترفيهها، وإن تنفيذ طلباتها وتحقيق رغباتها هو جزء من ترفيهها. ونلاحظ في هذا السياق أن تعدد الزوجات في المدن أقل من القرى، وأقل من البادية، وذلك بسبب قوة نفوذ المرأة في المدينة، وهذه الملاحظة لها شذوذات مؤقتة، تُلاحظ في المراحل الانتقالية من حياة الأمم، ومع أن الله –تعالى- شرع التعدد لحكم بالغة وفوائد ملموسة، إلاّ أن تنامي نفوذ المرأة في المدن قد أدّى إلى إنشاء غزو اجتماعي قاسٍ جداً في الكثير من البلدان اتجاه من يتزوج زوجة ثانية أو ثالثة، بل إن الناس في بعض البلدان الإسلامية قد تنشأ بينهم وبين المعدِّد جفوة لا تنشأ بينهم وبين الزاني، وهذا شيء غير مفهوم ولا مقبول!
وإلى جانب مسألة التعدد وارتباطها برفاهية المرأة ونفوذها هناك مسألة الإنجاب، فنحن نشاهد كذلك أن حجم الأسر في المدن يتجه إلى التقلص شيئاً فشيئاً، وكلما أمعن الناس في التحضر قلّ عدد الأطفال في أسرهم، وهذا مرتبط أيضاً بتذوق طعم الرفاهية؛ فكثرة الأولاد تشكل عبئاً على المرأة، وتتطلب منها الكثير من التعب والجهد، كما أن الناس في المدن لا يرون المسوّغات التي يراها أهل البادية لكثرة النسل، وهذا أدى إلى مشكلة خطيرة، وهي تَعَمُّق الفوارق الطبيعية؛ إذ تجد من هو قادر على التربية والتعليم والإنفاق ممسكاً عن الإنجاب، وترى كثرة الأولاد عند من لا يجد قوت يومه، والله المستعان على كل حال.
وللحديث صلة.
.نوافذ
د. عبد الكريم بكار
ما زلنا نحاول اكتشاف الأسباب الكامنة خلف بعض الظواهر الأخلاقية والسلوكية والحضارية، وذلك لأن فهم أسباب أي ظاهرة على نحو جيد يشكِّل الخطوة الأولى على طريق التعامل معها، وأودّ أن أتحدث اليوم عن بعض الظواهر المتعلقة بالمرأة مع محاولة الوقوف على أسبابها، وهي في الحقيقة كثيرة، أعرض هنا لشيء منها:
1. يُلاحِظ المرء كثرة الدراسات التي تتحدث عن أسباب الطلاق، كما يلاحظ أن كثيراً من تلك الدراسات يشير إلى أن (صمت الرجل) وقلة كلامه مع زوجته من بين الأسباب التي تساهم في تفكيك الحياة الزوجية، وهذا ملموس ومشاهد بقوة. هناك إحصائية تقول: إن الرجل ينطق –وسطياً- بنحو ثمانية آلاف كلمة في اليوم، على حين أن المرأة تنطق بنحو ثلاثة عشر ألف كلمة –في اليوم-، ولهذا فإن طاقتها الكلامية تتبدّد سدى إذا لم يوجد الرجل الذي يستمع إليها، ويتفاعل مع كلامها، ويعزيها بالمزيد من الكلام! أضف إلى هذا فإن كون معظم النساء هنَّ ربات بيوت، ومعظم الرجال يعملون خارج المنزل، فإن المرأة ترى فيما يحدّثها به الرجل عن عمله وعما رآه وسمعه خارج المنزل –ترى في ذلك نافذة مهمة على العالم الخارجي-، وعلى الرجل أن يترك تلك النافذة دائماً مفتوحة. المرأة أيضاً تخاف من صمت الرجل؛ فهي تخشى أن يكون صمته بسبب شروده عنها وانصراف اهتمامه إلى غيرها، وبالمناسبة فإن الزوجة تعدّ كل امرأة في الدنيا منافسة لها! والمرأة تحمل بين جوانحها الكثير من النبل والشفقة على زوجها، وحين تراه صامتاً فإنها كثيراً ما تفسِّر صمته بهمٍّ استولى عليه بسبب متاعب في عمله أو كساد في تجارته. ويمكن أن نضيف إلى كل ذلك شيئاً مهماً، وهو أن المرأة تستمتع بكلام الرجل، وقد أثبتت التجربة أن كثيراً من الفتيات وقعن في شباك بعض الشباب المنحرفين بسبب قدرتهم على إسماعهن الكلام المعسول.. الدرس الذي يجب أن نخرج به هو أن على الرجل أن يدبِّر نفسه، ويحاول أن يكون مستعداً للتحدث في الكثير من الموضوعات، وإن كانت تلك الموضوعات غير مهمة بالنسبة إليه، فهي مهمة بالنسبة إلى زوجته.
2. يُلاحظ أن الناس كلما درجوا في سُلَّم الحضارة وترسّخت أقدامهم في الحياة المتمدنة ازداد نفوذ المرأة، وازداد تأثيرها في الحياة العامة، وهذا ملموس إلى درجة يصح معها القول: إن روح الحضارة (أنثى) ، وهكذا فنفوذ المرأة في المدينة بوصفها مركزاً حضارياً يقوي من نفوذها في القرية، ونفوذها في القرية أقوى من نفوذها في البادية. وقد جرت عادة أهل البادية باتهام أهل المدينة بضعف الشخصية والتبعية لنسائهم والخوف منهن، والأمر ليس كذلك، فلو أن مائة شخص من أهل البادية سكنوا في حي فاخر من أحياء إحدى العواصم لصار موقفهم من نسائهم بعد عشرين سنة لا يختلف عن موقف أهل المدن. إذا تساءلنا: لماذا كان نفوذ المرأة في المدينة أقوى فإن الجواب قد يكون في أن الناس إذا استوطنوا المدن تذوقوا طعم الرفاهية، وصارت جزءاً من مكتسباتهم التي يصعب عليهم التنازل عنها، والمرأة بالنسبة إلى الرجل من جملة الأشياء التي يترفّه بها، لكن من طبيعة المرأة أنك لا تستطيع أن تترفه بها إلاّ إذا رفَّهتها، ومن هنا نقول: إن زواج النبي –صلى الله عليه وسلم- بذلك العدد من النساء لم يكن من أجل الرفاهية، و إنما لأسباب أخرى، والدليل على ذلك أنه لم يقم بترفيههن، وحين طلبن التوسع في النفقة خيَّرهن –صلى الله عليه وسلم- بين الطلاق وبين الصبر معه على الحالة المعهودة. الترفّه بالمرأة إذن يتطلب ترفيهها، وإن تنفيذ طلباتها وتحقيق رغباتها هو جزء من ترفيهها. ونلاحظ في هذا السياق أن تعدد الزوجات في المدن أقل من القرى، وأقل من البادية، وذلك بسبب قوة نفوذ المرأة في المدينة، وهذه الملاحظة لها شذوذات مؤقتة، تُلاحظ في المراحل الانتقالية من حياة الأمم، ومع أن الله –تعالى- شرع التعدد لحكم بالغة وفوائد ملموسة، إلاّ أن تنامي نفوذ المرأة في المدن قد أدّى إلى إنشاء غزو اجتماعي قاسٍ جداً في الكثير من البلدان اتجاه من يتزوج زوجة ثانية أو ثالثة، بل إن الناس في بعض البلدان الإسلامية قد تنشأ بينهم وبين المعدِّد جفوة لا تنشأ بينهم وبين الزاني، وهذا شيء غير مفهوم ولا مقبول!
وإلى جانب مسألة التعدد وارتباطها برفاهية المرأة ونفوذها هناك مسألة الإنجاب، فنحن نشاهد كذلك أن حجم الأسر في المدن يتجه إلى التقلص شيئاً فشيئاً، وكلما أمعن الناس في التحضر قلّ عدد الأطفال في أسرهم، وهذا مرتبط أيضاً بتذوق طعم الرفاهية؛ فكثرة الأولاد تشكل عبئاً على المرأة، وتتطلب منها الكثير من التعب والجهد، كما أن الناس في المدن لا يرون المسوّغات التي يراها أهل البادية لكثرة النسل، وهذا أدى إلى مشكلة خطيرة، وهي تَعَمُّق الفوارق الطبيعية؛ إذ تجد من هو قادر على التربية والتعليم والإنفاق ممسكاً عن الإنجاب، وترى كثرة الأولاد عند من لا يجد قوت يومه، والله المستعان على كل حال.
وللحديث صلة.
.نوافذ