07 محرم 1434 الموافق 21 نوفمبر 2012
د. عبد الكريم بكار
دخلت الثّورة السّوريّة في شهرها العشرين، وخلال هذه المدّة الطّويلة والمملوءة بالدّم والهدم كما أنّها مملوءة بالبطولات والأمجاد، أقول: خلال هذه المدّة حدثت تغيّرات كثيرة في النّفوس والقلوب والعقول، ولا بدّ لنا من التّوقّف عندها وبكامل وعينا حتى نتأكّد من أنّنا مازلنا نسير في الطّريق الصّحيح:
1- العمل الميدانيّ العسكريّ والإغاثيّ في الدّاخل ضخم جدًّا، وقد بُذلت جهود كبيرة لتنظيمه والارتقاء به، لكن يُلاحظ أنّ حلقات الارتباط بين المدنيّين والعسكريّين والكتائب المقاتلة ليست قويّة بالقدر الكافي.
- التّجربة العالميّة ـ ومنها التّجربة الإسلاميّة بالطّبع ـ تقول إنّه في حالة الثّورات المسلحة ينبغي أن تكون القيادة العامّة للمدنيّين المنظّمين تنظيمًا عاليًا، والقادرين على فهم متطلّبات انتصار الثّورة، والقادرين على فهم الوضعيّة العالميّة والإقليميّة السّائدة من أجل توفير تلك المتطلّبات. في الثّورة السّوريّة حدث هذا في الخارج من خلال المجلس الوطنيّ في الماضي، ويحدث اليوم من خلال الائتلاف الوطنيّ، أمّا في الدّاخل فقد تمكّن أنصار الثّورة المجيدة من تشكيل بعض المجالس المحليّة، وبعضها استطاع فعلاً بسط سلطته على المحافظة التي يديرها، ووضع فعلاً المسلّحون أنفسهم تحت إمرة القائمين على تلك المجالس، لكن هذا لم يحدث في جميع المناطق، ويمكن أن ينتج عنه شرٌّعظيم. إنّ التّجربة تقول: إنّه لا ينبغي إعطاء المال لقادة الألوية والكتائب؛ لأنّ المال مع السّلاح قد يحوَّلان بعض النّاس إلى زعماء حرب ينسون أهداف الثّورة، وكونهم في الأساس جنودًا في سبيل تحقيقها، ويتصرّفون على أنّهم أصحاب قدرة ونفوذ وسلطان، ولهذا فليس أمام من في مناطقهم سوى الخضوع لهم. هذا حصل في سورية، في أماكن محدودة، وإذا لم يتمّ تداركه فقد يستشري، ويصبح مشكلة كبرى. وممّا يؤسفني قوله: إنّ الدّاعمين من الخارج ساهموا في هذا إسهامًا كبيرًا! كلّي أمل أن تساهم مساعي قيادة الائتلاف في تشكيل مجلس عسكريّ أعلى في التّخفيف من هذه الظّاهرة.
2- الذين يحملون السّلاح في سورية هم الذين يحملون القسط الأكبر من أعباء الثّورة، وليس بعد تعريض النّفس للمخاطر المحدقة من شيء يمكن أن يقدّمه أيّ إنسان، لكن يُلاحظ أنّ بعض العسكريّين والمسلحين لم يقتصروا على بذل الجهد العسكريّ، وإنّما صاروا يتحدّثون عن مستقبل الدّولة، وهم يتحدّثون عن شكل دولة معيّن مستعدّين للقتال من أجله! هذا يشكّل مأزقًا حقيقيًّا للثّورة، وذلك لأنّ الخبرة تعلّمنا أنّ التّفكير في شكل الدّولة و منطلقاتها قبل تحقيق النّصر يكون عامل شرذمة وانقسام، بل قد يدفع في اتّجاه الاقتتال بين الثّوار أنفسهم، وهذا هو أسوأ ما يمكن تخيّله.
أنا أعرف أنّ السّوريّين سيختلفون اختلافًا واسعًا حول العديد من موادّ الدّستور ـ كما حدث في بلدان الرّبيع العربيّ ـ لكن هناك فرق بين الخلاف قبل سقوط النّظام والخلاف بعد سقوطه. حين يسقط النّظام وتتشكّل حكومة انتقاليّة، فإنّ الخلاف يمكن أن يكون فكريًّا وثقافيًّا؛ إذ يتمّ الاحتكام في حلّه إلى وسائل غير عنيفة، وليس الشّأن كذلك في مرحلة ما قبل سقوط النّظام.
3- في اعتقادي أنّ الائتلاف الذي تمّ تشكيله مؤخّرًا قد تمكّن من توضيح أهمّ الخطوط الحمراء في نظر الثّوار خاصّة والشّعب السّوريّ عامّة، ومنها:
- لا مفاوضات ولا حوار مع النّظام، وتمّ تجاهل الحديث عن التّفاوض مع بعض أركان النّظام على نقْل السّلطة.
- لا شأن للائتلاف بالدّستور الدّائم للبلاد؛ فهذا من شأن مؤتمر الحوار الوطنيّ الذي يتمّ تشكيله بعد سقوط النّظام، وقد كان هذا سيّئًا جدًا؛ إذ إنّه لا يصحّ وضع (مبادئ ما فوق دستوريّة) لأيّ دستور قادم؛ فالشّعب السّوريّ هو وحده الذي يقرّر ذلك عبر هيئاته المنتخبة.
- ليس هناك بديل عن إسقاط النّظام بكلّ رموزه وأركانه وتفكيك أجهزته العسكريّة والأمنيّة، ومحاسبة المسؤولين عن سفك الدّماء. هذا هو الحدّ الأدنى للتّعامل مع نظام قتل العباد وخرّب البلاد، وإذا كان الأمر كذلك فإنّ على الثّوّار بجميع أطيافهم أن يقدّموا الدّعم الأدبيّ والمعنويّ للائتلاف الوليد، وأن يكفّوا عن التّشكيك فيه؛ فالمسلم لا يبني موافقة على الشّكوك والشّائعات والنّوايا، وإنّما على الواضح والمكتوب والمعلن.
- الثّورة السّوريّة قريبة من تحقيق إنجاز تاريخي بحول الله، وعلينا أن ندرك أنّ الانتصار على الأهواء والرّغبات والأنانيّات لا يقلّ بحال من الأحوال عن النّصر على النّظام المجرم والفاسد.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
*الإسلام اليوم
د. عبد الكريم بكار
دخلت الثّورة السّوريّة في شهرها العشرين، وخلال هذه المدّة الطّويلة والمملوءة بالدّم والهدم كما أنّها مملوءة بالبطولات والأمجاد، أقول: خلال هذه المدّة حدثت تغيّرات كثيرة في النّفوس والقلوب والعقول، ولا بدّ لنا من التّوقّف عندها وبكامل وعينا حتى نتأكّد من أنّنا مازلنا نسير في الطّريق الصّحيح:
1- العمل الميدانيّ العسكريّ والإغاثيّ في الدّاخل ضخم جدًّا، وقد بُذلت جهود كبيرة لتنظيمه والارتقاء به، لكن يُلاحظ أنّ حلقات الارتباط بين المدنيّين والعسكريّين والكتائب المقاتلة ليست قويّة بالقدر الكافي.
- التّجربة العالميّة ـ ومنها التّجربة الإسلاميّة بالطّبع ـ تقول إنّه في حالة الثّورات المسلحة ينبغي أن تكون القيادة العامّة للمدنيّين المنظّمين تنظيمًا عاليًا، والقادرين على فهم متطلّبات انتصار الثّورة، والقادرين على فهم الوضعيّة العالميّة والإقليميّة السّائدة من أجل توفير تلك المتطلّبات. في الثّورة السّوريّة حدث هذا في الخارج من خلال المجلس الوطنيّ في الماضي، ويحدث اليوم من خلال الائتلاف الوطنيّ، أمّا في الدّاخل فقد تمكّن أنصار الثّورة المجيدة من تشكيل بعض المجالس المحليّة، وبعضها استطاع فعلاً بسط سلطته على المحافظة التي يديرها، ووضع فعلاً المسلّحون أنفسهم تحت إمرة القائمين على تلك المجالس، لكن هذا لم يحدث في جميع المناطق، ويمكن أن ينتج عنه شرٌّعظيم. إنّ التّجربة تقول: إنّه لا ينبغي إعطاء المال لقادة الألوية والكتائب؛ لأنّ المال مع السّلاح قد يحوَّلان بعض النّاس إلى زعماء حرب ينسون أهداف الثّورة، وكونهم في الأساس جنودًا في سبيل تحقيقها، ويتصرّفون على أنّهم أصحاب قدرة ونفوذ وسلطان، ولهذا فليس أمام من في مناطقهم سوى الخضوع لهم. هذا حصل في سورية، في أماكن محدودة، وإذا لم يتمّ تداركه فقد يستشري، ويصبح مشكلة كبرى. وممّا يؤسفني قوله: إنّ الدّاعمين من الخارج ساهموا في هذا إسهامًا كبيرًا! كلّي أمل أن تساهم مساعي قيادة الائتلاف في تشكيل مجلس عسكريّ أعلى في التّخفيف من هذه الظّاهرة.
2- الذين يحملون السّلاح في سورية هم الذين يحملون القسط الأكبر من أعباء الثّورة، وليس بعد تعريض النّفس للمخاطر المحدقة من شيء يمكن أن يقدّمه أيّ إنسان، لكن يُلاحظ أنّ بعض العسكريّين والمسلحين لم يقتصروا على بذل الجهد العسكريّ، وإنّما صاروا يتحدّثون عن مستقبل الدّولة، وهم يتحدّثون عن شكل دولة معيّن مستعدّين للقتال من أجله! هذا يشكّل مأزقًا حقيقيًّا للثّورة، وذلك لأنّ الخبرة تعلّمنا أنّ التّفكير في شكل الدّولة و منطلقاتها قبل تحقيق النّصر يكون عامل شرذمة وانقسام، بل قد يدفع في اتّجاه الاقتتال بين الثّوار أنفسهم، وهذا هو أسوأ ما يمكن تخيّله.
أنا أعرف أنّ السّوريّين سيختلفون اختلافًا واسعًا حول العديد من موادّ الدّستور ـ كما حدث في بلدان الرّبيع العربيّ ـ لكن هناك فرق بين الخلاف قبل سقوط النّظام والخلاف بعد سقوطه. حين يسقط النّظام وتتشكّل حكومة انتقاليّة، فإنّ الخلاف يمكن أن يكون فكريًّا وثقافيًّا؛ إذ يتمّ الاحتكام في حلّه إلى وسائل غير عنيفة، وليس الشّأن كذلك في مرحلة ما قبل سقوط النّظام.
3- في اعتقادي أنّ الائتلاف الذي تمّ تشكيله مؤخّرًا قد تمكّن من توضيح أهمّ الخطوط الحمراء في نظر الثّوار خاصّة والشّعب السّوريّ عامّة، ومنها:
- لا مفاوضات ولا حوار مع النّظام، وتمّ تجاهل الحديث عن التّفاوض مع بعض أركان النّظام على نقْل السّلطة.
- لا شأن للائتلاف بالدّستور الدّائم للبلاد؛ فهذا من شأن مؤتمر الحوار الوطنيّ الذي يتمّ تشكيله بعد سقوط النّظام، وقد كان هذا سيّئًا جدًا؛ إذ إنّه لا يصحّ وضع (مبادئ ما فوق دستوريّة) لأيّ دستور قادم؛ فالشّعب السّوريّ هو وحده الذي يقرّر ذلك عبر هيئاته المنتخبة.
- ليس هناك بديل عن إسقاط النّظام بكلّ رموزه وأركانه وتفكيك أجهزته العسكريّة والأمنيّة، ومحاسبة المسؤولين عن سفك الدّماء. هذا هو الحدّ الأدنى للتّعامل مع نظام قتل العباد وخرّب البلاد، وإذا كان الأمر كذلك فإنّ على الثّوّار بجميع أطيافهم أن يقدّموا الدّعم الأدبيّ والمعنويّ للائتلاف الوليد، وأن يكفّوا عن التّشكيك فيه؛ فالمسلم لا يبني موافقة على الشّكوك والشّائعات والنّوايا، وإنّما على الواضح والمكتوب والمعلن.
- الثّورة السّوريّة قريبة من تحقيق إنجاز تاريخي بحول الله، وعلينا أن ندرك أنّ الانتصار على الأهواء والرّغبات والأنانيّات لا يقلّ بحال من الأحوال عن النّصر على النّظام المجرم والفاسد.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
*الإسلام اليوم