صور من فقه الأسباب [2]
د. عبد الكريم بكار
ما زلنا ماضين في عرض صور يتجلى فيها (فقه الأسباب) ، وذلك من أجل تعميق الفهم لأحوال البشر، ومحاولة تفسير سلوكهم، والعمل على تفادي الاصطدام بالسنن الربانية الثابتة التي لا تحابي أحداً من الناس، كائناً من كان.
إن أي إنسان يعيش في مجتمع يتعرض لتربية من نوع ما، ويخضع لأعراف ذلك المجتمع على نحو من الأنحاء، ويتشكل لديه بسبب من هذا وذاك إطار من المبادئ والقيم التي تحظى باحترامه والتزامه إلى حدود معينة، وللإنسان إلى جانب هذا حاجات ومصالح، يسعى إلى قضائها وتحقيقها حتى يصون وجوده من التلف، ويحقق طموحاته وتطلعاته، ومن الواضح أن الناس يعملون في أغلب الأحيان على تحقيق مصالحهم في إطار مبادئهم، أي أنهم يحاولون عدم الخروج على المبادئ التي يؤمنون بها؛ لأنها تشكل في الحقيقة عُمُد وجودهم المعنوي، لكن حين تصطدم مبادئهم مع مصالحهم، فإنهم حينئذ يتفرقون؛ فمنهم من يتنازل عن بعض مصالحه بغية بقائه منسجماً مع معتقداته وقيمه، ومنهم من يتنازل عن شيء من معتقداته بغية تحقيق المزيد من مصالحه، وقضاء المزيد من حاجاته. ويدرك أولو النهى والعزيمة أنهم لا يستطيعون في معظم الأحيان تحقيق كل مصالحهم مع الرعاية التامة لمبادئهم، ولهذا فإنهم يوطنون أنفسهم على التضحية ببعض المكاسب من أجل البقاء على الطريق الصحيح.
حين تضع الإنسان في ظروف صعبة وقاسية، فإنك تدفعه دفعاً إلى إعادة ترتيب أولوياته، وإعادة قراءة مبادئه ومصالحه، ولا شك في أن هناك من يظل مستعداً للتضحية بمصالحه والتمسك الحرفي بقيمه ومبادئه، لكن من المؤسف أن هذا الصنف من الناس يظل قليلاً، أما أكثر الناس فإنهم ينجذبون على درجات مختلفة إلى قضاء حاجاتهم والمحافظة على مصالحهم، ونجد هذا المعنى في غير موضع من كتاب الله –تعالى- حيث يقول سبحانه: ’’فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ’’. [البقرة:249]. يذكر بعض المفسرين أن أصحاب طالوت كانوا ثمانين ألفاً، فلما اشتد بهم الظمأ، ووجدوا الماء العذب أمامهم شرب منهم من النهر ستة وسبعون ألفاً، وهؤلاء الذين شربوا من النهر تفاوتوا في ذلك على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم (وهي الإبل التي أصابها داء فلا ترتوي من الماء) وشرب العاصون دون ذلك، وجاوز النهر معه أربعة آلاف رجل، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده، وكانوا مائة ألف مقاتل مدجج بالسلاح هابوهم، فرجع من الآلاف الأربعة ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون، وبقي معه ثلاثمائة وبضعة عشر.
لقد تعرض الجيش لاختبارين قاسيين اختبار الظمأ الشديد مع وجود الماء، و اختبار مواجهة القلة القليلة للكثرة الكاثرة، فلم ينجح في الاختبار إلاّ ما يقرب من نصف في المئة!
ونجد نحواً من ذلك في قول الله –جل وعلا- ’’وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ’’. [الجمعة:11]. فقد أخرج الشيخان عن جابر قال: قدمت عير المدينة ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- يخطب فخرج الناس، وبقي اثنا عشر رجلاً، فنزلت الآية. وفي مسند أبي يعلى عن جابر قال: بينما النبي –صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة، فقدمت عير إلى المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى لم يبق إلاّ اثنا عشر رجلاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’والذي نفسي بيده، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً’’. ونزلت الآية (1). ويفيد بعض المفسرين أن قافلة الدحية الكلبي قدمت من الشام، فيها كل ما يحتاجه الناس من بر ودقيق وغيرهما، وكان في المدينة مجاعة وغلاء في الأسعار (2). ولا شك أن ما في القافلة لا يكفي كل أهل المدينة، فاندفع الناس إليها ليحصلوا على ما هو ضروري بالنسبة إليهم.
إن اليهود يضربون الحصار اليوم على أهل فلسطين عامة، وعلى (غزة) على نحو خاص، ويذيقونهم الجوع، ويحرمونهم من ضروريات الحياة حتى يعيدوا ترتيب أولوياتهم، ويتخلوا عن الدفاع عن أرضهم، وحتى يلجئوهم إلى منطقة الخيارات الصعبة والبدائل المرة، وعلينا ألاّ نسمح لهم بذلك من خلال الوقوف إلى جانب إخواننا بعزيمة وصلابة، والله غالب على أمره.
وللحديث صلة
4/9/1429
--------------------------------------
(1) انظر: تفسير ابن كثير (8: 123، 124). وقد ذكر ابن كثير أن ذلك حدث حين كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقدم الصلاة على الخطبة، كما يفعل في العيدين ـ أي أن الناس خرجوا بعد أداء الفريضة.
(2) تفسير القرطبي (18: 109).
.نوافذ
د. عبد الكريم بكار
ما زلنا ماضين في عرض صور يتجلى فيها (فقه الأسباب) ، وذلك من أجل تعميق الفهم لأحوال البشر، ومحاولة تفسير سلوكهم، والعمل على تفادي الاصطدام بالسنن الربانية الثابتة التي لا تحابي أحداً من الناس، كائناً من كان.
إن أي إنسان يعيش في مجتمع يتعرض لتربية من نوع ما، ويخضع لأعراف ذلك المجتمع على نحو من الأنحاء، ويتشكل لديه بسبب من هذا وذاك إطار من المبادئ والقيم التي تحظى باحترامه والتزامه إلى حدود معينة، وللإنسان إلى جانب هذا حاجات ومصالح، يسعى إلى قضائها وتحقيقها حتى يصون وجوده من التلف، ويحقق طموحاته وتطلعاته، ومن الواضح أن الناس يعملون في أغلب الأحيان على تحقيق مصالحهم في إطار مبادئهم، أي أنهم يحاولون عدم الخروج على المبادئ التي يؤمنون بها؛ لأنها تشكل في الحقيقة عُمُد وجودهم المعنوي، لكن حين تصطدم مبادئهم مع مصالحهم، فإنهم حينئذ يتفرقون؛ فمنهم من يتنازل عن بعض مصالحه بغية بقائه منسجماً مع معتقداته وقيمه، ومنهم من يتنازل عن شيء من معتقداته بغية تحقيق المزيد من مصالحه، وقضاء المزيد من حاجاته. ويدرك أولو النهى والعزيمة أنهم لا يستطيعون في معظم الأحيان تحقيق كل مصالحهم مع الرعاية التامة لمبادئهم، ولهذا فإنهم يوطنون أنفسهم على التضحية ببعض المكاسب من أجل البقاء على الطريق الصحيح.
حين تضع الإنسان في ظروف صعبة وقاسية، فإنك تدفعه دفعاً إلى إعادة ترتيب أولوياته، وإعادة قراءة مبادئه ومصالحه، ولا شك في أن هناك من يظل مستعداً للتضحية بمصالحه والتمسك الحرفي بقيمه ومبادئه، لكن من المؤسف أن هذا الصنف من الناس يظل قليلاً، أما أكثر الناس فإنهم ينجذبون على درجات مختلفة إلى قضاء حاجاتهم والمحافظة على مصالحهم، ونجد هذا المعنى في غير موضع من كتاب الله –تعالى- حيث يقول سبحانه: ’’فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ’’. [البقرة:249]. يذكر بعض المفسرين أن أصحاب طالوت كانوا ثمانين ألفاً، فلما اشتد بهم الظمأ، ووجدوا الماء العذب أمامهم شرب منهم من النهر ستة وسبعون ألفاً، وهؤلاء الذين شربوا من النهر تفاوتوا في ذلك على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم (وهي الإبل التي أصابها داء فلا ترتوي من الماء) وشرب العاصون دون ذلك، وجاوز النهر معه أربعة آلاف رجل، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده، وكانوا مائة ألف مقاتل مدجج بالسلاح هابوهم، فرجع من الآلاف الأربعة ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون، وبقي معه ثلاثمائة وبضعة عشر.
لقد تعرض الجيش لاختبارين قاسيين اختبار الظمأ الشديد مع وجود الماء، و اختبار مواجهة القلة القليلة للكثرة الكاثرة، فلم ينجح في الاختبار إلاّ ما يقرب من نصف في المئة!
ونجد نحواً من ذلك في قول الله –جل وعلا- ’’وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ’’. [الجمعة:11]. فقد أخرج الشيخان عن جابر قال: قدمت عير المدينة ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- يخطب فخرج الناس، وبقي اثنا عشر رجلاً، فنزلت الآية. وفي مسند أبي يعلى عن جابر قال: بينما النبي –صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة، فقدمت عير إلى المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى لم يبق إلاّ اثنا عشر رجلاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’والذي نفسي بيده، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً’’. ونزلت الآية (1). ويفيد بعض المفسرين أن قافلة الدحية الكلبي قدمت من الشام، فيها كل ما يحتاجه الناس من بر ودقيق وغيرهما، وكان في المدينة مجاعة وغلاء في الأسعار (2). ولا شك أن ما في القافلة لا يكفي كل أهل المدينة، فاندفع الناس إليها ليحصلوا على ما هو ضروري بالنسبة إليهم.
إن اليهود يضربون الحصار اليوم على أهل فلسطين عامة، وعلى (غزة) على نحو خاص، ويذيقونهم الجوع، ويحرمونهم من ضروريات الحياة حتى يعيدوا ترتيب أولوياتهم، ويتخلوا عن الدفاع عن أرضهم، وحتى يلجئوهم إلى منطقة الخيارات الصعبة والبدائل المرة، وعلينا ألاّ نسمح لهم بذلك من خلال الوقوف إلى جانب إخواننا بعزيمة وصلابة، والله غالب على أمره.
وللحديث صلة
4/9/1429
--------------------------------------
(1) انظر: تفسير ابن كثير (8: 123، 124). وقد ذكر ابن كثير أن ذلك حدث حين كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقدم الصلاة على الخطبة، كما يفعل في العيدين ـ أي أن الناس خرجوا بعد أداء الفريضة.
(2) تفسير القرطبي (18: 109).
.نوافذ