لكل عصر منطقه في التدافع
د. عبد الكريم بكار
سيأتي على البشرية يوم تدعي فيه الخلاص من الصراعات على نحو مختلف، حيث أشرنا قبل إلى أن هناك الكثير من العوامل التي تجعل استمرار التنازع والتدافع أمر لا مناص منه؛ إذن ما الجديد؟ وما الذي يتغير مع الأيام؟
الحقيقة أنه إذا كانت الرغبة في دفع الخصوم والتغلب عليهم ستظل مستمرة، فإن تجسيداتها ستظل في حالة من التطور، و تطورها كثيراً ما يرتبط بنضج الخبرة البشرية في المدافعة وكذلك الأدوات الجديدة التي يكشف عنها الإبداع في المجال التقني، ومن هنا يمكن القول: إن لكل عصر صراعاته ومدافعاته، وله منطقة وأدواته وقوانينه في ذلك، والذي يقوم بهندسة كل ذلك هو الدول التي تقود الحضارة، وهي في زماننا الدول الصناعية الكبرى تحديدا. على سبيل المثال فقد كان ضرب الرق على الأسرى شيئاً مقبولاً في الماضي، على الرغم من كل النصوص التي تحث على تقليص ظاهرة العبودية والخلاص منها فإن المسلمين الأوائل ضربوا الرق على بعض من كانوا يأسرونهم من باب المعاملة بالمثل، والانسياق مع منطق عصرهم. وكانت الغلبة في المعارك منوطة على نحو أساسي بشجاعة المقاتلين واستبسالهم وصبرهم وقدرتهم على المخاطرة بأنفسهم، وكان كل ذلك بسبب نوعية الآلات والأدوات المستخدمة في القتال؛ وقد تغير كل ذلك اليوم حيث لا تستطيع أعتى دولة في الأرض أن تضرب الرق على من تأسرهم في الحرب، ولا يستطيع أحد أن يتحدث في هذا الموضوع من قريب أو بعيد... وصار كسب المعارك الحديثة يعتمد على نحو جوهري على تطور أدوات القتال وعلى خبرة المقاتلين، وأخذ يتراجع دور الشجاعة شيئا فشيئاً بسبب عدم وجود حاجة لالتحام المقاتلين، بل إن بعض من يطلقون الصواريخ، ويعدون جزءاً من الجيش يجلسون في غرفة مكيفة تبتعد آلاف الأميال عن ساحة المعركة!.
إذا كان الأقوياء وأصحاب الهيمنة الحضارية هم الذين يصوغون منطق المدافعة وقوانينها، وهم الذين ينتجون أدواتها، فإن من المتوقع أن يصب كل ما أشرنا إليه في مصالحهم، وأن يساعدهم على التغلب على المنافسين والخصوم، وهذا هو الذي يحدث فعلا. ولعلي أشير عبر المفردات التالية إلى شيء من ملامح منطق (المدافعة) في عصرنا الحاضر:
- إيجاد عدد هائل من الأعراف والاتفاقات الدولية التي تنظم عمليات التبادل التجاري والنفوذ الثقافي والعلاقات السياسية والدبلوماسية، وهذا يخفف من الصراع والنزاع إلى حد بعيد، ويوضح ملامح مسارات التدافع؛ وإن الشيء الواضح في كل ذلك هو الحرص على إيجاد نوع من التماثل والندية في كل ذلك: أفتح سفارة في بلدك، وتفتح سفارة في بلدي، أفتح مدرسة في بلدك، وتفتح مدرسة في بلدي، تسمح لمواطني بلدي بالدخول إلى بلدك من غير تأشيرة دخول، وأسمح لمواطني بلدك بالدخول إلى بلدي من غير تأشيرة خروج، تلغي الضرائب (الجمركية) على صادراتي لبلدك، وألغي الضرائب الجمركية لصادراتك إلى بلدي.... وهكذا يتم تنظيم ما لا يحصى من عمليات التبادل المحملة دائما بالتنافس، والتي تحقق الكثير من المصالح المتدافعة لأطراف عديدة ومختلفة، وأحياناً متعادية.
وبناء على هذا فليس من المقبول في منطق التدافع اليوم أن تقوم دولة بإغراق سفينة لدولة أخرى بسبب أن تلك السفينة تحمل مواد تموينية فاسدة، ولا أن تقصف إذاعة في دولة مجاورة لأنها بثت خبراً كاذباً حول بلدك، أو قدمت برنامجاً سيئاً يضر بسمعة بلدك، بل ليس من المقبول أن تقوم دولة باغتيال أحد مواطنيها بسبب قيامه بالتجسس عليها لصالح دولة معادية... إن هذا كله غير مقبول. إن من حقك أن تمنع دخول السفينة المشار إليها إلى موانئ بلدك، ومن حقك التشويش على الإذاعة التي تسئ إليك، كما أن من حقك أن تسجن من تظن أنه يقوم بالتجسس عليك وله الحق في أن يطلب محاكمة عادلة. قد يقول قائل: هذا شيء جيد، وفيه إنصاف، ومساواة حسب الظاهر، فكيف يمكن أن يخدم مصالح الدول القوية؟
الحقيقة أن التنظيم الذي أشرنا إليه هو تنظيم على مستوى الشكل، وليس على مستوى المضمون، لأن المضمون متروك للإمكانات الفعلية للدولة، وهكذا فإن دولة مثل (غانا) تمتلك حق فتح سفارة في الولايات المتحدة الأمريكية، تماما مثل حق هذه الدولة في أن تفتح سفارة لها في (غانا) حين يتفق الطرفان على ذلك، لكن أمريكا بحكم قوتها تستطيع فتح سفارة لها في غانا، تكون أشبه بقلعة أو مستعمرة، ويمكن أن تجعل منها مركزاً لانطلاق هيمنة اقتصادية وثقافية واسعة النطاق في ذلك البلد- وهذا ما يحدث فعلا في كثير من الأحيان- على حين أن (غانا) قد لا تملك الإمكانات المادية لتفح سفارة لها في أمريكا، وقد تتمكن من افتتاح سفارة ضعيفة ومحدودة النفوذ، ويمكن أن نقول مثل هذا في كل مجالات الحياة. كثيراً ما نرى مظاهرات واحتجاجات تقوم في البلدان الضعيفة للتعبير عن الاستياء من الأنشطة غير النزيهة لسفارات بعض الدول القوية، لكن ذلك عملياً يكون غير مجد ولا مفيد، لأن منطق المدافعة المعاصر يقوم على مبدأ:’’لا يفلُّ الحديد إلا الحديد’’. فلا يقاوم نفوذ سفارة بمظاهرة، وإنما بإقامة سفارة ذات نفوذ مماثل، وبما أن هذا صعب فالأسهل - كما يراه بعض الشباب- هو التظاهر أمام السفارة المعادية أو القيام بتفجيرها، لكنهم يكتشفون بعد حين أن ذلك لم ولن يفيد في شيء، بل سيدعو إلى تحصين تلك السفارة وزيادة فاعليتها وأذاها!.
للحديث صلة.
الرئيسة
المقالات
الرسالة الاسبوعية
الصوتيات
باقات الجوال
السيرة الذاتية
البوم الصور
اتصل بنا
تم بفضل الله تعالى صدور طبعة جديدة لكتاب اكتشاف الذات للدكتور عبد الكريم بكار عن مؤسسة الإسلام اليوم وهو متوفر في المكتبات الكبرى. ولمزيد من المعلومات يمكن الاتصال برقم الهاتف 2081920-1-966+ توصيلة 260
موقع الاسلام اليوم
شبكة المعالي
لها اون لاين
فضاء الفضائيات
موقع الحياة كلمة
موقع مهارتي
لتصلك رسالة الدكتور عبد الكريم بكار الأسبوعية ، أرسل رسالة فارغة إلى :[email protected]
د. عبد الكريم بكار
سيأتي على البشرية يوم تدعي فيه الخلاص من الصراعات على نحو مختلف، حيث أشرنا قبل إلى أن هناك الكثير من العوامل التي تجعل استمرار التنازع والتدافع أمر لا مناص منه؛ إذن ما الجديد؟ وما الذي يتغير مع الأيام؟
الحقيقة أنه إذا كانت الرغبة في دفع الخصوم والتغلب عليهم ستظل مستمرة، فإن تجسيداتها ستظل في حالة من التطور، و تطورها كثيراً ما يرتبط بنضج الخبرة البشرية في المدافعة وكذلك الأدوات الجديدة التي يكشف عنها الإبداع في المجال التقني، ومن هنا يمكن القول: إن لكل عصر صراعاته ومدافعاته، وله منطقة وأدواته وقوانينه في ذلك، والذي يقوم بهندسة كل ذلك هو الدول التي تقود الحضارة، وهي في زماننا الدول الصناعية الكبرى تحديدا. على سبيل المثال فقد كان ضرب الرق على الأسرى شيئاً مقبولاً في الماضي، على الرغم من كل النصوص التي تحث على تقليص ظاهرة العبودية والخلاص منها فإن المسلمين الأوائل ضربوا الرق على بعض من كانوا يأسرونهم من باب المعاملة بالمثل، والانسياق مع منطق عصرهم. وكانت الغلبة في المعارك منوطة على نحو أساسي بشجاعة المقاتلين واستبسالهم وصبرهم وقدرتهم على المخاطرة بأنفسهم، وكان كل ذلك بسبب نوعية الآلات والأدوات المستخدمة في القتال؛ وقد تغير كل ذلك اليوم حيث لا تستطيع أعتى دولة في الأرض أن تضرب الرق على من تأسرهم في الحرب، ولا يستطيع أحد أن يتحدث في هذا الموضوع من قريب أو بعيد... وصار كسب المعارك الحديثة يعتمد على نحو جوهري على تطور أدوات القتال وعلى خبرة المقاتلين، وأخذ يتراجع دور الشجاعة شيئا فشيئاً بسبب عدم وجود حاجة لالتحام المقاتلين، بل إن بعض من يطلقون الصواريخ، ويعدون جزءاً من الجيش يجلسون في غرفة مكيفة تبتعد آلاف الأميال عن ساحة المعركة!.
إذا كان الأقوياء وأصحاب الهيمنة الحضارية هم الذين يصوغون منطق المدافعة وقوانينها، وهم الذين ينتجون أدواتها، فإن من المتوقع أن يصب كل ما أشرنا إليه في مصالحهم، وأن يساعدهم على التغلب على المنافسين والخصوم، وهذا هو الذي يحدث فعلا. ولعلي أشير عبر المفردات التالية إلى شيء من ملامح منطق (المدافعة) في عصرنا الحاضر:
- إيجاد عدد هائل من الأعراف والاتفاقات الدولية التي تنظم عمليات التبادل التجاري والنفوذ الثقافي والعلاقات السياسية والدبلوماسية، وهذا يخفف من الصراع والنزاع إلى حد بعيد، ويوضح ملامح مسارات التدافع؛ وإن الشيء الواضح في كل ذلك هو الحرص على إيجاد نوع من التماثل والندية في كل ذلك: أفتح سفارة في بلدك، وتفتح سفارة في بلدي، أفتح مدرسة في بلدك، وتفتح مدرسة في بلدي، تسمح لمواطني بلدي بالدخول إلى بلدك من غير تأشيرة دخول، وأسمح لمواطني بلدك بالدخول إلى بلدي من غير تأشيرة خروج، تلغي الضرائب (الجمركية) على صادراتي لبلدك، وألغي الضرائب الجمركية لصادراتك إلى بلدي.... وهكذا يتم تنظيم ما لا يحصى من عمليات التبادل المحملة دائما بالتنافس، والتي تحقق الكثير من المصالح المتدافعة لأطراف عديدة ومختلفة، وأحياناً متعادية.
وبناء على هذا فليس من المقبول في منطق التدافع اليوم أن تقوم دولة بإغراق سفينة لدولة أخرى بسبب أن تلك السفينة تحمل مواد تموينية فاسدة، ولا أن تقصف إذاعة في دولة مجاورة لأنها بثت خبراً كاذباً حول بلدك، أو قدمت برنامجاً سيئاً يضر بسمعة بلدك، بل ليس من المقبول أن تقوم دولة باغتيال أحد مواطنيها بسبب قيامه بالتجسس عليها لصالح دولة معادية... إن هذا كله غير مقبول. إن من حقك أن تمنع دخول السفينة المشار إليها إلى موانئ بلدك، ومن حقك التشويش على الإذاعة التي تسئ إليك، كما أن من حقك أن تسجن من تظن أنه يقوم بالتجسس عليك وله الحق في أن يطلب محاكمة عادلة. قد يقول قائل: هذا شيء جيد، وفيه إنصاف، ومساواة حسب الظاهر، فكيف يمكن أن يخدم مصالح الدول القوية؟
الحقيقة أن التنظيم الذي أشرنا إليه هو تنظيم على مستوى الشكل، وليس على مستوى المضمون، لأن المضمون متروك للإمكانات الفعلية للدولة، وهكذا فإن دولة مثل (غانا) تمتلك حق فتح سفارة في الولايات المتحدة الأمريكية، تماما مثل حق هذه الدولة في أن تفتح سفارة لها في (غانا) حين يتفق الطرفان على ذلك، لكن أمريكا بحكم قوتها تستطيع فتح سفارة لها في غانا، تكون أشبه بقلعة أو مستعمرة، ويمكن أن تجعل منها مركزاً لانطلاق هيمنة اقتصادية وثقافية واسعة النطاق في ذلك البلد- وهذا ما يحدث فعلا في كثير من الأحيان- على حين أن (غانا) قد لا تملك الإمكانات المادية لتفح سفارة لها في أمريكا، وقد تتمكن من افتتاح سفارة ضعيفة ومحدودة النفوذ، ويمكن أن نقول مثل هذا في كل مجالات الحياة. كثيراً ما نرى مظاهرات واحتجاجات تقوم في البلدان الضعيفة للتعبير عن الاستياء من الأنشطة غير النزيهة لسفارات بعض الدول القوية، لكن ذلك عملياً يكون غير مجد ولا مفيد، لأن منطق المدافعة المعاصر يقوم على مبدأ:’’لا يفلُّ الحديد إلا الحديد’’. فلا يقاوم نفوذ سفارة بمظاهرة، وإنما بإقامة سفارة ذات نفوذ مماثل، وبما أن هذا صعب فالأسهل - كما يراه بعض الشباب- هو التظاهر أمام السفارة المعادية أو القيام بتفجيرها، لكنهم يكتشفون بعد حين أن ذلك لم ولن يفيد في شيء، بل سيدعو إلى تحصين تلك السفارة وزيادة فاعليتها وأذاها!.
للحديث صلة.
الرئيسة
المقالات
الرسالة الاسبوعية
الصوتيات
باقات الجوال
السيرة الذاتية
البوم الصور
اتصل بنا
تم بفضل الله تعالى صدور طبعة جديدة لكتاب اكتشاف الذات للدكتور عبد الكريم بكار عن مؤسسة الإسلام اليوم وهو متوفر في المكتبات الكبرى. ولمزيد من المعلومات يمكن الاتصال برقم الهاتف 2081920-1-966+ توصيلة 260
موقع الاسلام اليوم
شبكة المعالي
لها اون لاين
فضاء الفضائيات
موقع الحياة كلمة
موقع مهارتي
لتصلك رسالة الدكتور عبد الكريم بكار الأسبوعية ، أرسل رسالة فارغة إلى :[email protected]