بدَأتْ مَعالِم الدولة المرابطيَّة في الظُّهور مع الفقيه والعلاَّمة عبدالله بن ياسين - رحمه الله - في النصف الأوَّل من القرن الخامس الهجري، الذي التَفَّ حولَه جماعةٌ من الناس في أقصى جنوب المغرب، وكان هدفهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر تعاليم الإسلام، وفي مواجهته العنيفة مع الخوارج "البورغواطيين"، قُتِل عبدالله بن ياسين سنة 461هـ/1068م، ليقوم مَقامَه أبو بكر بن عمر الذي استقرَّ في الصحراء، بينما عين ابن عمِّه يوسف بن تاشفين أميرًا على المغرب، الذي حرص كلَّ الحرص على نشْر تعاليم الدِّين الإسلامي الصحيح، كما واجَه الصليبيِّين في الأندلس، فانتَصَر عليهم في معركة الزلاقة سنة479هـ.
أولاً: يوسف بن تاشفين ودولة المرابطين.. دراسة تاريخية:
عرف العالم الإسلامي عند قِيام دولة المرابطين[1] تشرذُمًا وتجزيئًا سياسيًّا إلى دولٍ متفرِّقة؛ ففي الأندلس ظهَر ما يُسمَّى بملوك الطوائف؛ حيث قامتْ دُوَيْلات في كلِّ مدينة، وصلت إلى ثلاث وعشرين دُوَيْلة تناحَرْت فيما بينها، وتلقَّبوا بالألقاب الخلافيَّة؛ كالمأمون والمعتمد والمستعين والمعتصم والمتوكل... إلى غير ذلك من الألقاب، ووصف هذه الحالة المشينة الشاعر أبو علي الحسن بن رشيق:
مِمَّا يُزَهِّدُنِي فِي أَرْضِ أَنْدَلُسٍ
سَمَاعُ مُعْتَصِمٍ فِيْهَا وَمُعْتَضِدِ
أَلْقَابُ مَمْلَكَةٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا
كَالْهِرِّ يَحْكِي انتِفَاضًا صَوْلَةَالأَسَدِ
|
لقدْ آلتْ أوضاع الأَنْدَلُس إلى السوء، وأصبحتْ لا حولَ لها ولا قُوَّة؛ ممَّا شجع النصارى على توجيه ضربات إلى المسلِمين، وقد شنوا حربًا لا هَوادة فيها، نابعةً من شُعورهم العَدائي للعرب والمُسْلِمين، تَهدِف إلى طرْدهم من إسبانيا، وبدَأت هذه الحرب بدافِع الحِقد الصليبي، وأضافُوا إليها مع مُرور الأيَّام عامل القَومية[2]، وأطلقوا عليها حرب الاسترداد[3]، أمَّا العراق فقد شهدت استيلاء السلاجقة بعد تنحيتهم للبُوَيهيِّين، كما تمكَّن العبيديُّون من إحكام سَيْطرتهم على مصر، أمَّا يوسف بن تاشفين فقد وطَّد سُلطانه في المغرب الأقصى.
يُعَدُّ يوسف بن تاشفين - رحمه الله - أحد الأمراء المسلمين البارِزين في تاريخ الغرب الإسلامي، ولقد لُقِّبَ على إثْر انتِصارِه في معركة الزلاقة على النصارى الإسبان بـ"أمير المسلمين وناصر الدِّين"، وهو أعظم ملكٍ مسلم في وقته، أسَّس أوَّل إمبراطوريَّة في الغرب الإسلامي من حُدود تونس حتى غانا جنوبًا والأندلس شمالاً، وأنقَذ الأندلس من ضَياعٍ مُحقَّقٍ، وهو بطل معركة الزلاقة وقائدها، وحَّد وضمَّ كلَّ ملوك الطوائف في الأندلس إلى دولته بالمغرب بعدما استَنجَدَ به أمير إشبيلية المعتمد بن عباد[4].
1- حياة الأمير يوسف بن تاشفين:
وُلِدَ أبو يعقوب يوسف بن تاشفين بن إبراهيم اللمتوني الصنهاجي سنة (400هـ/1010م)، ودامَتْ فترة حُكمِه ما بين 400-500هـ /1009- 1106م، أبوه يُسمَّى إبراهيم اللمتوني الصنهاجي، وأُمُّه بنت عمِّ أبيه فاطمة بنت سير بن يحيى بن وجاج بن وارتقين[5].
تذكُر كتب التَّارِيخ أنَّه تَزوَّج زينب النفرويَّة بعد أنْ طلَّقها ابن عمِّه أبو بكر بن عمر، عندما عزَم على السفر إلى الصحراء للجهاد والدعوة والإصلاح، فقال لها: أنت امرأةٌ جميلة بَضَّة، لا طاقة لك على حَرارة الصحراء، وإنِّي مُطلِّقك؛ فإذا انقضَتْ عدَّتك فانكحي ابنَ عمِّي يوسف بن تاشفين، وتزوَّجَها يوسف بعد تمام عدَّتِها، وكانت زينب بنت إسحاق مشهورةً بالجمال والرئاسة، بارعة الحسن، حازمة، لبيبة، ذات عقل رَصِين، ورأي سَدِيد، ومعرفة بإدارة الأمور، فكانت نِعْمَ الزوجة المُعِينة لزوجها، وقد مدَحتْ كتب التارِيخ هذه المرأة، واعتبرَتْها من خِيرة نساء دولة المرابطين، وتُوفِّيت عام 464هـ/ 1071م[6].
كان - رحِمه الله - بطَلاً نجدًا شُجاعًا حازمًا مُهابًا ضابطًا لملكه، متفقِّدًا الموالي من رعيَّته، حافظًا لبلاده وثُغوره، مُواظِبًا على الجِهاد، مُؤيدًا منصورًا، زاهدًا في الدنيا، لباسه الصُّوف، لم يلبسْ قطُّ غيرَه، وأكله الشعير ولحوم الإبل وألبانها، وكان ملكه من أوَّل بلاد الإفرنج (ويقصد بهم هنا نصارى الأندلس) شرق بلاد الأندلس إلى غرْب الأندلس، وملك بالمغرب من جزائر بني مزغنة إلى طنجة إلى آخِر السوس الأقصى إلى جبل الذهب من[7] بلاد السودان[8]، وأصبح أميرًا على المغرب سنة 453هـ/1061م، واتَّخذ (مراكش) عاصمةً لملكه ابتداءً من 454هـ/1062، تلقَّى يوسف بن تاشفين - رحمه الله - تعليمَه الأولِيَّ في قلب الصحراء من عُلَماء المُحَدِّثِين والفُقَهاء، ونشَأ وترَعرَع وتَربَّى على تعاليم الإمام الفَقِيه ابن ياسين[9] - رحمه الله - الذي أسَّس رباطًا في جنوب المغرب، ونبَغ في فُنون الحرب، وفي السياسة الشَّرعيَّة التي تتَلمَذ على الفُقَهاء فيها، وقام بها خيرَ قيام.
وخُلاصة القول: إنَّ يوسف بن تاشفين هو أحد قوَّاد المُرابِطين الذي أصبَحَ القائد الأوحد عليهم، خاصَّة بعد وَفاة ابن عمِّه الأمير أبى بكر بن عمر سنة 480 هـ، ويُعتَبر المؤسِّس الحقيقي لدولة المرابطين؛ لأنَّه هو الذي وطَّد أركانَ هذه الدولةَّ وأعطاها كيانًا دوليًّا ثابتًا[10].
2- القضاء على حكم برغواطة (452هـ/1060م) ومراحل التوسُّع:
برغواطة: اسمٌ كان يُطلَق سابقًا على مجموعةٍ من قبائل المصموديَّة، أهمها البرانس وزواغة ومطماطة ومطغرة وبنو بورغ وبنو واغمر، وقد استقرَّ هؤلاء غربي مراكش في إقليم تامسنا من سلا وآزمور إلى آسفي وأنفا، ويُعرَف إقليم تامسنا باسم الشاوية، واعتنقتْ هذه القبائل آراءَ الخوارج، واشتَركتْ في حُروبها ضدَّ العرب بزعامة ميسرة السقاء الطنجي، وكان كبيرهم في ذلك الحين طريف أبو صالح، بقيَتْ برغواطة مستقلَّةً، وظلَّت خَطَرًا دائمًا على دولة المرابطين التي قيل: إنها أجلَتْهم عن بلادهم[11].
قاتَل عبدالله بن ياسين تلاميذَ صالح بن طريف - داعية الانحِراف العقَدِي في برغواطة - لكنْ لقي حَتْفَه سنة 461هـ/1068م، ولم تنتهِ الحرب مع هؤلاء المُنحَرِفين إلا بعد أنْ قَضَى المرابطون على هذه البدعة وشتَّتوا مَن بقي من أنصارها حيًّا.
إذًا قام المُرابِطون أيَّام عبدالله بن ياسين - رحمه الله - بالجِهاد ضدَّ مملكة غانا الوثنيَّة؛ إذ تمكَّن من توسيع مناطق انتشار الإسلام بين القبائل الزنجيَّة، خاصَّة بين "قبائل الطوكرور" التي اعتَنقَتْ هذا الدِّين الحنيف وتخلَّت عن أوثانها، وأصبحَتْ حليفًا إستراتيجيًّا للحركة المرابطيَّة، سواء أثناء قيامها بالجهاد في بلاد السودان أم أثناء انتقالها نحو المغرب الأقصى؛ إذ تمكَّنت من إخْضاع قبائل "بني خزرون" في سجلماسة لِحُكمها، كما وضَع حدًّا لنُفوذ "مغراوة" وأُصِيب عبدالله بن ياسين في إحدى مَعارِكه ضد البورغواطيِّين، ولَمَّا أحسَّ بدُنُوِّ أجَلِه، جمَع أشياخ صنهاجة وترك لهم الوصيَّة التالية: "يا معشر المرابطين، إيَّاكم أنْ تحنثوا وتفشَلُوا وتذهب ريحكم، كونوا ألفةً على الحق، وإخوانًا في الله، وإيَّاكم والمخالفة والتحاسُد على الدُّنيا، وإني ذاهبٌ عنكم، فانظُروا مَن ترضَوْنه لأمركم، يقودُ جُيوشكم، ويغزو أعداءكم، ويقسم فيكم زكاتكم وأعشاركم"[12].
فتولَّى بعدَه أبو بكر بن عمر اللمتوني قيادةَ الجيش المرابطي، إلاَّ أنَّه ما لَبِثَ أنْ تَنازَل للقائد المحنَّك والمُجاهِد الرباني - شِئنا أنْ نحكُم بما أورَدَتْه المصادر التاريخيَّة والله يتولَّى السرائر - "يوسف بن تاشفين عن المغرب الأقصى، وعاد إلى الصحراء ليُواصِل الجهاد هناك.
وقال ليوسف بن تاشفين: "أنت أخي وابن عمي، ولم أرَ مَن يقوم بأمر المغرب غيرك، ولا أحق به منك، وأنا لا غِناء لي عن الصحراء، وما جئت إلا لأُسلِّم الأمرَ إليك وأعود إلى الصحراء مقرِّ إخواننا ومحلِّ سُلطاننا".
3- الدولة المرابطيَّة.. انتقال أبي بكرٍ إلى الصحراء واستخلافه ليوسف بن تاشفين (453هـ/1061م):
وهكذا تقلَّد يوسف بن تاشفين زِمام الأمور في بلاد المغرب بعد أنْ أجمَعَ أشْياخ المرابطين على إمرته؛ نظَرًا لما يَعرِفون مِن عدله ودِينه، (فترك له الأمير أبو بكرٍ جزأً من جيشه، وسار بالباقي إلى بلاد الصحراء في عام 1061م (453هـ)؛ حيث قام بإصلاح أحوال الصحراء، ثم واصَل جِهادَه في بلاد السودان؛ فاستَولَى على كثيرٍ من الأراضي وأعلى فيها كلمةَ الإسلام، أمَّا بالمغرب فقد قام بن تاشفين بتَوزِيع القيادة على فُرسان قومه وأنجادهم، فاختارَ أربعةً من قوَّادهم وهم: سير بن أبي بكر اللمتوني، ومحمد بن تميم الجدالي، وعمر بن سلمان المسوفي، ومدرك التلكاتي، وعقَد لكلٍّ منهم على خمسة آلاف من قبيلته، وسيَّرهم لقتال المعارضين... وسارَ هو على باقي الجيش في إثْرهم حتى غلَب على مُعظَم بلاد المغرب"[13].
فبعدَ هذا التقسيم للمهامِّ الجهاديَّة؛ فالواضح بين قائدين كبيرين كالزعيم الأكبر للمُرابِطين أبي بكرٍ الذي استقرَّ في الجنوب، واتَّخَذ من أغمات عاصمةً له والأمير ابن تاشفين الذي اتَّخذ من مراكش عاصمةً له، ولكن لا يمنع هذا التقسيم في المهامِّ أنْ يكون الحل والعقد بيد الزعيم الأكبر، حسب ما تَروِيه أغلب المصادر التاريخيَّة.
4- بناء مدينة مراكش (465هـ/1070م):
اتَّخذ ابن تاشفين مدينة (مراكش) التي أنشَأَها عاصمةً لملكه سنة 465هـ؛ لتكون نقطة الانطِلاق لتوحيد وتجميع قبائل المغرب الأقصى تحت سَيْطرته، وتُجمِع مجموعةٌ من المصادر التاريخيَّة أنَّ (مراكش) اسمٌ كان يُطلَق على المملكة المغربيَّة ككُلٍّ، ومعناه على رأي ابن خلكان: "امش مسرعًا" في لغة المصامدة؛ لأنَّ موضعها كان مأوى اللصوص، وكان المسافرون يقولون لرِفاقهم هذه الكلمة فعرف الموضع بها، أمَّا الآن فمراكش تقَع في وسط المملكة المغربيَّة لا تطلُّ على الساحل المتوسط ولا الأطلنطي، وهي منطقة قاريَّة، وقد اختارَها يوسف بن تاشفين عاصمةً لِمُلكِه لأهميَّتها الإستراتيجيَّة؛ بِحُكم أنَّها تطلُّ على الواجِهة الشماليَّة والواجهة الجنوبيَّة.
5- الزلاقة[14] والانتصار الباهر (479 هـ/1086 م):
بعدَ رسائل التهديد والوعيد التي وجَّهها "ألفونسو السادس" للمعتمد بن عباد، لم يجدْ بدًّا من إرسال رسالة مكتوبة إلى الأمير يوسف مُؤرَّخة 479هـ، يستَنجِد بيوسف بن تاشفين، جاء فيها: "ونحن أهل هذه الأندلس ليس لأحدٍ منَّا طاقة على نُصرة جاره ولا أخيه، ولو شاؤوا لفعلوا إلاَّ أنَّ الهواء والماء منعهم من ذلك، وقد ساءت الأحوال، وانقطعت الآمال، وأنت - أيَّدك الله - سيد حِميَر، ومليكها الأكبر، وأميرها وزعيمها، نزعتُ بهمَّتي إليك، واستنصرتُ بالله ثم بك، واستَغثتُ بحرمِكم لتجوز بجهاد هذا العدوِّ الكافر، وتحيون شريعة الإسلام وتَدِينون على دينِ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولكم عند الله الثواب الكريم، على حضرتكم السامية، والسلام ورحمة الله وبركاته، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم"[15].
ولكشف كُربة التهديد والتضييق التي مارَسها ألفونسو السادس على الأمراء المسلمين في الأندلس، أخَذ ابن تاشفين يعدُّ العدَّة لفتح الأندلس، فحرص على الحصول على أجوَدِ أنواع الأسلحة من السيوف التي كانت تُصنَع في الأندلس، وكذلك ضَمان الحصول على بعض الثغور المعادية الأندلسيَّة؛ كي يُسَيْطر على مَضِيق جبل طارق، ويضمن الاتِّصال بوطنه في أيِّ وقتٍ يَشاء، سواء وقت النصر أو الهزيمة؛ لهذا بعث للمعتمد بن عباد يَطلُب منه تسليمَه ثغر الجزيرة الخضراء[16] مفتاح إسبانيا من الجنوب، ولم يكن ابن تاشفين مجرَّد رجلٍ أخذَتْه العِزَّة في فَتْحِه لبلاد المغرب ويريد زيادةَ مُلكِه، وإنما أرادَ إنْقاذَ إخوته في الأندلس من الصليبيين، وإنقاذ الإسلام الذي كان الصليبيُّون يشنُّون ضدَّه حملةً صليبيَّةً، سواء في المشرق في فلسطين، أو في المغرب في إسبانيا، حتى إنَّ البابا بارَك حربَ الإسبان ضد المسلمين بإعفائهم من المشاركة في الحملة الصليبيَّة في المشرق الإسلامي؛ لأنهم في حربٍ مقدَّسة أخرى، وإذا عُدنا إلى المُرابِطين فسنجد أنهم إضافةً لكونهم يُناصِرون إخوتهم في هذه الحرب، فإنهم كذلك في حال نَصرِهم سيُحقِّقون حلمًا طالما تمنَّوه طويلاً، هو دخول الأندلس فاتِحين كما دخَلَه سابقًا جدُّهم طارق بن زياد.
"فعبَر ابن تاشفين بجيوشه مَضِيق جبل طارق في منتصف ربيع الأول سنة 479هـ الموافق لعام 1086م، ونزل الجزيرة الخضراء التي أخْلاها له المعتمد، فقام يوسف بتحصين الجزيرة لتكون جِسرًا لهجومه وخطَّ رجعة لانسِحابه، وهناك وافاهُ أكثر رُؤَساء الأندلس؛ أمثال: المعتمد بن عباد، والمتوكل بن الأفطس (صاحب بطليوس) بِمَنْ معهم من جُنود وكل مَن رغب بالجهاد"[17].
ويوم الاثنين في 12 رجب سنة 479هـ الموافق 1086م دارَت المعركة الفاصلة؛ التي انتصَرَ فيها المسلمون انتصارًا ساحقًا على عدوِّهم "ألفونسو" وجيشه.
وبهذه النتيجة يكونُ يوسف بن تاشفين - رحمه الله - قد انتَصَر على أعتى أعداء الإسلام في الأندلس، ورفَع من مَعنويَّات المسلمين بعدما كانوا فيه من الخضوع والإذلال من قِبَلِ ملك قشتالة ألفونسو، وبعد إنجاز المهمَّة التاريخيَّة والشرعيَّة، وبعد أنْ رتَّب جيشَه أمَّر على الأندلس "سير بن أبي بكر اللمتوني" عاد يوسف بن تاشفين إلى المغرب.
ثانيًا: يوسف بن تاشفين.. الخصال الحميدة العالية:
من خِلال تصفُّحي لمجموعةٍ من المصادر والمراجع التاريخيَّة أجدُها مُجمِعة على أنَّ شخصيَّة يوسف بن تاشفين تجمَع بين صفات الحزم في الجهاد واللين والتواضُع في الخير، وهذا ما عَهِدناه في الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه وأرضاه - وإليك أخي القارئ الكريم بعض الأقوال الواردة في هذا الباب:
قال "الذهبي" في "سير أعلام النبلاء": كان ابن تاشفين كثيرَ العفو، مُقرِّبًا للعلماء، وكان أسمرَ نحيفًا، دقيقَ الصوت، سائسًا، حازمًا، يَخطُب لخليفة العراق...
ووصفه "ابن الأثير" في "الكامل" بقوله: كان حليمًا كريمًا، ديِّنًا خيِّرًا، يحبُّ أهل العلم والدِّين، ويُحكِّمهم في بلاده، ويُبالِغ في إكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم، وكان إذا وعظه أحدُهم خشع عند استماع الموعظة، ولانَ قلبُه لها وظهر ذلك عليه، وكان يحبُّ العفو والصفح عن الذنوب العظام.
وقال عنه أيضًا: "وكان حسنَ السيرة، خيرًّا عادلاً، يميلُ إلى أهل الدِّين والعلم ويُكرِمهم، ويَصدُر عن رأيهم"[18].
ويقول صاحب "الحُلَل الموشية": "ولَمَّا ضخمت مملكة يوسف بن تاشفين واتَّسعت عمالته، اجتمعت إليه أشياع قبيلته، وأعيان دولته، وقالت له: أنت خليفة الله في أرْضه، وحقُّك أكبر من أنْ تُدعَى بالأمير، بل نَدعُوك بأمير المؤمنين، فقال لهم: حاشا لله أنْ نتسمَّى بهذا الاسم، إنما يتسمَّى به خُلَفاء بني العباس؛ لكونهم من تلك السلالة الكريمة، ولأنَّهم ملوكُ الحرمين: مكَّة والمدينة، وأنا رجُلُهم، والقائم بدعوتهم، فقالوا له: لا بُدَّ من اسمٍ تمتازُ به، فأجاب إلى "أمير المسلمين وناصر الدِّين"، وخُطِب لهم بذلك في المنابر، وخُوطِب به من العدوتين - أي: المغرب والأندلس".
وقال عنه المستشرِق يوسف أشباخ: "يوسف.. أحدُ أولئك الرِّجال الأفذاذ الذين يلوحُ أنَّ القدر قد اصطَفاهم لتغيير وجْهة سير الحوادث في التاريخ، فقد بَثَّ بما استَحدَث من نُظم وأساليب رُوحًا قويَّة في القبائل والشُّعوب التي يَحكُمها، وقد فاضَتْ هذه الرُّوح إلى تحقيق العَجائِب...".
ثالثًا: إنجازاته الخالدة:
تنوَّعت إنجازات الأمير يوسف بن تاشفين - رحمه الله - لكنْ يظل أهمها أنَّه حرص على نشْر الدِّين الإسلامي السني الصحيح بعيدًا عن الخُرافات والعقائد المنحَرِفة من خِلال عُلَماء أجلاَّء، كما قادَ حركةً واسعةً لتعريب القبائل الأمازيغية سَواء في جنوب المغرب أو في شرقه؛ ليسهُل التمكُّن من كتاب الله وسنَّة حبيبنا المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبهذا يكون قد أسهَمَ بشكلٍ فعَّال في ترسيخ مبادئ الإسلام في الغرب الإسلامي (المغرب والأندلس).
وفي بداية محرم (500 هـ/1107 م)، ودَّع المرابطون بطلَهم وأميرَهم يوسف بن تاشفين تارِكًا وراءَه إرثًا ثقيلاً ومتينًا من الإنجازات الشرعيَّة والعلميَّة والعمرانيَّة.
رحمَه الله رحمةً واسعةً جَزاءَ ما قدَّم للإسلام والمسلمين.
[1] يطلق عليهم "الملثمين"، أطلق عليهم الملثمونلأنهم كانوا يتلثمون ولا يكشفون وُجوهَهم، وهي عادة لهم كانوا يتوارَثُونها جيلاً بعد جيل.
[2] الدكتور محمد علي الصلابي، فقه التمكين عند دولة المرابطين.
[3] حروب الاسترداد: تعني بالإسبانية Reconquista، وهي كلمة إسبانية تعني: الحروب التي خاضَتْها الممالك النصرانيَّة لاسترجاع - على حدِّ زعمهم - المناطق التي سَيْطَرَ عليها المسلمون في الأندلس.
[4] المعتمد بن عباد: هو أبو القاسم محمد بن المعتضد بالله قاضي إشبيلية، ويرجع نسبه إلى النعمان بن المنذر اللخمي ملك الحيرة، كان صاحب قرطبة وإشبيليَّة وما والاهما من الأندلس، كان من أكبر ملوك الطوائف، وكان يُؤدِّي الضريبة لألفونسو السادس ملك الإفرنج بالأندلس، فلمَّا ملك ألفونسو طليطلة لم يقبل ضريبة ابن عباد طمعًا في أخْذ بلاده، أرسل إليه يُهدِّده ويقول له: انزل عن الحصون التي بيدك ويكون لك السهل، فضرب المعتمد الرسول وقتل مَن كان معه.
[5] الأندلس في عهد المرابطين والموحدين, ص (65).
[6] الدكتور محمد علي الصلابي، نفس المرجع.
[7] علي ابن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، الرباط، 1973، ص136.
[8] بلاد السودان: تُطلَق في مرحلة المرابطين على المناطق الغربية جنوب الصحراء الإفريقية؛ مثل: السنغال، ومالي...
[9] المرابطون: سُمِّيت بهذا الاسم نسبة إلى الرباط الذي جمع فيه عبدالله بن ياسين بقبائل لمتونة المرابطية لتعلُّم مبادئ الإسلام والتدرُّب على فنون الحَرْب لمواجهة أعداء الإسلام من الصليبيين النصارى الذي تربَّصوا - وما زالوا إلى يومنا هذا - بالمسلمين الدوائر.
والرباط: هو دار اعتزالٍ يُستَخدم للعبادة، بَناها عبدالله بن ياسين له ولجميع مَن يُؤمِن بأفكاره والتي تنصُّ على الإيمان بالله ورسوله والسير على مذهب الإمام مالك وأحكامه وسمَّاهم بالمرابطين لأنهم معه في الرباط.
[10] أحمد مختار العبادي، تاريخ المغرب والأندلس، ص305.
[11] دائرة المعارف الإسلامية، ص550.
[12] لسان الدين بن الخطيب: أعمال الأعلام فيمَن بويع قيل الاحتلام من ملوك الإسلام.
[13]الفريد بل: الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي، ترجمة عبدالرحمن البدوي، ط3، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان ص236.
[14] فحص الزلاقة: أو ما يُسمَّى بالإسبانية Sagrajas، وهي منطقة في الجنوب الغربي لإسبانيا، جرَتْ فيها معركةٌ فاصلة للمسلمين سنة 479 هـ انتصروا فيها بقيادة يوسف بن تاشفين، (في تاريخ المغرب والأندلس، المصدر السابق، ص309).
[15] د/ سعدون عباس، دولة المرابطين في المغرب والأندلس، ص (71).
[16] الجزيرة الخضراء : Algeziras أو Algeciras وقد سُمِّيت باسم Ila Verde المواجهة لها، ويُقال أيضًا: جزيرة أم حكيم، وقد استَخدَمها العرب هي وجبل طارق مرفأً ومرسى (فقد كانت ممرَّ عبور من وإلى إفريقيا)، (دائرة المعارف الإسلامية. المصدر السابق، ص451).
[17] أحمد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج2، الدار البيضاء، ص37 - 46.
[18] الكامل في التاريخ؛ ابن الأثير، (4 /406).