ترتكز ظاهرة الوقف على أصول الشريعة الإسلامية الرامية إلى تحقيق مقاصد فطرية وأخلاقية وإنسانية واجتماعية عامة، كما أنها تكفل وجود غطاء تنظيمي مرن في إطار الأحكام الشرعية، إذ إن هنالك مجموعة كبيرة متجانسة من القواعد (الثوابت) الفقهية التي تحكم أهداف الخير العام ومصلحة الجماعة، وتحقق في الوقت نفسه الإطار القيمي والأخلاقي والإنساني للسلوك الاقتصادي، وتصبغه بصبغة عقدية راسخة ومتينة.
ولقد أسهمت الأوقاف في تنمية المجتمع وارتقائه من خلال الدور الذي اضطلعت به في تقديم الدعم المباشر وغير المباشر للنشاط الاقتصادي، فللوقف آثار اقتصادية واضحة يمكن ملاحظتها في جوانب شتى، إما بصورة مباشرة -مثل إقامة الجسور والروابط (البنى االتحتية)- وتوفير فرص العمل للآخرين ومحاولة إخراج فئات كثيرة من المجتمع من دائرة الفقر، وإما بصورة غير مباشرة وذلك -مثلاً- من خلال توفير الخدمات لرواج التجارة وضبط الأسعار. وهناك الأموال الموقوفة على استثمـارات صناعية أو زراعية أو تجارية أو خدمية لا تقصد بالوقف لذواتها، وإنما يقصد منها إنتاج عائد إيرادي صاف يتم صرفه على أغراض الوقف. فالأملاك الاستثمارية في هذه الحالة يمكن أن تنتج أي سلعة أو خدمة مباحة لطالبيها في السوق، وتستعمل إيراداتها الصافية في الإنفاق على غرض الوقف، إضافة إلى دوره في توفير فرص عمل للآخرين.
وقد ساعد الوقف الذي خصص لأحواض المياه التي تقع على الطرق التجارية المهمة، في رواج النشاط الاقتصادي على هذه الطرق؛ فالقوافل التجارية في الماضي كانت تعتمد على آبار المياه لسقي المسافرين والدواب، وبذلك أتيح لها أن تواصل سفرها وتنقُّلها بين المدن والقرى للبيع والشراء. وكانت هناك أوقاف خاصة بما يعرف بالوكالات التجارية الخارجية، فهي تعمل على استيراد السلع وانتقالها من قُطْر إلى آخر.
تجاوز اهتمام الواقفين في مصر إنشاء المساجد والإنفاق عليها، إلى تخصيص جزء من ريع أوقافهم للإنفاق على الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وخدمة الحجاج وزوار بيت الله الحرام والمسجد النبوي.
من جهة أخرى أسهمت الأوقاف في عملية إعادة توزيع الدخل، حيث نقلتها من الأغنياء إلى الفقراء، وبالتالي قلَّصتْ الهوَّة بين فئات المجتمع. كما برز إسهام الوقف في تنشيـط الجـانب الاقتصادي في عملية ضبـط الأسعـار واستـقرارها، وذلك لأن الأسواق التي حبست عليها الأموال لإصلاحها، كانت تسهِّل على التجـار الحصول على إيجارات مخفضة للمحـلات التجارية، مما يسـاعد على أن تكون أسعـار السـلع أدنى من مثيلاتها في الأسواق التي لا وقف لها، فكان الإقبال أكثر على الشراء من الأسواق الموقوفة، وأدى ذلك إلى نشاط الحركة التجارية في هذه الأسـواق، مما دفع غيرها إلى أن تسـلك سبيـلها في ضبط الأسـعار حتى لا يكسد عملها.
الوقف باعتباره مصدرًا اقتصاديًّا
إن للاهتمام بالوقف عند كثير من الاقتصاديين اعتبارات عديدة يمكن إبراز أهمها فيما يلي:
إن صفة الدوام هي أهم ما يتميز به الوقف كأصل استثماري مستديم، مثل وقف الأراضي والمباني العقارية. ولهذا يحقق الوقف مفهوم التنمية المتواصلة أو المستدامة. وهو بذلك يعني دوام أصل العين وبقاءها لتنتفع بها الأجيال وتستفيد من ثمرتها.
إن الوقف -باعتباره مصدرًا اقتصاديًّا- يحقق التنمية المتوازنة في المجتمع، لأنه يربط بين القيم الروحية (الإيمانية) والقيم المادية (الرأسمالية). فهو ليس مجرد حبس أموال وصرف عائدات غلاتها على الجهات المنتفعة، ولا تطويرًا لهذه الغلات والانتفاع منها في المجال الاقتصادي فحسب، بل هو يربط هذا الانتفاع بتكريس القيم الأخلاقية ونشرها على أساس من القوة والغنى. فلقد تكونت ثروة وقفية يمكن من خلالها إقامة مشروعات تنموية ضخمة، تستطيع الصمود والمنافسة أمام المشروعات الاقتصادية الأخرى.
يعتبر الوقف دعامة اقتصادية وتمويلية، وسياجًا واقيًا للفقراء والأيتام والمحتاجين، الذين تعصف بهم التقلبات الاقتصادية، ولهذا، فالوقف كمصدر اقتصادي يدعم تلك الفئات الضعيفة، ويخفف عنها مشكلات الفقر والمرض والجهل. والوقف من حيث كونه مصدرًا دائمًا للتمويل الخيري، يمكن أن تكون له انعكاسات إيجابية أيضًا على الأدوات المالية العامة على النحو التالي:
انعكاسات الوقف الإيجابية على الإنفاق العام
الوقف قد يكون أهليًّا وقد يكو خيريًّا، وفي الأول يقف الواقف ماله أو بعض ماله على نسله وذريته وأقاربه، وفي هذه الحالة يضمن الموقوف عليه مصدرًا ثابتًا ومستمرًّا للإيراد، وعن طريق الوقف لا يمكن إجراء أي تصرف ناقل لملكية المال الموقوف بصفة مؤبدة بعد لزوم الوقف. وعلى ذلك فإن الوقف الأهلي يحفظ على الواقف وعلى أقاربه المال ما بقي هذا المال وما بقي المستحقون للوقف، ومن المعلوم أن الواقف يجوز له أن يشترط لنفسه كل أو بعض منافع الوقف أثناء حياته، أو يشترط لنفسه النظارة عليه أيضًا أثناء حياته، وقد يكون في الوقف درءًا لمخاطر الحاجة عن الواقف في أواخر حياته.
إن الوقف -باعتباره مصدرًا اقتصاديًّا- يحقق التنمية المتوازنة في المجتمع، لأنه يربط بين القيم الروحية (الإيمانية) والقيم المادية (الرأسمالية).
ولما كان الوقف -على النحو المتقدم- يضمن للواقف وذريته دخلاً ثابتًا ومستقرًّا على مدى الزمن الطويل القادم بعد لزومه، فإنه قد ينعكس إيجابًا على حجم النفقات العامة التحويلية المتمثلة في معاشات الضمان الاجتماعي والمساعدات والمنح التي تقدمها الدولة لمواطنيها الفقراء. وكذا الحال فيما لو كان الوقف خيريًّا على الفقراء والمساكين، حيث يضغط ريعه من حجم النفقات التحويلية التي يمكن للدولة أن تقدمها لهم فيما لو لم يحصلوا على هذا الريع، أما لو كان الوقف خيريًّا على إحدى جهات النفع العام، فإنه يمكن استخدام الريع الناتج عنه في عمليات التجديد والتحديث والتطوير للجهة الموقوف عليها، فضلاً عن إمكانية استخدامه في تسيير هذه الجهة، وذلك بما يغني الدولة عن إجراء النفقات العامة اللازمة لتجديد وصيانة وتسيير وإدارة هذه الجهات أو المرافق العامة.
انعكاسات الوقف الإيجابية على موارد الدولة العامة
لا شك أن الوقف حين ينعكس إيجابيًّا على الإنفاق العام بضغطه، فإنه -وبالتبعية- سوف ينعكس على الموارد العامة في مجملها بالوفرة وإحداث فائض لها في ميزانية الدولة.. وهو الأمر الذي قد ينعكس -وبالتبعية- على العبء الضريبي الفردي والقومي، حيث لن تقوم لدى الدولة حاجة لفرض مزيد من الضرائب والرسوم لمواجهة الإنفاق العام المتزايد على افتراض إلغاء دور الوقف في ضغط حجم هذا الإنفاق، بل ربما يكون هناك مبرر قوي عند وجود الوقف وأدائه لدوره في ضغط حجم الإنفاق العام، لخفض العبء الضريبي عن كاهل المواطنين، وفي هذه الحالة فإن الوقف يمكن أن يؤدي دورًا غير مباشر في الادخار والاستثمار الخاص.
الوقف في تاريخ مصر الإسلامي
تتزايد أهمية الوقف والحاجة إليه في العصر الحاضر يومًا بعد يوم مع تزايد الطلب على الخدمات العامة وتنوعها من جهة، وعجز السلطات عن مواجهة هذه الطلبات من جهة أخرى.
إن بلادنا العربية والإسلامية اليوم في حاجة إلى إحياء دور الوقف الذي كان له تلك الإسهامات العظيمة والآثار الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتنوعة، حيث أسهم في التقدم العلمي والتكنولوجي، وفي توفير الخدمات الأساسية من صحة وإسكان وعلاج وغيرها.. علاوة على الأثر المالي الهام على ميزانية الدولة وتخفيف الكثير من الأعباء عنها.
ولقد عرفت مصر نظام الوقف منذ أن أشرق على أرضها نور الإسلام، وأقام أهلها مؤسساته المختلفة طلبًا للمغفرة والرضوان، ورغبة في الأجر والثواب، وتحقيقًا لمصالح عامة ومقاصد كلية أعطت للمجتمع قوة وحياة، ومدته بروافد كثيرة أقامت حضارة، وحملت عن الدولة أعباء جسيمة، وقدمت خدمات جليلة للناس، وتحركت في كل المجالات.
ويرجع تأسيس أول ديوان للأوقاف في مصر إلى عهد الأمويين، الذي يعد أول تنظيم للأوقاف ليس في مصر فحسب بل في كافة أنحاء الدولة الإسلامية.ومنذ ذلك الحين تطور نظام الوقف واتسع نطاقه وازداد إقبال الناس عليه، واجتذب أعدادًا كبيرة شملت السلاطين والأمراء وكبار رجال الدولة والأثرياء والتجار والصناع وغيرهم.
وازدهر نظام الوقف في مصر وبلغ أوج ازدهاره في عصر المماليك، وهو العصر الذي يمثل القوة والثراء والعطاء الحضاري في تاريخ مصر في العصر الوسيط. وتسابق إليه كثير من السلاطين والأمراء والتجار، لينهضوا بالمجتمع، حيث أقاموا المؤسسات التعليمية والمساجد والمستشفيات والأسبلة وغيرها، وحبسوا عليها الأوقاف التي تمكنها من تحقيق رسالتها.
ونظرة واحدة على خريطة الوقف في مصر الجغرافية والشعبية في عهوده الزاهرة، تكشف تعاظم الدور الذي كان يلعبه الوقف في حياة الأمة. فنظام الأوقاف في مرحلة الازدهار، كان إطارًا منظمًا لممارسة العديد من السياسات الأهلية التي اتسمت بالتلقائية واللامركزية والاستقلالية، وأسهمت في بناء العديد من المؤسسات الاجتماعية وتوفير الخدمات العامة في مجالات العبادة والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية.
وتجاوز اهتمام الواقفين في مصر إنشاء المساجد والإنفاق عليها، إلى تخصيص جزء من ريع أوقافهم للإنفاق على الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وخدمة الحجاج وزوار بيت الله الحرام والمسجد النبوي. وكانت الأوقاف المخصصة للحرمين لها إدارة مستقلة وميزانية خاصة. وبلغت مساحة الأراضي الزراعية الموقوفة على الحرمين نحو 6300 فدان، بالإضافة إلى المباني والعقارات. ومن أشهر الأوقاف التي خصصت لهذا الغرض وقف تكيَّتَي مكة المكرمة والمدينة المنورة اللتين أنشأهما محمد علي لخدمة بيت الله الحرام.
(*) كاتب وباحث مصري.